35/12/03
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
ذكرنا في الدرس السابق بأنّ الشروط المتقدّمة للانحلال الحكمي إذا تمّت تحقق الانحلال بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية الذي يعني جواز ارتكاب الطرف الآخر، لكن جواز ارتكاب الطرف الآخر هل هو جائزٌ مطلقاً، بمعنى أنّه سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو لا ؟ ومقصودنا من الطرف الأوّل هو الطرف الذي تنجّز فيه التكليف، لقيام الإمارة على ثبوت التكليف فيه، أو الأصل. هل يجوز ارتكاب الطرف الآخر حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل ؟ أو أنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل ؟ فإذا قلنا بأنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل بحيث لا جواز بارتكابه مع ارتكاب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس منحلاً بلحاظ حرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر ثابت مطلقاً، سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو ارتكبه، فإذا ارتكب الطرفين هو لم يعصِ ولم يخالف إلاّ بمقدار مخالفة الطرف الذي تنجّز فيه التكليف؛ لأنّ ارتكاب الطرف الآخر جائز ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ مطلقاً، أي حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل، فإذا ارتكبهما هو يعصي بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في الطرف الأوّل، بينما على الوجه الأوّل ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب ارتكاب الطرف الأوّل، فإذا ارتكبهما هو في الحقيقة يرتكب مخالفة أكثر وأشدّ. والمقصود من عدم الانحلال بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، أو بعبارة أحرى: المقصود من بقاء العلم الإجمالي على تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية هو أنّ من يرتكب الطرفين يخالف ويعصي أكثر ممّا لو ارتكب الطرف الأوّل الذي تنجّز التكليف فيه، ومعنى أنّ العلم الإجمالي منحلٌ حتّى بلحاظ حرمة المخالفة القطعية، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية بهذا المعنى، فإذا ارتكب الطرفين هو لا يخالف ولا يعصي إلاّ بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في هذا الطرف، فأيّهما هو الصحيح ؟ هل الانحلال الذي توفرّت شروطه يثبت بلحاظ كلٍ منهما، أو يثبت فقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ؟
الظاهر أنّ هذا يختلف باختلاف الدليل الذي يُستدَل به على جواز ارتكاب الطرف الآخر من حيث كونه أصلاً شرعياً، أو كونه أصلاً عقلياً، من حيث كونه براءةً شرعية، أو من حيث كونه براءةً عقلية، قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذا كان الأصل الذي يُستند إليه لإثبات جواز ارتكاب الطرف الآخر أصلاً شرعياً مؤمّناً، حديث الرفع وأمثاله يجري في الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنى الانحلال الحكمي، هذه القاعدة ليس فيها ما يقتضي تقييدها، جريانها في الطرف الآخر ليس مقيّداً باجتناب الطرف الأوّل؛ بل هي تثبت التأمين والسعة في الطرف الآخر مطلقاً بلا معارض، يعني سواء ارتكب الطرف الأوّل، أو اجتنبه، حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل هي تجوّز له ارتكاب الطرف الآخر، هذا معنى إطلاقها، فإذا ارتكبهما هو لم يخالف إلاّ بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في الطرف الأوّل. الأصل المؤمّن الشرعي، أي البراءة الشرعية تجري في الطرف الآخر مطلقاً، ليس فيه ما يقتضي التقييد، مطلقاً، تحقق موضوعه في الطرف الآخر، كما هو المفروض، وليس له معارض ـــــــــ بحسب الفرض ـــــــــ فيثبت التأمين في الطرف الآخر مطلقاً حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل.
