32/10/21
تحمیل
وقبل أن نذكر ما هو المناسب في المقام نود الإشارة الى قضية ظريفة:- وهي أن النزاع في المقام ليس نزاعاً كبروياً بل هو صغروي ، يعني أن الجميع متفق على أن البراءة تجري في مورد الشك في أصل التكليف ولا تجري في مورد الشك في الامتثال بعد الجزم باشتغال الذمة بالتكليف ، فهذا المقدار ينبغي أن يكون متفقاً بيننا ، وحينما تستعرض هذه الاحتمالات الأربعة لا نريد أن نشكك في هذه الكبرى ، أي لا نريد أن نقول في مورد الشك في أصل التكليف نجري أصل البراءة ، كلا ، ولا نريد أن نقول في حالة الشك في الامتثال نجري البراءة ، كلا فان هذا شيء مسلم .
وقد تقول:- إذن لماذا تختلفون في الشبهة الموضوعية فبعضكم يقول بالبراءة المطلقة وبعضكم يقول بالاشتغال المطلق والبعض الآخر يفصِّل ؟
ولكن نحن نجيب ونقول:- ان اختلافنا صغروي ، يعني ان الشبهة الموضوعية هل هي من مصاديق الشك في أصل التكليف أو من مصاديق الشك في الامتثال بعد الجزم بالتكليف ؟ فإذا كانت من مصاديق الشك في التكليف فحتما تجري البراءة ، وإذا كانت من مصاديق الشك في الامتثال فحتماً تجري أصالة الاحتياط ، ولكن اختلافنا هو في أنها مصداق للشك في التكليف أو مصداق للشك في الامتثال . وهذه قضية يجدر الالتفات إليها.
وبعد هذا نقول:- ان كل حكم يوجد له غالباً متعلق وموضوع - وهو ما يعبر عنه بمتعلق المتعلق - وقيد ، هذه أمور ثلاثة يحتاج إليها الحكم غالباً ، ونمثل لذلك بمثالين:-
المثال الأول:- ( يحرم شرب الخمر إذا كان الشخص بالغا عاقلا قادرا ) فالحرمة حكم وله متعلق والمتعلق هو ما يطلب إيجاده أو يطلب تركه والشرب يطلب تركه فهو إذن متعلق ، وأما الخمر فهو متعلق المتعلق فان الخمر لا يطلب إيجاده أو يطلب تركه فهو موضوع - أي متعلق المتعلق - وأما البلوغ والعقل والقدرة فهي من شروط الحكم.
المثال ثاني:- ( يجب الكون في عرفة إذا كان الشخص محرماً وقادراً على الوقوف في عرفة ) فان الوجوب حكم ومتعلقه هو عرفة ومتعلق المتعلق - الذي هو الموضوع - هو عرفة ، فالكون في عرفة هو المطلوب يعني عرفة لا يطلب إيجادها أو تركها وإنما يطلب إيجاد الكون في عرفة ، والإحرام والبلوغ شرائط وقيود كما هو واضح.
انه بعد أن اتضح هذا نقول:- ان الشك بنحو الشبهة الموضوعية تارة يكون بلحاظ المتعلق وأخرى يكون بلحاظ الموضوع وثالثة يكون بلحاظ القيود.
الحالة الاولى:- أن يكون الشك بلحاظ القيود كما إذا شك في أن الشخص بالغ أو غير بالغ ومحرم أو غير محرم فان الشك في قيد الحكم يوجب الشك في أصل الحكم كما هو واضح فيكون مجرى للبراءة لأن الشك في قيد الحكم بنحو الشبهة الموضوعية يستوجب الشك في توجه أصل الحكم فيكون مجرى للبراءة.
الحالة الثانية:- أن يكون الشك في المتعلق بنحو الشبهة الموضوعية ، وهنا توجد صورتان:-
الصورة الاولى:- أن يكون الشك في المتعلق بمعنى الشك في الامتثال والصدور والتحقق - أي تحقق المتعلق - وهذا إنما يتصور إذا كانت الشبهة الموضوعية شبهة وجوبية لأن المطلوب هو إيجاد المتعلق ونحن نشك هل وجد المتعلق أو لم يوجد فهنا يكون الشك شكاً في الامتثال ، فان كان المتعلق متحققاً فقد امتثلت ، وان لم يكن متحققاً فلم أمتثل فيثبت الاشتغال دون البراءة . وامثل لذلك بمثالين:-
الأول:- ما إذا شككت بعد دخول الزوال هل صليت صلاة الظهر لهذا اليوم أو لا ؟ ان هذا شك في تحقق المتعلق وهو شك بنحو الشبهة الموضوعية ، وهذا شك في الامتثال فلا إشكال في أنه مجرى لأصالة الاشتغال.
