35/06/12
تحمیل
الموضوع:- التنبيه التاســع تعــارض
الاستصحــاب مــع غيــره ( تعارض الاستصحابين في باب العلم الإجمالي ) / تنبيهات /
الاستصحاب / الأصول العملية.
تقديم الاستصحاب على بقيّة القواعد:-
لا إشكال في أن الاستصحاب مقدّم على القواعد الأخرى المقابلة له كأصل البراءة أو أصل التخيير أو أصل الاحتياط أو أصالة الطهارة أو قاعدة اليد، إنه في أمثال هذه القواعد يكون الاستصحاب مقدم عليها، وهذه قضيّة مسلّمة، فهو مقدّمٌ على هذه القواعد الخمس جزماً، ولكن ما هي نكتة التقديم ؟ فالبحث إذن بحثٌ في التخريج الفنّي للتقديم المسلّم.
وينبغي أن يكون محلّ الكلام هنا بالنسبة إلى الأصول الشرعيّة - يعني أصل البراءة الشرعي، وأصل الاحتياط الشرعي، والتخيير الشرعي إن كان - . أمّا بالنسبة إلى الأصول العقليّة فوجه تقدّم الاستصحاب واضحٌ، فمثلاً الاستصحاب مقدّم على البراء العقليّة بناءً على قبولها كما هو المشهور والنكتة واضحة وهي إمّا لأجل أن عدم البيان الذي يعتبره العقل في صحّة العقاب هو عدم البيان ولو من ناحية الاستصحاب - أي من ناحية الحجّة الشرعيّة - فإذا حصل بيانٌ بواسطة الحجّة الشرعيّة فيرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب ارتفاعا حقيقيّاً وهو ما يعبّر عنه بالورود، فموضوع البراءة العقليّة يرتفع حقيقةً حينما يفترض الاستصحاب.
وهكذا بالنسبة إلى أصل التخيير فإن العقل يحكم بالتخيير بين المحذورين إذا فرض عدم وجود مرجّح أمّا إذا كان موجوداً ولو كان هو الاستصحاب عند فرض كونه حجّة شرعيّة فلا يحكم العقل بالتخيير آنذاك ويرتفع موضوع حكمه حقيقةً فإنه أُخِذ في موضوع حكمه عدم المرجّح والاستصحاب مرجّحٌ فيرتفع موضوع حكم العقل بالتخيير ارتفاعاً حقيقيّاً وهذا عبارة عن الورود.
وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط فإن العقل يحكم بالاحتياك عند عدم وجود المؤمن وحيث أن الاستصحاب هو حجة شرعية وصالح للمؤمنيّة شرعاً فيرتفع موضوع حكم العقل بالاحتياط حقيقة.
إذن الاستصحاب مقدّمٌ على الأصول العقليّة بالورود، وإنما خصّصنا كلامنا بأصالة التخيير والاحتياط والبراءة ولم نذكر أصل الطهارة مثلاً كما لم نذكر قاعدة اليد مثلاً ذلك باعتبار أن هذين الأصلين ليسا عقليين وإنما الذي يتصوّر أن يكون عقليّاً هو هذه الأصول الثلاثة، فالاستصحاب النسبة إلى هذه الأصول الثلاثة إذا كانت عقليّة مقدّم عليها بالورود بمعنى أنه يرتفع موضوع الحكم العقلي ارتفاعاً حقيقيّاً، وهذا مطلب واضح.
إنما الكلام في وجه تقدّم الاستصحاب على هذه القواعد الخمس إذا كانت شرعيّة من قبيل أصل الطهارة - لأنه أصل شرعيّ - فلماذا يتقدم الاستصحاب على أصل الطهارة ؟، وهكذا بالنسبة إلى أصل البراءة إذا كان مستنده شرعياً - أي كان مستنده ( رفع عن أمتي ) أو ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾ - فهنا هذا أصلٌ شرعيٌّ فلماذا يقدّم استصحاب على الأصل الشرعي ؟ فالمهم هو الحديث هنا.
