37/03/03
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
يُلاحظ على الوجه الثاني:
الملاحظة الأولى: أنّ إيقاع التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه بين إطلاق حديث الرفع وبين إطلاق الآيتين الشريفتين بلحاظ المستثنى، إن قلنا بأنّ المستثنى يدل على عدم البراءة عند تحقق الإيتاء والتبيين، هذا ليس واضحاً؛ لأنّه يتوقف على افتراض وجود إطلاق في عقد المستثنى في الآيتينحتى يقال إنّ هذا الإطلاق يتعارض مع إطلاق حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه، ويجري الكلام السابق، لكن الظاهر أنّه يمكن التشكيك في وجود إطلاق من هذا القبيل بلحاظ المستثنى، وذلك بأن يقال أنّ الظاهر من الآيتين أنّهما بصدد بيان المستثنى منه. أو بعبارة أكثر وضوحاً: أنّ الآيتين بصدد بيان معذورية الجاهل قبل التبيّن والإيتاء وليستا بصدد بيان عدم معذورية الجاهل بعد تحقق الإيتاء والتبيين، الآية ليست بصدد البيان من هذه الجهة، وإنّما مساق الآيتين هو مساق بيان البراءة ومعذورية الجاهل إلى أن يتبيّن الأمر ويحصل الإيتاء، فما سيق لأجل بيانه الكلام هو معذورية الجاهل. أمّا عدم المعذورية بعد تحقق الإيتاء والتبيين، الكلام ليس في مقام بيان. نعم، قد نسلّم أنّه يُستفاد ذلك، لكن الآية ليست بصدد بيانه؛ ولذا لا يصح التمسّك بالإطلاق من تلك الجهة؛ لأنّ المتكلّم ليس بصدد البيان من تلك الجهة، وإنما هو بصدد بيان معذورية الجاهل قبل الإيتاء والتبيين وليس في مقام بيان عدم معذورية الجاهل بعد تحقق الإيتاء والتبيين حتّى يُتمسَك بإطلاقه من هذه الجهة ويكون إطلاقه معارضاً لإطلاق حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه؛ بل قد يقال ما هو أكثر من ذلك، قد يُشكك في أصل دلالة الآيتين على عدم معذورية الجاهل بعد الإيتاء والتبيين، فضلاً عن إطلاق ذلك، اصلاً لا يُستفاد من الآية إلاّ معذورية الجاهل، غاية الأمر أنّ الآيتين ذكرتا الإيتاء والتبيين كحدٍّ تنتهي معهما البراءة، لكن هذا ذُكر ليس لغرض تشريع عدم البراءة ووجوب الاحتياط بعد الإيتاء والتبيين حتى يُستفاد من الآيتين وجوب الاحتياط وعدم البراءة بعد تحقق الإيتاء والتبيين، وإنّما ذُكر الإيتاء والتبيين كحدٍّ للبراءة المجعولة، وما بعد هذا الحد كأنّه مسكوت عنه ولا يُستفاد من نفس الآية تشريع عدم البراءة ووجوب الاحتياط بعد تحقق الإيتاء والتبيين.
أقول:هذا الأخير نحن لا نقبله، الآيتان فيهما دلالة على عدم البراءة بعد تحقق الإيتاء والتبيين، وهذا مقتضى جعل هذا حداً، فالآية تقول(حتى يُبيّن لهم ما يتقون) فكأن البراءة تنتهي ببيان ما يتقون، فبعدها لا براءة، فيُستفاد من الآيتين تشريع وجوب الاحتياط بعد تحقق الإيتاء والتبيين، لكن الإشكال ليس هذا، وإنّما الإشكال في إطلاق هذا التشريع، وصحّة التمسّك بإطلاق ذلك؛ لما قلناه من أنّ الآية ليست في مقام بيان ذاك، وإنّما هي في مقام بيان حكم المستثنى منه، يعني في مقام بيان معذورية الجاهل، نعم نستفيد من ذلك أنّ هذه البراءة والمعذورية ترتفع بحصول الإيتاء والتبيين، لكن الآية ليست بصدد بيان ذلك؛ ولذا لا يصح التمسّك بالإطلاق من تلك الجهة، وبالتالي لا يتم هذا الوجه؛ لأنّ هذا الوجه يعتمد على افتراض وجود إطلاقٍ في عقد المستثنى حتى يكون معارضاً للإطلاق في حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه.
