35/06/19
تحمیل
الموضوع:- تعارض الأدلة / أسباب
التعارض
وفي مقام الجواب نتكلم أولاً عن مسألة التشكيك في حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام لأجل التعارض ثم نتكلم عن عوامل نشوء التعارض بشكلٍ عام:-
أما بالنسبة إلى الكلام الأوّل فنقول:- نحن في بداية الأمر إما أن نسلّم بآية بالتطهير التي تقول:- ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ودلالتها ومورد نزولها الذي هو حديث الكساء بعد تفسير المقصود من أهل البيت بأهل الكساء، وهكذا هل نؤمن بحديث الثقلين الذي يقول:- ( أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي أبداً )، وهل نؤمن أيضاً بحديث السفينة الذي يقول:- ( مثل أهل بيتي كسفينه نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ) ، فهل نؤمن بهذه الأحاديث التي هي مستند حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام أو لا ؟ فإن فرض أنا لم نؤمن بها بأن قلنا إن آية التطهير لم ترد في أصحاب الكساء، أو قلنا أنها لا تدلّ على العصمة، وهكذا حديث الثقلين، وهكذا حديث السفينة، وهكذا بقيّة النصوص، فإذا فرض أنّا ننكرها - سواء كان الإنكار بحقٍ أو بغير حقّ - فنفس الإنكار يكفينا بلا حاجة إلى أن نشكّك من ناحية بروز ظاهرة التعارض فإن المقتضي لإثبات الحقّانية يكون قاصراً وغير ثابتٍ فسواء برزت ظاهرة التعارض أم لم تبرز فمادام لا يوجد ما يدلّ على الحقّانية فوجود ظاهرة التعارض وعدم وجودها سيّان من هذه الناحية وهو لا يؤثر بعدما فرض أن حقّانية مدرسة أهل البيت لم تثبت . أما إذا فرض أنّا سلمنا بهذه المستندات وقلنا إنها تدلّ على حقّانية مذهب أهل البيت وأنهم عِدل للقرآن فقضيّة التعارض تصير آنذاك قضيّة جانبية سواء أمكننا أن نبيّن العوامل ونفسّر تلك الظاهرة بشكلٍ صحيح أم لم يمكننا ذلك فإن هذا لا يزعزع من حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام بعدما فرض أن المستندات ثابتة فنقول نحن لا نعرف لماذا حصل هذا التعارض فلابد وأنّه حصل لنكتةٍ نحن لا نعرفها.
أمّا أن تقول هناك احتمال ثالث وهو أن يقول شخصٌ:- إذا لم تكن ظاهرة التعارض موجودةٌ فالحقّانية آنذاك تثبت أما إذا كانت موجودة فالحقّانية لا تثبت.
وجوابه:- إن هذا كلام ليس علمياً، فوجود التعارض وعدمه لا يؤثّر على الحقّانية، بل المهم هو أن الحقّانية تثبت بمستنداتها من آية التطهير وغير ذلك وإذا لم تكن لم تثبت الحقّانية فمجرد وجود ظاهرة التعارض وعدم وجودها لا يؤثر شيئاً في هذا المجال كما هو واضح.
