37/03/22
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
كان الكلام في الانحلال الحقيقي: قلنا أنّ الملاحظة على الانحلال الحقيقي في المقام ــــــ سواء كان بالتقريب الأوّل أو بالتقريب الثاني ــــــــ هي أنّ الانحلال الحقيقي مشروط بعدم تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، وهذا الشرط غير متوفّر في محل الكلام.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) ذكر أنّ الانحلال الحكمي لا يتحقق في المقام، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر هذا كإشكال على المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وذكر بأنّه يمكن أن نصير إلى الانحلال الحكمي؛ لأنّ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّه لا معنى لجريان الأصل في مورد العلم التفصيلي، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. هذه كفكرة كلّية صحيحة، لكن لا يمكن تطبيقها في محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام العلم التفصيلي متأخر عن العلم الإجمالي، ومع التأخر لا يمكن أن نلتزم بالانحلال الحكمي وإمكان إجراء الأصل في الطرف الآخر، وهذا نظير ما تقدّم في مسائل سابقة في بحث الاضطرار وفي بحث الخروج عن محل الابتلاء، هناك كنّا نقول أنّ المنجّز المتأخّر زماناً عن العلم الإجمالي لا يوجب الانحلال الحكمي، يعني لا يُسوّغ لنا إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر تنجّز في فترة سابقة، قبل حصول هذا المنجّز تنجّز كلا الطرفين، هذا الطرف على امتداده، والطرف الآخر في فترة زمنية قبل حصول هذا المنجّز، وإلاّ القضية سهلة؛ إذ يستطيع المكلّف التخلص من العلم الإجمالي بإراقة الماء في أحد الطرفين، أو بتطهير أحد الطرفين فيما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الطرفين؛ وحينئذٍ لا يجري فيه الأصل، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، هذا لا ينفع؛ لأنّ المنجّز حصل بعد حصول العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي نجّز هذا الطرف طيلة الفترة الزمنية، فهو يمنع من إجراء الأصل فيه كذلك.
على ضوء ما ذكرنا سابقاً من أنّ الصحيح في المقام هو بناءً على أنّ الانحلال في المقام انحلال حقيقي وليس انحلالاً حكمياً، وأنّ الانحلال الحقيقي لا يُشترط فيه تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، متى ما تحققت مقوّمات الانحلال الحقيقي، فلا يُشترط فيه المعاصرة؛ بل حتى لو كان العلم التفصيلي متأخراً، إذا آمنّا بالانحلال الحقيقي، فهو يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الانحلال الحكمي. يتلخّص مما تقدّم أنّ هذا الاعتراض على الوجه الأوّل. نستذكر البحث الذي تقدّم، كلامنا في وجوب الفحص، هل يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، أو لا ؟ استُدل على وجوب الفحص بوجوه: الوجه الأوّل كان هو أنّ العلم الإجمالي يمنع من الرجوع إلى البراءة قبل الفحص. الاعتراض الأوّل على هذا الوجه، هو الاعتراض الذي ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ بل أشار إليه الشيخ(قدّس سرّه) في الرسائل، وهو إذا كان الموجب للفحص هو العلم الإجمالي، فلازم ذلك عدم وجوب الفحص بعد انحلال العلم الإجمالي، بالعلم التفصيلي الذي يكون بالفحص والعثور على جملة من الأحكام لا تقل عن المعلوم بالإجمال، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي، فإذا انحل العلم الإجمالي بالعثور على مقدار من الأحكام الواقعية بعد مراجعة الكتب الواصلة إلينا، في ما يأتي من الشبهات ينبغي أن نلتزم بجواز التمسّك بالبراءة فيها قبل الفحص؛ لأنّ الموجب للفحص هو العلم الإجمالي، وقد انحل بالعلم التفصيلي الحاصل نتيجة الفحص والعثور على جملة من الأحكام الشرعية الإلزامية التي لا تقل عن المعلوم بالإجمال، فينبغي أن نلتزم بأنّ المجتهد يفحص بمقدار إلى أن يعثر على مقدار لا يقل عن المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية في باقي الشبهات التي تطرأ يجوز له أن يتمسك بالبراءة قبل الفحص، بينما هم لا يلتزمون بهذا؛ لأنّهم يقولون بوجوب الفحص في جميع الشبهات.