وأمّا إذا كان الأصل الذي يُستند إليه لإثبات الجواز في الطرف الآخر هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، قاعدة عقلية، أصل البراءة العقلي، هنا العقل يتدخّل، هنا يمكن أن يقال بأنّ العقل يرى أنّ ارتكاب الطرفين أشد حالاً ممّا إذا ارتكب الطرف الأوّل فقط، إذا ارتكب الطرف الأوّل وقع في مخالفةٍ وعصى وارتكب قبيحاً، لكن العقل يرى أنّه إذا ارتكبهما معاً فقد وقع في مخالفةٍ أشد وفي عصيان أشد، والقبح يكون أكبر ممّا إذا اقتصر على مخالفة الطرف الأوّل فقط؛ لأنّ العقل يرى أنّ مخالفة العلم غير مخالفة الحجّة، الحجّة فيها احتمال عدم المصادفة للواقع، مخالفة الحجّة غير العلم، هي أخف بنظر العقل من مخالفة العلم بالتكليف، هذا عندما يرتكبهما معاً هو قد خالف العلم بثبوت التكليف فيهما، لكن عندما يخالف الطرف الأوّل فقط هو قد خالف الإمارة والحجّة، ومخالفة الحجّة بنظر العقل أخفّ من مخالفة العلم، يعني مخالفة العلم أقبح بنظر العقل من مخالفة الحجّة التي يحتمل فيها عدم المصادفة للواقع، بينما في العلم، العالم لا يحتمل مخالفته للواقع، وعدم مصادفته للواقع؛ ولذا يقول له: أنت الذي لا تحتمل مخالفة العلم للواقع، مخالفتك للعلم أشد من مخالفة الإمارة والحجّة، فيمكن هنا أن يتدخّل العقل ويحكم بالتأمين ويكون حكمه بالتأمين في الطرف الآخر منوطاً بعدم ارتكاب الطرف الأوّل، أمّا إذا ارتكب الطرف الأوّل العقل لا يضع تأميناً، يعني لا يقول له: أنت لم ترتكب مخالفة إلاّ بمقدار مخالفة التكليف الثابت في الطرف الأوّل؛ بل يرى أنّه قد خالف مخالفةً أشد وعصى عصياناً أشد، وارتكب قبيحاً أكثر ممّا يرتكبه لو اقتصر على مخالفة الطرف الأوّل.
إلى هنا يتمّ الكلام عن كبرى انحلال العلم الإجمالي، يبقى هناك مطلبٌ يرتبط بما نقلناه عن السيد الشهيد(قدّس سرّه) إن شاء الله نبيّنه ونلحقه بعد ذلك.
الآن ندخل في بحثٍ آخر وهو في بحث اشتراك علمين إجماليين في طرفٍ واحدٍ، في بعض الأحيان نرى أنّ هناك طرفاً واحداً يشترك في علمين إجماليين، علم بنجاسة أحد إناءين، أحدهما نفترض أنّه أبيض، والآخر أسود، وعلم أيضاً بنجاسة أحد إناءين، أحدهما الإناء الأسود الذي هو الطرف في العلم الإجمالي الأوّل، أو الإناء الأحمر الذي هو إناء آخر ثالث، فيكون الإناء الأسود طرفاً لعلمين إجماليين. الكلام في أنّ اشتراك العلميين الإجماليين في طرفٍ واحدٍ هل يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني، بحيث أنّ العلم الإجمالي الثاني ينحل، ولا ينجّز معلومه، ويظهر الأثر في الإناء الأحمر الذي هو الطرف الخاص بالعلم الإجمالي الثاني، إذا أنحل العلم الإجمالي الثاني وسقط عن المنجّزية؛ فحينئذٍ يجوز إجراء الأصل في الإناء الثالث ــــــــــ الأحمر ــــــــــ وإذا قلنا أنّ العلم الإجمالي الثاني لا ينحل، ويبقى على منجّزيته؛ حينئذٍ يكون العلم الإجمالي الثاني منجّزاً، فينجّز كلا طرفيه، ويمنع من إجراء الأصل في كلٍ من الطرفين .
هنا تارةً يُفترض أنّ العلمين الإجماليين الّذين يشتركان في طرفٍ، متقارنان زماناً من ناحية العلم، وكذا من ناحية المعلوم، لا يوجد تقدّم وتأخّر بينهما، لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم للعلمين، فالعلم الإجمالي الأوّل مقارن زماناً للعلم الإجمالي الثاني، كما أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل مقارن زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، كما إذا فرضنا أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود، وفي نفس الوقت علم بنجاسة أحد إناءين، إمّا الأسود الذي هو الطرف المشترك، أو الإناء الأحمر، في نفس زمان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل، يعني النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني هي في نفس زمان النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، فليس هناك تقدّم وتأخّر بلحاظ العلم، ولا تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلوم، ففي العلم الإجمالي الثاني يعلم بنجاسة في أحد إناءين، إمّا الأسود، أو الأحمر في نفس الوقت الذي علم فيه بنجاسةٍ مرددّة بين الإناء الأبيض، أو الإناء الأسود. النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل هي في نفس وقت النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، كما أنّ العلم الإجمالي الثاني حدث في نفس الوقت الذي حدث فيه العلم الإجمالي الأوّل، فلا يوجد تقدّم وتأخّر لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم.