وواضحٌ أن مثل الشيخ النائيني(قده) وهكذا السيد الخوئي(قده) هما في راحة باعتبار مسلكهما المبارك[1] - أي مسلك جعل العلميّة - فإنه بناء على هذا المسلك يقدّم الاستصحاب على جميع هذه الأصول الخمسة من باب أنه حاكمٌ عليها كما صرح بذلك الشيخ النائيني فوائد الأصول[2]، والسيد الخوئي في مصباح الأصول[3]، ووجه الحكومة واضحٌ فإنه بعد جريان الاستصحاب يصير المكلف عالماً حيث إن المجعول في نظرهما في باب الاستصحاب هو العلميّة غايته عند الشيخ النائيني المجعول هو العلميّة من حيث الجري العملي وعند السيد الخوئي هو العلميّة حتى من حيث الكاشفية فيصير الاستصحاب عنده أمارة على حدّ أمارية خبر الثقة، إنّه بناءً على هذا المسلك يكون الاستصحاب مقدّم بالحكومة حيث يرفع الموضوع تعبّداً فيصير المكلف بجريان الاستصحاب عالماً بالواقع غايته علماً تعبّدياً فلا يعود آنذاك مجالٌ لقاعدة الطهارة لأن موضوع قاعدة الطهارة هو الشكّ وأنا عالمٌ بالنجاسة بعد جريان استصحاب النجاسة . وهكذا اليد لا تكون دليلاً على الملكيّة بعدما فرض أنه يجري استصحاب الملكيّة السابقة فإنه يرفع الشكّ وقاعدة اليد تجري عند الشك ويرتفع الشك بالاستصحاب فلا تجري . وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الأصول . إذن على رأيهما وجه التقدّم واضحٌ وهو الحكومة.
ونحن قد علّقنا فيما سبق بتعليقين أحدهما يختصُّ بالشيخ النائيني والآخر يعمّ الشيخ النائيني والسيد الخوئي:-
أما التعليق الذي يختص بالشيخ النائيني:- فهو أن الاستصحاب وإن كان المجعول فيه هو العلميّة ولكن العلميّة من حيث الجري العملي لا من حيث الكاشفيّة فلا يرتفع موضوع تلك القواعد وإنما الذي يرفعها هو جعل العلميّة من حيث الكاشفيّة ؛ إذ الذي يرفع الشك هو ذلك لا من حيث الجري العملي وحده فإنه لا يكفي لرفع الشكّ.
وأما التعليق الذي يعم الشيخ النائيني والسيد الخوئي:- فهو أننا لو سلّمنا أن المجعول في باب الأمارات هو العلميّة ولكن الذي نقوله هو أنه المدرك المهمّ لحجيّة الأمارات هو السيرة وما جاء من قبل الشرع من أدلة يعدّ امضاءً لما عليه السيرة وليس تأسيساً لشيءٍ جديد، ومعه نقول:- إن السيرة وإن جرت على التعامل مع الأمارة معاملة العلم لكن من حيث كونه علماً طريقياً، وبالعبارة الأوضح من زاوية التنجيز والتعذير، فإنهما أثران للعلم الطريقي، فهم يتعاملون مع الأمارات معاملة العلم من حيث التنجيز والتعذير فيجعلون الأمارة منجّزة ومعذّرة كالعلم، أمّا أنهم يتعاملون معها معاملة العلم الموضوعي، يعني بحيث إذا كان هنا حكمٌ مترتّب على العلم بما هو علمٌ لا بما هو منجّز ومعذّر هناك أيضا يعدّون الأمارة علماً فهذا أوّل الكلام فإنه عادةً لا يوجد في الحياة العقلائيّة علمٌ موضوعيٌّ بل المتداول عندهم هو العلم الطريقي يعني يأخذون العلم في الحكم بما هو منجّز ومعذّر لا بما هو موضوعٌ يُحدِث حكماً يعني إذا ثبت آنذاك يحدث الحكم الآخر، إنَّ هذا ليس متداولاً في الحياة العقلائيّة حتى تقول إن السيرة قد جرت على ذلك، المتيقّن من السيرة هو التعامل مع الأمارة معاملة العلم من حيث التنجيز و العذير - أو بتعبيرٍ آخر من حيث آثار العلم الطريقي - أمّا من حيث آثار العلم الموضعي فهذا ليس بثابتٍ في الحياة العقلائيّة حتى نستفيد من ذلك الحكومة.
