36/11/17
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ قاعدة
الميسور.
كان الكلام في هذه المحاولة للتخلص من الإشكال الأساسي في محل الكلام، وكان حاصلها أنّ الإشكال مبني على افتراض أن وجوب الباقي يحتاج إلى جعل وخطاب جديد غير الخطاب والجعل الذي يُجعل به وجوب المركب التام المجعول سابقاً والخطاب السابق يتضمّن جعل وجوب التام، وجوب الباقي يحتاج إلى خطابٍ جديد، ومن هنا ينشأ الإشكال بأنّ وجوب الباقي إذا شككنا فيه بعد تعذّر أحد الأجزاء يكون شكّاً في تكليفٍ جديدٍ وليس شكّاً في بقاء التكليف الموجود سابقاً، وإنما هو شكٌ في تكليفٍ جديدٍ، فإذا فرضنا فرضاً أن وجوب الباقي يكون بنفس الجعل السابق وبنفس الخطاب السابق، بمعنى أنّ الخطاب السابق يتضمّن أمرين، وجوب التام في حال التمكّن، ووجوب الناقص والباقي في حال العجز، هو بنفسه يتضمّن كلا الأمرين، إذا تمّ هذا وثبت بالدليل؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى الاستصحاب؛ بل يمكن إثبات وجوب الباقي بعد التعذّر بنفس الخطاب السابق، ويكون هذا دليلاً على وجوب الباقي. لكن عندما لا يكون هذا ثابتاً، وإنما محتملاً، لا نعلم أن الجعل في الخطاب السابق هل هو وارد على الأعم من التام والناقص حتى يكون التكليف بالباقي باقياً وثابتاً بعد التعذر ؟ أو أن الجعل فيه ثابت لخصوص التام تعييناً حتى لا يكون التكليف بالباقي باقياً وثابتاً؟ إذا شككنا في ذلك يقول: في هذه الحالة لا يرد الإشكال السابق؛ لأن الشك هو شك في بقاء نفس التكليف السابق على أحد التقديرين، وهذا كلام صحيح، الشك هو شك في بقاء ما كان سابقاً؛ لأن المفروض أن الجعل السابق يتضمّن وجوب الأقل عند التعذر، فإذا ترددنا وشككنا في كيفية جعل الوجوب السابق؛ حينئذٍ نحن نحتمل بقاء نفس ما كان ثابتاً أولاً؛ لأنّ ما ثبت أولاً إن كان يتضمّن فقط التكليف بالأكثر تعييناً، فلا بقاء لهذا التكليف. وأما إذا كان التكليف وارداً على الأعم، فيكون وجوب الأقل باقياً. فإذن: نحن نشك في بقاء نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين. وكأنه يريد أن يقول أنّ هذا يندفع به الإشكال، وإنما يرد عليه إشكال آخر كما سنبينه.
قبل أن نبيّن الإشكال الذي أورده عليه، نقول: هذا يمكن فرضه حتى بلا حاجة إلى هذا الكلام، يعني بنفس افتراض أن وجوب الأقل الثابت سابقاً إذا كان مشروطاً بالتمكن والاختيار، هذا أحد التقديرين السابقين، لا نعلم هل أنّ وجوب الأقل مطلق بلحاظ القدرة على الجزء العاشر، أو مقيّد بالتمكّن منه والقدرة عليه؟ على أحد التقديرين، وهو أن يكون مشروطاً بالقدرة على الجزء العاشر، على هذا التقدير وجوب الأقل يكون ثابتاً.
بعبارة أخرى: جزئية الجزء هل هي مطلقة، أو مشروطة بالتمكن ؟ على تقدير أن تكون جزئية الجزء مشروطة بالتمكن، إذن هي ثابتة في حال التمكن وتسقط في حال التعذر. ومعنى سقوط جزئية الجزء في حال التعذر أنّ الباقي يكون واجباً. يعني عندما نقول أنّ جزئية السورة من الصلاة مخصوصة بحال التمكن منها، والدليل يدل على ذلك، ويستفاد من الجعل السابق هذا المعنى، فلنفترض هذا، وهذا أحد الاحتمالين، أنّ جزئية الجزء ثابتة فقط في حال التمكن، يعني هذا ليس جزءً في حال التعذر، ومعنى أنه ليس جزءً هو أن الباقي يكون واجباً. إذن: نستطيع أن نقول أن وجوب الباقي هو نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين. كيف يقول هنا في المقام بأنّ ما ثبت وجوب الباقي بعد تعذر أحد الأجزاء هو عين ما ثبت سابقاً على أحد التقديرين الذي فرض أنه تقدير أن يكون وجوباً متعلقاً بالأعم من التام والناقص، على هذا التقدير وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس ما ثبت أولاً، فيكون الشك شكاً في البقاء. نفس هذا الكلام نستطيع أن نقوله من دون هذا الكلام الذي ذكره؛ لأننا اساساً ــــــــــ كما قلنا سابقاً ــــــــــ نحتمل الإطلاق ونحتمل التقييد، نحتمل أن جزئية الجزء جزئية مطلقة ثابتة حتى في حال التعذر الذي يؤدي إلى سقوط الواجب بتمامه، ولا يبقى حتى وجوب الباقي، ونحتمل أن جزئية الجزء مخصوصة بحال التمكن، وأما في حال التعذر فتسقط جزئيته، لا يكون جزءً من المركب، فيكون المركب هو الباقي، معناه أن المركب في حال التعذر يتألف من تسعة أجزاء، وفي حال التمكن من السورة يتألف من عشرة أجزاء، لكن في حال تعذر السورة يتألف من تسعة أجزاء. إذن: وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين، فالشك يكون شكاً في البقاء. فإذن: هذا الشيء الذي فرضه هو مطروح سابقاً، غاية الأمر أننا لم نقتنع به، لكنه هو بنفسه مطروح سابقاً؛ بل هو مطروح لحل هذا الإشكال، وأنّ الشك في المقام يكون شكاً في البقاء وليس شكاً في تكليفٍ جديد.
