جلسة 142
كفارات الصوم
النقطة الثانية: بعد التسليم بكون الوجوب موسعاً، يقع البحث حول الفترة الزمنية التي يجوز للمكلف فيها تأخير دفع الكفّارة، وهذه المسألة من المسائل السيّالة حيث تأتي في بقية الواجبات أيضاً، فمن كان عليه قضاء صلاة أو صوم أو حج فإلى متى يجوز له التأخير؟، وهكذا الحال في بقية الأُمور الواجبة، فالبحث بحث عام ولا يختص بمسألة الكفّارة.
وقد تعرض السيد اليزدي [1] ـ قدّس سرّه ـ لهذه الجهة وحكم فيها بجواز التأخير ما دام لم يحصل تهاون وتسامح في أداء الواجب، ووافقه على ذلك بقية المحشين ومنهم السيد الماتن ـ قدّس سرّه ـ في حاشيته على (العروة) وفي (المنهاج) أيضاً، ولكنه في تقرير بحثه [2] جعل المدار على حصول الاطمئنان لا على التسامح والتهاون، فالإنسان ما دام يطمئن بأنه سوف يكفّر ولو بعد مضي فترة طويلة من زمن استحقاق الكفّارة فله الحق في التأخير.
والوجه في ذلك، أن الذمة قد اشتغلت جزماً بالكفّارة فلابدّ من حصول اليقين أو لا أقل الاطمئنان على تحقيق تفريغها مما اشتغلت به، فإن (الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) أو ما بحكمه وهو الفراغ الاطمئناني.
وما أفاده ـ قدّس سرّه ـ وجيه بمقتضى القواعد والصناعة، ولكن هناك قضية لابدّ من الالتفات إليها: وهي أن المؤمن كيف يحصل له الاطمئنان بأنه يتمكن بعد يوم بل بعد ساعة من أداء الكفّارة؟، إن ذلك فرع اطمئنانه ببقائه حيّاً، ولا يمكن للمؤمن أن يحصل له الاطمئنان بذلك، وعلى هذا الأساس يكون ما أفاده ـ قدّس سرّه ـ راجعاً إلى القول بالفورية والتضييق.
ولقائل أن يقول: إن هناك أصلاً عقلائياً يبني عليه العقلاء، وهو أن الإنسان إذا كان سالماً بالفعل فيبني على استمرار هذه الحالة في حقه وإلاّ لتعطلت الحياة، ولا يتمكن الإنسان آنذاك من القيام بأي عمل لاحتماله طروّ الموت له بعد ساعة مثلاً، بل يلزم عدم وجوب الصوم والصلاة عليه؛ باعتبار أن الصلاة إنما تكون واجبة فيما لو كان الإنسان على قيد الحياة إلى آخر جزء من أجزائها، أمّا إذا فقد الحياة في الركعة الأخيرة فلا وجوب حتى للركعة الأُولى، فوجوب الركعة الأُولى مشروط ببقاء الحياة إلى نهاية الركعة الرابعة، وحيث لا يجزم بذلك فيلزم عدم وجوب الركعة الأُولى، وبالتالي يلزم عدم وجوب أداء الصلاة، فإذا قيل لهذا الإنسان: لماذا لا تصلي؟، فيمكنه أن يقول: إن وجوب الدخول في الصلاة مشروط باستمرار الحياة إلى نهاية الصلاة، وحيث إن هذا الشرط غير محرز عندي فأشك في أصل توجه الوجوب لي من البداية فأنفيه بالبراءة، وهكذا الحال بالنسبة إلى الحج فإنه يلزم عدم وجوب الذهاب إليه، إذ لا يحرز الشخص أنه يبقى على قيد الحياة إلى نهايته، ولا دافع لهذه الشبهة العلمية إلاّ أن يُدّعى أن هناك أصلاً عقلائياً وهو أن الإنسان متى ما كان سالماً بالفعل فيبني على بقاء السلامة إلى المستقبل.