ومن الواضح أنّ كلاً من الشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية (قدّس سرّهما) يبنيان على انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي في محل الكلام، يعني يرون أنّ العلم الإجمالي في محل كلامنا ينحل بالعلم التفصيلي؛ ولذا اعترضوا بهذا الاعتراض.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) بشكل عام يوافق على هذا، وليس لديه مشكلة في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، غاية الأمر أنّه في خصوص المقام يدّعي وجود خصوصية، ويقول: أنّ هذه الخصوصية تمنع من الانحلال، والخصوصية التي ذكرها هي ما تقدّم من أنّ المعلوم بالإجمال في محل الكلام مُعلّم بعلامةٍ خاصة، والمعلوم بالإجمال إذا كان مُعلّم بعلامةٍ خاصّة لا ينحل بالعلم التفصيلي، وإنما يبقى على حاله؛ ولذا أجاب عن الاعتراض بهذا كما تقدّم توضيح ذلك. إذن: المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً بشكل عام ليست لديه مشكلة في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.
جواب ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو ليس واضحاً أنّ ما نحن فيه هو من قبيل المعلوم بالإجمال الذي يكون مُعلّماً بعلامةٍ خاصّة على تقدير أن نسلّم أنّ ما يكون كذلك لا ينحل فيه العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لو سلّمنا هذه الكبرى، فتطبيقها في المقام غير واضح، المعلوم بالإجمال في محل كلامنا ليس مُعلّماً بعلامةٍ خاصّة؛ لأنّه ذكر في تقرير بحثه[1] أنّ المعلوم بالإجمال في محل كلامنا هو عبارة عن الأحكام الإلزامية الموجودة في الكتب التي بأيدينا، وهذا المعلوم بالإجمال ليس من قبيل المعلوم بالإجمال ذي العلامة الخاصة التي ذكر في البحث السابق أنّه يكون موجباً لعدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي فيه، هذا بالضبط من قبيل أن اعلم أنّ عدداً من الشياه موطوء إنسان في هذا القطيع، هل معنى ذلك أنّ المعلوم بالإجمال مُعلّم بعلامةٍ خاصة ؟ فالقطيع هو ظرف للمعلوم بالإجمال، إذا كان المعلوم بالإجمال هو هذا ولم نفسره بتفسيرات أخرى، هذا المعلوم بالإجمال ليس مُعلّماً بعلامةٍ خاصة، هو عبارة عن العلم بوجود أحكام إلزامية، لكن هذه الأحكام الإلزامية موجودة في الكتب الواصلة إلينا، كما أعلم بوجود محرّمات في هذا القطيع، أعلم بوجود إناء نجس ضمن هذه الآنية، هل هذه الآنية تكون علامة خاصة في المعلوم بالإجمال بحيث يترتب عليه ما ذكره سابقاً ؟ الظاهر أنّ ما نحن فيه حتى لو تمّ ما ذكره من الكبرى من أنّ المعلوم بالإجمال إذا كان مُعلّماً بعلامة خاصة، فمثل هذا العلم الإجمالي لا ينحل بالعلم التفصيلي المتأخر عنه، لو تمّ هذا، فتطبيقه في محل الكلام ليس واضحاً؛ بل تقدم سابقاً أنّ الصحيح في المقام هو الانحلال الحقيقي، يعني حتى إذا تنزّلنا وأمكن تطبيق ما ذكره في محل الكلام، وسلّمنا أنّ المعلوم بالإجمال في محل الكلام مُعلّم بعلامةٍ خاصة، فالظاهر أنّ الانحلال الحقيقي متحقق في محل الكلام، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً بأنّ ما نعلمه تفصيلاً أيضاً مُعلم بهذه العلامة، ما نعلمه تفصيلاً هو عبارة عن أحكام إلزامية واقعية في ما وصل إلينا من الكتب، وتقدّم سابقاً أنّه كل ما كان متعلّق العلمين ــــــــ التفصيلي والإجمالي ـــــــ عنواناً واحداً مع احتمال تطابقهما بأن لا يكون هناك ما يمنع من انطباق العنوان