وعلى أيّ حال بالنسبة إلى فكرة الحكومة بالشكل الذي اختارها العلمان حيث إنها مرفوضة فلابد وأن نفكر تفكيراً جديداً كوجهٍ للتقديم:-
ونتكلم أوّلاً بالنسبة إلى أصل الطهارة:- قد يقال إن الوجه في تقدم الاستصحاب - أي استصحاب النجاسة – على أصل الطهارة ليس هو الحكومة ولا الورود ولا غيرهما بل فكرة القصور في المقتضي، بمعنى أنه عندما يجري استصحاب النجاسة فأصل الطهارة لا يعود له مجالٌ من باب أنه من البداية هو أن الدليل قد دلّ على حجيته في حالة عدم جريان استصحاب النجاسة أمّا إذا جرى فلم يدلّ الدليل على حجيته، فهناك قصورٌ في دليل حجيّته، فدليل حجيّة أصل الطهارة هو من الأوّل مختصٌّ بحالة عدم جريان الاستصحاب، والوجه في ذلك هو أن مدرك قاعدة الطهارة ما هو ؟ إنه أحد أمرين، إما هو موثقة عمّار الساباطي التي تقول:- ( كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم أنه قذر )[4]، أو هو روايات متفرقة ونقتنص منها قاعدة الطهارة، وأذكر مثالاً واحداً لتلك الروايات وهو من قبيل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول:- ( ما أبالي أبولٌ أصابني أو ماء إذا لم أعلم )[5]، فهذه الرواية يستفاد منها أنه لماذا لا أبالي ؟ إنه لقاعدة الطهارة، فيستفاد من هذه الروية مثلاً قاعدة الطهارة - ولا أريد أن أقول إن هذه الاستفادة صحيحة أو لا، ولنقل إن المدرك هو هذا . إذن المدرك هو إما مثل كلّ شيء لك نظيف أو هو مثل هذه الرواية.
فإن كان المدرك هو الثاني:- فمن الواضح أنه هو لم يفترض كون الحالة السابقة هي النجاسة وأن الجاري هو استصحاب النجاسة وإنما يفترض أنه هناك بللٌ قد أصابني ولا أعلم بكونه بولاً أو ماءً هنا لا توجد حالة سابقة، فمورد وجود الحالة السابقة - وهي النجاسة - الحديث ليس ناظراً إليها أصلاً فحينما يدلّ هو على أصل الطهارة يدلّ عليه في هذا المورد - أي في مورد عدم وجود حالة سابقة هي النجاسة وحالة جريان استصحاب النجاسة - إنّه قاصرٌ عن الشمول لمثل ذلك . إذن في مورد وجود استصحاب النجاسة يجري الاستصحاب ولا تجري قاعدة الطهارة من باب القصور في المقتضي.
وأمّا إذا كان المدرك هو الأول:- أي ( كلّ شيءٍ لك نظيف حتى تعلم أنه قذر ) - فتوجيه القصور في المقتضي فيه أن يقال:- إن عبارة قذر كيف نقرأها ؟ فهل نقرأها بنحو الاسم - أي هي وصفٌ - فنقول ( قَذِرْ )، أو نقرأها بنحو الفعل - أي ( قَذُرَ ) بمعنى تَقذَّرَ -، فإن قرأناها بالشكل الأوّل - يعني أنها اسم - فآنذاك تكون قاعدة الطهارة تامّة في مورد جريان استصحاب النجاسة لأنها تقول ( كلّ شيءٍ لك نظيف حتى تعلم أنه قَذِرْ ) وأنا لا يوجد عندي علمٌ بأنه قَذِرْ حتى مع جريان الاستصحاب لأنا لا نبني على أن المجعول هو العلميّة فلو بنينا على أن المجعول هو العلميّة فلا مشكلة ولكن المفروض أنّا لم نبنِ على ذلك فإذا لم نبنِ على أن المجعول هو العلميّة فأنا بالتالي حتى لو جرى الاستصحاب لا علم لي بأنه قَذِر، فإذن دليل قاعدة الطهارة يوجد فيه إطلاقٌ يشمل حتى مورد جريان استصحاب النجاسة وليس فيه قصورٌ في المقتضي.
