35/05/25
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
كان الكلام في ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من دعوى أنّ دليل الاستصحاب؛ بل حتّى دليل البراءة لا يشمل أطراف العلم الإجمالي للتهافت بالمعنى الذي ذكرناه. السيد الخوئي(قدّس سرّه) وغيره أشكلوا عليه بإشكالين، الإشكال الأوّل تقدّم ذكره، الإشكال الثاني هو أنّ العلم واليقين في ذيل الرواية يُراد به اليقين التفصيلي، (ولكن ينقضه بيقين آخر) المراد به هو اليقين التفصيلي(حتّى يعلم أنّه حرام) في روايات الحليّة يُراد به العلم التفصيلي، والوجه في ذلك هو أنّ الرواية تعتبر اليقين المتأخّر ناقضاً لليقين السابق، وكونه ناقضاً يتوقف على أن يتعلّق اليقين الناقض المتأخّر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، وهذا يقتضي أن يكون اليقين الناقض متعلّقاً بنفس اليقين السابق حتّى يكون ناقضاً له. وأمّا إذا فُرض أنّ اليقين الناقض متعلّق بشيءٍ آخر غير ما تعلّق به اليقين السابق فلا يكون حينئذٍ ناقضاً له، الناقضية تتوقّف على تعلّقه بنفس ما تعلق به اليقين السابق، وهذا المعنى يختصّ باليقين التفصيلي، يعني عندما أعلم بطهارة ماء، الذي ينقض هذا اليقين بالطهارة هو اليقين بنجاسته، وأمّا إذا لم يوجد عندي علم به ويقين بنجاسته، وإن كان عندي علم بنجاسة أحد الإناءين، فهذا لا يكون ناقضاً لليقين السابق؛ ولذا يكون اليقين مختصّاً باليقين التفصيلي ولا يشمل اليقين الإجمالي الذي هو محل الكلام.
وعليه: بناءً على هذا لا مانع من شمول صدر الرواية لموارد العلم الإجمالي؛ لأنّ ذيل الرواية لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ ذيل الرواية الذي نشأ من شموله لموارد العلم الإجمالي التهافت، هذا لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ المفروض أنّه يختصّ باليقين التفصيلي ولا يشمل اليقين الإجمالي، إذن: لا معنى من شمول الأخبار لمحل الكلام. هذا الإيراد الثاني.
هذا المطلب الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه) الظاهر أنّه لا ينبغي التوقّف في أنّ النقض يتوقّف على افتراض تعلّق اليقين الناقض بما تعلّق به اليقين المنقوض حتّى يصدّق النقض، أمّا إذا فرضنا أنّ اليقين المتأخّر تعلّق بشيءٍ آخر، فأنّه لا يكون ناقضاً لليقين السابق، إنّما يكون ناقضاً له عندما يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق، هذا أمر لا ينبغي التوقّف عنده، وإنّما الكلام في أنّ هذا النقض، أو ما يُستفاد من الرواية، هل هو تعلّق اليقين المتأخّر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق بجميع تفاصيله وجميع شئونه، أو يكفي أن يتعلّق به ولو إجمالاً لا أن يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق على غرار ما تعلّق به اليقين السابق، كيف أنّ اليقين السابق تعلّق بطهارة هذا الطرف بخصوصياته وشئونه الخاصة، هل يتوقّف صدق النقض على أن يتعلّق اليقين المتأخّر بما تعلّق به اليقين السابق على غرار ما تعلّق به اليقين السابق ؟ أيضاً يتعلّق به بتمام خصوصياته وشئونه، هل يتوقّف على ذلك، أو لا يتوقّف على ذلك ؟ المهم أن يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق، ولو كان تعلّقه به غير تعلّق اليقين السابق به، اليقين السابق تعلّق به بتفاصيله، بحدوده، اليقين الناقض قد نفترض أنّه لا يتعلّق به بحدوده وتفاصيله، وإنّما يتعلّق به إجمالاً، ويشير إليه بعنوان إجمالي، هل يتوقّف النقض على الأوّل، أو لا يتوقف عليه ؟ إذا قلنا أنّ النقض يتوقف على الأوّل وأنّ الذي يظهر من الرواية هو لابدّ من تعلّقه بنفس ما تعلّق به اليقين السابق بكل تفاصيله وحدوده الخاصّة، هذا معناه أنّ اليقين في ذيل الرواية يختص باليقين التفصيلي، فالذي ينقض اليقين السابق هو فقط اليقين التفصيلي الذي يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، أعلم بطهارة هذا الأناء، والذي ينقض هذا اليقين هو اليقين بنجاسة هذا الأناء، فاليقين في الذيل سوف يختصّ باليقين التفصيلي ولا يشمل محل الكلام؛ لأننا لا يقين لنا بنجاسة هذا الأناء ولا نجاسة هذا الأنا؛ فحينئذٍ لا يصدق الذيل في محل الكلام، فيبقى الصدر شاملاً لكلا الطرفين وهذا معناه شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، خلافاً لما يقوله الشيخ(قدّس سرّه).