وهذا المطلب الذي أشرت إليه قضيّة ينبغي الالتفات إليها لا في موردنا فقط بل في سائر الموارد، فحينما يقع نقاش مع أصحاب المذاهب الأخرى فإنه قد يُفتَح في قضيّة تحريف القرآن الكريم أو في قضيّة عدالة الصحابة أو غير ذلك وحينئذٍ قد لا ينتهي النزاع إلى نتيجة، ولكن يمكن أن نقول إن مصبّ الكلام مع الاتجاه المقابل لا ينبغي أن يكون هنا فإن هذه قضايا جانبيّة بل ينبغي أن نذهب إلى الأساس فنلاحظ الأساس ونبحث عنه، يعني ينبغي أن نبحث أن مصدر التشريع هل هو الكتاب الكريم فقط مع إضافة سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهل المصدر ينحصر بهذين أو يوجد شيء آخر - والذي لعله يسمونه بسنّة الصحابة أو عمل الصحابي ونحن نقول سنة أهل البيت عليهم السلام - فهل يوجد مصدر ثانٍ إلى جنب ذاك أو لا ؟ فما هي مصادر التشريع وممّ يؤخذ التشريع ؟ فنذهب إلى الأساس ولا نأتي إلى القضايا الجانبيّة فهي لا تنفعنا، فلو كان لا يوجد تحريف فهل يصير المذهب الامامي باطل أو هو على حقّ ؟! إن هذا لا يؤثر شيئاً المهمّ هو أنه لابد وأن يقع النزاع في تلك القضيّة وإلا فالنزاع في هذه الأمور الجانبية نزاع عقيم لا ينفع شيئاً، ولذلك قد ترى أصحاب الاتجاه المقابل يحرفون مسير الكلام ولا يقبلون أن يذهبوا إلى البحث في الأساس بل يأتون إلى هذه القضايا الجانبية، فالمناسب أن نذهب إلى الأساس ونبحث بأنه هل أمرنا الرسول صلى الله عليه وآله والقران الكريم باتباع أهل البيت عليهم السلام أو باتباع الصحابة أو أنه لم يأمرنا لا بهذا ولا بهذا ؟ هذه هي القضيّة المهمة التي لابد من بحثها، فإن ثبتت هذه القضيّة المهمّة انحلّت بقيّة الأمور، فإذا ثبت أن سنّة أهل البيت عليهم السلام صحيحة ولابد من الأخذ بها فيبقى أن الشيعة يقولون بالتحريف أو لا يقولون به فهذا لا يُبطِل ما استندوا إليه من أساسٍ ولا يؤثر شيئاً.
عودٌ إلى صلب الموضوع:- كان كلامنا في عوامل نشوء التعارض، فهناك عوامل أساسيّة وهناك عومل أخرى ليست كذلك ومن العوامل الأساسية ما يلي:-
العامل الأوّل:- عامل التقية.
ظاهرة التقيّة اختص بها مذهب أهل البيت عليهم السلام ولا نجدها في سائر المذاهب والاتجاهات، والسبب في ذلك واضح وهو أن مذهب أهل البيت كان هو المذهب المطارد من قبل السلطة ومن قبل بقيّة المذاهب، أما سائر المذاهب الأخرى فلم تكن مطاردة بل كان المجال لها مفتوحاً فلا داعي لأن تتقي حيث لا تخاف فلا داعي للتقيّة خلاف مذهب أهل البيت حيث كان مطارداً، وأهل البيت عليهم السلام كانوا لا يتّقون من السلطة فقط بل كانوا يتّقون ويحرّضون اتباعهم أيضاً على الاتقاء من سائر المذاهب فإن سائر المذاهب كانت لها مساحة على الأرض ولها وجودها الذي ينبغي الاحتراس منه أيضاً، فالحذر لم يكن من السلطة فقط وإنما كان من السلطة ومن بقيّة المذاهب، ولعله يشير إلى ذلك أمران
الأمر الأول:- إننا نجد أحيانا أن الأئمة عليهم السلام حينما يحدّثون بحديثٍ ينسبونه بسلسلةٍ ذهبيّة إلى جدهم صلى الله عليه وآله فيقول الإمام عن أبي عن جده عن أبيه إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وآله، فأحيانا نجد انهم يفعلون هكذا في بعض الأحاديث، ولماذا هذا وما هو سببه فإن مدرسة أهل البيت لا يحتاجون إلى ذلك فلو قال الإمام شيئاً يأخذون به رأساً بلا حاجة إلى إيصال الحديث إلى الرسول ؟ ولماذا هي موجودةٌ في بعض الموارد دون البعض الآخر ؟ إنه ليس من البعيد أن يكون ذلك احتراساً من تلك المذاهب، وقد يكون ذلك ضربةً إلى بقية المذاهب أيضاً وأنّا نحن أتباع مدرسة النصّ - ماذا قال الرسول، ماذا قال الله عز وجل - ولسنا أتباع الرأي وفلانٍ وفلان بل نحن أتباع ما قاله الله ما قاله الرسول لا غير . إذن هذه النسبة إلى الرسول من خلال السلسة الذهبيّة ليس من البعيد أنه جاء تعريضاً بتلك المذاهب وردّاً عليها أو احتراساً منها.