أما إذا قرأناها بنحو الفعل - أي ( قَذُرَ ) يعنى تَقَذَّرَ - فهي في مثل هذه الحالة لا تشمل مورد وجود استصحاب النجاسة ؛ لأنه في مورد وجود الحالة السابقة - وهي النجاسة - أعلم بأنه قَذُرَ لأن حالته السابقة هي أنه مُتقَذِّر لأن قاعدة الطهارة أصلاً مؤسسة في المورد الذي لا تعلم بأنه قد قَذُرَ مسبقاً أمّا أنه إذا علمت بأنه قد قَذُرَ فلم تشرّع قاعدة الطهارة، وحيث لا ندري أن عمّار الساباطي كيف قرأها هل بهذا الشك أو بذاك الشكل - وبالأحرى لا ندري أن الإمام عليه السلام كيف قرأها - فتعود مجملة، يعني يحتمل أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي كونها فِعلاً - أي قَذُرَ - فإذا كان قد قرأها هكذا ففي مورد استصحاب النجاسة لا توجد قاعدة الطهارة , وبالتالي يصير دليلها قاصراً عن الشمول لمورد وجود النجاسة السابقة.
إذن لا يمكن أن نقول إن قاعدة الطهارة قد شُرّعت في مورد استصحاب النجاسة، بل القدر المتيقن هو أنها شُرّعت إذا لم تكن هناك نجاسة أمّا إذا كانت توجد نجاسة سابقة فلا ندري أنها شُرّعت لإجمال قراءة كلمة ( قذر ).
وقد يقول قائل:- إن من يراجع الوسائل طبعة مؤسسة آل البيت يرى أن الموجود فيها ( حتى تعلم أنه قَذِرْ ) أي انها اسم.
قلنا:- مَن هو الذي حركها ؟ فهل هو عمّار الساباطي أو غيره ؟!! فإنا لا نعلم ذلك ولعله من محقّق الكتاب . نعم إذا أتيت بقرائن تدل على أن عمّار الساباطي هو الذي قرأها هكذا فلا بأس بذلك، أمّا الاعتماد على ما هو موجود في طبعة الوسائل فلا.
وعلى هذا الاساس موثقة عمّار مجملة فهي قاصرة للشمول في مورد وجود استصحاب النجاسة، وهكذا بالنسبة إلى الروايات الخاصّة لو كانت هي المدرك . فإذن يتقدّم استصحاب على قاعدة الطهارة من باب أن قاعدة الطهارة قاصرة عن شمول مورد وجود الاستصحاب، هكذا قد يقال.
تقديم الاستصحاب على بقيّة القواعد:-
لا إشكال في أن الاستصحاب مقدّم على القواعد الأخرى المقابلة له كأصل البراءة أو أصل التخيير أو أصل الاحتياط أو أصالة الطهارة أو قاعدة اليد، إنه في أمثال هذه القواعد يكون الاستصحاب مقدم عليها، وهذه قضيّة مسلّمة، فهو مقدّمٌ على هذه القواعد الخمس جزماً، ولكن ما هي نكتة التقديم ؟ فالبحث إذن بحثٌ في التخريج الفنّي للتقديم المسلّم.
وينبغي أن يكون محلّ الكلام هنا بالنسبة إلى الأصول الشرعيّة - يعني أصل البراءة الشرعي، وأصل الاحتياط الشرعي، والتخيير الشرعي إن كان - . أمّا بالنسبة إلى الأصول العقليّة فوجه تقدّم الاستصحاب واضحٌ، فمثلاً الاستصحاب مقدّم على البراء العقليّة بناءً على قبولها كما هو المشهور والنكتة واضحة وهي إمّا لأجل أن عدم البيان الذي يعتبره العقل في صحّة العقاب هو عدم البيان ولو من ناحية الاستصحاب - أي من ناحية الحجّة الشرعيّة - فإذا حصل بيانٌ بواسطة الحجّة الشرعيّة فيرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب ارتفاعا حقيقيّاً وهو ما يعبّر عنه بالورود، فموضوع البراءة العقليّة يرتفع حقيقةً حينما يفترض الاستصحاب.
وهكذا بالنسبة إلى أصل التخيير فإن العقل يحكم بالتخيير بين المحذورين إذا فرض عدم وجود مرجّح أمّا إذا كان موجوداً ولو كان هو الاستصحاب عند فرض كونه حجّة شرعيّة فلا يحكم العقل بالتخيير آنذاك ويرتفع موضوع حكمه حقيقةً فإنه أُخِذ في موضوع حكمه عدم المرجّح والاستصحاب مرجّحٌ فيرتفع موضوع حكم العقل بالتخيير ارتفاعاً حقيقيّاً وهذا عبارة عن الورود.
وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط فإن العقل يحكم بالاحتياك عند عدم وجود المؤمن وحيث أن الاستصحاب هو حجة شرعية وصالح للمؤمنيّة شرعاً فيرتفع موضوع حكم العقل بالاحتياط حقيقة.
إذن الاستصحاب مقدّمٌ على الأصول العقليّة بالورود، وإنما خصّصنا كلامنا بأصالة التخيير والاحتياط والبراءة ولم نذكر أصل الطهارة مثلاً كما لم نذكر قاعدة اليد مثلاً ذلك باعتبار أن هذين الأصلين ليسا عقليين وإنما الذي يتصوّر أن يكون عقليّاً هو هذه الأصول الثلاثة، فالاستصحاب النسبة إلى هذه الأصول الثلاثة إذا كانت عقليّة مقدّم عليها بالورود بمعنى أنه يرتفع موضوع الحكم العقلي ارتفاعاً حقيقيّاً، وهذا مطلب واضح.
إنما الكلام في وجه تقدّم الاستصحاب على هذه القواعد الخمس إذا كانت شرعيّة من قبيل أصل الطهارة - لأنه أصل شرعيّ - فلماذا يتقدم الاستصحاب على أصل الطهارة ؟، وهكذا بالنسبة إلى أصل البراءة إذا كان مستنده شرعياً - أي كان مستنده ( رفع عن أمتي ) أو ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾ - فهنا هذا أصلٌ شرعيٌّ فلماذا يقدّم استصحاب على الأصل الشرعي ؟ فالمهم هو الحديث هنا.
وواضحٌ أن مثل الشيخ النائيني(قده) وهكذا السيد الخوئي(قده) هما في راحة باعتبار مسلكهما المبارك[1] - أي مسلك جعل العلميّة - فإنه بناء على هذا المسلك يقدّم الاستصحاب على جميع هذه الأصول الخمسة من باب أنه حاكمٌ عليها كما صرح بذلك الشيخ النائيني فوائد الأصول[2]، والسيد الخوئي في مصباح الأصول[3]، ووجه الحكومة واضحٌ فإنه بعد جريان الاستصحاب يصير المكلف عالماً حيث إن المجعول في نظرهما في باب الاستصحاب هو العلميّة غايته عند الشيخ النائيني المجعول هو العلميّة من حيث الجري العملي وعند السيد الخوئي هو العلميّة حتى من حيث الكاشفية فيصير الاستصحاب عنده أمارة على حدّ أمارية خبر الثقة، إنّه بناءً على هذا المسلك يكون الاستصحاب مقدّم بالحكومة حيث يرفع الموضوع تعبّداً فيصير المكلف بجريان الاستصحاب عالماً بالواقع غايته علماً تعبّدياً فلا يعود آنذاك مجالٌ لقاعدة الطهارة لأن موضوع قاعدة الطهارة هو الشكّ وأنا عالمٌ بالنجاسة بعد جريان استصحاب النجاسة . وهكذا اليد لا تكون دليلاً على الملكيّة بعدما فرض أنه يجري استصحاب الملكيّة السابقة فإنه يرفع الشكّ وقاعدة اليد تجري عند الشك ويرتفع الشك بالاستصحاب فلا تجري . وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الأصول . إذن على رأيهما وجه التقدّم واضحٌ وهو الحكومة.
ونحن قد علّقنا فيما سبق بتعليقين أحدهما يختصُّ بالشيخ النائيني والآخر يعمّ الشيخ النائيني والسيد الخوئي:-
أما التعليق الذي يختص بالشيخ النائيني:- فهو أن الاستصحاب وإن كان المجعول فيه هو العلميّة ولكن العلميّة من حيث الجري العملي لا من حيث الكاشفيّة فلا يرتفع موضوع تلك القواعد وإنما الذي يرفعها هو جعل العلميّة من حيث الكاشفيّة ؛ إذ الذي يرفع الشك هو ذلك لا من حيث الجري العملي وحده فإنه لا يكفي لرفع الشكّ.