هذه الصورة خارجة عن محل الكلام، بمعنى أنّه لا إشكال في عدم الانحلال فيها، ولا مجال لأن يقال بأنّ العلم الإجمالي الأوّل ينحل بالعلم الإجمالي الثاني، أو أنّ العلم الإجمالي الثاني ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ العلمين حينئذٍ يكونان في عرضٍ واحدٍ، ونسبتهما إلى الأطراف نسبة واحدة؛ حينئذٍ لا مجال لأن يقال بانحلال الأوّل بالثاني، أو انحلال الثاني بالأوّل مع أنّهما في عرضٍ واحد، ولا موجب لترجيح تحقق انحلال الأوّل بالثاني، أو الثاني بالأوّل؛ بل يبقى كلٌ منهما على منجّزيته، وبذلك تتنجّز كل الأطراف الثلاثة.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ هذين العلمين الإجماليين مع افتراض التقارن في الزمان بلحاظ العلم وبلحاظ المعلوم يرجعان إلى علمٍ إجمالي واحدٍ بنجاسة إمّا الإناء المشترك، أو نجاسة الإناءين الآخرين، النجاسة المعلومة بالإجمال في هذين العلمين إن كانت موجودة في الإناء الأسود، فهي غير موجودة في الإناءين الآخرين، وإن كانت النجاسة غير موجودة في الإناء الأسود، فهي موجودة في الإناءين الآخرين، وهذا معناه أنّه علم إجمالي واحد، إمّا بنجاسة الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءين الآخرين، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الإجمالي ينجّز أطرافه كما لو حدث ابتداءً بلا فرض علمين إجماليين، لو فرضنا أنّه علِم من البداية بأنّه إمّا الإناء الأسود نجس، أو أنّ هذين الإناءين نجسان، فكم أنّ هذا العلم الإجمالي بلا إشكال ينجّز الإناء الأسود، وينجّز الإناءين الآخرين؛ لأنّ الإناءين الآخرين هما طرفٌ لهذا العلم الإجمالي، هذا مثل ذاك؛ لأنّ مردّ العلمين الإجماليين مع فرض التقارن بلحاظ العلم، وبلحاظ المعلوم إلى هذا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأمرين، إمّا الإناء الأسود، أو الإناءين الآخرين، فهنا لا إشكال في التنجيز، ولا إشكال في عدم الانحلال، فينبغي عزل هذه الصورة عن محل الكلام.
ومن هنا يظهر أنّ الكلام يقع في ما إذا لم يحصل تقارن بين العلمين الإجماليين، إمّا من ناحية العلم نفسه لا يوجد تقارن زماني، وإن كان هناك تقارن زماني بلحاظ المعلوم، أو لم يكن هناك تقارن بلحاظ المعلوم بالعلمين الإجماليين، بأن كانت النجاسة المعلومة بأحد العلمين متقدّمة زماناً على النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، وإن كان هناك تقارن بلحاظ نفس العلمين، ومرّة نفترض أنّ عدم التقارن بلحاظ كلتا الناحيتين، يعني عدم تقارن في العلم، وعدم تقارن من ناحية المعلوم، أحد العلمين الإجماليين كعلمٍ هو متقدّم زماناً على العلم الإجمالي الثاني، النجاسة المعلومة بأحد العلمين متقدّمة زماناً على النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، فهنا لا يوجد تقارن بلحاظ كلتا الناحيتين.
الكلام يقع في أنّ العلم الإجمالي الثاني بنكتة كون أحد أطرافه طرفاً لعلم إجمالي آخر، هذا هل يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني المتأخّر زماناً من ناحية العلم، أو المتأخّر زماناً من ناحية المعلوم، أو المتأخّر زماناً من كلتا الناحيتين، هل ينحل هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي الأوّل في جميع هذه الفروض، أو لا ينحل في جميع هذه الفروض، أو يُفصّل بين هذه الفروض ؟
في هذا المقام يُذكر رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه):[1][2]حيث نُسب إليه القول بأنّ العلم الإجمالي المتأخّر من ناحية المعلوم ينحل بالعلم الإجمالي المتقدّم من ناحية المعلوم، سواء كان نفس العلم متقدّماً، أو متأخّراً، أو مقارناً، هذا لا يضر، الميزان ليس هو ملاحظة زمان حصول العلم، وإنّما الميزان في الانحلال هو ملاحظة التقارن وعدم التقارن بلحاظ المعلوم بالعلمين الإجماليين، فإذا فرضنا أنّ المعلوم بأحد العلمين كان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني يتحقق الانحلال في هذه الحالة من دون فرقٍ بين أن يكون زمان العلم بأحدهما متقدّماً على زمان العلم بالآخر، أو لم يكن متقدّماً عليه، الميزان هو أن يكون المعلوم بأحدهما سابقاً، أو متأخّراً على المعلوم بالآخر. ما يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) حسب(أجود