على كل حال، هذا الذي ذُكر يرد عليه ما تقدم سابقاً، وهو أنه في المقام أن الوجوب المستصحب أيضاً يكون مردداً بين تقديرين، وكيفية جعل الوجوب يكون مردداً بين احتمالين، احتمال أن يكون الجعل وارداً على خصوص المركب التام تعييناً، واحتمال آخر أن يكون الجعل وارداً على الأعم من التام والناقص، هذان احتمالان في الجعل الذي كان ثابتاً سابقاً بلا إشكال، هذا محتمل وهذا محتمل أيضاً، على أحد الاحتمالين يكون وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس الثابت سابقاً، وعلى التقدير الآخر يكون غيره، يكون وجوباً آخراً وتكليفاً جديداً. إذن: بالنتيجة، التكليف بالأقل بعد التعذر هو نفس التكليف السابق، وباقٍ حتماً على أحد التقديرين، وهو منتفٍ حتماً على التقدير الآخر، إذا كان الجعل ثابتاً سابقاً للأعم فوجوب الأقل بعد التعذر هو نفس الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً، وهو باقٍ قطعاً، إذا كان الجعل ثابتاً للتام فقط تعييناً، فوجوب الباقي بعد التعذر يكون تكليفاً جديداً وخطاباً جديداً وهو ليس ما ثبت سابقاً.
إذن: على أحد التقديرين وجوب الباقي يكون ثابتاً قطعاً، وعلى التقدير الآخر يكون وجوب الباقي منتفٍ قطعاً، فيأتي الكلام السابق فيه، وهو أنّ المستصحب يدور أمره بين تقديرين، على أحد التقديرين يكون المستصحب منتفٍ قطعاً، وعلى التقدير الآخر يكون المستصحب باقٍ قطعاً، فيدور أمره بين ما هو منتفٍ قطعاً وبين ما هو باقٍ قطعاً. أي بين ما هو معلوم الانتفاء وبين ما هو معلوم البقاء. قلنا في هذه الحالة لا يمكن إجراء الاستصحاب في المستصحب على أحد التقديرين؛ لأنه إمّا معلوم البقاء على أحد التقديرين، وإما معلوم الانتفاء، فلابدّ أن يتجه الاستصحاب إلى الكلّي الأعم من التقديرين، إذا توجّه الاستصحاب إلى الأعم من التقديرين يأتي عليه الإشكال السابق، وهو أنه إذا كان الغرض من ذلك هو إثبات الجامع، فتقدم بأنّ هذا الجامع لا يجري فيه الاستصحاب لعدم كونه قابلاً للتنجيز؛ لأنه جامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز، على أحد التقديرين يقبل التنجيز عندما نفترض أنّ الجعل تعلّق بالأعم، أمّا إذا كان الجعل متعلقاً بخصوص المركب التام تعييناً؛ فحينئذٍ هذا لا يقبل التنجيز، وفي هذه الحالة حينئذٍ لا يمكن أن يجري الاستصحاب لإثبات الجامع. وأما إذا كان المقصود من إجراء الاستصحاب في الكلي هو إثبات أحد التقديرين، فهذا يكون أصلاً مثبتاً. هذا تمام الكلام في الاستصحاب.