الملاحظة الثانية: لو سلّمنا التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه، في الوجه ذُكر أنّ التقديم يكون للآيتين على حديث الرفع ويثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص عملاً بالآيتين، يعني بلحاظ المستثنى، لكن قد يقال في المقام لابدّ من تقديم حديث الرفع، باعتبار أنّ حديث الرفع يكون حاكماً على عقد المستثنى في الآيتين الشريفتين؛ لأنّ مفاد عقد المستثنى في الآيتين الشريفتين هو جعل وجوب الاحتياط، أو عدم البراءة مع الإيتاء والتبيين، يعني أنّ مفاده هو الحكم بتنجّز التكليف على المكلّف مع إيتائه وبيانه الذي هو بمعنى جعله في معرض الوصول، فيتنجّز التكليف على المكلّف، فيجب عليه الاحتياط، ولا براءة. هذا هو عقد المستثنى ومفاده في الآيتين الذي هو نفس مفاد ما يحكم به العقل من وجوب الاحتياط مع بيان التكليف وإيتائه وجعله في معرض الوصول؛ وحينئذٍ يقال أنّ دليل البراءة(حديث الرفع ) بإطلاقه ــــــــ المفروض أنّه مطلق ــــــــ الشامل لمادة الاجتماع، يعني لصورة ما قبل الفحص، يكون رافعاً لموضوع الحكم المستفاد من المستثنى في الآيتين الشريفتين؛ لأنّ الحكم بالتنجيز وبوجوب الاحتياط موضوعه البيان، إذا بُيّن الحكم، يعني إذا جُعل في معرض الوصول، إذا ورد بيانٌ من الشارع مع الإيتاء والتبيين، العقل يحكم والآية تدل على تنجّز التكليف ووجوب الاحتياط، فإذا ورد من قِبل نفس الشارع ما يدل على جعل التأمين في هذه الحالة، ولو بإطلاقه، يكون رافعاً لموضوع هذا الحكم وحاكماً عليه، يعني هذا الحكم العقلي ـــــــــ مفاد المستثنى في الآية الشريفة ـــــــ كما يرتفع موضوعه بعدم الإيتاء والتبيين، أيضاً يرتفع موضوعه ببيان البراءة وبيان عدم التنجيز والمعذورية.
وبعبارة أوضح: أنّ العقل إنّما يحكم بالتنجيز حيث لا يرد ترخيص من قِبل الشارع، يقول أنّ الشارع جعل الحكم في معرض الوصول، فيكون هذا الحكم منجّزاً عليك، فيجب عليك الاحتياط من ناحيته قبل الفحص، هذا الحكم العقلي قطعاً هو معلّق على عدم ورود ترخيصٍ من قِبل نفس الشارع، نظير ما تقدّم سابقاً، فإذا ورد ترخيص أو تأمين من قِبل الشارع يقول له أنت مؤمّن من ناحية هذا التكليف الذي تحتمله قبل الفحص حتى إذا كان في معرض الوصول؛ حينئذٍ هل يحكم العقل بالتنجيز ؟ مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين لا يزيد عن ما يحكم به العقل، التنجيز مع الإيتاء والتبيين وجعل الحكم في معرض الوصول، العقل يحكم بالتنجيز، مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين أيضاً التنجيز ووجوب الاحتياط، لكن كل هذه الأحكام معلّقة ومتوقفة على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع، والمفروض أنّ حديث الرفع بإطلاقه يشمل مادة الاجتماع، أي صورة ما قبل الفحص، فيدل على جعل البراءة فيه، يعني جعل تأمين في هذه الحالة، يعني تأمينٌ صدر من الشارع تجاه التكليف المشكوك قبل الفحص، في هذه الحالة يرتفع موضوع الحكم العقلي ويرتفع موضوع مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين، وبهذا يكون حديث الرفع حاكماً على مفاد الآيتين بلحاظ عقد المستثنى، ورافعاً لموضوعه؛ وحينئذٍ يتعيّن تقديمه على الآيتين لا أننا نقدّمهما عليه؛ لأنّ هذا جمع عرفي بين الدليلين، وفي هذه المرحلة مع وجود الجمع العرفي نجمع بين الدليلين، ولو كان أحدهما آية من القرآن والآخر حديث غير قطعي السند كما في محل الكلام. مرجع الملاحظة الثانية في الحقيقة إلى إنكار وجود تعارض بين الآيتين الشريفتين وبين حديث الرفع، وإنّما حديث الرفع يكون حاكماً على الآيتين.