المعلوم بالإجمال على العنوان المعلوم بالتفصيل، هذا يستوجب الانحلال الحقيقي، ولا نشترط في الانحلال الحقيقي ما قاله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه لابدّ أن يكون ما نعلمه تفصيلاً هو نفس ما نعلمه إجمالاً، هذا ليس شرطاً في الانحلال الحقيقي؛ بل يكفي أن يكون متعلّق العلمين عنواناً واحداً مع احتمال التطابق، هذا يكفي لأن لا يكون عند المكلّف علم إلا العلم التفصيلي، في ما زاد على ذلك لا يوجد عنده علم، يوجد عنده احتمال فقط، وهذا معناه الانحلال الحقيقي، وقلنا بأنّ الكثير من المحققين ذهبوا إلى الانحلال الحقيقي في مثل ذلك، وبناءً على هذا حينئذٍ المكلّف لا يوجد لديه علم بوجود أحكام إلزامية أزيد ممّا علمه تفصيلاً، نعم، عنده احتمال بوجود أحكام إلزامية في ما زاد على ما علمه تفصيلاً، ولعلّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) وافق على هذا المقدار أيضاً، يعني يقول: أنّ المكلّف لا يوجد عنده علم في ما زاد على ما علمه تفصيلاً، وإنّما هناك احتمال، غاية الأمر أنّه يقول: أنّ هذه الأفراد التي يُحتمل أن يشملها العنوان المعلوم بالإجمال، هو يدّعي أنّ لها منجّز وهو الذي تقدّم سابقاً من أنّه يرى أنّ العلم الإجمالي إذا كان معنوناً بعنوان خاص هو في واقعه يشتمل على مرتبتين طوليتين، العلم بوجود أحكام واقعية، أي العلم بوجود شياه محرّمة بيض موطوءة إنسان، يقول: في مرتبة هذا العلم لا يوجد شك ولا تردد، وإنّما يكون الشك والتردد والدوران بين الأقل والأكثر في مرتبة متأخرة عنه وفي طوله؛ لأنّ المكلّف يشك في أنّ المحرّمات البيض التي يعلمها والتي تنجّزت عليه ما هو مقدارها ؟ يتردد الأمر بين الأقل والأكثر في مقدار ما علم بحرمته وتنجّز عليه وهي الشياه البيض، لكن هذا التردد في مرحلة متأخرة عن مرحلة العلم. إذن: العلم حينما حصل في مرتبته لا يوجد شك ولا تردد، فهو ينجّز معلومه الواقعي، ويدخله في العهدة، إذا أدخله في العهدة؛ حينئذٍ يجب على المكلّف أن يخرج من عهدة هذا التكليف، ولا يكون ذلك إلاّ بالاحتياط في كل ما يحتمل كونه فرداً من أفراد ذلك العنوان؛ لأنّه إذا اقتصر على خصوص الأفراد المعلومة لذلك العنوان، هذا معناه أنّه لم يحتط ولم يخرج من عهدة التكليف، فإذن: لابدّ أن يحتاط في كل فردٍ يحتمل كونه من أفراد ذلك العنوان؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
الذي يمكن أن يقال في قِبال هذا الكلام هو أنّ هذا الذي ذكره أيضاً تطبيقه في محل الكلام غير واضح، قد يصح في مثال الغنم البيض، لكن في محل الكلام الظاهر أنّ ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن أحكام إلزامية في هذه الكتب مرددة بين الأقل والأكثر، مسألة افتراض مرتبتين طوليتين في نفس العلم الإجمالي، في المرتبة الأولى لا يوجد تردد ولا دوران بين الأقل والأكثر، وإنّما يكون التردد والدوران بين الأقل والأكثر في مرتبة متأخرة عن هذا، هذا ليس واضحاً ويمكن أن يقال في محل الكلام أنّ ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن أحكام إلزامية في الكتب الواصلة إلينا مرددة بين الأقل والأكثر لا أنّ هناك علم نجّز هذه الأحكام الواقعية، فتنجّزت على واقعيتها، ثم حصل دوران أمر بين الأقل والأكثر. هذا في مثال الغنم يمكن تصوّره بالفرض، بأن يقول المكلّف يعلم بوجود غنم بيض موطوءة إنسان في ضمن هذا القطيع، وعلمه ليس فيه شك ولا تردد ولا دوران، ثمّ ما علم