وأمّا إذا قلنا بالثاني، أنّ النقض لا يتوقف على ذلك، يكفي فيه أن يتعلّق اليقين المتأخر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، لكنّه يتعلّق به إجمالاً؛ حينئذٍ يكون الذيل شاملاً لمحل الكلام ويقع تهافت كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)؛ لأنّ صدر الرواية يقول(لا تنقض اليقين بالشك) هذا يقتضي أن لا أرفع يدي عن الحالة السابقة في هذا الطرف؛ لأنّ في هذا الطرف لا يوجد عندي إلاّ شك، عندي شك في طهارته ونجاسته وأنا على يقين سابقاً من طهارته في المثال، وهكذا في الطرف الآخر، فيكون كل منهما مشمولاً لصدر الرواية، بينما ذيل الرواية يشمله العلم الإجمالي؛ لأنّي أعلم بنجاسة أحدهما، أنا على يقين إجمالي بنجاسة أحدهما، وهذا عنوان إجمالي يشير إلى الطرف، فيقول يحصل تهافت، كيف يمكن الجمع بين لزوم البقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين ووجوب رفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الطرفين، هذان أمران لا يمكن الجمع بينهما، فيكون شاملاً لموارد العلم الإجمالي، فيقع التهافت في الدليل؛ وحينئذٍ يسقط الدليل عن الاعتبار، بمعنى أنّه لا يمكن أن نتمسّك به لإثبات جريانه في محل الكلام، فيحصل التهافت، فإذن نكتة المطلب هي: أنّ النقض في المقام هل يتوقف على أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، على غرار ما تعلّق به اليقين السابق، أو أنّه لا يتوقف على ذلك ؟
في الحقيقة لابدّ أن نراجع كلمة النقض، ونستظهر أنّ النكتة التي لأجلها يكون الشيء ناقضاً؛ ولأجل عدمها لا يكون الشيء ناقضاً ما هي ؟ يعني لماذا يكون هذا ناقضاً لذاك ؟ يكون ناقضا لذاك عندما تكون هناك منافاة بين الشيئين على نحوٍ بحيث لا يمكن أن يجتمعا معاً، بحيث يكون التصديق بهذا مستلزماً لعدم التصديق بذاك، والعكس أيضاً صحيح، فيكون هذا رافعاً لذاك وناقضاً له؛ لأنّه لا يمكن الجمع بينهما، اليقين بطهارة هذا الماء واليقين بنجاسة هذا الأناء نفسه، لماذا يكون هذا المتأخّر ناقضاً، لا إشكال في كونه ناقضاً هنا عندما يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، يكون ناقضاً لأنّ هناك منافاة بينهما بين اليقينين، فلا يمكن تصديقهما، كيف يمكن اجتماع يقين بالطهارة وبين يقين بالنجاسة، فيكون اليقين المتأخّر ناقضاً لليقين السابق، هذا المعنى بنفسه يمكن تصوّره في موارد العلم الإجمالي لأنّه بالنتيجة في موارد العلم الإجمالي المكلّف يعلم بنجاسة أحد الأناءين، هذا اليقين المتأخّر، اليقين بنجاسة أحد الأناءين كذلك لا يمكن أن يجتمع مع اليقين بطهارة كلا الأناءين مع اليقين السابق، ليس فقط الذي لا يمكن أن يجتمع مع طهارة هذا الأناء هو اليقين بنجاسة هذا الأناء، اليقين بطهارة هذا الأناء واليقين بطهارة ذاك الأناء، باعتبار أنّ الحالة السابقة لهما هي الطهارة، وصدر الرواية يأمر بالالتزام بالطهارة والبناء عليها، هذا لا يجتمع مع العلم بنجاسة أحدهما، فنحن إمّا أن نلتزم بأنّ الشارع عبّدنا بالبناء على اليقين بطهارة كل من الأناءين، أو نقول أنّ الشارع عبّدنا بالبناء على نجاسة أحدهما، أن نفترض أنّ الشارع يأمرنا بالبقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين وفي نفس الوقت يأمرنا برفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الإناءين هذان لا يجتمعان، فلا مانع من أن يقال بأنّ اليقين بنجاسة أحد الأناءين يكون ناقضاً لليقين السابق، والشيخ الأنصاري أراد هذا المعنى، والتهافت الذي ذكره صوّره بهذا الشكل، بمعنى أنّ صدر الرواية يقتضي البناء على هذا الطرف والبناء على طهارة هذا الطرف؛ لأنّ صدر الرواية يقول(لا تنقض اليقين بالشك) وأنّا في هذا الطرف لا يوجد عندي إلاّ شك، فأنا نُهيت عن نقض اليقين السابق بالشك، يعني هناك أمر بالبناء على الحالة السابقة، وأمر بالبناء على الحالة السابقة في الطرف الآخر. هذا مقتضى صدر الرواية، ذيل الرواية يقول إذا حصل لك يقين؛ حينئذٍ يكون هذا اليقين ناقضاً لليقين السابق(لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقينٍ آخر) الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يقول: يلزم من شمول اليقين في الذيل لمحل الكلام حصول التهافت؛ لأنّ اليقين الحاصل في موارد العلم الإجمالي هو يقين بنجاسة أحد الأناءين، هذا اليقين بنجاسة احد الأناءين لا يجتمع مع الأمر بإبقاء الحالة السابق في كلا الطرفين؛ لأنّ الشارع يقول لي انقض اليقين السابق باليقين الحادث المتأخّر، يعني أعمل بهذا اليقين المتأخّر، وهو يقين بنجاسة أحد الأناءين، فعدم إمكان الاجتماع موجود، والمنافاة موجودة، وهذا معنى قد يصحح أن يقال أنّ اليقين بنجاسة أحد الأناءين يكون ناقضاً لليقين السابق المفروض وجوده في كلا الطرفين، فإذا صدق النقض؛ حينئذٍ يقع التهافت، فيكون الذيل شاملاً لمحل الكلام، فإذا شمله الصدر وقع التهافت بينهما، والشيخ(قدّس سرّه) يجعل هذا التهافت قرينة ودليلاً على عدم إمكان التمسّك بالاستصحاب في موارد العلم الإجمالي.