الملاحظة الثالثة: لو تنزّلنا وسلّمنا بتحقق التعارض وتساقط الدليلين، قد يقال: في المقام بعد افتراض التساقط نرجع إلى الاحتياط العقلي، بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتثبت النتيجة؛ لأنّ البراءة الشرعية سقطت بالتعارض، المستثنى في الآيتين الشريفتين أيضاً سقط بالتعارض؛ وحينئذٍ إذا أنكرنا البراءة العقلية نرجع إلى الاحتياط العقلي، فيجب الاحتياط عقلاً، وهذا معناه اختصاص البراءة بخصوص حالة ما بعد الفحص، وهو المطلوب. لكن الظاهر أنّ المرجع ليس هو الاحتياط العقلي في محل الكلام، أمّا إذا آمنّا بالبراءة العقلية، فالمرجع هو البراءة العقلية لا الاحتياط العقلي، فنرجع إلى البراءة العقلية؛ وحينئذٍ لا يثبت الاختصاص، أمّا إذا أنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ حينئذٍ يمكن أن نصل إلى نفس النتيجة ونجري البراءة الشرعية تمسّكاً بحديث الرفع في ما يُسمّى بالمرتبة الثانية، يعني نجري حديث الرفع لنفي وجوب الاحتياط، باعتبار أننا نشك في وجوب الاحتياط ووجوب الفحص بعد فرض التساقط، هذا تمسّك بالبراءة في المرتبة الثانية.
وبعبارةٍ أوضح: أنّ الذي يسقط بالتعارض هو عبارة عن البراءة في المرتبة الأولى التي هي عبارة عن الشك في الواقع، عندما يشك المكلّف في الحكم الواقعي هنا يوجد عنده دليلان، أحدهما يجعل له البراءة، والثاني يوجب عليه الاحتياط، فإذا لم نستطع أن نقدّم أحدهما على الآخر يتساقطان، فالذي يسقط بالتعارض هو عبارة عن البراءة عند الشك في الحكم الواقعي، المكلّف عند الشك في الحكم الواقعي لا يجري البراءة؛ لأنّ حديث الرفع سقط بالمعارضة؛ وحينئذٍ بعد التساقط لا إشكال في أنّ المكلّف يبقى شاكاً في أنّه هل يجب عليه الاحتياط، أو لا ؟ وهذا ليس شكاً في الواقع، وإنّما هو شك في وجوب الاحتياط بعد فرض الشك في الواقع، وهذا الشك في وجوب الاحتياط يمكن أن تجري فيه البراءة الشرعية لنفي وجوب الاحتياط، فبالتالي البراءة أمّا أن نثبتها بالبراءة العقلية، إن قلنا بها، وإمّا بالبراءة الشرعية، لكن الجارية في وجوب الاحتياط؛ لأنّ المكلّف لا محالة بعد التساقط يشك في وجوب الاحتياط عليه، وحديث الرفع يرفع وجوب الاحتياط عندما يشك المكلّف فيه كما يرفع الوجوب الواقعي عندما يشك المكلّف فيه، فإذا كان هذا مشكوك، فحديث الرفع يدل على التأمين من ناحيته، وكذلك وجوب الاحتياط إذا كان مشكوكاً أيضاً حديث الرفع يدل على التأمين من ناحيته، فبالتالي لا نصل إلى النتيجة، وإنّما نصل إلى البراءة وعدم وجوب الاحتياط بعد الفحص، وهذا معناه أنّ هذا الوجه لا يتم لإثبات اختصاص أدلة البراءة الشرعية بحالة ما بعد الفحص.
الوجه الثالث: هذا الوجه مبني على رأي يختاره السيد الشهيد(قدّس سرّه).[1] وقد تقدّم أكثر من مرّة، وهو أنّه يرى أنّ احتمال وجود القرينة يوجب الإجمال في الدليل ويمنع من التمسّك بالظهور حاله حال احتمال قرينية الموجود، هو لا يُفرّق بين احتمال قرينية الموجود وبين احتمال وجود القرينة المتصلة، فيقول أنّ كلاً منهما يوجب الإجمال ويمنع من التمسّك بالظهور، هذا رأيه(قدّس سرّه) خلافاً للمشهور الذي يُفرّق بينهما ويقول أنّه عندما نحتمل قرينية الموجود فأنّه يوجب الإجمال ويمنع من التمسّك بالظهور، لكن إذا احتملنا وجود القرينة المتصلة، قالوا هذا لا يوجب الإجمال ولا يمنع من التمسّك بالظهور.