التقريرات)، وكذا(فوائد الأصول)، يذكر مطلباً كلّياً، يقول: أنّ العلم الإجمالي ينحل إذا قام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه المعيّنة، ولا يُفرّق فيه بين أن يكون علماً تفصيلياً، أو يكون إمارةً مثبتة للتكليف في طرفٍ معيّن، أو أصلاً شرعياً، أو أصلاً عقلياً، المهم أن يقوم ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي المعيّن، ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي المعيّن عقلاً يجعل ما نحن فيه مثلاً له، نحن لا نتكلّم عن ما يوجب ثبوت التكليف في هذا الطرف المعيّن ويكون إمارةً، أو يكون أصلاً عملياً شرعياً، أو يكون علماً تفصيلياً، كلامنا فعلاً ليس هذا، وإنّما الذي يثبت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي الثاني، الذي هو الإناء الأسود هو العلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ الإناء الأسود هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وإذا كان طرفاً للعلم الإجمالي الأوّل العقل يحكم بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي الأوّل بما فيها الإناء الأسود، إذن: الإناء الأسود الذي هو طرف للعلم الإجمالي الثاني قام ما يوجب ثبوت التكليف فيه، لكن عقلاً، وهو العلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّه نجّز التكليف في الأطراف، يعني نجّز وجوب الاجتناب عن الطرفين بحكم العقل، العقل يحكم بلزوم الاجتناب عن الإناء الأسود، والإناء الأبيض الذي هو الطرف الثاني في العلم الإجمالي الأوّل، إذن: العقل حكم بوجوب اجتناب الإناء الأسود، ثمّ جاء العلم الإجمالي الثاني. هذا يمثّل له بما نحن فيه، ويقول: بأنّ هذا العلم الإجمالي الثاني ما دام قام ما يوجب تنجّز التكليف فيه، وهو بعضٌ معيّن من أطراف العلم الإجمالي الثاني، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني. كل علمٍ إجمالي عندما يقوم ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه ينحل، سواء كان ما يوجب الثبوت علماً تفصيلياً، أو إمارة، أو اصلاً شرعياً، أو أصلاً عقلياً، ما نحن فيه من هذا القبيل، ثمّ ذكر بأنّه لا يُفرّق في ذلك بأن يكون الموجب لثبوت التكليف حاصلاً قبل العلم الإجمالي، أو بعد العلم الإجمالي، غاية الأمر أنّه إذا كان الموجب لثبوت التكليف في بعض الأطراف المعيّن حاصلاً قبل العلم الإجمالي، فهو يمنع من تأثير العلم الإجمالي في التنجيز من البداية، اساساً هو يمنع من كون هذا العلم الإجمالي موجباً للمنجّزية، وإذا قام بعد العلم الإجمالي، فهو يوجب انحلال العلم الإجمالي. يعني يمنع من تأثير العلم الإجمالي في المنجّزية في مرحلة البقاء الذي هو معنى الانحلال، بمعنى أنّ العلم الإجمالي انعقد وفي مرحلة الحدوث أثّر في المنجّزية، لكنّه ينحل في مرحلة البقاء ويسقط عن التنجيز في مرحلة البقاء فيوجب انحلاله بعد انعقاده.
الوجه في الانحلال الذي يذكره، لماذا ينحل العلم الإجمالي بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه المعيّنة ؟ الوجه في الانحلال بشكلٍ عام الذي يجري في جميع الحالات، سواء كان علماً تفصيلياً، أو إمارة، أو أصلاً عقلياً الذي هو محل كلامنا، الوجه في ذلك ـــــــــ حسب ما يستفاد من كلامه ــــــــــ هو أنّه يدّعي أنّ العلم الإجمالي إنّما يوجب التنجيز إذا كان يستوجب علماً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير؛ حينئذٍ يكون موجباً للمنجّزية، وأمّا إذا كان علماً بتكليفٍ على تقديرٍ، ولكنّه على تقديرٍ آخر لا يستوجب العلم بتكليف، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، شرط منجّزية العلم الإجمالي أنّه يستوجب العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير، يعني سواء كان في هذا الطرف، هو ينجّز، ويستوجب تكليفاً، أو كان في الطرف الآخر أيضاً هو يستوجب تكليفاً، هذا الشرط الأساسي المهم في تنجيز العلم الإجمالي، كل علمٍ إجمالي يستوجب العلم بتكليفٍ على كل تقدير يكون منجّزاً، وكل علمٍ إجمالي لا يستوجب العلم بتكليفٍ على كل تقدير وإنّما يستوجب العلم بتكليفٍ على تقديرٍ دون تقديرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون موجباً للتنجيز، فينحل.