أقول: يمكن تصحيح صدق النقض في محل الكلام، وإن كان اليقين اللاحق لا يتعلّق بنفس متعلّق اليقين السابق على غرار تعلّقه به وعلى نهج تعلّقه به، وإن كان ليس هكذا لكنّه يتعلّق به، لكن على نحو الإجمال؛ لأنّه يشير إلى أحد الفردين ويقيناً بنجاسة أحد الأناءين. بناءً على هذا حينئذٍ يتم ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من الإشكال وهو أنّ الالتزام بشمول أدلّة الاستصحاب، أو أدلّة البراءة التي يوجد فيها الذيل، بعض أدلّة الحل(حتّى يعلم أنّه حرام) شمولها لمحل الكلام يلزم منه هذا التفاوت، وبالتالي يكون هذا موجباً للإجمال في الدليل، وبالتالي مانعاً من إمكان التمسّك بها في محل الكلام. ويُضاف إليه أنّ نفس كلمة اليقين الواردة في الذيل موجودة في محل الكلام؛ لأنّه يقول(ولكن تنقضه بيقين آخر) واليقين موجود في محل الكلام وقلنا أنّه يمكن تصحيح صدق النقض على العلم الإجمالي وعلى اليقين الإجمالي المتأخّر، فلا مانع من شمول الذيل لمحل الكلام، بمعنى أنّ المراد باليقين في الذيل هو الأعمّ من اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي، المراد بالعلم في روايات الإباحة الأعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، كلٌ منهما يكون ناقضاً للحالة السابقة؛ وحينئذٍ لا يجوز الأخذ بالحالة السابقة في كلا الطرفين. هذا بالنسبة إلى ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
لكن يبقى الكلام في أنّ هذا هل ينهي المسألة ؟ يعني هل نلتزم بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من أنّ أدلّة الاستصحاب وأدلّة الإباحة التي فيها هذا الذيل غير قابلة لأن تشمل موارد العلم الإجمالي، فتختص حينئذٍ بالشبهات البدوية، هل نلتزم بذلك، أو لا ؟ الظاهر أنّه لا نلتزم بذلك لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر بعض المحققين بأنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وإن كان من الناحية المتقدّمة لا بأس به، يعني يمكن أن نلتزم بأنّ كلمة(النقض) لا تمنع من شمول دليل الاستصحاب لموارد العلم الإجمالي، لكن الشمول لأطراف العلم الإجمالي لا يتوقّف على هذا فقط، وإنّما شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي يتوقّف على قضية أخرى لابدّ من تنقيحها، وهذا القضية الأخرى هي أنّه حتّى تتمّ دعوى عدم الشمول الذي يدّعيه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لابدّ أن نفترض أنّ ذيل الرواية هو في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي(ولكن تنقضه بيقينٍ آخر) هنا هو يُبيّن حكماً تأسيسياً وهو عبارة عن لزوم نقض اليقين السابق بيقين مثله، هذا حكم شرعي. دعوى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) التي هي عدم شمول ذيل الاستصحاب لمحل الكلام تتوقّف على هذا الافتراض، يعني عندما نفسّر الذيل بأنّه حكم شرعي تأسيسي صادر من قِبل الشارع؛ حينئذٍ يتم كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)؛ لأنّه يقع التهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها؛ لأنّه بالبيان السابق في صدر الرواية الشارع يأمرني بالبقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين، بينما ذيل الرواية يقول لابدّ من رفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الطرفين، وهذان لا يمكن الجمع بينهما. أمّا إذا فرضنا أنّ ذيل الرواية ليس في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي، وإنّما في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من أنّ اليقين ينقضه اليقين، إذا فرضنا أنّ(ولكن ينقضه بيقينٍ آخر) ليس في مقام التأسيس، يعني يريد أن ينهى عن نقض اليقين باليقين، وإنّما هو في مقام الإرشاد إلى ما يستقل به العقل من أنّ اليقين السابق إذا طرأ عليه يقين آخر يكون ناقضاً له، إذا فرضنا ذلك وكانت الرواية في مقام الإرشاد؛ حينئذٍ لا يجوز لنا أن نتمسّك بالدليل إلاّ بعد الفراغ عن ما يحكم به العقل، إلاّ بعد أن نراجع العقل ونسأله: ما هو رأيك في المقام ؟ هل يكون هذا اليقين في باب العلم الإجمالي ناقضاً لليقين السابق، أو لا ؟ هل يمنع من إجراء دليل الاستصحاب ؟ هل يمنع من إجراء صدر الرواية في أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ لأنّ صدر الرواية فيه قابلية الشمول لطرفي العلم الإجمالي بحسب الفرض، وإنّما نريد أن نمنع من جريانه على أساس ذيل الرواية، وإّنّما يتم هذا عندما يكون ذيل الرواية في مقام تأسيس، هو حكم شرعي كصدر الرواية، والإمام(عليه السلام) في مقام التأسيس؛ حينئذٍ يقع التهافت، لكننا لا يجوز لنا أن نتكلّم بهذا الكلام فيما إذا كان ذيل الرواية للإرشاد إلى ما يحكم به العقل، وإنّما افتراض عدم الشمول كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) موقوف على أن نراجع العقل لنرى أنّه يرشد إلى ماذا ؟ الناقضية بنظر العقل هل هي مختصة باليقين التفصيلي، أو أنّها تشمل حتّى اليقين الإجمالي؟
بعبارة أخرى: أنّ العقل هل يرى مانعاً من شمول صدر الرواية لأطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ إذا كان لا يرى مانعاً من شمولها له، فمعناه أنّه يرشد إلى أنّ اليقين الإجمالي لا ينقض اليقين السابق.