بناءً على أنّه لا فرق بينهما من حيث أنّ كلاً منهما يوجب الإجمال ويمنع من التمسك بالظهور؛ حينئذٍ يقال: أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمكن نفيه بشهادة الراوي نفسه، الراوي عندما يروي الرواية من دون هذه القرينة التي نحتملها، سكوت الراوي عن هذه القرينة وعدمه ذكره لها يعتبر شهادة منه على عدم وجود هذه القرينة المتصلة، وإلاّ لو كانت هناك قرينة متصلة في الكلام تؤثر على ظهوره لكان مقتضى الأمانة في النقل هو أن ينقل تلك القرينة، فيمكن نفي احتمال وجود القرينة المتصلة بالكلام بشهادة الراوي وسكوته، لكن هذا إنّما يتم في القرائن المقالية اللّفظية، أمّا عندما تكون القرينة حالية، وخصوصاً القرينة في محل الكلام التي سنذكرها، هي متصيّدة في الحقيقة من مجموع كلمات المعصومين(عليهم السلام) في طيلة حياتهم، عندما تكون القرينة حالية بهذا الشكل لا يظهر من الراوي أنّه يتعهد بنقلها، وإن كانت هي مؤثرة في الظهور، لكن لا يوجد بناءٌ من قبل الرواة على نقل كل القرائن حتى لو كانت قرائن حالية متصيّدة من مجموع كلمات المعصومين(عليهم السلام) في مدّة حياتهم، الراوي لا يرى مُلزم له بأن يذكر هذه القرينة، فيذكر الكلام ولا يذكر هذه القرينة. مع وجود احتمال قرينة حالية متصلة بهذا الشكل لا يمكن أن نستند إلى شهادة الراوي لنفي هذا الاحتمال؛ لأنّ الراوي لا يتعهد بنقل حتى القرائن الحالية.
بناءً على هذا الكلام حينئذٍ يقال: في محل الكلام نحن نحتمل وجود قرينة حالية متصلة محتفّة بأدلة البراءة الشرعية، وهذه القرينة الحالية وهي عبارة عن اهتمام الشارع المقدّس بالأحكام الشرعية وتبليغها، وحثّ الناس على تعلّمها ومعرفتها والوصول إليها والسؤال عنها، وما أكثر الروايات التي تأمر الناس بالفحص والسؤال والتصدّي لمعرفة الأحكام الشرعية ونشرها بين الناس، مجموع هذه الأمور يشكّل قرينة حالية على أنّ أدلة البراءة عندما يكون ظاهرها الإطلاق تشمل حتى صورة ما قبل الفحص، هذه قرينة حالية تقول إنّ هذه الأدلة لا يُراد بها ظاهرها لوجود هذه القرينة. لا معنى أن يجعل الشارع البراءة قبل الفحص ويقول للمكلّف أنّك بمجرّد أن تشك في التكليف لا تفحص عمّا يثبت ذلك التكليف المشكوك في مظان وجوده، وأنا أجعل لك البراءة وأؤمنك من ناحيته، هذا لا ينسجم مع هذه القرينة، هذه قرينة على أنّ البراءة المجعولة في أدلة البراءة الشرعية تختص بحالة ما بعد الفحص ولا تشمل حالة ما قبل الفحص؛ بل يقول السيد الشهيد(قدّس سرّه) في هذا الوجه: أننا نقطع بوجود هذه القرينة الحالية وتكون موجبة لاختصاص أدلة البراءة الشرعية بصورة ما بعد الفحص، لكن نقول (نحتمل) من باب التنزّل، على تقدير التنزّل وكون الشيء فقط احتمال، أيضاً بناءً على المبنى الذي ذكره وهو أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمنع من التمسك بظهور الدليل ويوجب إجماله؛ حينئذٍ نقول: نحن نحتمل ذلك، وهو يمنع من التمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية، وهذا أيضاً نوع من قصور المقتضي.
