35/04/18
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام في أنّ المقام ــــــــــ دوران الأمر بين المحذورين ــــــــــ في الفرض الذي نفترضه هل يدخل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير التي يحكم فيها العقل بالتعيين، أو لا ؟ فرض الكلام هو ما إذا كانت هناك مزيّة لأحد الطرفين دون الآخر، فهل يدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين بحيث نرفع اليد عن الحكم العقلي بالتخيير ويقال بأنّ العقل في صورة وجود المزية يحكم بالتعيين لا بالتخيير، ذكرنا بانّ الموارد التي يحكم العقل فيها بالتعيين من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هي معلومة ومعروفة وقد تقدّم واحدـ منها وقلنا أنّه لا يوجد احتمال أن يكون المقام داخلاً في ذلك المورد.
المورد الثاني: الذي يحكم العقل فيه بالتعيين من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو مسألة التزاحم، عندما يحصل تزاحم بين واجبين مع احتمال أن يكون أحدهما المعيّن أهم من الآخر، القاعدة في باب التزاحم الامتثالي تقتضي أن يحكم العقل بالتخيير في صورة التساوي، ويحكم بالتعيين في صورة احتمال أهمية أحد الواجبين دون الآخر؛ حينئذ نأتي إلى محل الكلام، إذا احتُملت الأهمية، إذا كنا نعلم بأنّ أحدهما المعيّن أهم، العقل يحكم بالتعيين، امّا إذا احتملنا الأهمية في أحد الطرفين دون الآخر؛ حينئذٍ أيضاً قالوا بأنّ العقل يحكم بالتعيين، حكم العقل هو لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية، فلا يحكم بالتخيير في هذه الحالة؛ وذلك باعتبار أنّ الأمر يدور بين تعيين محتمل الأهمية وبين التخيير بينه وبين الطرف الآخر؛ وذلك باعتبار أنّه إذا كان هذا الطرف محتمل الأهمية، وإذا كان هو أهم في الواقع؛ فحينئذٍ يتعيّن الأخذ به بحسب القاعدة المقررّة في باب التزاحم، أنّه إذا كان أحدهما أهم يتعيّن العمل به، ففي صورة احتمال الأهمية نقول أنّ محتمل الأهمية إمّا أن يجب الأخذ به تعييناً على تقدير أن يكون هو الأهم واقعاً، وعلى تقدير أن لا يكون أهم تثبت حالة التساوي بينهما، فيجوز الأخذ به تخييراً، فيدور أمره بين التعيين وبين التخيير، بينما الطرف الآخر ليس هكذا، الطرف الآخر لا يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ لأننا بحسب الفرض لا نحتمل أهميته؛ بل هو إما أن يكون أقل أهمية على تقدير أن يكون الآخر أهم في الواقع، وأمّا أن يكون مساوياً للطرف الآخر على تقدير أن لا يكون الآخر أهم، فإذن، هذا الطرف لا يدور أمره بين التعيين والتخيير، بينما هذا الطرف يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ وحينئذٍ يقال أنّ العقل يتدخّل ويحكم بلزوم الأخذ بمحتمل الأهمية. عُللّ ذلك في كلمات القائلين بالتزاحم في هذا الباب بأنّ منشأ التزاحم بين الواجبين في الحقيقة هو إطلاق خطاب كل واحدٍ منهما لحالة فعل الآخر وحالة تركه، أي أنّ خطاب هذا الواجب مطلق يوجب الإتيان بمتعلّقه على تقدير فعل الآخر وعلى تقدير تركه، وهكذا الخطاب الآخر أيضاً يكون مطلقاً لحالة فعل الأوّل وحالة تركه، وحيث أنّ المفروض أنّ المكلّف يتعذّر عليه الإتيان بكل واحدٍ من الواجبين بحسب الفرض؛ فحينئذٍ لابدّ من رفع اليد عن إطلاق أحد الواجبين، في حالات التساوي تُرفع اليد عن إطلاق كل منهما؛ لأنّه في حالة التساوي لا مرجّح لرفع اليد عن إطلاق هذا في قبال إطلاق الآخر، ويكون اختصاص أحدهما برفع اليد عن إطلاقه دون الآخر ترجيح بلا مرجّح؛ ولذا يتساقط الإطلاقان في كلٍ منهما، بينما في حالة وجود احتمال الأهمية في أحد الطرفين يتعيّن سقوط إطلاق الخطاب الآخر، أمّا الخطاب الذي يدل على وجوب هذا الواجب الذي نحتمل أهميته لا يتعين السقوط؛ بل المتعيّن هو سقوط الخطاب الآخر؛ وذلك باعتبار أن سقوط خطاب الآخر معلوم على كل تقدير، أمّا محتمل الأهمية، فسقوطه ليس معلوماً على كل تقدير، محتمل الأهمية على تقدير أن يكون أهم في الواقع إطلاق خطاب محتمل الأهمية لا يسقط؛ بل يبقى شاملاً لحال الفعل الآخر وحالة تركه؛ لأنّه أهم، فهو يوجب هذا الواجب على المكلّف مطلقاً، سواء جاء بالواجب، أو لم يأت به، فيبقى إطلاقه على حاله. نعم، إن لم يكن أهم؛ فحينئذٍ يسقط إطلاق خطابه بلحاظ فعل الآخر.
إذن: محتمل الأهمية لا يُعلم بسقوط إطلاق خطابه على كل تقدير، بينما الآخر يُعلم بسقوط إطلاق خطابه على كل تقدير؛ لأنّ الآخر إمّا مساوٍ، وإمّا أقل أهمية، إذا كان أقل أهمية يسقط إطلاق خطابه ولا يكون مطلقاً يشمل حتّى حالة فعل الواجب الأهم، وفي حالة كونه مساوٍ أيضاً يسقط إطلاق خطابه، فإذن، إطلاق خطاب الطرف الآخر الذي لا يحتمل أهميته ساقط على كل تقدير، بينما إطلاق خطاب محتمل الأهمية لا نعلم سقوط إطلاقه، ومن الواضح أنّه عند الشك في الإطلاق نتمسّك بإطلاق الخطاب ولا داعي لرفع اليد عن إطلاق هذا الخطاب، ونتيجة ذلك هي أنّ خطاب محتمل الأهمية يبقى على حاله ويدعو المكلّف للإتيان بمتعلّقه على كل حال، سواء جئت بالآخر، أو لم تأتِ به، يعني هو يطلب من المكلّف أن يصرف قدرته إلى الإتيان بمتعلّقه، وبالتالي يجب على المكلّف الإتيان بمحتمل الأهمية.
هذا هو الحكم في باب التزاحم، فهل يدخل محل الكلام في هذا المورد، أو لا ؟ قالوا : من الواضح أنّه لا يدخل في هذا المورد والمقام ليس من هذا القبيل، باعتبار أنّه هنا لا يوجد عندنا واجبان ولا خطابان ولا ملاكان، وإنّما يوجد عندنا حكم واحد، وهذا الحكم الواحد مرددّ بين الوجوب وبين التحريم؛ وحينئذٍ حتّى يدخل في باب التزاحم ويقال أنّ الأمر يدور بين إطلاق خطاب هذا وبين إطلاق خطاب هذا، بين تقييد إطلاق خطاب هذا و بين تقييد إطلاق خطاب هذا ويأتي الكلام السابق، في المقام يوجد عندنا علم بالإلزام مرددّ بين الوجوب وبين الحرمة، فلا مجال لجريان الكلام السابق في محل الكلام لإثبات دخول المقام في هذا المورد، وبالتالي إثبات أنّ العقل يحكم بالتعيين في محل الكلام.
المورد الثالث: ما إذا ثبت وجوب شيءٍ وشُكّ في أنّ وجوبه تعيينياً، أو تخييرياً، فرضنا في الكفارة ثبت وجوب الإطعام، لكن لا نعلم أنّ وجوب الإطعام هل هو تعييني لا بدل له ولاعِدل، أو أنّه وجوب تخييري له عِدل يتخيّر المكلّف بينه وبين الصوم ستين يوماً، في هذه الحالة أيضاً قالوا بأنّه في هذه الحالة العقل يحكم بالتعيين، يعني بوجوب الإتيان بهذا الفعل الذي ثبت وجوبه ودار أمره بين التعيين وبين التخيير، باعتبار جريان أصالة الاشتغال في المقام؛ لأنّ المكلّف يعلم باشتغال ذمّته بالإطعام، قطعاً هو مكلّف بالإطعام وأنّ الذمّة اشتغلت بهذا الواجب، ومقتضى قاعدة الاشتغال على ما قالوا هو أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ولا يقين بالفراغ إلاّ بالإتيان بالإطعام، وإّلا لو اقتصر المكلّف في مقام الامتثال على الطرف الاخر، على الفرد الآخر؛ حينئذٍ لا جزم بالامتثال، لا جزم بالخروج عن عهدة ذلك التكليف، ذلك التكليف اشتغلت الذمة به وهو الإطعام ولا جزم بالخروج عن عهدة ذلك التكليف إلاّ بالإتيان بالإطعام، وأمّا لوجاء بالفرد الآخر الذي لا يحتمل فيه التعيين، وإنّما أقصاه أنّ وجوبه وجوب تخييري؛ حينئذٍ لا جزم بالخروج عن العهدة ولا جزم بالخروج عن الاشتغال، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ولا فراغ يقيني إلاّ بالإتيان بالإطعام، ومن هنا يحكم العقل بالتعيين، أنّه يجب الإتيان بهذا الواجب الذي يدور أمره بين التعيين وبين التخيير .
هنا أيضاً نقول أنّ المقام لا يدخل في هذا المورد كما هو واضح جدّاً، باعتبار أننا في المقام لا يوجد لدينا وجوب معلوم الثبوت ويدور أمره بين التعيين وبين التخيير، عندنا علم إجمالي بالإلزام يدور أمره بين الوجوب وبين الحرمة، كيف يمكن أن نتصوّر جريان ما ذُكر في المورد الثالث في محل الكلام. هذا توضيح في الحقيقة للجواب المتقدّم، وهو أنّه في المقام الظاهر أنّ الحكم العقلي بالتخيير باقٍ على حاله لا يتغيّر في صورة وجود المزيّة، كما كان العقل يحكم بالتخيير في صورة عدم وجود المزيّة، كذلك يحكم بالتخيير في صورة وجود المزية من دون فرقٍ بين أن تكون المزية بلحاظ الاحتمال، أو تكون بلحاظ المحتمل. هذا كلّه بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم منجّزية الاحتمال، وأنّ المنجّز منحصر بالعلم، أو ما يقوم مقامه.