بعبارةٍ أخرى: أنّ العلم الإجمالي حاله حال الشك البدوي، العلم الإجمالي بنظر العقل لا يمنع من شمول صدر الرواية لأطراف العلم الإجمالي، كما لا يمنع من شمول صدر الرواية لموارد الشك البدوي، كذلك بنظر العقل هو لا يمنع من شمول الرواية لطرفي العلم الإجمالي؛ لأنّه يرى أنّ اليقين الناقض لليقين السابق هو خصوص اليقين التفصيلي ؟هل الأمر هكذا ؟ أو أنّ العقل يقول لا فرق بين اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي في الناقضية ؟ الشارع هنا أرشد بحسب الفرض إلى حكم العقل، فإذا قال: لا فرق بينهما، كما أنّ اليقين التفصيلي المتأخّر يكون ناقضاً لليقين السابق، كذلك اليقين الإجمالي أيضاً يكون ناقضاً لليقين السابق، وهذا يمنع من إجراء صدر الرواية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ العقل يراه مانعاً، يرى العلم الإجمالي مانعاً من ذلك. إذن: لا يمكن البت قبل البحث عن منجّزية العلم الإجمالي وماذا يحكم العقل في هذه الموارد الذي هو المقام الثالث الآتي، قبل أن ندخل في ذاك البحث لا يمكننا فعلاً أن نحكم بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ دليل الاستصحاب قال(لا تنقض اليقين بالشك) لكن في نفس الوقت أيضاً ذيّلَ العبارة بـــــــ (ولكن تنقضه بيقين آخر) وحوّلها إلى العقل، ناقضية اليقين لليقين السابق ينقضه بيقين آخر، هذا ليس حكماً شرعياً، وإنّما هو إرشاد إلى ما يراه العقل من الناقضية، فلابدّ أن نرجع إلى العقل، ما هو الشيء الذي يراه ناقضاً ؟ هل هو مطلق اليقين، أو هو اليقين التفصيلي ؟ وهذا يأتي بحثه في المقام الثالث، إذن: لا يمكننا أن نستعجل ونقول الآن بضرسٍ قاطع بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الإجمالي ولا يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه يلزم التهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها.
يمكن تأييد احتمال أن يكون الذيل في مقام الإرشاد وليس في مقام التأسيس بأنّ ناقضية اليقين لليقين من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى أن يتصدّى الشارع ويحكم بها حكماً تعبّدياً تأسيسياً، أمر واضح أنّ اليقين ينقض اليقين، أنّ اليقين إذا تعلّق بما تعلّق به اليقين السابق ينقضه ويرفعه، هذا أمر مركوز في ذهن الإنسان، وهو يقرّب أنّ الحكم في المقام في الذيل هو في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل. مضافاً إلى أنّ القدر المتيقن من اليقين في الذيل هو اليقين التفصيلي؛ إذ لا إشكال في كون اليقين التفصيلي المتأخر ناقضاً لليقين التفصيلي المتقدّم، هذا قدر متيقن، بينما نحن لدينا شك في شمول اليقين في الذيل لليقين الإجمالي، فإذا كان هذا هو القدر المتيقن، فماذا يقول الشارع ؟ كأنّه لو فرضنا كان حكماً شرعياً تعبّدياً تأسيسياً، كأن الشارع يثبت الناقضية لليقين التفصيلي، كأنّ الشارع يحكم بأنّ اليقين التفصيلي المتأخّر ناقض لليقين المتقدّم، ما معنى الحكم الشرعي بكونه ناقضاً ؟ معناه أنّه حجّة، معناه أنّه يجب عليك البناء على اليقين اللاحق، أرفع يدك عن اليقين السابق وأبنِ على اليقين اللاحق، هذا معناه جعل الحجّية لليقين المتأخّر، وقد قرأنا سابقاً في مباحث القطع بأنّه لا يُعقل جعل الحجّية لليقين التفصيلي، كما لا يُعقل سلب الحجّية عنه، لا يُعقل جعل الحجّية له، فأن يتصدّى الشارع لجعل الحجّية لليقين التفصيلي المتأخّر ويحكم بكونه ناقضاً شرعاً تعبّداً تأسيساً، يحكم بكونه ناقضاً الذي هو عبارة عن الحكم بأنّه حجّة وأنّك يجب عليك أن تعمل باليقين المتأخّر وترفع اليد عن اليقين المتقدّم هذا تقدّم سابقاً بأنّ اليقين ليس قابلاً لأن تُجعل له الحجّية كما أنّه ليس قابلاً لأن تُسلب عنه الحجّية. هذا أيضاً قرينة أخرى على أنّ ذيل الرواية ليس في مقام التأسيس وليس في مقام جعل حكم شرعي تعبّدي، وإنّما هو في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل وقلنا بأنّ هذا يمنع من الجزم بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل محل الكلام، وإنّما لابدّ أن ننتظر ما يحكم به العقل ونرى أنّ العقل بماذا يحكم ؟ هل يحكم بالمانعية، أو لا ؟
كان الكلام في ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من دعوى أنّ دليل الاستصحاب؛ بل حتّى دليل البراءة لا يشمل أطراف العلم الإجمالي للتهافت بالمعنى الذي ذكرناه. السيد الخوئي(قدّس سرّه) وغيره أشكلوا عليه بإشكالين، الإشكال الأوّل تقدّم ذكره، الإشكال الثاني هو أنّ العلم واليقين في ذيل الرواية يُراد به اليقين التفصيلي، (ولكن ينقضه بيقين آخر) المراد به هو اليقين التفصيلي(حتّى يعلم أنّه حرام) في روايات الحليّة يُراد به العلم التفصيلي، والوجه في ذلك هو أنّ الرواية تعتبر اليقين المتأخّر ناقضاً لليقين السابق، وكونه ناقضاً يتوقف على أن يتعلّق اليقين الناقض المتأخّر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، وهذا يقتضي أن يكون اليقين الناقض متعلّقاً بنفس اليقين السابق حتّى يكون ناقضاً له. وأمّا إذا فُرض أنّ اليقين الناقض متعلّق بشيءٍ آخر غير ما تعلّق به اليقين السابق فلا يكون حينئذٍ ناقضاً له، الناقضية تتوقّف على تعلّقه بنفس ما تعلق به اليقين السابق، وهذا المعنى يختصّ باليقين التفصيلي، يعني عندما أعلم بطهارة ماء، الذي ينقض هذا اليقين بالطهارة هو اليقين بنجاسته، وأمّا إذا لم يوجد عندي علم به ويقين بنجاسته، وإن كان عندي علم بنجاسة أحد الإناءين، فهذا لا يكون ناقضاً لليقين السابق؛ ولذا يكون اليقين مختصّاً باليقين التفصيلي ولا يشمل اليقين الإجمالي الذي هو محل الكلام.
وعليه: بناءً على هذا لا مانع من شمول صدر الرواية لموارد العلم الإجمالي؛ لأنّ ذيل الرواية لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ ذيل الرواية الذي نشأ من شموله لموارد العلم الإجمالي التهافت، هذا لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ المفروض أنّه يختصّ باليقين التفصيلي ولا يشمل اليقين الإجمالي، إذن: لا معنى من شمول الأخبار لمحل الكلام. هذا الإيراد الثاني.
هذا المطلب الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه) الظاهر أنّه لا ينبغي التوقّف في أنّ النقض يتوقّف على افتراض تعلّق اليقين الناقض بما تعلّق به اليقين المنقوض حتّى يصدّق النقض، أمّا إذا فرضنا أنّ اليقين المتأخّر تعلّق بشيءٍ آخر، فأنّه لا يكون ناقضاً لليقين السابق، إنّما يكون ناقضاً له عندما يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق، هذا أمر لا ينبغي التوقّف عنده، وإنّما الكلام في أنّ هذا النقض، أو ما يُستفاد من الرواية، هل هو تعلّق اليقين المتأخّر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق بجميع تفاصيله وجميع شئونه، أو يكفي أن يتعلّق به ولو إجمالاً لا أن يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق على غرار ما تعلّق به اليقين السابق، كيف أنّ اليقين السابق تعلّق بطهارة هذا الطرف بخصوصياته وشئونه الخاصة، هل يتوقّف صدق النقض على أن يتعلّق اليقين المتأخّر بما تعلّق به اليقين السابق على غرار ما تعلّق به اليقين السابق ؟ أيضاً يتعلّق به بتمام خصوصياته وشئونه، هل يتوقّف على ذلك، أو لا يتوقّف على ذلك ؟ المهم أن يتعلّق بما تعلّق به اليقين السابق، ولو كان تعلّقه به غير تعلّق اليقين السابق به، اليقين السابق تعلّق به بتفاصيله، بحدوده، اليقين الناقض قد نفترض أنّه لا يتعلّق به بحدوده وتفاصيله، وإنّما يتعلّق به إجمالاً، ويشير إليه بعنوان إجمالي، هل يتوقّف النقض على الأوّل، أو لا يتوقف عليه ؟ إذا قلنا أنّ النقض يتوقف على الأوّل وأنّ الذي يظهر من الرواية هو لابدّ من تعلّقه بنفس ما تعلّق به اليقين السابق بكل تفاصيله وحدوده الخاصّة، هذا معناه أنّ اليقين في ذيل الرواية يختص باليقين التفصيلي، فالذي ينقض اليقين السابق هو فقط اليقين التفصيلي الذي يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، أعلم بطهارة هذا الأناء، والذي ينقض هذا اليقين هو اليقين بنجاسة هذا الأناء، فاليقين في الذيل سوف يختصّ باليقين التفصيلي ولا يشمل محل الكلام؛ لأننا لا يقين لنا بنجاسة هذا الأناء ولا نجاسة هذا الأنا؛ فحينئذٍ لا يصدق الذيل في محل الكلام، فيبقى الصدر شاملاً لكلا الطرفين وهذا معناه شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، خلافاً لما يقوله الشيخ(قدّس سرّه).
وأمّا إذا قلنا بالثاني، أنّ النقض لا يتوقف على ذلك، يكفي فيه أن يتعلّق اليقين المتأخر بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، لكنّه يتعلّق به إجمالاً؛ حينئذٍ يكون الذيل شاملاً لمحل الكلام ويقع تهافت كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)؛ لأنّ صدر الرواية يقول(لا تنقض اليقين بالشك) هذا يقتضي أن لا أرفع يدي عن الحالة السابقة في هذا الطرف؛ لأنّ في هذا الطرف لا يوجد عندي إلاّ شك، عندي شك في طهارته ونجاسته وأنا على يقين سابقاً من طهارته في المثال، وهكذا في الطرف الآخر، فيكون كل منهما مشمولاً لصدر الرواية، بينما ذيل الرواية يشمله العلم الإجمالي؛ لأنّي أعلم بنجاسة أحدهما، أنا على يقين إجمالي بنجاسة أحدهما، وهذا عنوان إجمالي يشير إلى الطرف، فيقول يحصل تهافت، كيف يمكن الجمع بين لزوم البقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين ووجوب رفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الطرفين، هذان أمران لا يمكن الجمع بينهما، فيكون شاملاً لموارد العلم الإجمالي، فيقع التهافت في الدليل؛ وحينئذٍ يسقط الدليل عن الاعتبار، بمعنى أنّه لا يمكن أن نتمسّك به لإثبات جريانه في محل الكلام، فيحصل التهافت، فإذن نكتة المطلب هي: أنّ النقض في المقام هل يتوقف على أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، على غرار ما تعلّق به اليقين السابق، أو أنّه لا يتوقف على ذلك ؟
في الحقيقة لابدّ أن نراجع كلمة النقض، ونستظهر أنّ النكتة التي لأجلها يكون الشيء ناقضاً؛ ولأجل عدمها لا يكون الشيء ناقضاً ما هي ؟ يعني لماذا يكون هذا ناقضاً لذاك ؟ يكون ناقضا لذاك عندما تكون هناك منافاة بين الشيئين على نحوٍ بحيث لا يمكن أن يجتمعا معاً، بحيث يكون التصديق بهذا مستلزماً لعدم التصديق بذاك، والعكس أيضاً صحيح، فيكون هذا رافعاً لذاك وناقضاً له؛ لأنّه لا يمكن الجمع بينهما، اليقين بطهارة هذا الماء واليقين بنجاسة هذا الأناء نفسه، لماذا يكون هذا المتأخّر ناقضاً، لا إشكال في كونه ناقضاً هنا عندما يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين السابق، يكون ناقضاً لأنّ هناك منافاة بينهما بين اليقينين، فلا يمكن تصديقهما، كيف يمكن اجتماع يقين بالطهارة وبين يقين بالنجاسة، فيكون اليقين المتأخّر ناقضاً لليقين السابق، هذا المعنى بنفسه يمكن تصوّره في موارد العلم الإجمالي لأنّه بالنتيجة في موارد العلم الإجمالي المكلّف يعلم بنجاسة أحد الأناءين، هذا اليقين المتأخّر، اليقين بنجاسة أحد الأناءين كذلك لا يمكن أن يجتمع مع اليقين بطهارة كلا الأناءين مع اليقين السابق، ليس فقط الذي لا يمكن أن يجتمع مع طهارة هذا الأناء هو اليقين بنجاسة هذا الأناء، اليقين بطهارة هذا الأناء واليقين بطهارة ذاك الأناء، باعتبار أنّ الحالة السابقة لهما هي الطهارة، وصدر الرواية يأمر بالالتزام بالطهارة والبناء عليها، هذا لا يجتمع مع العلم بنجاسة أحدهما، فنحن إمّا أن نلتزم بأنّ الشارع عبّدنا بالبناء على اليقين بطهارة كل من الأناءين، أو نقول أنّ الشارع عبّدنا بالبناء على نجاسة أحدهما، أن نفترض أنّ الشارع يأمرنا بالبقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين وفي نفس الوقت يأمرنا برفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الإناءين هذان لا يجتمعان، فلا مانع من أن يقال بأنّ اليقين بنجاسة أحد الأناءين يكون ناقضاً لليقين السابق، والشيخ الأنصاري أراد هذا المعنى، والتهافت الذي ذكره صوّره بهذا الشكل، بمعنى أنّ صدر الرواية يقتضي البناء على هذا الطرف والبناء على طهارة هذا الطرف؛ لأنّ صدر الرواية يقول(لا تنقض اليقين بالشك) وأنّا في هذا الطرف لا يوجد عندي إلاّ شك، فأنا نُهيت عن نقض اليقين السابق بالشك، يعني هناك أمر بالبناء على الحالة السابقة، وأمر بالبناء على الحالة السابقة في الطرف الآخر. هذا مقتضى صدر الرواية، ذيل الرواية يقول إذا حصل لك يقين؛ حينئذٍ يكون هذا اليقين ناقضاً لليقين السابق(لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقينٍ آخر) الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يقول: يلزم من شمول اليقين في الذيل لمحل الكلام حصول التهافت؛ لأنّ اليقين الحاصل في موارد العلم الإجمالي هو يقين بنجاسة أحد الأناءين، هذا اليقين بنجاسة احد الأناءين لا يجتمع مع الأمر بإبقاء الحالة السابق في كلا الطرفين؛ لأنّ الشارع يقول لي انقض اليقين السابق باليقين الحادث المتأخّر، يعني أعمل بهذا اليقين المتأخّر، وهو يقين بنجاسة أحد الأناءين، فعدم إمكان الاجتماع موجود، والمنافاة موجودة، وهذا معنى قد يصحح أن يقال أنّ اليقين بنجاسة أحد الأناءين يكون ناقضاً لليقين السابق المفروض وجوده في كلا الطرفين، فإذا صدق النقض؛ حينئذٍ يقع التهافت، فيكون الذيل شاملاً لمحل الكلام، فإذا شمله الصدر وقع التهافت بينهما، والشيخ(قدّس سرّه) يجعل هذا التهافت قرينة ودليلاً على عدم إمكان التمسّك بالاستصحاب في موارد العلم الإجمالي.
أقول: يمكن تصحيح صدق النقض في محل الكلام، وإن كان اليقين اللاحق لا يتعلّق بنفس متعلّق اليقين السابق على غرار تعلّقه به وعلى نهج تعلّقه به، وإن كان ليس هكذا لكنّه يتعلّق به، لكن على نحو الإجمال؛ لأنّه يشير إلى أحد الفردين ويقيناً بنجاسة أحد الأناءين. بناءً على هذا حينئذٍ يتم ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من الإشكال وهو أنّ الالتزام بشمول أدلّة الاستصحاب، أو أدلّة البراءة التي يوجد فيها الذيل، بعض أدلّة الحل(حتّى يعلم أنّه حرام) شمولها لمحل الكلام يلزم منه هذا التفاوت، وبالتالي يكون هذا موجباً للإجمال في الدليل، وبالتالي مانعاً من إمكان التمسّك بها في محل الكلام. ويُضاف إليه أنّ نفس كلمة اليقين الواردة في الذيل موجودة في محل الكلام؛ لأنّه يقول(ولكن تنقضه بيقين آخر) واليقين موجود في محل الكلام وقلنا أنّه يمكن تصحيح صدق النقض على العلم الإجمالي وعلى اليقين الإجمالي المتأخّر، فلا مانع من شمول الذيل لمحل الكلام، بمعنى أنّ المراد باليقين في الذيل هو الأعمّ من اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي، المراد بالعلم في روايات الإباحة الأعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، كلٌ منهما يكون ناقضاً للحالة السابقة؛ وحينئذٍ لا يجوز الأخذ بالحالة السابقة في كلا الطرفين. هذا بالنسبة إلى ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
لكن يبقى الكلام في أنّ هذا هل ينهي المسألة ؟ يعني هل نلتزم بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من أنّ أدلّة الاستصحاب وأدلّة الإباحة التي فيها هذا الذيل غير قابلة لأن تشمل موارد العلم الإجمالي، فتختص حينئذٍ بالشبهات البدوية، هل نلتزم بذلك، أو لا ؟ الظاهر أنّه لا نلتزم بذلك لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر بعض المحققين بأنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وإن كان من الناحية المتقدّمة لا بأس به، يعني يمكن أن نلتزم بأنّ كلمة(النقض) لا تمنع من شمول دليل الاستصحاب لموارد العلم الإجمالي، لكن الشمول لأطراف العلم الإجمالي لا يتوقّف على هذا فقط، وإنّما شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي يتوقّف على قضية أخرى لابدّ من تنقيحها، وهذا القضية الأخرى هي أنّه حتّى تتمّ دعوى عدم الشمول الذي يدّعيه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لابدّ أن نفترض أنّ ذيل الرواية هو في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي(ولكن تنقضه بيقينٍ آخر) هنا هو يُبيّن حكماً تأسيسياً وهو عبارة عن لزوم نقض اليقين السابق بيقين مثله، هذا حكم شرعي. دعوى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) التي هي عدم شمول ذيل الاستصحاب لمحل الكلام تتوقّف على هذا الافتراض، يعني عندما نفسّر الذيل بأنّه حكم شرعي تأسيسي صادر من قِبل الشارع؛ حينئذٍ يتم كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)؛ لأنّه يقع التهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها؛ لأنّه بالبيان السابق في صدر الرواية الشارع يأمرني بالبقاء على الحالة السابقة في كلا الطرفين، بينما ذيل الرواية يقول لابدّ من رفع اليد عن الحالة السابقة في أحد الطرفين، وهذان لا يمكن الجمع بينهما. أمّا إذا فرضنا أنّ ذيل الرواية ليس في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي، وإنّما في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من أنّ اليقين ينقضه اليقين، إذا فرضنا أنّ(ولكن ينقضه بيقينٍ آخر) ليس في مقام التأسيس، يعني يريد أن ينهى عن نقض اليقين باليقين، وإنّما هو في مقام الإرشاد إلى ما يستقل به العقل من أنّ اليقين السابق إذا طرأ عليه يقين آخر يكون ناقضاً له، إذا فرضنا ذلك وكانت الرواية في مقام الإرشاد؛ حينئذٍ لا يجوز لنا أن نتمسّك بالدليل إلاّ بعد الفراغ عن ما يحكم به العقل، إلاّ بعد أن نراجع العقل ونسأله: ما هو رأيك في المقام ؟ هل يكون هذا اليقين في باب العلم الإجمالي ناقضاً لليقين السابق، أو لا ؟ هل يمنع من إجراء دليل الاستصحاب ؟ هل يمنع من إجراء صدر الرواية في أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ لأنّ صدر الرواية فيه قابلية الشمول لطرفي العلم الإجمالي بحسب الفرض، وإنّما نريد أن نمنع من جريانه على أساس ذيل الرواية، وإّنّما يتم هذا عندما يكون ذيل الرواية في مقام تأسيس، هو حكم شرعي كصدر الرواية، والإمام(عليه السلام) في مقام التأسيس؛ حينئذٍ يقع التهافت، لكننا لا يجوز لنا أن نتكلّم بهذا الكلام فيما إذا كان ذيل الرواية للإرشاد إلى ما يحكم به العقل، وإنّما افتراض عدم الشمول كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) موقوف على أن نراجع العقل لنرى أنّه يرشد إلى ماذا ؟ الناقضية بنظر العقل هل هي مختصة باليقين التفصيلي، أو أنّها تشمل حتّى اليقين الإجمالي؟
بعبارة أخرى: أنّ العقل هل يرى مانعاً من شمول صدر الرواية لأطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ إذا كان لا يرى مانعاً من شمولها له، فمعناه أنّه يرشد إلى أنّ اليقين الإجمالي لا ينقض اليقين السابق.