يُلاحظ على الوجه الثاني:
الملاحظة الأولى: أنّ إيقاع التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه بين إطلاق حديث الرفع وبين إطلاق الآيتين الشريفتين بلحاظ المستثنى، إن قلنا بأنّ المستثنى يدل على عدم البراءة عند تحقق الإيتاء والتبيين، هذا ليس واضحاً؛ لأنّه يتوقف على افتراض وجود إطلاق في عقد المستثنى في الآيتينحتى يقال إنّ هذا الإطلاق يتعارض مع إطلاق حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه، ويجري الكلام السابق، لكن الظاهر أنّه يمكن التشكيك في وجود إطلاق من هذا القبيل بلحاظ المستثنى، وذلك بأن يقال أنّ الظاهر من الآيتين أنّهما بصدد بيان المستثنى منه. أو بعبارة أكثر وضوحاً: أنّ الآيتين بصدد بيان معذورية الجاهل قبل التبيّن والإيتاء وليستا بصدد بيان عدم معذورية الجاهل بعد تحقق الإيتاء والتبيين، الآية ليست بصدد البيان من هذه الجهة، وإنّما مساق الآيتين هو مساق بيان البراءة ومعذورية الجاهل إلى أن يتبيّن الأمر ويحصل الإيتاء، فما سيق لأجل بيانه الكلام هو معذورية الجاهل. أمّا عدم المعذورية بعد تحقق الإيتاء والتبيين، الكلام ليس في مقام بيان. نعم، قد نسلّم أنّه يُستفاد ذلك، لكن الآية ليست بصدد بيانه؛ ولذا لا يصح التمسّك بالإطلاق من تلك الجهة؛ لأنّ المتكلّم ليس بصدد البيان من تلك الجهة، وإنما هو بصدد بيان معذورية الجاهل قبل الإيتاء والتبيين وليس في مقام بيان عدم معذورية الجاهل بعد تحقق الإيتاء والتبيين حتّى يُتمسَك بإطلاقه من هذه الجهة ويكون إطلاقه معارضاً لإطلاق حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه؛ بل قد يقال ما هو أكثر من ذلك، قد يُشكك في أصل دلالة الآيتين على عدم معذورية الجاهل بعد الإيتاء والتبيين، فضلاً عن إطلاق ذلك، اصلاً لا يُستفاد من الآية إلاّ معذورية الجاهل، غاية الأمر أنّ الآيتين ذكرتا الإيتاء والتبيين كحدٍّ تنتهي معهما البراءة، لكن هذا ذُكر ليس لغرض تشريع عدم البراءة ووجوب الاحتياط بعد الإيتاء والتبيين حتى يُستفاد من الآيتين وجوب الاحتياط وعدم البراءة بعد تحقق الإيتاء والتبيين، وإنّما ذُكر الإيتاء والتبيين كحدٍّ للبراءة المجعولة، وما بعد هذا الحد كأنّه مسكوت عنه ولا يُستفاد من نفس الآية تشريع عدم البراءة ووجوب الاحتياط بعد تحقق الإيتاء والتبيين.
أقول:هذا الأخير نحن لا نقبله، الآيتان فيهما دلالة على عدم البراءة بعد تحقق الإيتاء والتبيين، وهذا مقتضى جعل هذا حداً، فالآية تقول(حتى يُبيّن لهم ما يتقون) فكأن البراءة تنتهي ببيان ما يتقون، فبعدها لا براءة، فيُستفاد من الآيتين تشريع وجوب الاحتياط بعد تحقق الإيتاء والتبيين، لكن الإشكال ليس هذا، وإنّما الإشكال في إطلاق هذا التشريع، وصحّة التمسّك بإطلاق ذلك؛ لما قلناه من أنّ الآية ليست في مقام بيان ذاك، وإنّما هي في مقام بيان حكم المستثنى منه، يعني في مقام بيان معذورية الجاهل، نعم نستفيد من ذلك أنّ هذه البراءة والمعذورية ترتفع بحصول الإيتاء والتبيين، لكن الآية ليست بصدد بيان ذلك؛ ولذا لا يصح التمسّك بالإطلاق من تلك الجهة، وبالتالي لا يتم هذا الوجه؛ لأنّ هذا الوجه يعتمد على افتراض وجود إطلاقٍ في عقد المستثنى حتى يكون معارضاً للإطلاق في حديث الرفع بنحو العموم والخصوص من وجه.