الأمر الثاني:- أنهم كانوا يحترسون من بقيّة المذاهب أحياناً في بعض الأحاديث، من قبيل حديث معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت:- نعم وأردت أن أسالك عن ذلك قبل أن أخرج:- إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي:- اصنع كذا فإني كذا أصنع )، وهي واضحة في أن معاذ بن مسلم لم يكن يتّقي من خصوص السلطة بل كان يتّقي إذا جاء شخصٌ ينتسب إلى بعض المذاهب فيفتيه على طبق مذهبه سواء كان هو مذهب السلطة أو لا.
وعلى أيّ حال إن الاتّقاء كان ظاهرةً خاصةً بمدرسة أهل البيت عليهم السلام مرّة من السلطة ومرّة من سائر المذاهب، والذي يدلّنا على أنهم عليهم السلام كانوا يتّقون ويتبعون التقيّة أنهم أمروا حينما تختلف النصوص بطرح الموافق والأخذ بالمخالف فإن هذا يدلّ على أن بعض النصوص قد صدرت منهم تقيّةً كما هو واضح.
وصعّد صاحب الحدائق(قده) اللهجة وقال:- إنهم عليهم السلام كانوا أحياناً يلقون الخلاف بين أصحابهم لئلا تتوحّد كلمتهم ويتوحّد قولهم فيعرفون آنذاك به، فحتى إذا فرض أنه الحديث لم يكن موافقاً للمذاهب الأخرى لكن الإمام عليه السلام يذكر مضموناً للحديث لهذا السائل بشكلٍ ولذاك السائل بشكلٍ آخر من دون ملاحظة أنه يوافق مذهب الآخرين أو لا يوافقه بل كان إلقاء الخلاف من الإمام هو بنفسه هدفٌ.
هذه ظاهرة أكّد عليها صاحب الحدائق(قده) وقد أشار إلى ذلك في مواضع مختلفة من كلامه، ففي الحدائق في المقدمة الأولى من مقدمات الحدائق قال ما نصّه:- ( وحيث إن أصحابنا رضوان الله عليهم خصّوا الحمل على التقيّة بوجود قائلٍ من العامّة وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك لئلا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليلٍ وينسبنا إلى الظلال والتظليل فمن ذلك ما وراه في الكافي في الموثّق " عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام:- سألته عن مسألة فأجابني ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء رجلٌ آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي فلمّا خرج الرجلان قلت:- يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحدٍ منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟! فقال:- يا زرارة إن هذا خيرٌ لنا وأبقى لكم ولو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم، قال:- ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- شيعتكم لو حملتوهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال:- فأجابني بمثل جواب أبيه " ) [1]، هذا الخبر تمسّك به صاحب الحدائق(قده) لبيان أن الأئمة عليهم السلام كانوا يتّقون لا بمعنى أنهم يلحظون المذهب فيفتون على طبقه بل يلقون الخلاف بين أصحابهم تحفّظاً عليهم، ثم قال(قده):- ( ولعلّك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بالتقيّة فبعد العرض على الكتاب العزيز أقوى المرجحات فإن حلّ الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كلّه عند التأمّل والتحقيق إنما نشأ من التقيّة، من هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان الله عليهم فضنّوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دسّ أخبار الكذب في أخبارنا فوضعوا هذا الاصطلاح ليميّزوا به صحيحها عن سقيمها وغثّها عن سمينها ).
ويقصد بذلك اصطلاح تقسيم الخبر إلى صحيحٍ وموثّقٍ وحسنٍ وغير ذلك، فهو يقول إن هذا التقسيم ليس بصحيح بل نأخذ بكلّ الأخبار.
وذكر هذه الفكرة أيضاً في موارد أخرى من قبيل كتاب الصلاة من الحدائق[2] فإنه ذكر أن نافلة الظهر والعصر متى وقتها ؟ وذكر في هذا المجال أخباراً متعارضةً ثم قال ما نصّه:- ( والأظهر عندي أن منشأ هذا الاختلاف في الأخبار إنما هو التقيّة التي هي أصل كلّ محنةٍ في الدين وبليّة ) ، ثم أخذ بذكر بعض الأخبار الدالّة على ما أراد.
