34/04/15
تحمیل
الموضوع / التنبيه التاسع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
التنبيه التاسع:- الأنحاء الأخرى لتعارض الضررين.
تعارض الضررين له ثلاث صور:-
الصورة الأولى:- ما تقدم بحثها في التنبيه السابق وهي أن يدور الأمر بين ضرر الإنسان نفسه كصاحب الدار وبين ضرر جاره وقد مثلنا لهذه الصورة بمثال البالوعة ولا حاجة إلى تكرار الحديث فيها.
الصورة الثانية:- أن يدور الأمر بين ضررين في حق شخص واحد - يعني أن هناك شخص واحد هو يتضرر بأحد ضررين حتماً - كما لو فرض أن شخصاً كان يمتلك طيراً ذا قيمة ودخل في قفص ثمين أيضاً ودار الأمر بين المحافظة على الحيوان ولكن بكسر القفص وبين العكس فهنا يدور الأمر بين ضررين في حق الشخص المالك لهذا الحيوان ولهذا القفص فما هو الحكم ؟
الصورة الثالثة:- أن يدور الأمر ين ضررين في حق شخصين آخرين وأنا أجنبي عن الضرر وفي مأمنٍ منه ، ويمكن أن نمثل لذلك بالمرأة الحامل التي يدور الأمر بالتحفظ على حياتها بقتل الجنين أو بالعكس فإنه في مثل هذا المثال يدور أمر الطبيب الذي يتصدى للمسؤولية بين ارتكاب هذا الضرر أو ذاك واللذين هما في حق شخصين آخرين ولا ربط لهما به.
هذه صور ثلاث للضرر وقد أشار الشيخ الأعظم(قده) إليها جميعاً في الرسائل قائلاً:- ( ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين فمع فقد المرجح يرجع إلى الأصول والقواعد الأخر كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للإضرار على الناس فإنه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج لأن إلزام الشخص بتحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج ... )
[1]
، إن قوله ( قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد ) إشارة إلى الصورة الثانية ، وقوله ( أو شخصين ) إشارة إلى الصورة الثالثة ، وقوله ( كما لو أكرة على الولاية من قبل الجائر ) إشارة إلى الصورة الأولى والتي مثلنا لها بمثال البالوعة .
وعلى أي حال يقع الكلام في الصورة الثانية والثالثة:-
دوران الضررين في حق شخص واحد:- وقد مثلنا لهذه الصورة بمثال القفص ، وزيادةً على ذلك نقول:- إن لهذه الصورة حالات ثلاث:-
الحالة الأولى:- أن يكون الضرران مباحين معاً.
الحالة الثانية:- أن يكون أحدهما مباحاً والآخر محرماً.
الحالة الثالثة:- أن يكون كلا هما محرّماً - ولكن نبقى نؤكد بأن جميع هذه الحالات الثلاث ناظرة إلى دوران الضررين في حق شخص واحد -.
أما الحالة الأولى:- فمثاله القفص كما ذكرنا ، وفي هذه الحالة يكون الشخص بالخيار بين ارتكاب هذا أو ذاك إذ بعد فرض كونهما مباحين يلزم أن يكون الأمر كذلك.
ولكن قد يطرح السؤال بلحاظ الحكم الوضعي دون التكليفي كما لو فرض أن الذي أدخل الحيوان في القفص شخص آخر ودار الأمر بين قتل الحيوان وبين كسر القفص والسؤال هو عمّا يضمنه ذلك الشخص وإلا فمن حيث الحكم التكليفي فلا أشكال بعد فرض إباحة الطرفين.
وفي الجواب نقول:- إذا فرض أن مقدار الضمان بلحاظ كليهما واحد بأن كانت قيمة القفص تساوي قيمة الحيوان فيضمن الشخص الآخر القيمة ولا إشكال إذ أن صاحب الحيوان هو إما أن يقتل الحيوان أو يكسر القفص وسوف يطالب ذلك الشخص بالقيمة لقاعدة الاتلاف أو اليد أو التسبيب ، وأما إذا فرض أن قيمة أحدهما كانت أعلى من قيمة الآخر وفرض أن المالك انتخب الذي هو أقل قيمة كالقفص فكسره فيضمن له ذلك الشخص القيمة الأقل وهو واضح أيضاً لأنه لم يسبِّب أكثر من ذلك ، وأما إذا فرض أن المالك انتخب قتل الحيوان الذي قيمته أكثر فهل يجوز له المطالبة بقيمته التي هي أعلى من قيمة القفص ؟ قد يقال:- نعم له الحق في ذلك ببيان أن ذلك الشخص الآخر قد سبَّب إلى الجامع بين المطلبين - يعني الجامع بين قتل الحيوان وكسر القفص - وكل فردٍ إذا أتى به المالك يكون مصداقاً لذلك الجامع الذي سبَّب إليه ذلك الشخص فإذا اختار المالك تشخيص الجامع في الأعلى قيمة فيثبت على الشخص الآخر القيمة الأعلى.