الملاحظة الثانية: لو سلّمنا التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه، في الوجه ذُكر أنّ التقديم يكون للآيتين على حديث الرفع ويثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص عملاً بالآيتين، يعني بلحاظ المستثنى، لكن قد يقال في المقام لابدّ من تقديم حديث الرفع، باعتبار أنّ حديث الرفع يكون حاكماً على عقد المستثنى في الآيتين الشريفتين؛ لأنّ مفاد عقد المستثنى في الآيتين الشريفتين هو جعل وجوب الاحتياط، أو عدم البراءة مع الإيتاء والتبيين، يعني أنّ مفاده هو الحكم بتنجّز التكليف على المكلّف مع إيتائه وبيانه الذي هو بمعنى جعله في معرض الوصول، فيتنجّز التكليف على المكلّف، فيجب عليه الاحتياط، ولا براءة. هذا هو عقد المستثنى ومفاده في الآيتين الذي هو نفس مفاد ما يحكم به العقل من وجوب الاحتياط مع بيان التكليف وإيتائه وجعله في معرض الوصول؛ وحينئذٍ يقال أنّ دليل البراءة(حديث الرفع ) بإطلاقه ــــــــ المفروض أنّه مطلق ــــــــ الشامل لمادة الاجتماع، يعني لصورة ما قبل الفحص، يكون رافعاً لموضوع الحكم المستفاد من المستثنى في الآيتين الشريفتين؛ لأنّ الحكم بالتنجيز وبوجوب الاحتياط موضوعه البيان، إذا بُيّن الحكم، يعني إذا جُعل في معرض الوصول، إذا ورد بيانٌ من الشارع مع الإيتاء والتبيين، العقل يحكم والآية تدل على تنجّز التكليف ووجوب الاحتياط، فإذا ورد من قِبل نفس الشارع ما يدل على جعل التأمين في هذه الحالة، ولو بإطلاقه، يكون رافعاً لموضوع هذا الحكم وحاكماً عليه، يعني هذا الحكم العقلي ـــــــــ مفاد المستثنى في الآية الشريفة ـــــــ كما يرتفع موضوعه بعدم الإيتاء والتبيين، أيضاً يرتفع موضوعه ببيان البراءة وبيان عدم التنجيز والمعذورية.
وبعبارة أوضح: أنّ العقل إنّما يحكم بالتنجيز حيث لا يرد ترخيص من قِبل الشارع، يقول أنّ الشارع جعل الحكم في معرض الوصول، فيكون هذا الحكم منجّزاً عليك، فيجب عليك الاحتياط من ناحيته قبل الفحص، هذا الحكم العقلي قطعاً هو معلّق على عدم ورود ترخيصٍ من قِبل نفس الشارع، نظير ما تقدّم سابقاً، فإذا ورد ترخيص أو تأمين من قِبل الشارع يقول له أنت مؤمّن من ناحية هذا التكليف الذي تحتمله قبل الفحص حتى إذا كان في معرض الوصول؛ حينئذٍ هل يحكم العقل بالتنجيز ؟ مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين لا يزيد عن ما يحكم به العقل، التنجيز مع الإيتاء والتبيين وجعل الحكم في معرض الوصول، العقل يحكم بالتنجيز، مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين أيضاً التنجيز ووجوب الاحتياط، لكن كل هذه الأحكام معلّقة ومتوقفة على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع، والمفروض أنّ حديث الرفع بإطلاقه يشمل مادة الاجتماع، أي صورة ما قبل الفحص، فيدل على جعل البراءة فيه، يعني جعل تأمين في هذه الحالة، يعني تأمينٌ صدر من الشارع تجاه التكليف المشكوك قبل الفحص، في هذه الحالة يرتفع موضوع الحكم العقلي ويرتفع موضوع مفاد المستثنى في الآيتين الشريفتين، وبهذا يكون حديث الرفع حاكماً على مفاد الآيتين بلحاظ عقد المستثنى، ورافعاً لموضوعه؛ وحينئذٍ يتعيّن تقديمه على الآيتين لا أننا نقدّمهما عليه؛ لأنّ هذا جمع عرفي بين الدليلين، وفي هذه المرحلة مع وجود الجمع العرفي نجمع بين الدليلين، ولو كان أحدهما آية من القرآن والآخر حديث غير قطعي السند كما في محل الكلام. مرجع الملاحظة الثانية في الحقيقة إلى إنكار وجود تعارض بين الآيتين الشريفتين وبين حديث الرفع، وإنّما حديث الرفع يكون حاكماً على الآيتين.