بعبارةٍ أخرى: أنّ العلم الإجمالي حاله حال الشك البدوي، العلم الإجمالي بنظر العقل لا يمنع من شمول صدر الرواية لأطراف العلم الإجمالي، كما لا يمنع من شمول صدر الرواية لموارد الشك البدوي، كذلك بنظر العقل هو لا يمنع من شمول الرواية لطرفي العلم الإجمالي؛ لأنّه يرى أنّ اليقين الناقض لليقين السابق هو خصوص اليقين التفصيلي ؟هل الأمر هكذا ؟ أو أنّ العقل يقول لا فرق بين اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي في الناقضية ؟ الشارع هنا أرشد بحسب الفرض إلى حكم العقل، فإذا قال: لا فرق بينهما، كما أنّ اليقين التفصيلي المتأخّر يكون ناقضاً لليقين السابق، كذلك اليقين الإجمالي أيضاً يكون ناقضاً لليقين السابق، وهذا يمنع من إجراء صدر الرواية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ العقل يراه مانعاً، يرى العلم الإجمالي مانعاً من ذلك. إذن: لا يمكن البت قبل البحث عن منجّزية العلم الإجمالي وماذا يحكم العقل في هذه الموارد الذي هو المقام الثالث الآتي، قبل أن ندخل في ذاك البحث لا يمكننا فعلاً أن نحكم بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ دليل الاستصحاب قال(لا تنقض اليقين بالشك) لكن في نفس الوقت أيضاً ذيّلَ العبارة بـــــــ (ولكن تنقضه بيقين آخر) وحوّلها إلى العقل، ناقضية اليقين لليقين السابق ينقضه بيقين آخر، هذا ليس حكماً شرعياً، وإنّما هو إرشاد إلى ما يراه العقل من الناقضية، فلابدّ أن نرجع إلى العقل، ما هو الشيء الذي يراه ناقضاً ؟ هل هو مطلق اليقين، أو هو اليقين التفصيلي ؟ وهذا يأتي بحثه في المقام الثالث، إذن: لا يمكننا أن نستعجل ونقول الآن بضرسٍ قاطع بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الإجمالي ولا يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه يلزم التهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها.
يمكن تأييد احتمال أن يكون الذيل في مقام الإرشاد وليس في مقام التأسيس بأنّ ناقضية اليقين لليقين من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى أن يتصدّى الشارع ويحكم بها حكماً تعبّدياً تأسيسياً، أمر واضح أنّ اليقين ينقض اليقين، أنّ اليقين إذا تعلّق بما تعلّق به اليقين السابق ينقضه ويرفعه، هذا أمر مركوز في ذهن الإنسان، وهو يقرّب أنّ الحكم في المقام في الذيل هو في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل. مضافاً إلى أنّ القدر المتيقن من اليقين في الذيل هو اليقين التفصيلي؛ إذ لا إشكال في كون اليقين التفصيلي المتأخر ناقضاً لليقين التفصيلي المتقدّم، هذا قدر متيقن، بينما نحن لدينا شك في شمول اليقين في الذيل لليقين الإجمالي، فإذا كان هذا هو القدر المتيقن، فماذا يقول الشارع ؟ كأنّه لو فرضنا كان حكماً شرعياً تعبّدياً تأسيسياً، كأن الشارع يثبت الناقضية لليقين التفصيلي، كأنّ الشارع يحكم بأنّ اليقين التفصيلي المتأخّر ناقض لليقين المتقدّم، ما معنى الحكم الشرعي بكونه ناقضاً ؟ معناه أنّه حجّة، معناه أنّه يجب عليك البناء على اليقين اللاحق، أرفع يدك عن اليقين السابق وأبنِ على اليقين اللاحق، هذا معناه جعل الحجّية لليقين المتأخّر، وقد قرأنا سابقاً في مباحث القطع بأنّه لا يُعقل جعل الحجّية لليقين التفصيلي، كما لا يُعقل سلب الحجّية عنه، لا يُعقل جعل الحجّية له، فأن يتصدّى الشارع لجعل الحجّية لليقين التفصيلي المتأخّر ويحكم بكونه ناقضاً شرعاً تعبّداً تأسيساً، يحكم بكونه ناقضاً الذي هو عبارة عن الحكم بأنّه حجّة وأنّك يجب عليك أن تعمل باليقين المتأخّر وترفع اليد عن اليقين المتقدّم هذا تقدّم سابقاً بأنّ اليقين ليس قابلاً لأن تُجعل له الحجّية كما أنّه ليس قابلاً لأن تُسلب عنه الحجّية. هذا أيضاً قرينة أخرى على أنّ ذيل الرواية ليس في مقام التأسيس وليس في مقام جعل حكم شرعي تعبّدي، وإنّما هو في مقام الإرشاد إلى ما يحكم به العقل وقلنا بأنّ هذا يمنع من الجزم بأنّ دليل الاستصحاب لا يشمل محل الكلام، وإنّما لابدّ أن ننتظر ما يحكم به العقل ونرى أنّ العقل بماذا يحكم ؟ هل يحكم بالمانعية، أو لا ؟