الثاني:- لو كنت في عرفة وكانت مزدحمة بالناس وصعدت في الطائر وحلّقت بي على عرفة وبقيت واقفة في السماء وشككت في أن هذا يصدق عليه أنه كون في عرفة أو لا ؟ فان الكون فيها يصدق جزماً إذا كنت على الأرض أو قريب منها أما إذا حلقت بمسافة بعيدة فسوف أشك ، وهنا الشك شك بنحو الشبهة الموضوعية ، يعني لا يدرى أن هذا يصدق عليه كونه كون في عرفة أو لا ، وهو شك في الامتثال فالمناسب حينئذ جريان الاشتغال.
إذن لحد الآن اتضح أنه إذا كان الشك في القيد فهو شك في أصل التكليف فيكون مجرى للبراءة ، وأما إذا كان الشك في المتعلق بمعنى أنه شك في تحققه فهو مجرى للاشتغال.
الصورة الثانية:- أن يفترض أن الشك شك بنحو الشبهة الموضوعية ولكن بلحاظ المصداق ، وهذا يكون عادة في الشبهة التحريمية على خلاف الصورة السابقة وأمثل لذلك بمثالين:-
المثال الأول:- حرمة الكذب ، فان الكذب متعلق للحرمة ولكن لو فرض أني أردت أن أخبر بخبرٍ وأقول ( جاء فلان من السفر ) ولكني احتملت أنه بعد لم يجئ يعني احتملت أن هذا الإخبار كاذب كما أني احتملت أنه صادق ، فالشبهة هنا موضوعية ، وفي مثل هذه الحالة هل المناسب هو جريان البراءة أو جريان الاشتغال ؟ فان كان الشك في أصل التكليف فهو مجرى للبراءة ، وان كان الشك في الامتثال فهو مجرى للاشتغال ، ولكن الشك هنا هل هو في التكليف أو في الامتثال ؟
يمكن أن يقال:- ان الشك هنا شك في أصل التكليف ، ببيان:- ان كون الخبر متصفاً بالكذب هو قيد في الحكم ، فالمولى حينما يقول ( يحرم عليك الكذب ) فماذا نفهم منه ؟ إننا نفهم منه أن كل خبر إذا كان كاذباً فيحرم عليك أن تتفوه به ، هذا هو المفهوم عرفاً من مثل قضية ( يحرم الكذب ) أو ( اجتنب الكذب ) فلاتصافه بكونه كذباً قيد في الحرمة ، وعليه فالشك في كونه كذباً أو لا شك في تحقق قيد التكليف وقد قلنا في الحالة الاولى انه يستوجب الشك في أصل التكليف وهو مجرى للبراءة.
المثال الثاني:- ( يحرم شرب الخمر ) فلو شككنا بنحو الشبهة الموضوعية أن هذا خمر أو ماء فيمكن أن يقال ان هذا شك في أصل التكليف ، والوجه في ذلك هو أن العرف يفهم من جملة ( يحرم شرب الخمر ) أن الشيء متى ما صدق عليه أنه شرب خمرٍ فهو حرام ، فالاتصاف بكونه شرباً للخمر قيدٌ في الحرمة وأنا اشك في ثبوت هذا الاتصاف فذلك يعني أني أشك في قيد التكليف والشك في قيد التكليف كما قلنا عبارة عن الحالة الاولى ، أي يستلزم الشك في أصل التكليف فيكون مجرى للبراءة.
إذن اتضح الفرق بين ما إذا كان الشك في الصدور - يعني في موارد الشبهة الوجوبية - فيكون مجرى للاشتغال ، وبين ما إذا كان الشك في الشبهة التحريمية فالمناسب هو البراءة لأن ذلك يرجع الى أصل التكليف لأن المفهوم عرفاً من قول ( يحرم شرب الخمر ) هو ان كان يصدق على الشيء أنه شرب خمرٍ فهو حرام ، فالاتصاف بكونه شرباً للخمر قيد في ثبوت الحرمة ، والشك في الاتصاف بذلك يستلزم الشك في القيد وبالتالي يستلزم الشك في أصل ثبوت الحرمة ، وهكذا الحال بالنسبة الى ( يحرم الكذب ) يعني إذا كان الخبر - على تقدير صدوره - يصدق عليه أنه خبر كاذب فيحرم عليك الإخبار عنه ، فالاتصاف بكونه خبراً كاذباً أخذ قيداً في الحرمة وعند الشك في هذا الاتصاف سوف نشك في القيد وبالتالي سوف نشك في الحرمة.
هذا كله في الحالة الثانية ، أي حالة الشك في المتعلق بصورتيه.
ومنه يتضح التأمل فيما أفاده الشيخ النائيني(قده)[1] .
[1] أجود التقريرات 2 199 ، فوائد الأصول 3 391 .