وأما التعليق الذي يعم الشيخ النائيني والسيد الخوئي:- فهو أننا لو سلّمنا أن المجعول في باب الأمارات هو العلميّة ولكن الذي نقوله هو أنه المدرك المهمّ لحجيّة الأمارات هو السيرة وما جاء من قبل الشرع من أدلة يعدّ امضاءً لما عليه السيرة وليس تأسيساً لشيءٍ جديد، ومعه نقول:- إن السيرة وإن جرت على التعامل مع الأمارة معاملة العلم لكن من حيث كونه علماً طريقياً، وبالعبارة الأوضح من زاوية التنجيز والتعذير، فإنهما أثران للعلم الطريقي، فهم يتعاملون مع الأمارات معاملة العلم من حيث التنجيز والتعذير فيجعلون الأمارة منجّزة ومعذّرة كالعلم، أمّا أنهم يتعاملون معها معاملة العلم الموضوعي، يعني بحيث إذا كان هنا حكمٌ مترتّب على العلم بما هو علمٌ لا بما هو منجّز ومعذّر هناك أيضا يعدّون الأمارة علماً فهذا أوّل الكلام فإنه عادةً لا يوجد في الحياة العقلائيّة علمٌ موضوعيٌّ بل المتداول عندهم هو العلم الطريقي يعني يأخذون العلم في الحكم بما هو منجّز ومعذّر لا بما هو موضوعٌ يُحدِث حكماً يعني إذا ثبت آنذاك يحدث الحكم الآخر، إنَّ هذا ليس متداولاً في الحياة العقلائيّة حتى تقول إن السيرة قد جرت على ذلك، المتيقّن من السيرة هو التعامل مع الأمارة معاملة العلم من حيث التنجيز و العذير - أو بتعبيرٍ آخر من حيث آثار العلم الطريقي - أمّا من حيث آثار العلم الموضعي فهذا ليس بثابتٍ في الحياة العقلائيّة حتى نستفيد من ذلك الحكومة.
وعلى أيّ حال بالنسبة إلى فكرة الحكومة بالشكل الذي اختارها العلمان حيث إنها مرفوضة فلابد وأن نفكر تفكيراً جديداً كوجهٍ للتقديم:-
ونتكلم أوّلاً بالنسبة إلى أصل الطهارة:- قد يقال إن الوجه في تقدم الاستصحاب - أي استصحاب النجاسة – على أصل الطهارة ليس هو الحكومة ولا الورود ولا غيرهما بل فكرة القصور في المقتضي، بمعنى أنه عندما يجري استصحاب النجاسة فأصل الطهارة لا يعود له مجالٌ من باب أنه من البداية هو أن الدليل قد دلّ على حجيته في حالة عدم جريان استصحاب النجاسة أمّا إذا جرى فلم يدلّ الدليل على حجيته، فهناك قصورٌ في دليل حجيّته، فدليل حجيّة أصل الطهارة هو من الأوّل مختصٌّ بحالة عدم جريان الاستصحاب، والوجه في ذلك هو أن مدرك قاعدة الطهارة ما هو ؟ إنه أحد أمرين، إما هو موثقة عمّار الساباطي التي تقول:- ( كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم أنه قذر )[4]، أو هو روايات متفرقة ونقتنص منها قاعدة الطهارة، وأذكر مثالاً واحداً لتلك الروايات وهو من قبيل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول:- ( ما أبالي أبولٌ أصابني أو ماء إذا لم أعلم )[5]، فهذه الرواية يستفاد منها أنه لماذا لا أبالي ؟ إنه لقاعدة الطهارة، فيستفاد من هذه الروية مثلاً قاعدة الطهارة - ولا أريد أن أقول إن هذه الاستفادة صحيحة أو لا، ولنقل إن المدرك هو هذا . إذن المدرك هو إما مثل كلّ شيء لك نظيف أو هو مثل هذه الرواية.
فإن كان المدرك هو الثاني:- فمن الواضح أنه هو لم يفترض كون الحالة السابقة هي النجاسة وأن الجاري هو استصحاب النجاسة وإنما يفترض أنه هناك بللٌ قد أصابني ولا أعلم بكونه بولاً أو ماءً هنا لا توجد حالة سابقة، فمورد وجود الحالة السابقة - وهي النجاسة - الحديث ليس ناظراً إليها أصلاً فحينما يدلّ هو على أصل الطهارة يدلّ عليه في هذا المورد - أي في مورد عدم وجود حالة سابقة هي النجاسة وحالة جريان استصحاب النجاسة - إنّه قاصرٌ عن الشمول لمثل ذلك . إذن في مورد وجود استصحاب النجاسة يجري الاستصحاب ولا تجري قاعدة الطهارة من باب القصور في المقتضي.
وأمّا إذا كان المدرك هو الأول:- أي ( كلّ شيءٍ لك نظيف حتى تعلم أنه قذر ) - فتوجيه القصور في المقتضي فيه أن يقال:- إن عبارة قذر كيف نقرأها ؟ فهل نقرأها بنحو الاسم - أي هي وصفٌ - فنقول ( قَذِرْ )، أو نقرأها بنحو الفعل - أي ( قَذُرَ ) بمعنى تَقذَّرَ -، فإن قرأناها بالشكل الأوّل - يعني أنها اسم - فآنذاك تكون قاعدة الطهارة تامّة في مورد جريان استصحاب النجاسة لأنها تقول ( كلّ شيءٍ لك نظيف حتى تعلم أنه قَذِرْ ) وأنا لا يوجد عندي علمٌ بأنه قَذِرْ حتى مع جريان الاستصحاب لأنا لا نبني على أن المجعول هو العلميّة فلو بنينا على أن المجعول هو العلميّة فلا مشكلة ولكن المفروض أنّا لم نبنِ على ذلك فإذا لم نبنِ على أن المجعول هو العلميّة فأنا بالتالي حتى لو جرى الاستصحاب لا علم لي بأنه قَذِر، فإذن دليل قاعدة الطهارة يوجد فيه إطلاقٌ يشمل حتى مورد جريان استصحاب النجاسة وليس فيه قصورٌ في المقتضي.
أما إذا قرأناها بنحو الفعل - أي ( قَذُرَ ) يعنى تَقَذَّرَ - فهي في مثل هذه الحالة لا تشمل مورد وجود استصحاب النجاسة ؛ لأنه في مورد وجود الحالة السابقة - وهي النجاسة - أعلم بأنه قَذُرَ لأن حالته السابقة هي أنه مُتقَذِّر لأن قاعدة الطهارة أصلاً مؤسسة في المورد الذي لا تعلم بأنه قد قَذُرَ مسبقاً أمّا أنه إذا علمت بأنه قد قَذُرَ فلم تشرّع قاعدة الطهارة، وحيث لا ندري أن عمّار الساباطي كيف قرأها هل بهذا الشك أو بذاك الشكل - وبالأحرى لا ندري أن الإمام عليه السلام كيف قرأها - فتعود مجملة، يعني يحتمل أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي كونها فِعلاً - أي قَذُرَ - فإذا كان قد قرأها هكذا ففي مورد استصحاب النجاسة لا توجد قاعدة الطهارة , وبالتالي يصير دليلها قاصراً عن الشمول لمورد وجود النجاسة السابقة.
إذن لا يمكن أن نقول إن قاعدة الطهارة قد شُرّعت في مورد استصحاب النجاسة، بل القدر المتيقن هو أنها شُرّعت إذا لم تكن هناك نجاسة أمّا إذا كانت توجد نجاسة سابقة فلا ندري أنها شُرّعت لإجمال قراءة كلمة ( قذر ).
وقد يقول قائل:- إن من يراجع الوسائل طبعة مؤسسة آل البيت يرى أن الموجود فيها ( حتى تعلم أنه قَذِرْ ) أي انها اسم.
قلنا:- مَن هو الذي حركها ؟ فهل هو عمّار الساباطي أو غيره ؟!! فإنا لا نعلم ذلك ولعله من محقّق الكتاب . نعم إذا أتيت بقرائن تدل على أن عمّار الساباطي هو الذي قرأها هكذا فلا بأس بذلك، أمّا الاعتماد على ما هو موجود في طبعة الوسائل فلا.
وعلى هذا الاساس موثقة عمّار مجملة فهي قاصرة للشمول في مورد وجود استصحاب النجاسة، وهكذا بالنسبة إلى الروايات الخاصّة لو كانت هي المدرك . فإذن يتقدّم استصحاب على قاعدة الطهارة من باب أن قاعدة الطهارة قاصرة عن شمول مورد وجود الاستصحاب، هكذا قد يقال.