به وتنجّز عليه بالعلم يدور مقداره بين الأقل والأكثر، أمّا في محل الكلام، فتصوّره لا يخلو من صعوبة، في محل الكلام ما يعلمه المكلف هو عبارة عن أحكام إلزامية موجودة في الكتب الواصلة إلينا مرددة بين الأقل والأكثر. هذا العلم الإجمالي الذي يكون معلومه مردداً بين الأقل والأكثر يجب فيه الاحتياط قبل حصول العلم التفصيلي؛ لأنّه من قبيل ما إذا علم الإنسان بوجود إناء نجس في ضمن هذه الآنية ودار أمره بين أن يكون إناءً واحداً أو إناءين، فهذا أيضاً دوران بين الأقل والأكثر، وهو يوجب الاحتياط في جميع أطراف الشبهة، لكن بعد حصول العلم التفصيلي بأنّ هذا الإناء نجس ينحل العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ يجوز الرجوع إلى البراءة في باقي الأفراد، وما نحن فيه من هذا القبيل، لدينا علم إجمالي بوجود أحكام واقعية في الكتب المعتبرة مرددة بين الأقل والأكثر، وهذا العلم الإجمالي يُلزم المكلّف بالاحتياط وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في جميع الشبهات ما دام لم يحصل العلم التفصيلي، فإذا حصل العلم التفصيلي؛ حينئذٍ ينحل العلم الإجمالي ولا يبقى علم إجمالي ويصح حينئذٍ الاعتراض الذي ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه) وأشار إليه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه).
كان الكلام في الانحلال الحقيقي: قلنا أنّ الملاحظة على الانحلال الحقيقي في المقام ــــــ سواء كان بالتقريب الأوّل أو بالتقريب الثاني ــــــــ هي أنّ الانحلال الحقيقي مشروط بعدم تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، وهذا الشرط غير متوفّر في محل الكلام.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) ذكر أنّ الانحلال الحكمي لا يتحقق في المقام، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر هذا كإشكال على المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وذكر بأنّه يمكن أن نصير إلى الانحلال الحكمي؛ لأنّ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّه لا معنى لجريان الأصل في مورد العلم التفصيلي، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. هذه كفكرة كلّية صحيحة، لكن لا يمكن تطبيقها في محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام العلم التفصيلي متأخر عن العلم الإجمالي، ومع التأخر لا يمكن أن نلتزم بالانحلال الحكمي وإمكان إجراء الأصل في الطرف الآخر، وهذا نظير ما تقدّم في مسائل سابقة في بحث الاضطرار وفي بحث الخروج عن محل الابتلاء، هناك كنّا نقول أنّ المنجّز المتأخّر زماناً عن العلم الإجمالي لا يوجب الانحلال الحكمي، يعني لا يُسوّغ لنا إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر تنجّز في فترة سابقة، قبل حصول هذا المنجّز تنجّز كلا الطرفين، هذا الطرف على امتداده، والطرف الآخر في فترة زمنية قبل حصول هذا المنجّز، وإلاّ القضية سهلة؛ إذ يستطيع المكلّف التخلص من العلم الإجمالي بإراقة الماء في أحد الطرفين، أو بتطهير أحد الطرفين فيما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الطرفين؛ وحينئذٍ لا يجري فيه الأصل، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، هذا لا ينفع؛ لأنّ المنجّز حصل بعد حصول العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي نجّز هذا الطرف طيلة الفترة الزمنية، فهو يمنع من إجراء الأصل فيه كذلك.