ذكرنا في الدرس السابق بأنّ الشروط المتقدّمة للانحلال الحكمي إذا تمّت تحقق الانحلال بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية الذي يعني جواز ارتكاب الطرف الآخر، لكن جواز ارتكاب الطرف الآخر هل هو جائزٌ مطلقاً، بمعنى أنّه سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو لا ؟ ومقصودنا من الطرف الأوّل هو الطرف الذي تنجّز فيه التكليف، لقيام الإمارة على ثبوت التكليف فيه، أو الأصل. هل يجوز ارتكاب الطرف الآخر حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل ؟ أو أنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل ؟ فإذا قلنا بأنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل بحيث لا جواز بارتكابه مع ارتكاب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس منحلاً بلحاظ حرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواز ارتكاب الطرف الآخر ثابت مطلقاً، سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو ارتكبه، فإذا ارتكب الطرفين هو لم يعصِ ولم يخالف إلاّ بمقدار مخالفة الطرف الذي تنجّز فيه التكليف؛ لأنّ ارتكاب الطرف الآخر جائز ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ مطلقاً، أي حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل، فإذا ارتكبهما هو يعصي بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في الطرف الأوّل، بينما على الوجه الأوّل ارتكاب الطرف الآخر منوط باجتناب ارتكاب الطرف الأوّل، فإذا ارتكبهما هو في الحقيقة يرتكب مخالفة أكثر وأشدّ. والمقصود من عدم الانحلال بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، أو بعبارة أحرى: المقصود من بقاء العلم الإجمالي على تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية هو أنّ من يرتكب الطرفين يخالف ويعصي أكثر ممّا لو ارتكب الطرف الأوّل الذي تنجّز التكليف فيه، ومعنى أنّ العلم الإجمالي منحلٌ حتّى بلحاظ حرمة المخالفة القطعية، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية بهذا المعنى، فإذا ارتكب الطرفين هو لا يخالف ولا يعصي إلاّ بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في هذا الطرف، فأيّهما هو الصحيح ؟ هل الانحلال الذي توفرّت شروطه يثبت بلحاظ كلٍ منهما، أو يثبت فقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ؟
الظاهر أنّ هذا يختلف باختلاف الدليل الذي يُستدَل به على جواز ارتكاب الطرف الآخر من حيث كونه أصلاً شرعياً، أو كونه أصلاً عقلياً، من حيث كونه براءةً شرعية، أو من حيث كونه براءةً عقلية، قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذا كان الأصل الذي يُستند إليه لإثبات جواز ارتكاب الطرف الآخر أصلاً شرعياً مؤمّناً، حديث الرفع وأمثاله يجري في الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنى الانحلال الحكمي، هذه القاعدة ليس فيها ما يقتضي تقييدها، جريانها في الطرف الآخر ليس مقيّداً باجتناب الطرف الأوّل؛ بل هي تثبت التأمين والسعة في الطرف الآخر مطلقاً بلا معارض، يعني سواء ارتكب الطرف الأوّل، أو اجتنبه، حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل هي تجوّز له ارتكاب الطرف الآخر، هذا معنى إطلاقها، فإذا ارتكبهما هو لم يخالف إلاّ بمقدار مخالفة التكليف المنجّز في الطرف الأوّل. الأصل المؤمّن الشرعي، أي البراءة الشرعية تجري في الطرف الآخر مطلقاً، ليس فيه ما يقتضي التقييد، مطلقاً، تحقق موضوعه في الطرف الآخر، كما هو المفروض، وليس له معارض ـــــــــ بحسب الفرض ـــــــــ فيثبت التأمين في الطرف الآخر مطلقاً حتّى إذا ارتكب الطرف الأوّل.