من هنا يظهر أنّ الوجوه التي ذُكرت لإجراء الاستصحاب غير ناهضة لإثبات وجوب الباقي بعد تعذر أحد الأجزاء، فلا يجري الاستصحاب؛ بل أكثر من هذا يمكن إجراء الاستصحاب بشكلٍ ينتج عكس النتيجة، أي يثبت عدم وجوب الباقي بعد التعذر، باعتبار أننا نعلم سابقاً بعدم كون الأقل مطلوباً، أي أنّ مطلوبية الأقل على نحو الاستقلال مما نعلم بعدمه سابقاً، فالأقل ليس مطلوبا على نحو الاستقلال سابقاً في حال التمكن من جميع الأجزاء، وإلا لو كان الأقل مطلوباً لكانت جزئية الجزء لغواً. إذن: نحن نعلم سابقاً عندما كان المكلف متمكناً من جميع الأجزاء نعلم بعدم مطلوبية الأقل ــــــــــ التسعة الأجزاء ــــــــــ على نحو الاستقلال، وبعد تعذر أحد الأجزاء نشك في أنّ عدم المطلوبية هذه هل تبدّلت بالمطلوبية ؟ هل صارت التسعة أجزاء مطلوبة على نحو الاستقلال بعد تعذر الجزء العاشر، أو لا ؟ نستصحب عدم المطلوبية التي كانت ثابتة سابقاً؛ إذ لا إشكال في أنّ الأقل لم يكن مطلوباً على نحو الاستقلال، حتماً في حال التمكن من الجزء العاشر الأقل ليس مطلوباً على نحو الاستقلال، وهذا ينتج عدم وجوب التسعة بعد تعذر الجزء العاشر؛ لأننا قلنا أنّ المقصود إثبات الوجوب الاستقلالي للتسعة بعد تعذر الجزء العاشر، وهذا مما يُعلم عدمه سابقاً، فيجري الاستصحاب. غاية الأمر أنّ هذا الاستصحاب يتوقف على عدم تمامية الوجوه المتقدمة لإثبات الاستصحاب الذي يثبت به وجوب الباقي بعد التعذر، إذا لم تتم الوجوه السابقة كما هو المفروض؛ حينئذ يمكن أن يقال أنّ الاستصحاب يقتضي العكس، أي عدم الوجوب الاستقلالي للأقل بعد تعذر الجزء العاشر.
((قاعدة الميسور))
الأمر الثاني: الذي استُدل به لإثبات وجوب الجزء العاشر هو قاعدة الميسور: استُدل بهذه القاعدة على وجوب الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط أو القيد، اي شيء كان، وادُعي أنّ هذه القاعدة مستفادة من أخبار، والأخبار التي ادُعي استفادة القاعدة منها ثلاثة:
الرواية الأولى: الرواية النبوية المروية في طرق العامة عن أبي هريرة، الرواية معروفة ويذكرها الشيخ وغيره، يقول في الرواية:
(خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجّوا، فقال رجل ــــــــــ في بعض النسخ قام إليه عكاشة وسراقة بين مالك ــــــــــــ أو كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ــــــــــ وفي بعض النسخ" لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ــــــــــ ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)[1] [2]
محل الشاهد: العبارة(فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم).
الرواية الثانية: مرسلة صاحب(عوالي اللئالي)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ومضمونها(الميسور لا يسقط بالمعسور)، أو في بعض النسخ(لا يُترك الميسور بالمعسور).[3]
الرواية الثالثة: مرسلة أخرى يرويها أيضاً صاحب(عوالي اللئالي) عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، بمضمون(ما لا يُدرك كله لا يُترك كله).[4]
هذه هي الأخبار التي قيل أنه يُستفاد منها قاعدة عُبّر عنها بــ (قاعدة الميسور) ومفادها أن المركب من أجزاء عديدة بتعذر بعض أجزائه لا يسقط الباقي، وإنما يجب الإتيان به، هذا مضمون القاعدة، فيُستدل بها في محل الكلام على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأجزاء.
هذه الروايات كما هو واضح، سنداً ليست تامة، الرواية الأولى رواية عامّية لم تروَ من طرقنا أصلاً؛ بل هي من طرق العامّة وراويها ابو هريرة. الروايتين الثانية والثالثة مرسلتان لصاحب(عوالي اللئالي)، ومن حيث السند حالهن واضح. نعم، المحقق النائيني، وكذا المحقق العراقي(قدس سرهما) قالا بأنّ اشتهار هذه الأخبار بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها، والظاهر أنهم يبنون على تمامية سند هذه الروايات باعتبار اشتهارها بين الأصحاب.
هذه الدعوى في الحقيقة ليست واضحة، لا كبرى ولا صغرى. أما كبرى؛ فلأنه غير معروف أن اشتهار الرواية بين الأصحاب يكون جابراً لضعفها السندي، مسألة العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام العمل هو الذي فيه كلام، وأنه يجبر الضعف السندي، أو لا ؟ أما نفس اشتهار الرواية بين الأصحاب، فغير واضح أنه يجبر ضعفها السندي، يعني غير معروف أن اشتهار الرواية يجبر الضعف السندي، وإنما عمل الرواية واستناد المشهور في الفتوى إلى رواية هو الذي وقع الكلام فيه أنه جابر لضعفها السندي أو لا ؟ أما مجرّد اشتهار الرواية بين الأصحاب ـــــــــــ كما هو ظاهر عبارتهم ــــــــــ من دون فرض العمل بها والاستناد إليها في مقام العمل، هذا لا يجبر الضعف السندي. هذا من ناحية كبروية.
وأما من ناحية صغروية، فلا نعلم كيف يمكن تحصيل الاشتهار. نعم، هذه الروايات ذُكرت في كلام المتأخرين، وإلا الرواية الأولى أصلاً ليست مروية من طرقنا ولا موجودة في كتبنا الحديثية، والروايتين الثانية والثالثة أيضاً ليست موجودة في كتبنا الحديثية، وحتى الكتب الحديثية التي ليست بتلك الدرجة من الاعتبار كالكتب الأربعة، أيضاً ليست مذكورة فيها، لا في المحاسن ولا مسائل علي بن جعفر، أو قرب الأسناد، وإنما فقط مذكورة في(عوالي اللئالي)، وهذا كتاب حسب تعبير الشيخ الأنصاري(قدس سره) طعن فيه من ليس دأبه الطعن في كتب الأصحاب. فبالنسبة لشهرة الرواية، ما هو المقصود بالشهرة ؟ هل تعني الشهرة بين المتأخرين؟ فرضاً هل العلامة(قدس سره) ذكر هذا المضمون ؟ أو أنّ المتأخرين ذكروا هذا المضمون ؟ هذه ليست هي الشهرة المقصودة، وإنما الشهرة شهرة تدوين الرواية في الكتب الحديثية الأساسية، بينما هذه الروايات لم تُذكر هكذا وليس لها هذا الشأن، فصغروياً المسألة غير واضحة. نعم، يمكن أن يُفسّر كلامهما بأن المقصود هو العمل والاستناد إلى هذه الروايات في مقام الفتوى، اشتهار الرواية بين الأصحاب يعني اشتهار استنادهم إلى هذه الروايات في مقام الفتوى، اشتهار العمل بين الأصحاب بهذه الروايات؛ حينئذٍ يكون جابراً لضعف السند، لكن إذا تمت هذا الدعوى كبرى وصغرى، أما كبروياً فقد تبين أنها محل كلام، أنّ العمل يجبر ضعف السند، أو لا ؟ بقطع النظر عن الكبرى، صغروياً أيضاً المسألة غير واضحة، لم يُعلم أن الأصحاب استندوا إلى هذه الروايات في مقام الفتوى وفي مقام العمل، هذا غير واضح أصلاً، باعتبار أن مجرد أنهم أفتوا على ما يوافق مضمون هذه الأخبار هذا لا يعني استنادهم إلى هذه الأخبار في مقام الفتوى حتى يكون هذا الاستناد جابراً للضعف السندي، خصوصاً إذا لاحظنا أن فتاوى الفقهاء في ذلك مخصوصة في باب الصلاة، في باب الصلاة لهم فتاوى أن تعذر أحد الأجزاء لا يوجب سقوط الباقي؛ بل يبقى الباقي ويجب الإتيان بالباقي عند تعذر أحد الأجزاء، وهذا المطلب مسلّم في باب الصلاة؛ ولذا يخرج باب الصلاة عن محل الكلام، والسر في ذلك أن باب الصلاة فيه روايات خاصّة تدل على أن الصلاة لا تترك بحال وأمثالها روايات عديدة تدل على أن تعذر أحد أجزاء الصلاة لا يوجب سقوط وجوب الباقي؛ بل الباقي يجب حتى إذا تعذرت بعض الأجزاء، فالفتوى بوجوب الباقي في باب الصلاة هو الموجود في باب الصلاة، وهذا لا يُعلم أنهم استندوا في الفتوى إلى هذه الروايات لوجود أدلة خاصة في باب الصلاة تدل على وجوب الباقي، فصغرى الاستناد، وصغرى العمل بهذه الروايات ليس واضحاً.
السيد الخوئي(قدس سره) له كلام في هذا المقام، يقول: ليس واضحاً أن الأصحاب أفتوا بقاعدة الميسور في غير باب الصلاة. نعم، في باب الصلاة أفتوا، لكن قلنا هناك أدلة خاصة في باب الصلاة بهذا المضمون، والفتوى لا تكون دليلاً على استنادهم إلى هذه الأخبار حتى يكون هذا الاستناد جابراً للضعف السندي
على كل حال، الكلام يقع في الدلالة، والكلام طويل في دلالة هذه الأخبار على قاعدة الميسور. الكلام يقع في دلالة الرواية الأولى وهي الحديث النبوي(إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم).
الاستدلال بهذه الفقرة على قاعدة الميسور بأن يُدّعى بأن الذي يُفهم من هذه العبارة (إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم)، (من) للتبعيض، (ما) أسم موصول، وإذا كانت(ما) موصولة فتكون مفعول به لــلفعل (فأتوا)، و(من) تبعيضية متعلقةبـــ(استطعتم)، فيكون معنى العبارة(إذا أمرتكم بشيء فأتوا ما استطعتم منه) و(من) التي للتبعيض تكون قرينة على أن الشيء المأمور به مركب له أبعاض وأجزاء، يقول: إذا أمرتكم بمركب له أجزاء، فيجب عليكم الإتيان بالأجزاء التي تتمكنون منها، فأتوا ما استطعتم من هذا المركب، إذا تعذر جزء، فيجب عليكم الإتيان بالباقي. الاستدلال بالرواية مبني على هذا، كأنه يُفترض أن(من) تبعيضية وليست بيانية ولا بمعنى الباء، وإن(ما) أسم موصول، لا أنها ظرفية مصدرية ــــــــــــ كما سيأتي ـــــــــــ وأن المراد بالشيء هو الكل الذي له أجزاء لا الكلي الذي له أفراد، وكأن الرواية تقول: البعض الذي تستطيعون من هذا المركب يجب عليكم الإتيان به وإن تعذر عليكم غيره، فيُستدل بها في محل الكلام.