هذا ولكن المناسب ضمان القيمة الأقل لوضوح أن ذلك الشخص إنما سبَّب بفعله إتلاف القيمة الأقل أما القيمة الزائدة فهو لم يسبِّب إليها ، وعلى هذا الأساس لا يضمن إلا القيمة الأقل.
وإن شئت قلت:- لو نظرنا من الزاوية الفلسفية فربما يكون الحق هو الأول لأن ذلك الشخص قد سبَّب إلى الجامع والجامع يصدق بكل واحد من الفردين فلو اختار المالك القيمة الأعلى ثبتت على الشخص الآخر إلا أن هذا يتماشى مع الزاوية الفلسفية ، وأما إذا نظرنا من الزاوية العقلائية فالعقلاء لا يرون أن الشخص الآخر قد سبَّب إلى إتلاف القيمة الأعلى فلا موجب لضمانها ، وحيث أن مدرك الضمان هو السيرة العقلائية - إذ هي المدرك لقاعدة ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ) أو ( على اليد ما أخذت حتى تؤدي ) أو ( من سبب إلى إتلاف مال غيره فهو ضامن له ) فهذه القواعد وما شاكلها ليس لها مستند إلا السيرة العقلائية والارتكاز العقلائي - فعليه يلزمنا أن نتماشى مع السيرة والارتكاز العقلائي دون ما تقتضيه الفلسفة ، وهذا كله مطلب واضح.
نعم استدرك وأقول:- لو فرض أن المالك للحيوان كان يجهل أن قيمة الحيوان أعلى وكان يتصور أنها مساوية أو أقل وتبين بعد ذلك اشتباهه فهنا ربما يمكن أن يقال من الزاوية العقلائية أيضاً أن ذلك الشخص قد سبَّب إتلاف هذا الحيوان الذي كانت قيمته أعلى فإن الجهل له دور وموضوعية ومدخلية في حكم العقلاء وهذا شيء له وجاهة.
الحالة الثانية:- وأما إذا كان أحد الضررين مباحاً والآخر محرّماً كما لو فرض أنا بنينا على أن قتل الحيوان محرّم بينما كسر القفص ليس بمحرمٍ - وذلك بأن نغضَّ النظر عن حيثية التبذير فإنه قد يقال عن كسر القفص بأنه محرم لأجل أنه تبذير للمال أو فرضنا أنه مادام هناك مبرر عقلائي للكسر فلا يصدق عنوان التبذير فلا حرمة من هذه الناحية ولكن قتل الحيوان محرم [[ ومن باب الجملة المعترضة إنه قد نسأل عن قتل الحيوان بقطع النظر عن حيثية التبذير هل هو محرم إذا كان بريئاً كقتل القطط أو الكلاب - إذا لم تكن مؤذية وليست مملوكة - أو لا ؟ والجواب:- نعم يجوز فإنه لا دليل على الحرمة إذ الدليل قد ورد في قتل النفس المحترمة - أي الإنسان - أما قتل الحيوان فلا دليل على حرمته فيكون مجرى للبراءة]] فلو بنينا على أن قتل الحيوان محرّم بينما كسر القفص ليس بمحرمٍ فما هو الحكم ؟ والجواب:- لا إشكال في أنه ينبغي اختيار المباح ولا يجوز اختيار الفرد المحرّم وهذا واضح . ولكن لو فرض أن المالك اختار قتل الحيوان الذي هو فردٌ محرّم فهل يثبت الضمان في حق الشخص الآخر الذي أدخل الحيوان في القفص أو يتمكن أن يحتج ويقول ( إن عليك انتخاب الفرد المباح فأنت لماذا اخترت الفرد المحرّم فأنا لا أضمن لك شيئاً ) - والمفروض أنهما متساويان من حيث القيمة - ولكن يجاب بأن المالك بالتالي هو ملزم بأن يفعل أحد الضررين وذاك الآخر قد أوقعه في أحدهما ، وصحيح أنه آثم حينما انتخب الفرد المحرم إلا أن هذا لا يعني أن الشخص الآخر لم يوقعه في الضرر ، كلا بل هو قد أوقعه في الضرر وإن إثم المالك بانتخاب الفرد المحرّم فيثبت الضمان على الآخر حتى وإن انتخب المالك الفرد المحرم.
[1] تراث الشيخ الانصار تسلسل الكتاب 24 467 ط جديدة .