الملاحظة الثالثة: لو تنزّلنا وسلّمنا بتحقق التعارض وتساقط الدليلين، قد يقال: في المقام بعد افتراض التساقط نرجع إلى الاحتياط العقلي، بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتثبت النتيجة؛ لأنّ البراءة الشرعية سقطت بالتعارض، المستثنى في الآيتين الشريفتين أيضاً سقط بالتعارض؛ وحينئذٍ إذا أنكرنا البراءة العقلية نرجع إلى الاحتياط العقلي، فيجب الاحتياط عقلاً، وهذا معناه اختصاص البراءة بخصوص حالة ما بعد الفحص، وهو المطلوب. لكن الظاهر أنّ المرجع ليس هو الاحتياط العقلي في محل الكلام، أمّا إذا آمنّا بالبراءة العقلية، فالمرجع هو البراءة العقلية لا الاحتياط العقلي، فنرجع إلى البراءة العقلية؛ وحينئذٍ لا يثبت الاختصاص، أمّا إذا أنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ حينئذٍ يمكن أن نصل إلى نفس النتيجة ونجري البراءة الشرعية تمسّكاً بحديث الرفع في ما يُسمّى بالمرتبة الثانية، يعني نجري حديث الرفع لنفي وجوب الاحتياط، باعتبار أننا نشك في وجوب الاحتياط ووجوب الفحص بعد فرض التساقط، هذا تمسّك بالبراءة في المرتبة الثانية.
وبعبارةٍ أوضح: أنّ الذي يسقط بالتعارض هو عبارة عن البراءة في المرتبة الأولى التي هي عبارة عن الشك في الواقع، عندما يشك المكلّف في الحكم الواقعي هنا يوجد عنده دليلان، أحدهما يجعل له البراءة، والثاني يوجب عليه الاحتياط، فإذا لم نستطع أن نقدّم أحدهما على الآخر يتساقطان، فالذي يسقط بالتعارض هو عبارة عن البراءة عند الشك في الحكم الواقعي، المكلّف عند الشك في الحكم الواقعي لا يجري البراءة؛ لأنّ حديث الرفع سقط بالمعارضة؛ وحينئذٍ بعد التساقط لا إشكال في أنّ المكلّف يبقى شاكاً في أنّه هل يجب عليه الاحتياط، أو لا ؟ وهذا ليس شكاً في الواقع، وإنّما هو شك في وجوب الاحتياط بعد فرض الشك في الواقع، وهذا الشك في وجوب الاحتياط يمكن أن تجري فيه البراءة الشرعية لنفي وجوب الاحتياط، فبالتالي البراءة أمّا أن نثبتها بالبراءة العقلية، إن قلنا بها، وإمّا بالبراءة الشرعية، لكن الجارية في وجوب الاحتياط؛ لأنّ المكلّف لا محالة بعد التساقط يشك في وجوب الاحتياط عليه، وحديث الرفع يرفع وجوب الاحتياط عندما يشك المكلّف فيه كما يرفع الوجوب الواقعي عندما يشك المكلّف فيه، فإذا كان هذا مشكوك، فحديث الرفع يدل على التأمين من ناحيته، وكذلك وجوب الاحتياط إذا كان مشكوكاً أيضاً حديث الرفع يدل على التأمين من ناحيته، فبالتالي لا نصل إلى النتيجة، وإنّما نصل إلى البراءة وعدم وجوب الاحتياط بعد الفحص، وهذا معناه أنّ هذا الوجه لا يتم لإثبات اختصاص أدلة البراءة الشرعية بحالة ما بعد الفحص.
الوجه الثالث: هذا الوجه مبني على رأي يختاره السيد الشهيد(قدّس سرّه).[1] وقد تقدّم أكثر من مرّة، وهو أنّه يرى أنّ احتمال وجود القرينة يوجب الإجمال في الدليل ويمنع من التمسّك بالظهور حاله حال احتمال قرينية الموجود، هو لا يُفرّق بين احتمال قرينية الموجود وبين احتمال وجود القرينة المتصلة، فيقول أنّ كلاً منهما يوجب الإجمال ويمنع من التمسّك بالظهور، هذا رأيه(قدّس سرّه) خلافاً للمشهور الذي يُفرّق بينهما ويقول أنّه عندما نحتمل قرينية الموجود فأنّه يوجب الإجمال ويمنع من التمسّك بالظهور، لكن إذا احتملنا وجود القرينة المتصلة، قالوا هذا لا يوجب الإجمال ولا يمنع من التمسّك بالظهور.