كان الكلام في هذه المحاولة للتخلص من الإشكال الأساسي في محل الكلام، وكان حاصلها أنّ الإشكال مبني على افتراض أن وجوب الباقي يحتاج إلى جعل وخطاب جديد غير الخطاب والجعل الذي يُجعل به وجوب المركب التام المجعول سابقاً والخطاب السابق يتضمّن جعل وجوب التام، وجوب الباقي يحتاج إلى خطابٍ جديد، ومن هنا ينشأ الإشكال بأنّ وجوب الباقي إذا شككنا فيه بعد تعذّر أحد الأجزاء يكون شكّاً في تكليفٍ جديدٍ وليس شكّاً في بقاء التكليف الموجود سابقاً، وإنما هو شكٌ في تكليفٍ جديدٍ، فإذا فرضنا فرضاً أن وجوب الباقي يكون بنفس الجعل السابق وبنفس الخطاب السابق، بمعنى أنّ الخطاب السابق يتضمّن أمرين، وجوب التام في حال التمكّن، ووجوب الناقص والباقي في حال العجز، هو بنفسه يتضمّن كلا الأمرين، إذا تمّ هذا وثبت بالدليل؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى الاستصحاب؛ بل يمكن إثبات وجوب الباقي بعد التعذّر بنفس الخطاب السابق، ويكون هذا دليلاً على وجوب الباقي. لكن عندما لا يكون هذا ثابتاً، وإنما محتملاً، لا نعلم أن الجعل في الخطاب السابق هل هو وارد على الأعم من التام والناقص حتى يكون التكليف بالباقي باقياً وثابتاً بعد التعذر ؟ أو أن الجعل فيه ثابت لخصوص التام تعييناً حتى لا يكون التكليف بالباقي باقياً وثابتاً؟ إذا شككنا في ذلك يقول: في هذه الحالة لا يرد الإشكال السابق؛ لأن الشك هو شك في بقاء نفس التكليف السابق على أحد التقديرين، وهذا كلام صحيح، الشك هو شك في بقاء ما كان سابقاً؛ لأن المفروض أن الجعل السابق يتضمّن وجوب الأقل عند التعذر، فإذا ترددنا وشككنا في كيفية جعل الوجوب السابق؛ حينئذٍ نحن نحتمل بقاء نفس ما كان ثابتاً أولاً؛ لأنّ ما ثبت أولاً إن كان يتضمّن فقط التكليف بالأكثر تعييناً، فلا بقاء لهذا التكليف. وأما إذا كان التكليف وارداً على الأعم، فيكون وجوب الأقل باقياً. فإذن: نحن نشك في بقاء نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين. وكأنه يريد أن يقول أنّ هذا يندفع به الإشكال، وإنما يرد عليه إشكال آخر كما سنبينه.
قبل أن نبيّن الإشكال الذي أورده عليه، نقول: هذا يمكن فرضه حتى بلا حاجة إلى هذا الكلام، يعني بنفس افتراض أن وجوب الأقل الثابت سابقاً إذا كان مشروطاً بالتمكن والاختيار، هذا أحد التقديرين السابقين، لا نعلم هل أنّ وجوب الأقل مطلق بلحاظ القدرة على الجزء العاشر، أو مقيّد بالتمكّن منه والقدرة عليه؟ على أحد التقديرين، وهو أن يكون مشروطاً بالقدرة على الجزء العاشر، على هذا التقدير وجوب الأقل يكون ثابتاً.
بعبارة أخرى: جزئية الجزء هل هي مطلقة، أو مشروطة بالتمكن ؟ على تقدير أن تكون جزئية الجزء مشروطة بالتمكن، إذن هي ثابتة في حال التمكن وتسقط في حال التعذر. ومعنى سقوط جزئية الجزء في حال التعذر أنّ الباقي يكون واجباً. يعني عندما نقول أنّ جزئية السورة من الصلاة مخصوصة بحال التمكن منها، والدليل يدل على ذلك، ويستفاد من الجعل السابق هذا المعنى، فلنفترض هذا، وهذا أحد الاحتمالين، أنّ جزئية الجزء ثابتة فقط في حال التمكن، يعني هذا ليس جزءً في حال التعذر، ومعنى أنه ليس جزءً هو أن الباقي يكون واجباً. إذن: نستطيع أن نقول أن وجوب الباقي هو نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين. كيف يقول هنا في المقام بأنّ ما ثبت وجوب الباقي بعد تعذر أحد الأجزاء هو عين ما ثبت سابقاً على أحد التقديرين الذي فرض أنه تقدير أن يكون وجوباً متعلقاً بالأعم من التام والناقص، على هذا التقدير وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس ما ثبت أولاً، فيكون الشك شكاً في البقاء. نفس هذا الكلام نستطيع أن نقوله من دون هذا الكلام الذي ذكره؛ لأننا اساساً ــــــــــ كما قلنا سابقاً ــــــــــ نحتمل الإطلاق ونحتمل التقييد، نحتمل أن جزئية الجزء جزئية مطلقة ثابتة حتى في حال التعذر الذي يؤدي إلى سقوط الواجب بتمامه، ولا يبقى حتى وجوب الباقي، ونحتمل أن جزئية الجزء مخصوصة بحال التمكن، وأما في حال التعذر فتسقط جزئيته، لا يكون جزءً من المركب، فيكون المركب هو الباقي، معناه أن المركب في حال التعذر يتألف من تسعة أجزاء، وفي حال التمكن من السورة يتألف من عشرة أجزاء، لكن في حال تعذر السورة يتألف من تسعة أجزاء. إذن: وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس ما ثبت أولاً على أحد التقديرين، فالشك يكون شكاً في البقاء. فإذن: هذا الشيء الذي فرضه هو مطروح سابقاً، غاية الأمر أننا لم نقتنع به، لكنه هو بنفسه مطروح سابقاً؛ بل هو مطروح لحل هذا الإشكال، وأنّ الشك في المقام يكون شكاً في البقاء وليس شكاً في تكليفٍ جديد.
على كل حال، هذا الذي ذُكر يرد عليه ما تقدم سابقاً، وهو أنه في المقام أن الوجوب المستصحب أيضاً يكون مردداً بين تقديرين، وكيفية جعل الوجوب يكون مردداً بين احتمالين، احتمال أن يكون الجعل وارداً على خصوص المركب التام تعييناً، واحتمال آخر أن يكون الجعل وارداً على الأعم من التام والناقص، هذان احتمالان في الجعل الذي كان ثابتاً سابقاً بلا إشكال، هذا محتمل وهذا محتمل أيضاً، على أحد الاحتمالين يكون وجوب الباقي بعد التعذر هو نفس الثابت سابقاً، وعلى التقدير الآخر يكون غيره، يكون وجوباً آخراً وتكليفاً جديداً. إذن: بالنتيجة، التكليف بالأقل بعد التعذر هو نفس التكليف السابق، وباقٍ حتماً على أحد التقديرين، وهو منتفٍ حتماً على التقدير الآخر، إذا كان الجعل ثابتاً سابقاً للأعم فوجوب الأقل بعد التعذر هو نفس الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً، وهو باقٍ قطعاً، إذا كان الجعل ثابتاً للتام فقط تعييناً، فوجوب الباقي بعد التعذر يكون تكليفاً جديداً وخطاباً جديداً وهو ليس ما ثبت سابقاً.
إذن: على أحد التقديرين وجوب الباقي يكون ثابتاً قطعاً، وعلى التقدير الآخر يكون وجوب الباقي منتفٍ قطعاً، فيأتي الكلام السابق فيه، وهو أنّ المستصحب يدور أمره بين تقديرين، على أحد التقديرين يكون المستصحب منتفٍ قطعاً، وعلى التقدير الآخر يكون المستصحب باقٍ قطعاً، فيدور أمره بين ما هو منتفٍ قطعاً وبين ما هو باقٍ قطعاً. أي بين ما هو معلوم الانتفاء وبين ما هو معلوم البقاء. قلنا في هذه الحالة لا يمكن إجراء الاستصحاب في المستصحب على أحد التقديرين؛ لأنه إمّا معلوم البقاء على أحد التقديرين، وإما معلوم الانتفاء، فلابدّ أن يتجه الاستصحاب إلى الكلّي الأعم من التقديرين، إذا توجّه الاستصحاب إلى الأعم من التقديرين يأتي عليه الإشكال السابق، وهو أنه إذا كان الغرض من ذلك هو إثبات الجامع، فتقدم بأنّ هذا الجامع لا يجري فيه الاستصحاب لعدم كونه قابلاً للتنجيز؛ لأنه جامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز، على أحد التقديرين يقبل التنجيز عندما نفترض أنّ الجعل تعلّق بالأعم، أمّا إذا كان الجعل متعلقاً بخصوص المركب التام تعييناً؛ فحينئذٍ هذا لا يقبل التنجيز، وفي هذه الحالة حينئذٍ لا يمكن أن يجري الاستصحاب لإثبات الجامع. وأما إذا كان المقصود من إجراء الاستصحاب في الكلي هو إثبات أحد التقديرين، فهذا يكون أصلاً مثبتاً. هذا تمام الكلام في الاستصحاب.
من هنا يظهر أنّ الوجوه التي ذُكرت لإجراء الاستصحاب غير ناهضة لإثبات وجوب الباقي بعد تعذر أحد الأجزاء، فلا يجري الاستصحاب؛ بل أكثر من هذا يمكن إجراء الاستصحاب بشكلٍ ينتج عكس النتيجة، أي يثبت عدم وجوب الباقي بعد التعذر، باعتبار أننا نعلم سابقاً بعدم كون الأقل مطلوباً، أي أنّ مطلوبية الأقل على نحو الاستقلال مما نعلم بعدمه سابقاً، فالأقل ليس مطلوبا على نحو الاستقلال سابقاً في حال التمكن من جميع الأجزاء، وإلا لو كان الأقل مطلوباً لكانت جزئية الجزء لغواً. إذن: نحن نعلم سابقاً عندما كان المكلف متمكناً من جميع الأجزاء نعلم بعدم مطلوبية الأقل ــــــــــ التسعة الأجزاء ــــــــــ على نحو الاستقلال، وبعد تعذر أحد الأجزاء نشك في أنّ عدم المطلوبية هذه هل تبدّلت بالمطلوبية ؟ هل صارت التسعة أجزاء مطلوبة على نحو الاستقلال بعد تعذر الجزء العاشر، أو لا ؟ نستصحب عدم المطلوبية التي كانت ثابتة سابقاً؛ إذ لا إشكال في أنّ الأقل لم يكن مطلوباً على نحو الاستقلال، حتماً في حال التمكن من الجزء العاشر الأقل ليس مطلوباً على نحو الاستقلال، وهذا ينتج عدم وجوب التسعة بعد تعذر الجزء العاشر؛ لأننا قلنا أنّ المقصود إثبات الوجوب الاستقلالي للتسعة بعد تعذر الجزء العاشر، وهذا مما يُعلم عدمه سابقاً، فيجري الاستصحاب. غاية الأمر أنّ هذا الاستصحاب يتوقف على عدم تمامية الوجوه المتقدمة لإثبات الاستصحاب الذي يثبت به وجوب الباقي بعد التعذر، إذا لم تتم الوجوه السابقة كما هو المفروض؛ حينئذ يمكن أن يقال أنّ الاستصحاب يقتضي العكس، أي عدم الوجوب الاستقلالي للأقل بعد تعذر الجزء العاشر.
((قاعدة الميسور))
الأمر الثاني: الذي استُدل به لإثبات وجوب الجزء العاشر هو قاعدة الميسور: استُدل بهذه القاعدة على وجوب الباقي بعد تعذر الجزء أو الشرط أو القيد، اي شيء كان، وادُعي أنّ هذه القاعدة مستفادة من أخبار، والأخبار التي ادُعي استفادة القاعدة منها ثلاثة:
الرواية الأولى: الرواية النبوية المروية في طرق العامة عن أبي هريرة، الرواية معروفة ويذكرها الشيخ وغيره، يقول في الرواية:
(خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجّوا، فقال رجل ــــــــــ في بعض النسخ قام إليه عكاشة وسراقة بين مالك ــــــــــــ أو كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم ــــــــــ وفي بعض النسخ" لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ــــــــــ ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)[1] [2]
محل الشاهد: العبارة(فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم).
الرواية الثانية: مرسلة صاحب(عوالي اللئالي)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ومضمونها(الميسور لا يسقط بالمعسور)، أو في بعض النسخ(لا يُترك الميسور بالمعسور).[3]
الرواية الثالثة: مرسلة أخرى يرويها أيضاً صاحب(عوالي اللئالي) عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، بمضمون(ما لا يُدرك كله لا يُترك كله).[4]
هذه هي الأخبار التي قيل أنه يُستفاد منها قاعدة عُبّر عنها بــ (قاعدة الميسور) ومفادها أن المركب من أجزاء عديدة بتعذر بعض أجزائه لا يسقط الباقي، وإنما يجب الإتيان به، هذا مضمون القاعدة، فيُستدل بها في محل الكلام على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأجزاء.
هذه الروايات كما هو واضح، سنداً ليست تامة، الرواية الأولى رواية عامّية لم تروَ من طرقنا أصلاً؛ بل هي من طرق العامّة وراويها ابو هريرة. الروايتين الثانية والثالثة مرسلتان لصاحب(عوالي اللئالي)، ومن حيث السند حالهن واضح. نعم، المحقق النائيني، وكذا المحقق العراقي(قدس سرهما) قالا بأنّ اشتهار هذه الأخبار بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها، والظاهر أنهم يبنون على تمامية سند هذه الروايات باعتبار اشتهارها بين الأصحاب.
هذه الدعوى في الحقيقة ليست واضحة، لا كبرى ولا صغرى. أما كبرى؛ فلأنه غير معروف أن اشتهار الرواية بين الأصحاب يكون جابراً لضعفها السندي، مسألة العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام العمل هو الذي فيه كلام، وأنه يجبر الضعف السندي، أو لا ؟ أما نفس اشتهار الرواية بين الأصحاب، فغير واضح أنه يجبر ضعفها السندي، يعني غير معروف أن اشتهار الرواية يجبر الضعف السندي، وإنما عمل الرواية واستناد المشهور في الفتوى إلى رواية هو الذي وقع الكلام فيه أنه جابر لضعفها السندي أو لا ؟ أما مجرّد اشتهار الرواية بين الأصحاب ـــــــــــ كما هو ظاهر عبارتهم ــــــــــ من دون فرض العمل بها والاستناد إليها في مقام العمل، هذا لا يجبر الضعف السندي. هذا من ناحية كبروية.