ولكن هل كلامه هذا مقبولٌ أو مرفوض ؟
وفي مقام الجواب نتكلم أولاً عن مسألة التشكيك في حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام لأجل التعارض ثم نتكلم عن عوامل نشوء التعارض بشكلٍ عام:-
أما بالنسبة إلى الكلام الأوّل فنقول:- نحن في بداية الأمر إما أن نسلّم بآية بالتطهير التي تقول:- ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ودلالتها ومورد نزولها الذي هو حديث الكساء بعد تفسير المقصود من أهل البيت بأهل الكساء، وهكذا هل نؤمن بحديث الثقلين الذي يقول:- ( أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي أبداً )، وهل نؤمن أيضاً بحديث السفينة الذي يقول:- ( مثل أهل بيتي كسفينه نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ) ، فهل نؤمن بهذه الأحاديث التي هي مستند حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام أو لا ؟ فإن فرض أنا لم نؤمن بها بأن قلنا إن آية التطهير لم ترد في أصحاب الكساء، أو قلنا أنها لا تدلّ على العصمة، وهكذا حديث الثقلين، وهكذا حديث السفينة، وهكذا بقيّة النصوص، فإذا فرض أنّا ننكرها - سواء كان الإنكار بحقٍ أو بغير حقّ - فنفس الإنكار يكفينا بلا حاجة إلى أن نشكّك من ناحية بروز ظاهرة التعارض فإن المقتضي لإثبات الحقّانية يكون قاصراً وغير ثابتٍ فسواء برزت ظاهرة التعارض أم لم تبرز فمادام لا يوجد ما يدلّ على الحقّانية فوجود ظاهرة التعارض وعدم وجودها سيّان من هذه الناحية وهو لا يؤثر بعدما فرض أن حقّانية مدرسة أهل البيت لم تثبت . أما إذا فرض أنّا سلمنا بهذه المستندات وقلنا إنها تدلّ على حقّانية مذهب أهل البيت وأنهم عِدل للقرآن فقضيّة التعارض تصير آنذاك قضيّة جانبية سواء أمكننا أن نبيّن العوامل ونفسّر تلك الظاهرة بشكلٍ صحيح أم لم يمكننا ذلك فإن هذا لا يزعزع من حقّانية مذهب أهل البيت عليهم السلام بعدما فرض أن المستندات ثابتة فنقول نحن لا نعرف لماذا حصل هذا التعارض فلابد وأنّه حصل لنكتةٍ نحن لا نعرفها.
أمّا أن تقول هناك احتمال ثالث وهو أن يقول شخصٌ:- إذا لم تكن ظاهرة التعارض موجودةٌ فالحقّانية آنذاك تثبت أما إذا كانت موجودة فالحقّانية لا تثبت.
وجوابه:- إن هذا كلام ليس علمياً، فوجود التعارض وعدمه لا يؤثّر على الحقّانية، بل المهم هو أن الحقّانية تثبت بمستنداتها من آية التطهير وغير ذلك وإذا لم تكن لم تثبت الحقّانية فمجرد وجود ظاهرة التعارض وعدم وجودها لا يؤثر شيئاً في هذا المجال كما هو واضح.
وهذا المطلب الذي أشرت إليه قضيّة ينبغي الالتفات إليها لا في موردنا فقط بل في سائر الموارد، فحينما يقع نقاش مع أصحاب المذاهب الأخرى فإنه قد يُفتَح في قضيّة تحريف القرآن الكريم أو في قضيّة عدالة الصحابة أو غير ذلك وحينئذٍ قد لا ينتهي النزاع إلى نتيجة، ولكن يمكن أن نقول إن مصبّ الكلام مع الاتجاه المقابل لا ينبغي أن يكون هنا فإن هذه قضايا جانبيّة بل ينبغي أن نذهب إلى الأساس فنلاحظ الأساس ونبحث عنه، يعني ينبغي أن نبحث أن مصدر التشريع هل هو الكتاب الكريم فقط مع إضافة سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهل المصدر ينحصر بهذين أو يوجد شيء آخر - والذي لعله يسمونه بسنّة الصحابة أو عمل الصحابي ونحن نقول سنة أهل البيت عليهم السلام - فهل يوجد مصدر ثانٍ إلى جنب ذاك أو لا ؟ فما هي مصادر التشريع وممّ يؤخذ التشريع ؟ فنذهب إلى الأساس ولا نأتي إلى القضايا الجانبيّة فهي لا تنفعنا، فلو كان لا يوجد تحريف فهل يصير المذهب الامامي باطل أو هو على حقّ ؟! إن هذا لا يؤثر شيئاً المهمّ هو أنه لابد وأن يقع النزاع في تلك القضيّة وإلا فالنزاع في هذه الأمور الجانبية نزاع عقيم لا ينفع شيئاً، ولذلك قد ترى أصحاب الاتجاه المقابل يحرفون مسير الكلام ولا يقبلون أن يذهبوا إلى البحث في الأساس بل يأتون إلى هذه القضايا الجانبية، فالمناسب أن نذهب إلى الأساس ونبحث بأنه هل أمرنا الرسول صلى الله عليه وآله والقران الكريم باتباع أهل البيت عليهم السلام أو باتباع الصحابة أو أنه لم يأمرنا لا بهذا ولا بهذا ؟ هذه هي القضيّة المهمة التي لابد من بحثها، فإن ثبتت هذه القضيّة المهمّة انحلّت بقيّة الأمور، فإذا ثبت أن سنّة أهل البيت عليهم السلام صحيحة ولابد من الأخذ بها فيبقى أن الشيعة يقولون بالتحريف أو لا يقولون به فهذا لا يُبطِل ما استندوا إليه من أساسٍ ولا يؤثر شيئاً.
عودٌ إلى صلب الموضوع:- كان كلامنا في عوامل نشوء التعارض، فهناك عوامل أساسيّة وهناك عومل أخرى ليست كذلك ومن العوامل الأساسية ما يلي:-
العامل الأوّل:- عامل التقية.
ظاهرة التقيّة اختص بها مذهب أهل البيت عليهم السلام ولا نجدها في سائر المذاهب والاتجاهات، والسبب في ذلك واضح وهو أن مذهب أهل البيت كان هو المذهب المطارد من قبل السلطة ومن قبل بقيّة المذاهب، أما سائر المذاهب الأخرى فلم تكن مطاردة بل كان المجال لها مفتوحاً فلا داعي لأن تتقي حيث لا تخاف فلا داعي للتقيّة خلاف مذهب أهل البيت حيث كان مطارداً، وأهل البيت عليهم السلام كانوا لا يتّقون من السلطة فقط بل كانوا يتّقون ويحرّضون اتباعهم أيضاً على الاتقاء من سائر المذاهب فإن سائر المذاهب كانت لها مساحة على الأرض ولها وجودها الذي ينبغي الاحتراس منه أيضاً، فالحذر لم يكن من السلطة فقط وإنما كان من السلطة ومن بقيّة المذاهب، ولعله يشير إلى ذلك أمران
الأمر الأول:- إننا نجد أحيانا أن الأئمة عليهم السلام حينما يحدّثون بحديثٍ ينسبونه بسلسلةٍ ذهبيّة إلى جدهم صلى الله عليه وآله فيقول الإمام عن أبي عن جده عن أبيه إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وآله، فأحيانا نجد انهم يفعلون هكذا في بعض الأحاديث، ولماذا هذا وما هو سببه فإن مدرسة أهل البيت لا يحتاجون إلى ذلك فلو قال الإمام شيئاً يأخذون به رأساً بلا حاجة إلى إيصال الحديث إلى الرسول ؟ ولماذا هي موجودةٌ في بعض الموارد دون البعض الآخر ؟ إنه ليس من البعيد أن يكون ذلك احتراساً من تلك المذاهب، وقد يكون ذلك ضربةً إلى بقية المذاهب أيضاً وأنّا نحن أتباع مدرسة النصّ - ماذا قال الرسول، ماذا قال الله عز وجل - ولسنا أتباع الرأي وفلانٍ وفلان بل نحن أتباع ما قاله الله ما قاله الرسول لا غير . إذن هذه النسبة إلى الرسول من خلال السلسة الذهبيّة ليس من البعيد أنه جاء تعريضاً بتلك المذاهب وردّاً عليها أو احتراساً منها.
الأمر الثاني:- أنهم كانوا يحترسون من بقيّة المذاهب أحياناً في بعض الأحاديث، من قبيل حديث معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت:- نعم وأردت أن أسالك عن ذلك قبل أن أخرج:- إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي:- اصنع كذا فإني كذا أصنع )، وهي واضحة في أن معاذ بن مسلم لم يكن يتّقي من خصوص السلطة بل كان يتّقي إذا جاء شخصٌ ينتسب إلى بعض المذاهب فيفتيه على طبق مذهبه سواء كان هو مذهب السلطة أو لا.
وعلى أيّ حال إن الاتّقاء كان ظاهرةً خاصةً بمدرسة أهل البيت عليهم السلام مرّة من السلطة ومرّة من سائر المذاهب، والذي يدلّنا على أنهم عليهم السلام كانوا يتّقون ويتبعون التقيّة أنهم أمروا حينما تختلف النصوص بطرح الموافق والأخذ بالمخالف فإن هذا يدلّ على أن بعض النصوص قد صدرت منهم تقيّةً كما هو واضح.
وصعّد صاحب الحدائق(قده) اللهجة وقال:- إنهم عليهم السلام كانوا أحياناً يلقون الخلاف بين أصحابهم لئلا تتوحّد كلمتهم ويتوحّد قولهم فيعرفون آنذاك به، فحتى إذا فرض أنه الحديث لم يكن موافقاً للمذاهب الأخرى لكن الإمام عليه السلام يذكر مضموناً للحديث لهذا السائل بشكلٍ ولذاك السائل بشكلٍ آخر من دون ملاحظة أنه يوافق مذهب الآخرين أو لا يوافقه بل كان إلقاء الخلاف من الإمام هو بنفسه هدفٌ.
هذه ظاهرة أكّد عليها صاحب الحدائق(قده) وقد أشار إلى ذلك في مواضع مختلفة من كلامه، ففي الحدائق في المقدمة الأولى من مقدمات الحدائق قال ما نصّه:- ( وحيث إن أصحابنا رضوان الله عليهم خصّوا الحمل على التقيّة بوجود قائلٍ من العامّة وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك لئلا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليلٍ وينسبنا إلى الظلال والتظليل فمن ذلك ما وراه في الكافي في الموثّق " عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام:- سألته عن مسألة فأجابني ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء رجلٌ آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي فلمّا خرج الرجلان قلت:- يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحدٍ منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟! فقال:- يا زرارة إن هذا خيرٌ لنا وأبقى لكم ولو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم، قال:- ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- شيعتكم لو حملتوهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال:- فأجابني بمثل جواب أبيه " ) [1]، هذا الخبر تمسّك به صاحب الحدائق(قده) لبيان أن الأئمة عليهم السلام كانوا يتّقون لا بمعنى أنهم يلحظون المذهب فيفتون على طبقه بل يلقون الخلاف بين أصحابهم تحفّظاً عليهم، ثم قال(قده):- ( ولعلّك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بالتقيّة فبعد العرض على الكتاب العزيز أقوى المرجحات فإن حلّ الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كلّه عند التأمّل والتحقيق إنما نشأ من التقيّة، من هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان الله عليهم فضنّوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دسّ أخبار الكذب في أخبارنا فوضعوا هذا الاصطلاح ليميّزوا به صحيحها عن سقيمها وغثّها عن سمينها ).
ويقصد بذلك اصطلاح تقسيم الخبر إلى صحيحٍ وموثّقٍ وحسنٍ وغير ذلك، فهو يقول إن هذا التقسيم ليس بصحيح بل نأخذ بكلّ الأخبار.
وذكر هذه الفكرة أيضاً في موارد أخرى من قبيل كتاب الصلاة من الحدائق[2] فإنه ذكر أن نافلة الظهر والعصر متى وقتها ؟ وذكر في هذا المجال أخباراً متعارضةً ثم قال ما نصّه:- ( والأظهر عندي أن منشأ هذا الاختلاف في الأخبار إنما هو التقيّة التي هي أصل كلّ محنةٍ في الدين وبليّة ) ، ثم أخذ بذكر بعض الأخبار الدالّة على ما أراد.
ولكن هل كلامه هذا مقبولٌ أو مرفوض ؟