بناءً على أنّه لا فرق بينهما من حيث أنّ كلاً منهما يوجب الإجمال ويمنع من التمسك بالظهور؛ حينئذٍ يقال: أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمكن نفيه بشهادة الراوي نفسه، الراوي عندما يروي الرواية من دون هذه القرينة التي نحتملها، سكوت الراوي عن هذه القرينة وعدمه ذكره لها يعتبر شهادة منه على عدم وجود هذه القرينة المتصلة، وإلاّ لو كانت هناك قرينة متصلة في الكلام تؤثر على ظهوره لكان مقتضى الأمانة في النقل هو أن ينقل تلك القرينة، فيمكن نفي احتمال وجود القرينة المتصلة بالكلام بشهادة الراوي وسكوته، لكن هذا إنّما يتم في القرائن المقالية اللّفظية، أمّا عندما تكون القرينة حالية، وخصوصاً القرينة في محل الكلام التي سنذكرها، هي متصيّدة في الحقيقة من مجموع كلمات المعصومين(عليهم السلام) في طيلة حياتهم، عندما تكون القرينة حالية بهذا الشكل لا يظهر من الراوي أنّه يتعهد بنقلها، وإن كانت هي مؤثرة في الظهور، لكن لا يوجد بناءٌ من قبل الرواة على نقل كل القرائن حتى لو كانت قرائن حالية متصيّدة من مجموع كلمات المعصومين(عليهم السلام) في مدّة حياتهم، الراوي لا يرى مُلزم له بأن يذكر هذه القرينة، فيذكر الكلام ولا يذكر هذه القرينة. مع وجود احتمال قرينة حالية متصلة بهذا الشكل لا يمكن أن نستند إلى شهادة الراوي لنفي هذا الاحتمال؛ لأنّ الراوي لا يتعهد بنقل حتى القرائن الحالية.
بناءً على هذا الكلام حينئذٍ يقال: في محل الكلام نحن نحتمل وجود قرينة حالية متصلة محتفّة بأدلة البراءة الشرعية، وهذه القرينة الحالية وهي عبارة عن اهتمام الشارع المقدّس بالأحكام الشرعية وتبليغها، وحثّ الناس على تعلّمها ومعرفتها والوصول إليها والسؤال عنها، وما أكثر الروايات التي تأمر الناس بالفحص والسؤال والتصدّي لمعرفة الأحكام الشرعية ونشرها بين الناس، مجموع هذه الأمور يشكّل قرينة حالية على أنّ أدلة البراءة عندما يكون ظاهرها الإطلاق تشمل حتى صورة ما قبل الفحص، هذه قرينة حالية تقول إنّ هذه الأدلة لا يُراد بها ظاهرها لوجود هذه القرينة. لا معنى أن يجعل الشارع البراءة قبل الفحص ويقول للمكلّف أنّك بمجرّد أن تشك في التكليف لا تفحص عمّا يثبت ذلك التكليف المشكوك في مظان وجوده، وأنا أجعل لك البراءة وأؤمنك من ناحيته، هذا لا ينسجم مع هذه القرينة، هذه قرينة على أنّ البراءة المجعولة في أدلة البراءة الشرعية تختص بحالة ما بعد الفحص ولا تشمل حالة ما قبل الفحص؛ بل يقول السيد الشهيد(قدّس سرّه) في هذا الوجه: أننا نقطع بوجود هذه القرينة الحالية وتكون موجبة لاختصاص أدلة البراءة الشرعية بصورة ما بعد الفحص، لكن نقول (نحتمل) من باب التنزّل، على تقدير التنزّل وكون الشيء فقط احتمال، أيضاً بناءً على المبنى الذي ذكره وهو أنّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمنع من التمسك بظهور الدليل ويوجب إجماله؛ حينئذٍ نقول: نحن نحتمل ذلك، وهو يمنع من التمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية، وهذا أيضاً نوع من قصور المقتضي.