وأما من ناحية صغروية، فلا نعلم كيف يمكن تحصيل الاشتهار. نعم، هذه الروايات ذُكرت في كلام المتأخرين، وإلا الرواية الأولى أصلاً ليست مروية من طرقنا ولا موجودة في كتبنا الحديثية، والروايتين الثانية والثالثة أيضاً ليست موجودة في كتبنا الحديثية، وحتى الكتب الحديثية التي ليست بتلك الدرجة من الاعتبار كالكتب الأربعة، أيضاً ليست مذكورة فيها، لا في المحاسن ولا مسائل علي بن جعفر، أو قرب الأسناد، وإنما فقط مذكورة في(عوالي اللئالي)، وهذا كتاب حسب تعبير الشيخ الأنصاري(قدس سره) طعن فيه من ليس دأبه الطعن في كتب الأصحاب. فبالنسبة لشهرة الرواية، ما هو المقصود بالشهرة ؟ هل تعني الشهرة بين المتأخرين؟ فرضاً هل العلامة(قدس سره) ذكر هذا المضمون ؟ أو أنّ المتأخرين ذكروا هذا المضمون ؟ هذه ليست هي الشهرة المقصودة، وإنما الشهرة شهرة تدوين الرواية في الكتب الحديثية الأساسية، بينما هذه الروايات لم تُذكر هكذا وليس لها هذا الشأن، فصغروياً المسألة غير واضحة. نعم، يمكن أن يُفسّر كلامهما بأن المقصود هو العمل والاستناد إلى هذه الروايات في مقام الفتوى، اشتهار الرواية بين الأصحاب يعني اشتهار استنادهم إلى هذه الروايات في مقام الفتوى، اشتهار العمل بين الأصحاب بهذه الروايات؛ حينئذٍ يكون جابراً لضعف السند، لكن إذا تمت هذا الدعوى كبرى وصغرى، أما كبروياً فقد تبين أنها محل كلام، أنّ العمل يجبر ضعف السند، أو لا ؟ بقطع النظر عن الكبرى، صغروياً أيضاً المسألة غير واضحة، لم يُعلم أن الأصحاب استندوا إلى هذه الروايات في مقام الفتوى وفي مقام العمل، هذا غير واضح أصلاً، باعتبار أن مجرد أنهم أفتوا على ما يوافق مضمون هذه الأخبار هذا لا يعني استنادهم إلى هذه الأخبار في مقام الفتوى حتى يكون هذا الاستناد جابراً للضعف السندي، خصوصاً إذا لاحظنا أن فتاوى الفقهاء في ذلك مخصوصة في باب الصلاة، في باب الصلاة لهم فتاوى أن تعذر أحد الأجزاء لا يوجب سقوط الباقي؛ بل يبقى الباقي ويجب الإتيان بالباقي عند تعذر أحد الأجزاء، وهذا المطلب مسلّم في باب الصلاة؛ ولذا يخرج باب الصلاة عن محل الكلام، والسر في ذلك أن باب الصلاة فيه روايات خاصّة تدل على أن الصلاة لا تترك بحال وأمثالها روايات عديدة تدل على أن تعذر أحد أجزاء الصلاة لا يوجب سقوط وجوب الباقي؛ بل الباقي يجب حتى إذا تعذرت بعض الأجزاء، فالفتوى بوجوب الباقي في باب الصلاة هو الموجود في باب الصلاة، وهذا لا يُعلم أنهم استندوا في الفتوى إلى هذه الروايات لوجود أدلة خاصة في باب الصلاة تدل على وجوب الباقي، فصغرى الاستناد، وصغرى العمل بهذه الروايات ليس واضحاً.
السيد الخوئي(قدس سره) له كلام في هذا المقام، يقول: ليس واضحاً أن الأصحاب أفتوا بقاعدة الميسور في غير باب الصلاة. نعم، في باب الصلاة أفتوا، لكن قلنا هناك أدلة خاصة في باب الصلاة بهذا المضمون، والفتوى لا تكون دليلاً على استنادهم إلى هذه الأخبار حتى يكون هذا الاستناد جابراً للضعف السندي
على كل حال، الكلام يقع في الدلالة، والكلام طويل في دلالة هذه الأخبار على قاعدة الميسور. الكلام يقع في دلالة الرواية الأولى وهي الحديث النبوي(إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم).
الاستدلال بهذه الفقرة على قاعدة الميسور بأن يُدّعى بأن الذي يُفهم من هذه العبارة (إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم)، (من) للتبعيض، (ما) أسم موصول، وإذا كانت(ما) موصولة فتكون مفعول به لــلفعل (فأتوا)، و(من) تبعيضية متعلقةبـــ(استطعتم)، فيكون معنى العبارة(إذا أمرتكم بشيء فأتوا ما استطعتم منه) و(من) التي للتبعيض تكون قرينة على أن الشيء المأمور به مركب له أبعاض وأجزاء، يقول: إذا أمرتكم بمركب له أجزاء، فيجب عليكم الإتيان بالأجزاء التي تتمكنون منها، فأتوا ما استطعتم من هذا المركب، إذا تعذر جزء، فيجب عليكم الإتيان بالباقي. الاستدلال بالرواية مبني على هذا، كأنه يُفترض أن(من) تبعيضية وليست بيانية ولا بمعنى الباء، وإن(ما) أسم موصول، لا أنها ظرفية مصدرية ــــــــــــ كما سيأتي ـــــــــــ وأن المراد بالشيء هو الكل الذي له أجزاء لا الكلي الذي له أفراد، وكأن الرواية تقول: البعض الذي تستطيعون من هذا المركب يجب عليكم الإتيان به وإن تعذر عليكم غيره، فيُستدل بها في محل الكلام.