وأمّا إذا كان الأصل الذي يُستند إليه لإثبات الجواز في الطرف الآخر هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، قاعدة عقلية، أصل البراءة العقلي، هنا العقل يتدخّل، هنا يمكن أن يقال بأنّ العقل يرى أنّ ارتكاب الطرفين أشد حالاً ممّا إذا ارتكب الطرف الأوّل فقط، إذا ارتكب الطرف الأوّل وقع في مخالفةٍ وعصى وارتكب قبيحاً، لكن العقل يرى أنّه إذا ارتكبهما معاً فقد وقع في مخالفةٍ أشد وفي عصيان أشد، والقبح يكون أكبر ممّا إذا اقتصر على مخالفة الطرف الأوّل فقط؛ لأنّ العقل يرى أنّ مخالفة العلم غير مخالفة الحجّة، الحجّة فيها احتمال عدم المصادفة للواقع، مخالفة الحجّة غير العلم، هي أخف بنظر العقل من مخالفة العلم بالتكليف، هذا عندما يرتكبهما معاً هو قد خالف العلم بثبوت التكليف فيهما، لكن عندما يخالف الطرف الأوّل فقط هو قد خالف الإمارة والحجّة، ومخالفة الحجّة بنظر العقل أخفّ من مخالفة العلم، يعني مخالفة العلم أقبح بنظر العقل من مخالفة الحجّة التي يحتمل فيها عدم المصادفة للواقع، بينما في العلم، العالم لا يحتمل مخالفته للواقع، وعدم مصادفته للواقع؛ ولذا يقول له: أنت الذي لا تحتمل مخالفة العلم للواقع، مخالفتك للعلم أشد من مخالفة الإمارة والحجّة، فيمكن هنا أن يتدخّل العقل ويحكم بالتأمين ويكون حكمه بالتأمين في الطرف الآخر منوطاً بعدم ارتكاب الطرف الأوّل، أمّا إذا ارتكب الطرف الأوّل العقل لا يضع تأميناً، يعني لا يقول له: أنت لم ترتكب مخالفة إلاّ بمقدار مخالفة التكليف الثابت في الطرف الأوّل؛ بل يرى أنّه قد خالف مخالفةً أشد وعصى عصياناً أشد، وارتكب قبيحاً أكثر ممّا يرتكبه لو اقتصر على مخالفة الطرف الأوّل.
إلى هنا يتمّ الكلام عن كبرى انحلال العلم الإجمالي، يبقى هناك مطلبٌ يرتبط بما نقلناه عن السيد الشهيد(قدّس سرّه) إن شاء الله نبيّنه ونلحقه بعد ذلك.
الآن ندخل في بحثٍ آخر وهو في بحث اشتراك علمين إجماليين في طرفٍ واحدٍ، في بعض الأحيان نرى أنّ هناك طرفاً واحداً يشترك في علمين إجماليين، علم بنجاسة أحد إناءين، أحدهما نفترض أنّه أبيض، والآخر أسود، وعلم أيضاً بنجاسة أحد إناءين، أحدهما الإناء الأسود الذي هو الطرف في العلم الإجمالي الأوّل، أو الإناء الأحمر الذي هو إناء آخر ثالث، فيكون الإناء الأسود طرفاً لعلمين إجماليين. الكلام في أنّ اشتراك العلميين الإجماليين في طرفٍ واحدٍ هل يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني، بحيث أنّ العلم الإجمالي الثاني ينحل، ولا ينجّز معلومه، ويظهر الأثر في الإناء الأحمر الذي هو الطرف الخاص بالعلم الإجمالي الثاني، إذا أنحل العلم الإجمالي الثاني وسقط عن المنجّزية؛ فحينئذٍ يجوز إجراء الأصل في الإناء الثالث ــــــــــ الأحمر ــــــــــ وإذا قلنا أنّ العلم الإجمالي الثاني لا ينحل، ويبقى على منجّزيته؛ حينئذٍ يكون العلم الإجمالي الثاني منجّزاً، فينجّز كلا طرفيه، ويمنع من إجراء الأصل في كلٍ من الطرفين .
هنا تارةً يُفترض أنّ العلمين الإجماليين الّذين يشتركان في طرفٍ، متقارنان زماناً من ناحية العلم، وكذا من ناحية المعلوم، لا يوجد تقدّم وتأخّر بينهما، لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم للعلمين، فالعلم الإجمالي الأوّل مقارن زماناً للعلم الإجمالي الثاني، كما أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل مقارن زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، كما إذا فرضنا أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود، وفي نفس الوقت علم بنجاسة أحد إناءين، إمّا الأسود الذي هو الطرف المشترك، أو الإناء الأحمر، في نفس زمان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل، يعني النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني هي في نفس زمان النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، فليس هناك تقدّم وتأخّر بلحاظ العلم، ولا تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلوم، ففي العلم الإجمالي الثاني يعلم بنجاسة في أحد إناءين، إمّا الأسود، أو الأحمر في نفس الوقت الذي علم فيه بنجاسةٍ مرددّة بين الإناء الأبيض، أو الإناء الأسود. النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل هي في نفس وقت النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، كما أنّ العلم الإجمالي الثاني حدث في نفس الوقت الذي حدث فيه العلم الإجمالي الأوّل، فلا يوجد تقدّم وتأخّر لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم.