وقد يصطلح عليه بالاستصحاب الاستقبالي حيث تستصحب القدرة الموجودة بالفعل إلى الزمان المستقبل الذي يأتي.
وهناك كلام بين الأُصوليين في أن الاستصحاب الاستقبالي هل هو حجة؟، ويمكن أن يستفاد من روايات الاستصحاب حجيته تمسكاً بإطلاقها، ولكن لو أنكر ذلك ولم يسلم فيمكن أن يقال: هناك حصة من الاستصحاب الاستقبالي ينبغي أن تتفق الكلمة على الحجية فيها كما في مقامنا، أي استصحاب القدرة إلى المستقبل لمن كان واجداً لها بالفعل، ولا نحتاج إلى الروايات بل تكفينا السيرة القطعية على ذلك التي لولاها لاختل نظام الحياة، وعلى هذا الأساس يقال في مقامنا: إن المكلف يستصحب في مسألة الكفّارة بقاءه على قيد الحياة، وبذلك لا يلزم دفعها بنحو الفورية.
إلاّ أنه يمكن الجواب عن ذلك بأنه بناءً على هذا يلزم أن لا يكون المدار على الاطمئنان، إذ الاستصحاب المذكور جارٍ دائماً إلاّ إذا حصل اطمئنان على خلافه، وينبغي آنذاك الحكم بجواز التراخي إلى الأبد إلاّ أن يحصل اطمئنان بعدم البقاء.
إذن، السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ إمّا أن يكون بانياً على هذا الاستصحاب فيلزم أن تكون النتيجة عكس ما أفاده تماماً، أو لا يكون بانياً عليه وإنما على اشتغال الذمة يقيناً فلابدّ من الاطمئنان بتفريغها فتلزم الفورية؛ إذ لا يمكن أن يطمئن الإنسان ببقاءه على الحياة بعد ساعة.
ومن خلال هذا يتضح: أن المناسب ما صار إليه المشهور، وهو أن يكون المدار على عدم حصول التهاون؛ باعتبار أن التهاون في أداء الواجب قبيح عقلاً ويستنكره العقل بلا حاجة إلى ورود دليل شرعي يدل عليه.
والخلاصة من كل ما تقدم هو أن المحتملات في المسألة ثلاثة:
الأوّل: لزوم الإتيان بالكفّارة فوراً.
الثاني: الاطمئنان بفعلها في المستقبل.
الثالث: أن لا يلزم التهاون والتسامح.
وحيث إن الأولين باطلان فيتعين الثالث.
أمّا بطلان الأوّل؛ فلما أشرنا إليه من عدم الدليل على الفورية، بل هناك دليل على العدم، فإن ذلك مطلب لو كان ثابتاً لبان واشتهر فيلزم على الإنسان بمجرد انتهاء شهر رمضان الشروع في صوم القضاء وصوم الكفّارة، كما يلزمه لو كان في ذمته صلاة أن لا يقوم بأي عمل إلاّ بعد أداء صلاته القضائية، وهكذا يلزم فعل بقية الواجبات التي عليه، وهذه حالة مضافاً إلى أن فيها شيئاً من العسر والحرج هي ملفتة للنظر، فلو كانت مطلوبة شرعاً لانعكست وبانت على مرِّ العصور.
وأمّا بالنسبة إلى الاحتمال الثاني؛ فلما أشرنا إليه من أن نتيجته الحكم بالفورية التي قام الدليل على عدمها حسبما أشرنا إليه.
فالمتعين في مطلق الواجبات ومنها كفّارات شهر رمضان أن أداءها موسع ما لم يلزم انطباق عنوان التسامح والتساهل في امتثال التكليف، وإلاّ فلا يجوز آنذاك التأخير لوضوح عدم جواز التسامح في الدين.
_________________________
[1] حواشي العروة الوثقى 3: 602، مسألة 22.
[2] مستند العروة الوثقى 1: 364.