على ضوء ما ذكرنا سابقاً من أنّ الصحيح في المقام هو بناءً على أنّ الانحلال في المقام انحلال حقيقي وليس انحلالاً حكمياً، وأنّ الانحلال الحقيقي لا يُشترط فيه تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، متى ما تحققت مقوّمات الانحلال الحقيقي، فلا يُشترط فيه المعاصرة؛ بل حتى لو كان العلم التفصيلي متأخراً، إذا آمنّا بالانحلال الحقيقي، فهو يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الانحلال الحكمي. يتلخّص مما تقدّم أنّ هذا الاعتراض على الوجه الأوّل. نستذكر البحث الذي تقدّم، كلامنا في وجوب الفحص، هل يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، أو لا ؟ استُدل على وجوب الفحص بوجوه: الوجه الأوّل كان هو أنّ العلم الإجمالي يمنع من الرجوع إلى البراءة قبل الفحص. الاعتراض الأوّل على هذا الوجه، هو الاعتراض الذي ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ بل أشار إليه الشيخ(قدّس سرّه) في الرسائل، وهو إذا كان الموجب للفحص هو العلم الإجمالي، فلازم ذلك عدم وجوب الفحص بعد انحلال العلم الإجمالي، بالعلم التفصيلي الذي يكون بالفحص والعثور على جملة من الأحكام لا تقل عن المعلوم بالإجمال، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي، فإذا انحل العلم الإجمالي بالعثور على مقدار من الأحكام الواقعية بعد مراجعة الكتب الواصلة إلينا، في ما يأتي من الشبهات ينبغي أن نلتزم بجواز التمسّك بالبراءة فيها قبل الفحص؛ لأنّ الموجب للفحص هو العلم الإجمالي، وقد انحل بالعلم التفصيلي الحاصل نتيجة الفحص والعثور على جملة من الأحكام الشرعية الإلزامية التي لا تقل عن المعلوم بالإجمال، فينبغي أن نلتزم بأنّ المجتهد يفحص بمقدار إلى أن يعثر على مقدار لا يقل عن المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية في باقي الشبهات التي تطرأ يجوز له أن يتمسك بالبراءة قبل الفحص، بينما هم لا يلتزمون بهذا؛ لأنّهم يقولون بوجوب الفحص في جميع الشبهات.
ومن الواضح أنّ كلاً من الشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية (قدّس سرّهما) يبنيان على انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي في محل الكلام، يعني يرون أنّ العلم الإجمالي في محل كلامنا ينحل بالعلم التفصيلي؛ ولذا اعترضوا بهذا الاعتراض.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) بشكل عام يوافق على هذا، وليس لديه مشكلة في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، غاية الأمر أنّه في خصوص المقام يدّعي وجود خصوصية، ويقول: أنّ هذه الخصوصية تمنع من الانحلال، والخصوصية التي ذكرها هي ما تقدّم من أنّ المعلوم بالإجمال في محل الكلام مُعلّم بعلامةٍ خاصة، والمعلوم بالإجمال إذا كان مُعلّم بعلامةٍ خاصّة لا ينحل بالعلم التفصيلي، وإنما يبقى على حاله؛ ولذا أجاب عن الاعتراض بهذا كما تقدّم توضيح ذلك. إذن: المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً بشكل عام ليست لديه مشكلة في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.