وأمّا على المسلك الآخر الذي يرى منجّزية الاحتمال، فالظاهر أنّ الأمر يختلف تماماً، بمعنى أنّه بناءً على هذا المسلك إذا احتملنا وجود المزيّة من دون فرق بين أنْ تكون المزيّة هي قوة الاحتمال، أو تكون هي أهمّية المحتمل، إذا احتملنا ذلك؛ حينئذٍ بناءً على مسلك حق الطاعة الظاهر أنّ العقل يحكم بالتعيين ولا يحكم بالتخيير، ويختص الحكم بالتخيير في صورة عدم وجود هذه المزية، أمّا مع وجود هذه المزية، فالعقل يحكم بالتعيين، والسرّ فيه هو أنّه على هذا المسلك الاحتمال يكون منجّزاً، والتنجيز لا ينحصر بالعلم، وما يقوم مقامه؛ بل الاحتمال أيضاً يكون منجّزاً؛ حينئذٍ المزية في الاحتمال، أو المزية في المحتمل، هذا الاحتمال الذي يختص به هذا الطرف، أهمية الملاك المحتملة في هذا الطرف تكون منجّزة بناءً على أنّ الاحتمال يكون منجّزاً، التنجيز الذي يثبت في المقام ليس لأصل الاحتمال الموجود في هذا الطرف؛ لأنّه لا معنى لذلك؛ لأنّه هو في مقابل احتمال آخر ولا مجال لترجيحه على الاحتمال الآخر، وإنّما التنجيز يكون لهذه الزيادة الموجودة في الاحتمال، أو للملاك الزائد المحتمل في هذا الطرف، إذا كانت المزية موجودة في المحتمل لا في الاحتمال، احتمال الملاك الزائد، أو الاحتمال الزائد في أحد الطرفين عندما يقال أنّ المزية موجود في الاحتمال يعني أنّ درجة الاحتمال في هذا الطرف أكثر من درجة الاحتمال في هذا الطرف، هذا الاحتمال الزائد هو الذي يكون منجّزاً، هذا الملاك الزائد الذي نحتمله في هذا الطرف دون الطرف الآخر والتي يعبّر عنها بالأهمية، هذا هو الذي يكون منجّزاً بناءً على مسلك قاعدة حق الطاعة؛ لأنّ الاحتمال مطلقاً يكون منجّزاً، وبناءً عليه، حينئذٍ يكون هذا منجّزاً لهذا الطرف؛ وحينئذٍ لا تتساوي نسبة العلم الإجمالي إلى كلٍ منهما، وهذا يختص بوجود منجّز غير موجود في الطرف الآخر، لو بقينا نحن والعلم الإجمالي قلنا أن نسبته الى كل واحدٍ منهما نسبة واحدة، فلا يختص أحدهما بالمنجّزية المستمدّة من العلم الإجمالي دون الآخر؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى كلٍ منهما على حدٍ سواء، لكن المنجّز لا يختص بالعلم الإجمالي، بناءً على هذا المسلك، لا يختص بالعلم، وإنّما أيضاً الاحتمال منجّز، هذا يوجد فيه احتمال، إمّا بلحاظ قوة الاحتمال، أو بلحاظ قوة المحتمل، هذا الاحتمال يكون منجّزاً على هذا المسلك، فتنقلب النتيجة، فيحكم العقل في المقام بالتعيين ويُفرّق بين وجود مزيّة وبين عدم وجود مزيّة. هذا كلّه في المقام الأوّل، وهو ما إذا كان الدوران بين الوجوب والتحريم مع كون كلٍ منهما توصّلياً.
المقام الثاني: وهو ما إذا كان أحدهما على الأقل تعبّدياً، طبعاً مع افتراض وحدة الواقعة؛ لأنّ افتراض تعدد الواقعة سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى في المقام الثالث والرابع.
مثّلوا لذلك بالمرأة التي تشك في الدم التي يدور أمرها بين أن تكون حائضاً وبين أن تكون طاهراً، مرّة تحرز أحد الأمرين بمحرز كالاستصحاب، هذا خارج عن محل كلامنا، فرضنا أنّها لا يمكن أن تحرز أحد الأمرين لا الحيض ولا الطهارة، وأيضاً لابدّ أن نفترض أنّه بناءً على الحرمة النفسية للصلاة بالنسبة إلى الحائض بمعنى أنّ نفس العمل يكون محرّماً على الحائض، ولو جاءت به من دون قصد التقرّب، يعني الحرمة ليست من جهة التشريع، وإنّما هو نفس العمل محرّم على الحائض، في هذه الحالة يدخل هذا المثال في محل الكلام؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بالإلزام الذي يدور أمره بين الوجوب وبين الحرمة، الصلاة إمّا واجبة عليها إذا كانت طاهرة والوجوب تعبّدي، أو تكون محرّمة عليها الصلاة إذا كانت حائضاً حرمة نفسية وليست تعبّدية، فيدور أمرها بين وجوب الصلاة على نحو قربي وبين حرمة الصلاة، فالفعل الواحد يدور أمره بين الوجوب والتحريم، لكن مع كون الوجوب وجوباً تعبّدياً.
ما يختلف به هذا المقام عن المقام الأوّل هو أنّه في المقام المخالفة القطعية تكون ممكنة، في المقام الأوّل قلنا أنّ المكلّف لا يتمكن من الموافقة القطعية كما لا يتمكن من المخالفة القطعية، والسبب في عدم تمكّن المكلّف من المخالفة القطعية هو أنّ المكلّف لا يخلو من الفعل، أو الترك، والفعل فيه موافقة احتمالية والترك أيضاً فيه موافقة احتمالية، فلا يتمكن من المخالفة القطعية، كما لا يتمكن من الموافقة القطعية. أمّا في المقام فهو يتمكن من المخالفة القطعية؛ وذلك بأنْ يفعل بلا قصد القربة، هذه المرأة إذا صلّت صلاة بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال لأنّ الفعل ـــــــــ الصلاة ــــــــــ إن كانت واجبة عليها فقد لم تأتِ بها؛ لأنّ الصلاة الواجبة عليها هي الصلاة القربية، وهي صلّت بلا قصد القربة، فخالفت الوجوب. وإنْ كانت الصلاة محرّمة فقد جاءت بها، أيضاً خالفت التحريم، فإذن هي تتمكن من المخالفة القطعية لهذا التكليف المعلوم بالإجمال. نعم، لا تتمكن من الموافقة القطعية، لا يمكنها أن توافق التكليف قطعاً، فإذن: الذي يتميّز به هذا المقام هو التمكّن من المخالفة القطعية، بينما هناك فرضنا استحالة المخالفة القطعية.
ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) وغيره أيضاً، وأظن أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أيضاً يذهب إلى ذلك، أنّ مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا يتمكّن المكلّف من موافقته القطعية ويتمكن من مخالفته القطعية، يحكم العقل بحرمة مخالفته القطعية وإن كان لا يحكم بوجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ المفروض عدم التمكّن منها وعدم القدرة عليها، ويحكم بحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ المفروض قدرة المكلّف عليها، فالعلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ولا ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالي قابل لتنجيز حرمة المخالفة القطعية، ولا محذور فيه ولا موجب لإلغاء هذا التنجيز، فيُحكم بمنجّزية هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وإن كان لا يُحكم بمنجّزيته لوجوب الموافقة القطعيّة. وذكروا في شرح هذا أنّ هذا يدور مدار القدرة، يعني حكم العقل بالمنجّزية يدور مدار قدرة المكلّف، إذا استحال عليه كل منهما لا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً لأي شيء كما في المقام الأوّل، وإذا تمكّن المكلّف من كلٍ منهما، هذا العلم الإجمالي ينجّز عليه كلاً منهما، وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعية، أمّا إذا تمكّن المكلّف من أحدهما وعجز عن الآخر، فالعلم الإجمالي ينجّز بمقدار ما يقدر عليه المكلّف، وحيث أنّ المفروض في المقام القدرة على المخالفة القطعية، فالعلم الإجمالي يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية.
وبعبارة أخرى: أنّ المكلّف في محل الكلام مضطر إلى ترك أحد الطرفين لا بعينه؛ لأنّه غير قادر على الجمع بينهما، إذن: هو مضطر إلى فعل أحدهما لكن لا بعينه؛ لأنّ منشأ الاضطرار هو عدم القدرة على الجمع بين الشيئين، وهذا إذا كان منشأ الاضطرار هو عدم القدرة على الجمع بين الشيئين فهو يعني الاضطرار إلى أحدهما لكن لا أحدهما المعيّن، وإنّما الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فالمكلّف في محل الكلام لعدم قدرته على الجمع بين الفعل والترك، إذن هو مضطر إلى ترك أحدهما لا بعينه، إذا ثبت هذا؛ فحينئذٍ يدخل في مسألة ما إذا اضطر المكلّف في موارد العلم الإجمالي إلى أحد الطرفين أو الأطراف لا بعينه، هنا قالوا بأنّ العلم الإجمالي يُنجّز الطرف الآخر، أيّ طرفٍ يرفع الاضطرار يكون الطرف الآخر منجّزاً عليه، لو علم بنجاسة إناءين واضطر إلى شرب أحدهما والاضطرار يرتفع باستعمال واحدٍ من الإناءين لا بعينه، لكن الطرف الآخر يبقى على منجّزيته؛ لأنّ العلم الإجمالي في هذه الحالة، وإن لم ينجّز وجوب الموافقة القطعية لهذا الاضطرار، لكنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية، رفعت اضطرارك لتناول هذا الماء، فلماذا تتناول الآخر ؟ لا موجب لتناول الآخر؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية؛ ولذا قالوا لا يجوز ارتكاب الآخر، ما نحن فيه أدخلوه في هذا الباب؛ لأنّه هنا يوجد اضطرار إلى أحد الطرفين للعلم الإجمالي لا بعينه لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما، فهو مضطر إلى أحد الطرفين لا بعينه، وهذا غاية ما يسقط هو وجوب الموافقة القطعية، وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فتبقى على حالها والعلم الإجمالي يكون منجّزاً لها. هذا هو الذي ذكروه، لكن بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية، فبالتالي هذا المكلّف لا تجب عليه الموافقة القطعية، لكن تحرّم عليه المخالفة القطعية، وهذا معناه التخيير بين الطرفين، إمّا أن تأتي بهذا الطرف، أو تأتي بهذا الطرف الآخر، لكن لا يجوز له أن يأتي بالمخالفة القطعية الممكنة في المقام في المثال السابق بأن تصلي صلاة بدون قصد القربة، هذا لا يجوز لها؛ لأنّه مخالفة قطعية، وإنّما هي تتخير بين الفعل مع قصد القربة وبين الترك، أمّا أن تصلي بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعية لا تكون جائزة والعلم الإجمالي ينجّزها.
كان الكلام في أنّ المقام ــــــــــ دوران الأمر بين المحذورين ــــــــــ في الفرض الذي نفترضه هل يدخل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير التي يحكم فيها العقل بالتعيين، أو لا ؟ فرض الكلام هو ما إذا كانت هناك مزيّة لأحد الطرفين دون الآخر، فهل يدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين بحيث نرفع اليد عن الحكم العقلي بالتخيير ويقال بأنّ العقل في صورة وجود المزية يحكم بالتعيين لا بالتخيير، ذكرنا بانّ الموارد التي يحكم العقل فيها بالتعيين من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هي معلومة ومعروفة وقد تقدّم واحدـ منها وقلنا أنّه لا يوجد احتمال أن يكون المقام داخلاً في ذلك المورد.
المورد الثاني: الذي يحكم العقل فيه بالتعيين من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو مسألة التزاحم، عندما يحصل تزاحم بين واجبين مع احتمال أن يكون أحدهما المعيّن أهم من الآخر، القاعدة في باب التزاحم الامتثالي تقتضي أن يحكم العقل بالتخيير في صورة التساوي، ويحكم بالتعيين في صورة احتمال أهمية أحد الواجبين دون الآخر؛ حينئذ نأتي إلى محل الكلام، إذا احتُملت الأهمية، إذا كنا نعلم بأنّ أحدهما المعيّن أهم، العقل يحكم بالتعيين، امّا إذا احتملنا الأهمية في أحد الطرفين دون الآخر؛ حينئذٍ أيضاً قالوا بأنّ العقل يحكم بالتعيين، حكم العقل هو لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية، فلا يحكم بالتخيير في هذه الحالة؛ وذلك باعتبار أنّ الأمر يدور بين تعيين محتمل الأهمية وبين التخيير بينه وبين الطرف الآخر؛ وذلك باعتبار أنّه إذا كان هذا الطرف محتمل الأهمية، وإذا كان هو أهم في الواقع؛ فحينئذٍ يتعيّن الأخذ به بحسب القاعدة المقررّة في باب التزاحم، أنّه إذا كان أحدهما أهم يتعيّن العمل به، ففي صورة احتمال الأهمية نقول أنّ محتمل الأهمية إمّا أن يجب الأخذ به تعييناً على تقدير أن يكون هو الأهم واقعاً، وعلى تقدير أن لا يكون أهم تثبت حالة التساوي بينهما، فيجوز الأخذ به تخييراً، فيدور أمره بين التعيين وبين التخيير، بينما الطرف الآخر ليس هكذا، الطرف الآخر لا يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ لأننا بحسب الفرض لا نحتمل أهميته؛ بل هو إما أن يكون أقل أهمية على تقدير أن يكون الآخر أهم في الواقع، وأمّا أن يكون مساوياً للطرف الآخر على تقدير أن لا يكون الآخر أهم، فإذن، هذا الطرف لا يدور أمره بين التعيين والتخيير، بينما هذا الطرف يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ وحينئذٍ يقال أنّ العقل يتدخّل ويحكم بلزوم الأخذ بمحتمل الأهمية. عُللّ ذلك في كلمات القائلين بالتزاحم في هذا الباب بأنّ منشأ التزاحم بين الواجبين في الحقيقة هو إطلاق خطاب كل واحدٍ منهما لحالة فعل الآخر وحالة تركه، أي أنّ خطاب هذا الواجب مطلق يوجب الإتيان بمتعلّقه على تقدير فعل الآخر وعلى تقدير تركه، وهكذا الخطاب الآخر أيضاً يكون مطلقاً لحالة فعل الأوّل وحالة تركه، وحيث أنّ المفروض أنّ المكلّف يتعذّر عليه الإتيان بكل واحدٍ من الواجبين بحسب الفرض؛ فحينئذٍ لابدّ من رفع اليد عن إطلاق أحد الواجبين، في حالات التساوي تُرفع اليد عن إطلاق كل منهما؛ لأنّه في حالة التساوي لا مرجّح لرفع اليد عن إطلاق هذا في قبال إطلاق الآخر، ويكون اختصاص أحدهما برفع اليد عن إطلاقه دون الآخر ترجيح بلا مرجّح؛ ولذا يتساقط الإطلاقان في كلٍ منهما، بينما في حالة وجود احتمال الأهمية في أحد الطرفين يتعيّن سقوط إطلاق الخطاب الآخر، أمّا الخطاب الذي يدل على وجوب هذا الواجب الذي نحتمل أهميته لا يتعين السقوط؛ بل المتعيّن هو سقوط الخطاب الآخر؛ وذلك باعتبار أن سقوط خطاب الآخر معلوم على كل تقدير، أمّا محتمل الأهمية، فسقوطه ليس معلوماً على كل تقدير، محتمل الأهمية على تقدير أن يكون أهم في الواقع إطلاق خطاب محتمل الأهمية لا يسقط؛ بل يبقى شاملاً لحال الفعل الآخر وحالة تركه؛ لأنّه أهم، فهو يوجب هذا الواجب على المكلّف مطلقاً، سواء جاء بالواجب، أو لم يأت به، فيبقى إطلاقه على حاله. نعم، إن لم يكن أهم؛ فحينئذٍ يسقط إطلاق خطابه بلحاظ فعل الآخر.
إذن: محتمل الأهمية لا يُعلم بسقوط إطلاق خطابه على كل تقدير، بينما الآخر يُعلم بسقوط إطلاق خطابه على كل تقدير؛ لأنّ الآخر إمّا مساوٍ، وإمّا أقل أهمية، إذا كان أقل أهمية يسقط إطلاق خطابه ولا يكون مطلقاً يشمل حتّى حالة فعل الواجب الأهم، وفي حالة كونه مساوٍ أيضاً يسقط إطلاق خطابه، فإذن، إطلاق خطاب الطرف الآخر الذي لا يحتمل أهميته ساقط على كل تقدير، بينما إطلاق خطاب محتمل الأهمية لا نعلم سقوط إطلاقه، ومن الواضح أنّه عند الشك في الإطلاق نتمسّك بإطلاق الخطاب ولا داعي لرفع اليد عن إطلاق هذا الخطاب، ونتيجة ذلك هي أنّ خطاب محتمل الأهمية يبقى على حاله ويدعو المكلّف للإتيان بمتعلّقه على كل حال، سواء جئت بالآخر، أو لم تأتِ به، يعني هو يطلب من المكلّف أن يصرف قدرته إلى الإتيان بمتعلّقه، وبالتالي يجب على المكلّف الإتيان بمحتمل الأهمية.
هذا هو الحكم في باب التزاحم، فهل يدخل محل الكلام في هذا المورد، أو لا ؟ قالوا : من الواضح أنّه لا يدخل في هذا المورد والمقام ليس من هذا القبيل، باعتبار أنّه هنا لا يوجد عندنا واجبان ولا خطابان ولا ملاكان، وإنّما يوجد عندنا حكم واحد، وهذا الحكم الواحد مرددّ بين الوجوب وبين التحريم؛ وحينئذٍ حتّى يدخل في باب التزاحم ويقال أنّ الأمر يدور بين إطلاق خطاب هذا وبين إطلاق خطاب هذا، بين تقييد إطلاق خطاب هذا و بين تقييد إطلاق خطاب هذا ويأتي الكلام السابق، في المقام يوجد عندنا علم بالإلزام مرددّ بين الوجوب وبين الحرمة، فلا مجال لجريان الكلام السابق في محل الكلام لإثبات دخول المقام في هذا المورد، وبالتالي إثبات أنّ العقل يحكم بالتعيين في محل الكلام.
المورد الثالث: ما إذا ثبت وجوب شيءٍ وشُكّ في أنّ وجوبه تعيينياً، أو تخييرياً، فرضنا في الكفارة ثبت وجوب الإطعام، لكن لا نعلم أنّ وجوب الإطعام هل هو تعييني لا بدل له ولاعِدل، أو أنّه وجوب تخييري له عِدل يتخيّر المكلّف بينه وبين الصوم ستين يوماً، في هذه الحالة أيضاً قالوا بأنّه في هذه الحالة العقل يحكم بالتعيين، يعني بوجوب الإتيان بهذا الفعل الذي ثبت وجوبه ودار أمره بين التعيين وبين التخيير، باعتبار جريان أصالة الاشتغال في المقام؛ لأنّ المكلّف يعلم باشتغال ذمّته بالإطعام، قطعاً هو مكلّف بالإطعام وأنّ الذمّة اشتغلت بهذا الواجب، ومقتضى قاعدة الاشتغال على ما قالوا هو أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ولا يقين بالفراغ إلاّ بالإتيان بالإطعام، وإّلا لو اقتصر المكلّف في مقام الامتثال على الطرف الاخر، على الفرد الآخر؛ حينئذٍ لا جزم بالامتثال، لا جزم بالخروج عن عهدة ذلك التكليف، ذلك التكليف اشتغلت الذمة به وهو الإطعام ولا جزم بالخروج عن عهدة ذلك التكليف إلاّ بالإتيان بالإطعام، وأمّا لوجاء بالفرد الآخر الذي لا يحتمل فيه التعيين، وإنّما أقصاه أنّ وجوبه وجوب تخييري؛ حينئذٍ لا جزم بالخروج عن العهدة ولا جزم بالخروج عن الاشتغال، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ولا فراغ يقيني إلاّ بالإتيان بالإطعام، ومن هنا يحكم العقل بالتعيين، أنّه يجب الإتيان بهذا الواجب الذي يدور أمره بين التعيين وبين التخيير .
هنا أيضاً نقول أنّ المقام لا يدخل في هذا المورد كما هو واضح جدّاً، باعتبار أننا في المقام لا يوجد لدينا وجوب معلوم الثبوت ويدور أمره بين التعيين وبين التخيير، عندنا علم إجمالي بالإلزام يدور أمره بين الوجوب وبين الحرمة، كيف يمكن أن نتصوّر جريان ما ذُكر في المورد الثالث في محل الكلام. هذا توضيح في الحقيقة للجواب المتقدّم، وهو أنّه في المقام الظاهر أنّ الحكم العقلي بالتخيير باقٍ على حاله لا يتغيّر في صورة وجود المزيّة، كما كان العقل يحكم بالتخيير في صورة عدم وجود المزيّة، كذلك يحكم بالتخيير في صورة وجود المزية من دون فرقٍ بين أن تكون المزية بلحاظ الاحتمال، أو تكون بلحاظ المحتمل. هذا كلّه بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم منجّزية الاحتمال، وأنّ المنجّز منحصر بالعلم، أو ما يقوم مقامه.
وأمّا على المسلك الآخر الذي يرى منجّزية الاحتمال، فالظاهر أنّ الأمر يختلف تماماً، بمعنى أنّه بناءً على هذا المسلك إذا احتملنا وجود المزيّة من دون فرق بين أنْ تكون المزيّة هي قوة الاحتمال، أو تكون هي أهمّية المحتمل، إذا احتملنا ذلك؛ حينئذٍ بناءً على مسلك حق الطاعة الظاهر أنّ العقل يحكم بالتعيين ولا يحكم بالتخيير، ويختص الحكم بالتخيير في صورة عدم وجود هذه المزية، أمّا مع وجود هذه المزية، فالعقل يحكم بالتعيين، والسرّ فيه هو أنّه على هذا المسلك الاحتمال يكون منجّزاً، والتنجيز لا ينحصر بالعلم، وما يقوم مقامه؛ بل الاحتمال أيضاً يكون منجّزاً؛ حينئذٍ المزية في الاحتمال، أو المزية في المحتمل، هذا الاحتمال الذي يختص به هذا الطرف، أهمية الملاك المحتملة في هذا الطرف تكون منجّزة بناءً على أنّ الاحتمال يكون منجّزاً، التنجيز الذي يثبت في المقام ليس لأصل الاحتمال الموجود في هذا الطرف؛ لأنّه لا معنى لذلك؛ لأنّه هو في مقابل احتمال آخر ولا مجال لترجيحه على الاحتمال الآخر، وإنّما التنجيز يكون لهذه الزيادة الموجودة في الاحتمال، أو للملاك الزائد المحتمل في هذا الطرف، إذا كانت المزية موجودة في المحتمل لا في الاحتمال، احتمال الملاك الزائد، أو الاحتمال الزائد في أحد الطرفين عندما يقال أنّ المزية موجود في الاحتمال يعني أنّ درجة الاحتمال في هذا الطرف أكثر من درجة الاحتمال في هذا الطرف، هذا الاحتمال الزائد هو الذي يكون منجّزاً، هذا الملاك الزائد الذي نحتمله في هذا الطرف دون الطرف الآخر والتي يعبّر عنها بالأهمية، هذا هو الذي يكون منجّزاً بناءً على مسلك قاعدة حق الطاعة؛ لأنّ الاحتمال مطلقاً يكون منجّزاً، وبناءً عليه، حينئذٍ يكون هذا منجّزاً لهذا الطرف؛ وحينئذٍ لا تتساوي نسبة العلم الإجمالي إلى كلٍ منهما، وهذا يختص بوجود منجّز غير موجود في الطرف الآخر، لو بقينا نحن والعلم الإجمالي قلنا أن نسبته الى كل واحدٍ منهما نسبة واحدة، فلا يختص أحدهما بالمنجّزية المستمدّة من العلم الإجمالي دون الآخر؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى كلٍ منهما على حدٍ سواء، لكن المنجّز لا يختص بالعلم الإجمالي، بناءً على هذا المسلك، لا يختص بالعلم، وإنّما أيضاً الاحتمال منجّز، هذا يوجد فيه احتمال، إمّا بلحاظ قوة الاحتمال، أو بلحاظ قوة المحتمل، هذا الاحتمال يكون منجّزاً على هذا المسلك، فتنقلب النتيجة، فيحكم العقل في المقام بالتعيين ويُفرّق بين وجود مزيّة وبين عدم وجود مزيّة. هذا كلّه في المقام الأوّل، وهو ما إذا كان الدوران بين الوجوب والتحريم مع كون كلٍ منهما توصّلياً.
المقام الثاني: وهو ما إذا كان أحدهما على الأقل تعبّدياً، طبعاً مع افتراض وحدة الواقعة؛ لأنّ افتراض تعدد الواقعة سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى في المقام الثالث والرابع.
مثّلوا لذلك بالمرأة التي تشك في الدم التي يدور أمرها بين أن تكون حائضاً وبين أن تكون طاهراً، مرّة تحرز أحد الأمرين بمحرز كالاستصحاب، هذا خارج عن محل كلامنا، فرضنا أنّها لا يمكن أن تحرز أحد الأمرين لا الحيض ولا الطهارة، وأيضاً لابدّ أن نفترض أنّه بناءً على الحرمة النفسية للصلاة بالنسبة إلى الحائض بمعنى أنّ نفس العمل يكون محرّماً على الحائض، ولو جاءت به من دون قصد التقرّب، يعني الحرمة ليست من جهة التشريع، وإنّما هو نفس العمل محرّم على الحائض، في هذه الحالة يدخل هذا المثال في محل الكلام؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بالإلزام الذي يدور أمره بين الوجوب وبين الحرمة، الصلاة إمّا واجبة عليها إذا كانت طاهرة والوجوب تعبّدي، أو تكون محرّمة عليها الصلاة إذا كانت حائضاً حرمة نفسية وليست تعبّدية، فيدور أمرها بين وجوب الصلاة على نحو قربي وبين حرمة الصلاة، فالفعل الواحد يدور أمره بين الوجوب والتحريم، لكن مع كون الوجوب وجوباً تعبّدياً.
ما يختلف به هذا المقام عن المقام الأوّل هو أنّه في المقام المخالفة القطعية تكون ممكنة، في المقام الأوّل قلنا أنّ المكلّف لا يتمكن من الموافقة القطعية كما لا يتمكن من المخالفة القطعية، والسبب في عدم تمكّن المكلّف من المخالفة القطعية هو أنّ المكلّف لا يخلو من الفعل، أو الترك، والفعل فيه موافقة احتمالية والترك أيضاً فيه موافقة احتمالية، فلا يتمكن من المخالفة القطعية، كما لا يتمكن من الموافقة القطعية. أمّا في المقام فهو يتمكن من المخالفة القطعية؛ وذلك بأنْ يفعل بلا قصد القربة، هذه المرأة إذا صلّت صلاة بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال لأنّ الفعل ـــــــــ الصلاة ــــــــــ إن كانت واجبة عليها فقد لم تأتِ بها؛ لأنّ الصلاة الواجبة عليها هي الصلاة القربية، وهي صلّت بلا قصد القربة، فخالفت الوجوب. وإنْ كانت الصلاة محرّمة فقد جاءت بها، أيضاً خالفت التحريم، فإذن هي تتمكن من المخالفة القطعية لهذا التكليف المعلوم بالإجمال. نعم، لا تتمكن من الموافقة القطعية، لا يمكنها أن توافق التكليف قطعاً، فإذن: الذي يتميّز به هذا المقام هو التمكّن من المخالفة القطعية، بينما هناك فرضنا استحالة المخالفة القطعية.
ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) وغيره أيضاً، وأظن أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أيضاً يذهب إلى ذلك، أنّ مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا يتمكّن المكلّف من موافقته القطعية ويتمكن من مخالفته القطعية، يحكم العقل بحرمة مخالفته القطعية وإن كان لا يحكم بوجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ المفروض عدم التمكّن منها وعدم القدرة عليها، ويحكم بحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ المفروض قدرة المكلّف عليها، فالعلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ولا ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالي قابل لتنجيز حرمة المخالفة القطعية، ولا محذور فيه ولا موجب لإلغاء هذا التنجيز، فيُحكم بمنجّزية هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وإن كان لا يُحكم بمنجّزيته لوجوب الموافقة القطعيّة. وذكروا في شرح هذا أنّ هذا يدور مدار القدرة، يعني حكم العقل بالمنجّزية يدور مدار قدرة المكلّف، إذا استحال عليه كل منهما لا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً لأي شيء كما في المقام الأوّل، وإذا تمكّن المكلّف من كلٍ منهما، هذا العلم الإجمالي ينجّز عليه كلاً منهما، وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعية، أمّا إذا تمكّن المكلّف من أحدهما وعجز عن الآخر، فالعلم الإجمالي ينجّز بمقدار ما يقدر عليه المكلّف، وحيث أنّ المفروض في المقام القدرة على المخالفة القطعية، فالعلم الإجمالي يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية.
وبعبارة أخرى: أنّ المكلّف في محل الكلام مضطر إلى ترك أحد الطرفين لا بعينه؛ لأنّه غير قادر على الجمع بينهما، إذن: هو مضطر إلى فعل أحدهما لكن لا بعينه؛ لأنّ منشأ الاضطرار هو عدم القدرة على الجمع بين الشيئين، وهذا إذا كان منشأ الاضطرار هو عدم القدرة على الجمع بين الشيئين فهو يعني الاضطرار إلى أحدهما لكن لا أحدهما المعيّن، وإنّما الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فالمكلّف في محل الكلام لعدم قدرته على الجمع بين الفعل والترك، إذن هو مضطر إلى ترك أحدهما لا بعينه، إذا ثبت هذا؛ فحينئذٍ يدخل في مسألة ما إذا اضطر المكلّف في موارد العلم الإجمالي إلى أحد الطرفين أو الأطراف لا بعينه، هنا قالوا بأنّ العلم الإجمالي يُنجّز الطرف الآخر، أيّ طرفٍ يرفع الاضطرار يكون الطرف الآخر منجّزاً عليه، لو علم بنجاسة إناءين واضطر إلى شرب أحدهما والاضطرار يرتفع باستعمال واحدٍ من الإناءين لا بعينه، لكن الطرف الآخر يبقى على منجّزيته؛ لأنّ العلم الإجمالي في هذه الحالة، وإن لم ينجّز وجوب الموافقة القطعية لهذا الاضطرار، لكنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية، رفعت اضطرارك لتناول هذا الماء، فلماذا تتناول الآخر ؟ لا موجب لتناول الآخر؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية؛ ولذا قالوا لا يجوز ارتكاب الآخر، ما نحن فيه أدخلوه في هذا الباب؛ لأنّه هنا يوجد اضطرار إلى أحد الطرفين للعلم الإجمالي لا بعينه لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما، فهو مضطر إلى أحد الطرفين لا بعينه، وهذا غاية ما يسقط هو وجوب الموافقة القطعية، وأمّا حرمة المخالفة القطعية، فتبقى على حالها والعلم الإجمالي يكون منجّزاً لها. هذا هو الذي ذكروه، لكن بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية، فبالتالي هذا المكلّف لا تجب عليه الموافقة القطعية، لكن تحرّم عليه المخالفة القطعية، وهذا معناه التخيير بين الطرفين، إمّا أن تأتي بهذا الطرف، أو تأتي بهذا الطرف الآخر، لكن لا يجوز له أن يأتي بالمخالفة القطعية الممكنة في المقام في المثال السابق بأن تصلي صلاة بدون قصد القربة، هذا لا يجوز لها؛ لأنّه مخالفة قطعية، وإنّما هي تتخير بين الفعل مع قصد القربة وبين الترك، أمّا أن تصلي بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعية لا تكون جائزة والعلم الإجمالي ينجّزها.