هذه الصورة خارجة عن محل الكلام، بمعنى أنّه لا إشكال في عدم الانحلال فيها، ولا مجال لأن يقال بأنّ العلم الإجمالي الأوّل ينحل بالعلم الإجمالي الثاني، أو أنّ العلم الإجمالي الثاني ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ العلمين حينئذٍ يكونان في عرضٍ واحدٍ، ونسبتهما إلى الأطراف نسبة واحدة؛ حينئذٍ لا مجال لأن يقال بانحلال الأوّل بالثاني، أو انحلال الثاني بالأوّل مع أنّهما في عرضٍ واحد، ولا موجب لترجيح تحقق انحلال الأوّل بالثاني، أو الثاني بالأوّل؛ بل يبقى كلٌ منهما على منجّزيته، وبذلك تتنجّز كل الأطراف الثلاثة.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ هذين العلمين الإجماليين مع افتراض التقارن في الزمان بلحاظ العلم وبلحاظ المعلوم يرجعان إلى علمٍ إجمالي واحدٍ بنجاسة إمّا الإناء المشترك، أو نجاسة الإناءين الآخرين، النجاسة المعلومة بالإجمال في هذين العلمين إن كانت موجودة في الإناء الأسود، فهي غير موجودة في الإناءين الآخرين، وإن كانت النجاسة غير موجودة في الإناء الأسود، فهي موجودة في الإناءين الآخرين، وهذا معناه أنّه علم إجمالي واحد، إمّا بنجاسة الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءين الآخرين، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الإجمالي ينجّز أطرافه كما لو حدث ابتداءً بلا فرض علمين إجماليين، لو فرضنا أنّه علِم من البداية بأنّه إمّا الإناء الأسود نجس، أو أنّ هذين الإناءين نجسان، فكم أنّ هذا العلم الإجمالي بلا إشكال ينجّز الإناء الأسود، وينجّز الإناءين الآخرين؛ لأنّ الإناءين الآخرين هما طرفٌ لهذا العلم الإجمالي، هذا مثل ذاك؛ لأنّ مردّ العلمين الإجماليين مع فرض التقارن بلحاظ العلم، وبلحاظ المعلوم إلى هذا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأمرين، إمّا الإناء الأسود، أو الإناءين الآخرين، فهنا لا إشكال في التنجيز، ولا إشكال في عدم الانحلال، فينبغي عزل هذه الصورة عن محل الكلام.
ومن هنا يظهر أنّ الكلام يقع في ما إذا لم يحصل تقارن بين العلمين الإجماليين، إمّا من ناحية العلم نفسه لا يوجد تقارن زماني، وإن كان هناك تقارن زماني بلحاظ المعلوم، أو لم يكن هناك تقارن بلحاظ المعلوم بالعلمين الإجماليين، بأن كانت النجاسة المعلومة بأحد العلمين متقدّمة زماناً على النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، وإن كان هناك تقارن بلحاظ نفس العلمين، ومرّة نفترض أنّ عدم التقارن بلحاظ كلتا الناحيتين، يعني عدم تقارن في العلم، وعدم تقارن من ناحية المعلوم، أحد العلمين الإجماليين كعلمٍ هو متقدّم زماناً على العلم الإجمالي الثاني، النجاسة المعلومة بأحد العلمين متقدّمة زماناً على النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الثاني، فهنا لا يوجد تقارن بلحاظ كلتا الناحيتين.
الكلام يقع في أنّ العلم الإجمالي الثاني بنكتة كون أحد أطرافه طرفاً لعلم إجمالي آخر، هذا هل يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني المتأخّر زماناً من ناحية العلم، أو المتأخّر زماناً من ناحية المعلوم، أو المتأخّر زماناً من كلتا الناحيتين، هل ينحل هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي الأوّل في جميع هذه الفروض، أو لا ينحل في جميع هذه الفروض، أو يُفصّل بين هذه الفروض ؟
في هذا المقام يُذكر رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه):[1][2]حيث نُسب إليه القول بأنّ العلم الإجمالي المتأخّر من ناحية المعلوم ينحل بالعلم الإجمالي المتقدّم من ناحية المعلوم، سواء كان نفس العلم متقدّماً، أو متأخّراً، أو مقارناً، هذا لا يضر، الميزان ليس هو ملاحظة زمان حصول العلم، وإنّما الميزان في الانحلال هو ملاحظة التقارن وعدم التقارن بلحاظ المعلوم بالعلمين الإجماليين، فإذا فرضنا أنّ المعلوم بأحد العلمين كان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني يتحقق الانحلال في هذه الحالة من دون فرقٍ بين أن يكون زمان العلم بأحدهما متقدّماً على زمان العلم بالآخر، أو لم يكن متقدّماً عليه، الميزان هو أن يكون المعلوم بأحدهما سابقاً، أو متأخّراً على المعلوم بالآخر. ما يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) حسب(أجود التقريرات)، وكذا(فوائد الأصول)، يذكر مطلباً كلّياً، يقول: أنّ العلم الإجمالي ينحل إذا قام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه المعيّنة، ولا يُفرّق فيه بين أن يكون علماً تفصيلياً، أو يكون إمارةً مثبتة للتكليف في طرفٍ معيّن، أو أصلاً شرعياً، أو أصلاً عقلياً، المهم أن يقوم ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي المعيّن، ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي المعيّن عقلاً يجعل ما نحن فيه مثلاً له، نحن لا نتكلّم عن ما يوجب ثبوت التكليف في هذا الطرف المعيّن ويكون إمارةً، أو يكون أصلاً عملياً شرعياً، أو يكون علماً تفصيلياً، كلامنا فعلاً ليس هذا، وإنّما الذي يثبت التكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي الثاني، الذي هو الإناء الأسود هو العلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ الإناء الأسود هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وإذا كان طرفاً للعلم الإجمالي الأوّل العقل يحكم بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي الأوّل بما فيها الإناء الأسود، إذن: الإناء الأسود الذي هو طرف للعلم الإجمالي الثاني قام ما يوجب ثبوت التكليف فيه، لكن عقلاً، وهو العلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّه نجّز التكليف في الأطراف، يعني نجّز وجوب الاجتناب عن الطرفين بحكم العقل، العقل يحكم بلزوم الاجتناب عن الإناء الأسود، والإناء الأبيض الذي هو الطرف الثاني في العلم الإجمالي الأوّل، إذن: العقل حكم بوجوب اجتناب الإناء الأسود، ثمّ جاء العلم الإجمالي الثاني. هذا يمثّل له بما نحن فيه، ويقول: بأنّ هذا العلم الإجمالي الثاني ما دام قام ما يوجب تنجّز التكليف فيه، وهو بعضٌ معيّن من أطراف العلم الإجمالي الثاني، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي الثاني. كل علمٍ إجمالي عندما يقوم ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه ينحل، سواء كان ما يوجب الثبوت علماً تفصيلياً، أو إمارة، أو اصلاً شرعياً، أو أصلاً عقلياً، ما نحن فيه من هذا القبيل، ثمّ ذكر بأنّه لا يُفرّق في ذلك بأن يكون الموجب لثبوت التكليف حاصلاً قبل العلم الإجمالي، أو بعد العلم الإجمالي، غاية الأمر أنّه إذا كان الموجب لثبوت التكليف في بعض الأطراف المعيّن حاصلاً قبل العلم الإجمالي، فهو يمنع من تأثير العلم الإجمالي في التنجيز من البداية، اساساً هو يمنع من كون هذا العلم الإجمالي موجباً للمنجّزية، وإذا قام بعد العلم الإجمالي، فهو يوجب انحلال العلم الإجمالي. يعني يمنع من تأثير العلم الإجمالي في المنجّزية في مرحلة البقاء الذي هو معنى الانحلال، بمعنى أنّ العلم الإجمالي انعقد وفي مرحلة الحدوث أثّر في المنجّزية، لكنّه ينحل في مرحلة البقاء ويسقط عن التنجيز في مرحلة البقاء فيوجب انحلاله بعد انعقاده.
الوجه في الانحلال الذي يذكره، لماذا ينحل العلم الإجمالي بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض أطرافه المعيّنة ؟ الوجه في الانحلال بشكلٍ عام الذي يجري في جميع الحالات، سواء كان علماً تفصيلياً، أو إمارة، أو أصلاً عقلياً الذي هو محل كلامنا، الوجه في ذلك ـــــــــ حسب ما يستفاد من كلامه ــــــــــ هو أنّه يدّعي أنّ العلم الإجمالي إنّما يوجب التنجيز إذا كان يستوجب علماً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير؛ حينئذٍ يكون موجباً للمنجّزية، وأمّا إذا كان علماً بتكليفٍ على تقديرٍ، ولكنّه على تقديرٍ آخر لا يستوجب العلم بتكليف، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، شرط منجّزية العلم الإجمالي أنّه يستوجب العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير، يعني سواء كان في هذا الطرف، هو ينجّز، ويستوجب تكليفاً، أو كان في الطرف الآخر أيضاً هو يستوجب تكليفاً، هذا الشرط الأساسي المهم في تنجيز العلم الإجمالي، كل علمٍ إجمالي يستوجب العلم بتكليفٍ على كل تقدير يكون منجّزاً، وكل علمٍ إجمالي لا يستوجب العلم بتكليفٍ على كل تقدير وإنّما يستوجب العلم بتكليفٍ على تقديرٍ دون تقديرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون موجباً للتنجيز، فينحل.