جواب ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو ليس واضحاً أنّ ما نحن فيه هو من قبيل المعلوم بالإجمال الذي يكون مُعلّماً بعلامةٍ خاصّة على تقدير أن نسلّم أنّ ما يكون كذلك لا ينحل فيه العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لو سلّمنا هذه الكبرى، فتطبيقها في المقام غير واضح، المعلوم بالإجمال في محل كلامنا ليس مُعلّماً بعلامةٍ خاصّة؛ لأنّه ذكر في تقرير بحثه[1] أنّ المعلوم بالإجمال في محل كلامنا هو عبارة عن الأحكام الإلزامية الموجودة في الكتب التي بأيدينا، وهذا المعلوم بالإجمال ليس من قبيل المعلوم بالإجمال ذي العلامة الخاصة التي ذكر في البحث السابق أنّه يكون موجباً لعدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي فيه، هذا بالضبط من قبيل أن اعلم أنّ عدداً من الشياه موطوء إنسان في هذا القطيع، هل معنى ذلك أنّ المعلوم بالإجمال مُعلّم بعلامةٍ خاصة ؟ فالقطيع هو ظرف للمعلوم بالإجمال، إذا كان المعلوم بالإجمال هو هذا ولم نفسره بتفسيرات أخرى، هذا المعلوم بالإجمال ليس مُعلّماً بعلامةٍ خاصة، هو عبارة عن العلم بوجود أحكام إلزامية، لكن هذه الأحكام الإلزامية موجودة في الكتب الواصلة إلينا، كما أعلم بوجود محرّمات في هذا القطيع، أعلم بوجود إناء نجس ضمن هذه الآنية، هل هذه الآنية تكون علامة خاصة في المعلوم بالإجمال بحيث يترتب عليه ما ذكره سابقاً ؟ الظاهر أنّ ما نحن فيه حتى لو تمّ ما ذكره من الكبرى من أنّ المعلوم بالإجمال إذا كان مُعلّماً بعلامة خاصة، فمثل هذا العلم الإجمالي لا ينحل بالعلم التفصيلي المتأخر عنه، لو تمّ هذا، فتطبيقه في محل الكلام ليس واضحاً؛ بل تقدم سابقاً أنّ الصحيح في المقام هو الانحلال الحقيقي، يعني حتى إذا تنزّلنا وأمكن تطبيق ما ذكره في محل الكلام، وسلّمنا أنّ المعلوم بالإجمال في محل الكلام مُعلّم بعلامةٍ خاصة، فالظاهر أنّ الانحلال الحقيقي متحقق في محل الكلام، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً بأنّ ما نعلمه تفصيلاً أيضاً مُعلم بهذه العلامة، ما نعلمه تفصيلاً هو عبارة عن أحكام إلزامية واقعية في ما وصل إلينا من الكتب، وتقدّم سابقاً أنّه كل ما كان متعلّق العلمين ــــــــ التفصيلي والإجمالي ـــــــ عنواناً واحداً مع احتمال تطابقهما بأن لا يكون هناك ما يمنع من انطباق العنوان المعلوم بالإجمال على العنوان المعلوم بالتفصيل، هذا يستوجب الانحلال الحقيقي، ولا نشترط في الانحلال الحقيقي ما قاله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه لابدّ أن يكون ما نعلمه تفصيلاً هو نفس ما نعلمه إجمالاً، هذا ليس شرطاً في الانحلال الحقيقي؛ بل يكفي أن يكون متعلّق العلمين عنواناً واحداً مع احتمال التطابق، هذا يكفي لأن لا يكون عند المكلّف علم إلا العلم التفصيلي، في ما زاد على ذلك لا يوجد عنده علم، يوجد عنده احتمال فقط، وهذا معناه الانحلال الحقيقي، وقلنا بأنّ الكثير من المحققين ذهبوا إلى الانحلال الحقيقي في مثل ذلك، وبناءً على هذا حينئذٍ المكلّف لا يوجد لديه علم بوجود أحكام إلزامية أزيد ممّا علمه تفصيلاً، نعم، عنده احتمال بوجود أحكام إلزامية في ما زاد على ما علمه تفصيلاً، ولعلّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) وافق على هذا المقدار أيضاً، يعني يقول: أنّ المكلّف لا يوجد عنده علم في ما زاد على ما علمه تفصيلاً، وإنّما هناك احتمال، غاية الأمر أنّه يقول: أنّ هذه الأفراد التي يُحتمل أن يشملها العنوان المعلوم بالإجمال، هو يدّعي أنّ لها منجّز وهو الذي تقدّم سابقاً من أنّه يرى أنّ العلم الإجمالي إذا كان معنوناً بعنوان خاص هو في واقعه يشتمل على مرتبتين طوليتين، العلم بوجود أحكام واقعية، أي العلم بوجود شياه محرّمة بيض موطوءة إنسان، يقول: في مرتبة هذا العلم لا يوجد شك ولا تردد، وإنّما يكون الشك والتردد والدوران بين الأقل والأكثر في مرتبة متأخرة عنه وفي طوله؛ لأنّ المكلّف يشك في أنّ المحرّمات البيض التي يعلمها والتي تنجّزت عليه ما هو مقدارها ؟ يتردد الأمر بين الأقل والأكثر في مقدار ما علم بحرمته وتنجّز عليه وهي الشياه البيض، لكن هذا التردد في مرحلة متأخرة عن مرحلة العلم. إذن: العلم حينما حصل في مرتبته لا يوجد شك ولا تردد، فهو ينجّز معلومه الواقعي، ويدخله في العهدة، إذا أدخله في العهدة؛ حينئذٍ يجب على المكلّف أن يخرج من عهدة هذا التكليف، ولا يكون ذلك إلاّ بالاحتياط في كل ما يحتمل كونه فرداً من أفراد ذلك العنوان؛ لأنّه إذا اقتصر على خصوص الأفراد المعلومة لذلك العنوان، هذا معناه أنّه لم يحتط ولم يخرج من عهدة التكليف، فإذن: لابدّ أن يحتاط في كل فردٍ يحتمل كونه من أفراد ذلك العنوان؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
الذي يمكن أن يقال في قِبال هذا الكلام هو أنّ هذا الذي ذكره أيضاً تطبيقه في محل الكلام غير واضح، قد يصح في مثال الغنم البيض، لكن في محل الكلام الظاهر أنّ ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن أحكام إلزامية في هذه الكتب مرددة بين الأقل والأكثر، مسألة افتراض مرتبتين طوليتين في نفس العلم الإجمالي، في المرتبة الأولى لا يوجد تردد ولا دوران بين الأقل والأكثر، وإنّما يكون التردد والدوران بين الأقل والأكثر في مرتبة متأخرة عن هذا، هذا ليس واضحاً ويمكن أن يقال في محل الكلام أنّ ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن أحكام إلزامية في الكتب الواصلة إلينا مرددة بين الأقل والأكثر لا أنّ هناك علم نجّز هذه الأحكام الواقعية، فتنجّزت على واقعيتها، ثم حصل دوران أمر بين الأقل والأكثر. هذا في مثال الغنم يمكن تصوّره بالفرض، بأن يقول المكلّف يعلم بوجود غنم بيض موطوءة إنسان في ضمن هذا القطيع، وعلمه ليس فيه شك ولا تردد ولا دوران، ثمّ ما علم به وتنجّز عليه بالعلم يدور مقداره بين الأقل والأكثر، أمّا في محل الكلام، فتصوّره لا يخلو من صعوبة، في محل الكلام ما يعلمه المكلف هو عبارة عن أحكام إلزامية موجودة في الكتب الواصلة إلينا مرددة بين الأقل والأكثر. هذا العلم الإجمالي الذي يكون معلومه مردداً بين الأقل والأكثر يجب فيه الاحتياط قبل حصول العلم التفصيلي؛ لأنّه من قبيل ما إذا علم الإنسان بوجود إناء نجس في ضمن هذه الآنية ودار أمره بين أن يكون إناءً واحداً أو إناءين، فهذا أيضاً دوران بين الأقل والأكثر، وهو يوجب الاحتياط في جميع أطراف الشبهة، لكن بعد حصول العلم التفصيلي بأنّ هذا الإناء نجس ينحل العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ يجوز الرجوع إلى البراءة في باقي الأفراد، وما نحن فيه من هذا القبيل، لدينا علم إجمالي بوجود أحكام واقعية في الكتب المعتبرة مرددة بين الأقل والأكثر، وهذا العلم الإجمالي يُلزم المكلّف بالاحتياط وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في جميع الشبهات ما دام لم يحصل العلم التفصيلي، فإذا حصل العلم التفصيلي؛ حينئذٍ ينحل العلم الإجمالي ولا يبقى علم إجمالي ويصح حينئذٍ الاعتراض الذي ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه) وأشار إليه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه).