37/03/02
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
كان الكلام في الوجه الأوّل لوجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة الشرعيةقبل الفحص، وقلنا أنّ الظاهر من هذا الوجه هو التقريب الثاني له الذي يقول أنّ إجراء البراءة بعد الفحص هو أمر ارتكازي، فالدليل الشرعي الوارد بهذا المضمون يكون إمضاءً لهذا الارتكاز، فيتحدد بحدوده، وبالتالي تكون أدلّة البراءة الشرعية كلّها دالة على البراءة بعد الفحص ولا إطلاق لها لحالة ما قبل الفحص، وهذا عبارة عن القصور في المقتضي.
هل يتوقف هذا التقريب على إنكار البراءة العقلية كما ذُكر، أو لا ؟ يعني حتى إذا قلنا بأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي قاعدة عقلية، مع ذلك يمكن أن يقال بهذا التقريب، باعتبار أنّ البراءة الشرعية تكون إرشاداً إلى ما يحكم به العقل، فأيضاً تتحدد بحدوده، فلا إطلاق لأدلة البراءة الشرعية بحيث يشمل ما هو أوسع دائرة مما يحكم به العقل. هذه المسألة ليست مهمّة جداً حسب الظاهر، أصل هذا الوجه بالتقريب الثاني الذي هو الأقرب، توجد عليه عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أنّ هذا التقريب لو تم في حدّ نفسه، فهو لا يتم في جميع الأصول المؤمّنة؛ لأنّ بعض الأصول المؤمّنة أصول تأسيسية، فلا يُتصوّر فيها الإمضاء من قبيل أصالة الطهارة، ومن قبيل حتى أصالة الإباحة؛ بل يمكن أن يقال ذلك حتّى في الاستصحاب المؤمّن ـــــــــ استصحاب عدم التكليف ـــــــــ هذه أصول تأسيسية لا يوجد عند العقلاء ارتكاز عليها حتى يقال أنّ الدليل الشرعي لابدّ أن يُحمل على هذا الارتكاز ويكون إمضاءً له ويتحدد بحدوده، في أصالة البراءة هناك ارتكاز على معذورية الجاهل؛ حينئذٍ يقال أنّ الدليل الشرعي الوارد بهذا المضمون يكون إمضاءً لما هو المرتكز في أذهان العقلاء، لكن مثل أصالة الطهارة لا نستطيع أن نقول ذلك، حيث لا يوجد في أذهان العقلاء ارتكاز على أصالة الطهارة، فهذا الوجه لا يتم في جميع الأصول العملية المؤمّنة، وإنما يتم في الأصول العملية المؤمنة التي يمكن فيها فرض الإمضاء، فيأتي هذا البيان، أمّا الأصول التأسيسية التي جعلها الشارع واعتبرها تأسيساً وليس لها ارتكاز في أذهان العقلاء، فنواجه حينئذٍ مشكلة أنّه إذا كان هذا هو الوجه الذي يوجب التخصيص وعدم شمول أدلة الأصل المؤمن لحالة ما قبل الفحص، هذا يختص بمثل أصالة البراءة، أمّا أصالة الطهارة، فينبغي أ، تبقى على إطلاقها، فيجوز العمل بها حتى في حالة ما قبل الفحص ــــــــ كلامنا في الشبهة الحكمية لا في الشبهة الموضوعية ـــــــ في الشبهة الحكمية يجوز للمكلّف إذا شك في طهارة شيءٍ أو نجاسته بنحو الشبهة الحكمية، يجوز له أن يتمسك بأصالة الطهارة قبل الفحص؛ لأنّ هذا الوجه لا يمنع من إطلاق الدليل؛ لأنّه لا يجري في مثل الأصول العملية المؤمّنة التأسيسية، وإنما يجري في أصالة العملية الإمضائية.
الملاحظة الثانية: أنّ المُدّعى في هذا الوجه هو أنّ جميع أدلة البراءة الشرعية هي إمضائية؛ إذ لا يُفرّق بين دليل من أدلة البراءة ودليل آخر، وهذا فيه محذور وهو أنّه بناءً على هذا؛ حينئذٍ سوف يتّحد مفاد الأدلة الشرعية مع مفاد ما هو المرتكز في أذهان العقلاء، يعني مع مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ هذا هو مقتضى الإمضاء، ما ارتكز في أذهان العقلاء هو قبح العقاب بلا بيان، وقلنا أنّ أدلة البراءة الشرعية هي إمضاء لما هو مرتكز في أذهان العقلاء، فيكون مفاد الأدلة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتكون جميع أدلة البراءة الشرعية بما فيها حديث الرفع مفادها هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ــــــــ بناءً على الإمضائية ـــــــ ؛ إذا وصلنا إلى هذه النتيجة؛ حينئذٍ نقول: بناءً على هذا سوف يصح ما يقوله الإخباريون من أنّ أدلة وجوب الاحتياط تكون مقدّمة على أدلة البراءة الشرعية وحاكمة عليها؛ لأنّ أدلة البراءة الشرعية ليس فيها خصوصية أكثر من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكما أنّ أدلة الاحتياط الشرعي ـــــــ إذا تمّت ـــــــ تكون حاكمة على البراءة العقلية وعلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا إشكال، لوضوح أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها عدم البيان، ودليل الاحتياط الشرعي ـــــــ إذا تمّ ــــــ يكون بياناً، فيكون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويتقدّم عليها، إذا قلنا أنّ مفاد أدلة البراءة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، يتحد مفادهما؛ وحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط الشرعي حاكمة على أدلة البراءة الشرعية كما هي حاكمة على أصل قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ مفاد البراءة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فرض أنّها جميعاً إمضاء لما ارتكز في أذهان العقلاء من قبح العقاب بلا بيان، وهذه نتيجة لا يقبل بها صاحب هذا الوجه ولا غيره من الأصوليين؛ بل يقولون أن أدلة الاحتياط الشرعي ليست حاكمة على أدلة البراءة الشرعية؛ بل هم يقدّمون أدلة البراءة الشرعية على أدلة الاحتياط الشرعي، ويقولون أنّ المأخوذ في أدلة البراءة الشرعية هو عدم البيان على الواقع، ومن الواضح أنّ أدلة الاحتياط الشرعي ليست بياناً على الواقع، وحتى لو فرضنا تمامية أدلة الاحتياط الشرعي، يبقى المكلف شاكاً في الواقع؛ ولذا لا تكون مقدّمة على أدلة البراءة الشرعية، مسألة تقديم أدلة البراءة الشرعية على أدلة الاحتياط الشرعي لا يكون إلاّ إذا فرضنا اختلاف مفاد دليل البراءة الشرعية مع مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذا اختلف مفادهما؛ حينئذٍ يتم كلامهم، بأن يقال أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم مطلق البيان، سواء كان البيان على الحكم الواقعي أو على الحكم الظاهري؛ ولذا تكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّها بيان على الحكم الظاهري، وإن لم تكن بياناً على الحكم الواقعي، فتكون رافعة لموضوعه وحاكمة عليه، لكن أدلة البراءة الشرعية ليست هكذا، حيث أنّ موضوعها هو عدم البيان على الواقع وليس عدم مطلق البيان،؛ حينئذٍ لا تكون أدلة الاحتياط الشرعي حاكمة على أدلة البراءة الشرعية. إذن: حتى يصح كلام الأصوليين في قِبال الإخباريين لابدّ من فرض اختلاف مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان عن أدلة البراءة الشرعية، وهذا ينافي أنّ جميع أدلة البراءة الشرعية إمضائية، فإذا كانت جميع أدلة البراءة الشرعية إمضائية؛ فحينئذ يكون مفادها هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ وحينئذٍ نقع في هذه المشكلة التي لا يلتزم بها الأصوليون، فإذن: لابدّ من فرض اختلاف المفادين، وهذا ينافي فرض الإمضائية في جميع أدلة البراءة الشرعية.
الملاحظة الثالثة: أصل مسألة أنّ ارتكازية معذورية الجاهل بعد الفحص، هذا هل يوجب انصراف دليل البراءة الشرعية ـــــــ الذي هو بحسب الفرض في حدّ نفسه لولا هذا الوجه يكون مطلقاً ــــــــ إلى ما بعد الفحص ؟ هل يوجب منع شموله لحالة ما قبل الفحص، أو لا ؟ مجرد أنّ المرتكز في أذهان العقلاء هو قبح العقاب بلا بيان ومعذورية الجاهل بعد الفحص لماذا يوجب تقييد أدلة البراءة الشرعية واختصاصها بخصوص حالة ما بعد الفحص ؟ هذا الارتكاز العقلائي هو لنكتة كما هو واضح، لماذا ارتكز في أذهان العقلاء أنّ الجاهل بعد الفحص يكون معذوراً ؟ دائماً الأصل المؤمّن، سواء كان عقلياً، أو عقلائياً هو ثابت بنكتة التسهيل، الغرض منه هو تسهيل الأمر على العباد، وهذه النكتة بنظر العقلاء لا مانع من تعميمها لحالة ما قبل الفحص، يعني العقلاء أنفسهم الذين ارتكز في أذهانهم معذورية الجاهل بعد الفحص لا يرون مانعاً من أنّ الشارع يوسّع من دائرة هذه المعذورية، فيجعلها شاملة لحالة ما قبل الفحص بنفس النكتة وهي نكتة التسهيل، قد يريد الشارع توسعة التسهيل على العباد لا يجعل البراءة والمعذورية ثابتة فقط في حالة ما بعد الفحص، يمكن أن تتسع نكتة التسهيل في نظر الشارع، فيوسّع من دائرة المعذورية، فيجعل المعذورية حتى لحالة ما قبل الفحص، مع هذا الشيء الذي ذكرنا، لماذا تكون مجرّد في أذهان العقلاء معذورية الجاهل مرتكزة في أذهانهم لحالة بعد الفحص ؟ هذا لماذا يوجب تقييد الدليل الشرعي، والحال أنّ نفس العقلاء لا يرون مانعاً من أنّ الشارع قد يوسّع من دائرة المعذورية ومن دائرة التسهيل على المكلفين، فيجعل التسهيل بعد الفحص ويجعله أيضاً قبل الفحص ؟ لا ضير في ذلك، فهذا الكلام إنما يتم في حالة ما إذا كانت نكتة الارتكاز بنفسها توجب تضييق الجعل الشرعي وجعله مختصّاً بحالة معينة، لكن النكتة في محل الكلام ليست هكذا؛ بل هي تقتضي تسهيل الأمر على العباد وعدم إيقاعهم في الحرج، والعقلاء يقولون أنّ عدم الإيقاع في الحرج لا يختص بحالة بعد الفحص، فقد يرى الشارع أنّ المصلحة تقتضي التسهيل على العباد حتى في حالة ما قبل الفحص، عندما لا يرى العقلاء مانعاً من ذلك نحن نقول أنّ هذه الارتكازية توجب انصراف الدليل إلى خصوص ما عد الفحص، واختصاص أدلة البراءة جميعاً بحالة ما بعد الفحص، هذا غير واضح. هذه هي الملاحظات على الوجه الأول بتقريبه الثاني.
الوجه الثاني: من وجوه قصور المقتضي عن شمول أدلة البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية لحالة ما قبل الفحص. هذا الوجه مبني على دعوى قصور المقتضي بعد لحاظ مجموع أدلة البراءة بعضها مع بعض ــــــــ والمقصود بأدلة البراءة الثابت منها سنداً ودلالة ــــــــ، إذا لاحظنا أدلّة البراءة الشرعية بعضها مع بعض، فهذا سيؤدي إلى عدم ثبوت البراءة في حالة ما قبل الفحص، هذه خلاصة هذا الوجه.
ويقال في مقام توضيحه: أنّ ما تمّ سنداً ودلالة من أدلة البراءة الشرعية هو عبارة عن آيتين من الكتاب وحديث الرفع. الآيتان من الكتاب هما: الآية الأولى:﴿لا يُكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها﴾. وقوله تعالى:﴿وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يُبيّن لهم ما يتّقون ﴾. وحديث الرفع واضح وتام سنداً ودلالة، ودال على البراءة. الآيتان الشريفتان تدلان على البراءة بلحاظ المستثنى منه، لكنهما في نفس الوقت تدلان على عدم البراءة بلحاظ المستثنى(حتى يُبيّن لهم ما يتقون) قبل أن يبيّن لهم ما يتقون توجد براءة، وهذه البراءة ترتفع إذا بيّن لهم ما يتقون، فتدل على البراءة قبل أن يبيّن لهم ما يتقون، هذا المستثنى، وتدل على عدم البراءة بعد أن يبيّن لهم ما يتقون. وكذلك الآية الأخرى، قبل أن يؤتيها لا يكلّف نفساً، لكن بعد الإيتاء عدم براءة، فلا براءة قبل الإيتاء والتبيين، وإنما تكون البراءة ثابتة قبل ذلك.
أمّا حديث الرفع، فله قابلية الشمول بإطلاقه لحالة ما بعد الفحص وحالة ما قبل الفحص، باعتبار أنّ المكلّف لا يعلم. وبعبارة أخرى: يدلّ حديث الرفع على البراءة في حالة عدم وصول الحكم للمكلّف، وعدم الوصول تارة يكون بعد الفحص وتارةً يكون بسبب عدم الفحص، وبالنتيجة هو لا يعلم ولم يصله الحكم، فهي تشمل الحالتين، ومن هنا يقع التعارض بين الحديث من جهة وبين الآيتين الشريفتين بلحاظ المستثنى من جهة أخرى؛ لأنّ الآيتين بلحاظ المستثنى تقول بعد التبيين وبعد الإيتاء لا توجد براءة، دلالة الآيتين على عدم البراءة بعد التبيين والإيتاء، الكلام في أنه ما هو المقصود بالتبيين والإيتاء ؟ ليس المقصود هو إيصال الشارع للتكليف إلى كل مكلّف، وإنما المقصود هو جعل الحكم في معرض الوصول بحيث لو فحص المكلف عنه لوصل إليه، فهذا هو المقصود بالتبيين والإيتاء الذي ترتفع معه البراءة، فإذا جعل الشارع الحكم في معرض الوصول، فلا براءة؛ بل يجب الاحتياط، سواء فحص المكلّف أو لم يفحص، فلا براءة عندما يكون الحكم في معرض الوصول.
بالنسبة إلى حديث الرفع، فقد قلنا أنّ مقتضى إطلاقه هو شموله لحالة ما قبل الفحص وحالة ما بعد الفحص، ومن هنا يقع التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه بين الآيتين بلحاظ المستثنى وبين حديث الرفع، ومادّة الاجتماع في هذا التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه هي إذا لم يصل الحكم إلى المكلّف لعدم الفحص وليس إذا لم يصل الحكم إليه بعد الفحص، في هذه الحالة حديث الرفع يجعل له البراءة؛ لأنه مطلق، والآيتان الشريفتان بلحاظ المستثنى تنفي البراءة مع افتراض أنّ الحكم في معرض الوصول لكن المكلّف لم يفحص، فلم يصله الحكم لعدم الفحص؛ وحينئذٍ هي تنفي البراءة في هذه الحالة، فيتعارضان في مادّة الاجتماع. هناك قاعدة تقول عندما يتعارض الكتاب مع خبر غير قطعي يقدّم الكتاب، فإذا قدّمنا الكتاب نحكم بأنّه لا براءة قبل الفحص، وهذا هو المطلوب؛ لأنّه قبل الفحص يجب الاحتياط ولا تجري البراءة، فمقتضى الجمع بين أدلة البراءة تختص البراءة بحالة ما بعد الفحص، وهذا هو المطلوب في المقام، فلا تشمل حالة ما قبل الفحص؛ لأنّ الأدلة تعارضت وقدّمنا الكتاب، والمفروض أنّ الكتاب يقول بعد التبيين، يعني بعد جعل الحكم في معرض الوصول يجب الاحتياط ولا تجري البراءة.
كان الكلام في الوجه الأوّل لوجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة الشرعيةقبل الفحص، وقلنا أنّ الظاهر من هذا الوجه هو التقريب الثاني له الذي يقول أنّ إجراء البراءة بعد الفحص هو أمر ارتكازي، فالدليل الشرعي الوارد بهذا المضمون يكون إمضاءً لهذا الارتكاز، فيتحدد بحدوده، وبالتالي تكون أدلّة البراءة الشرعية كلّها دالة على البراءة بعد الفحص ولا إطلاق لها لحالة ما قبل الفحص، وهذا عبارة عن القصور في المقتضي.
هل يتوقف هذا التقريب على إنكار البراءة العقلية كما ذُكر، أو لا ؟ يعني حتى إذا قلنا بأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان هي قاعدة عقلية، مع ذلك يمكن أن يقال بهذا التقريب، باعتبار أنّ البراءة الشرعية تكون إرشاداً إلى ما يحكم به العقل، فأيضاً تتحدد بحدوده، فلا إطلاق لأدلة البراءة الشرعية بحيث يشمل ما هو أوسع دائرة مما يحكم به العقل. هذه المسألة ليست مهمّة جداً حسب الظاهر، أصل هذا الوجه بالتقريب الثاني الذي هو الأقرب، توجد عليه عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أنّ هذا التقريب لو تم في حدّ نفسه، فهو لا يتم في جميع الأصول المؤمّنة؛ لأنّ بعض الأصول المؤمّنة أصول تأسيسية، فلا يُتصوّر فيها الإمضاء من قبيل أصالة الطهارة، ومن قبيل حتى أصالة الإباحة؛ بل يمكن أن يقال ذلك حتّى في الاستصحاب المؤمّن ـــــــــ استصحاب عدم التكليف ـــــــــ هذه أصول تأسيسية لا يوجد عند العقلاء ارتكاز عليها حتى يقال أنّ الدليل الشرعي لابدّ أن يُحمل على هذا الارتكاز ويكون إمضاءً له ويتحدد بحدوده، في أصالة البراءة هناك ارتكاز على معذورية الجاهل؛ حينئذٍ يقال أنّ الدليل الشرعي الوارد بهذا المضمون يكون إمضاءً لما هو المرتكز في أذهان العقلاء، لكن مثل أصالة الطهارة لا نستطيع أن نقول ذلك، حيث لا يوجد في أذهان العقلاء ارتكاز على أصالة الطهارة، فهذا الوجه لا يتم في جميع الأصول العملية المؤمّنة، وإنما يتم في الأصول العملية المؤمنة التي يمكن فيها فرض الإمضاء، فيأتي هذا البيان، أمّا الأصول التأسيسية التي جعلها الشارع واعتبرها تأسيساً وليس لها ارتكاز في أذهان العقلاء، فنواجه حينئذٍ مشكلة أنّه إذا كان هذا هو الوجه الذي يوجب التخصيص وعدم شمول أدلة الأصل المؤمن لحالة ما قبل الفحص، هذا يختص بمثل أصالة البراءة، أمّا أصالة الطهارة، فينبغي أ، تبقى على إطلاقها، فيجوز العمل بها حتى في حالة ما قبل الفحص ــــــــ كلامنا في الشبهة الحكمية لا في الشبهة الموضوعية ـــــــ في الشبهة الحكمية يجوز للمكلّف إذا شك في طهارة شيءٍ أو نجاسته بنحو الشبهة الحكمية، يجوز له أن يتمسك بأصالة الطهارة قبل الفحص؛ لأنّ هذا الوجه لا يمنع من إطلاق الدليل؛ لأنّه لا يجري في مثل الأصول العملية المؤمّنة التأسيسية، وإنما يجري في أصالة العملية الإمضائية.
الملاحظة الثانية: أنّ المُدّعى في هذا الوجه هو أنّ جميع أدلة البراءة الشرعية هي إمضائية؛ إذ لا يُفرّق بين دليل من أدلة البراءة ودليل آخر، وهذا فيه محذور وهو أنّه بناءً على هذا؛ حينئذٍ سوف يتّحد مفاد الأدلة الشرعية مع مفاد ما هو المرتكز في أذهان العقلاء، يعني مع مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ هذا هو مقتضى الإمضاء، ما ارتكز في أذهان العقلاء هو قبح العقاب بلا بيان، وقلنا أنّ أدلة البراءة الشرعية هي إمضاء لما هو مرتكز في أذهان العقلاء، فيكون مفاد الأدلة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتكون جميع أدلة البراءة الشرعية بما فيها حديث الرفع مفادها هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ــــــــ بناءً على الإمضائية ـــــــ ؛ إذا وصلنا إلى هذه النتيجة؛ حينئذٍ نقول: بناءً على هذا سوف يصح ما يقوله الإخباريون من أنّ أدلة وجوب الاحتياط تكون مقدّمة على أدلة البراءة الشرعية وحاكمة عليها؛ لأنّ أدلة البراءة الشرعية ليس فيها خصوصية أكثر من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكما أنّ أدلة الاحتياط الشرعي ـــــــ إذا تمّت ـــــــ تكون حاكمة على البراءة العقلية وعلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا إشكال، لوضوح أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها عدم البيان، ودليل الاحتياط الشرعي ـــــــ إذا تمّ ــــــ يكون بياناً، فيكون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويتقدّم عليها، إذا قلنا أنّ مفاد أدلة البراءة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، يتحد مفادهما؛ وحينئذٍ تكون أدلة الاحتياط الشرعي حاكمة على أدلة البراءة الشرعية كما هي حاكمة على أصل قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ مفاد البراءة الشرعية هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فرض أنّها جميعاً إمضاء لما ارتكز في أذهان العقلاء من قبح العقاب بلا بيان، وهذه نتيجة لا يقبل بها صاحب هذا الوجه ولا غيره من الأصوليين؛ بل يقولون أن أدلة الاحتياط الشرعي ليست حاكمة على أدلة البراءة الشرعية؛ بل هم يقدّمون أدلة البراءة الشرعية على أدلة الاحتياط الشرعي، ويقولون أنّ المأخوذ في أدلة البراءة الشرعية هو عدم البيان على الواقع، ومن الواضح أنّ أدلة الاحتياط الشرعي ليست بياناً على الواقع، وحتى لو فرضنا تمامية أدلة الاحتياط الشرعي، يبقى المكلف شاكاً في الواقع؛ ولذا لا تكون مقدّمة على أدلة البراءة الشرعية، مسألة تقديم أدلة البراءة الشرعية على أدلة الاحتياط الشرعي لا يكون إلاّ إذا فرضنا اختلاف مفاد دليل البراءة الشرعية مع مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذا اختلف مفادهما؛ حينئذٍ يتم كلامهم، بأن يقال أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم مطلق البيان، سواء كان البيان على الحكم الواقعي أو على الحكم الظاهري؛ ولذا تكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّها بيان على الحكم الظاهري، وإن لم تكن بياناً على الحكم الواقعي، فتكون رافعة لموضوعه وحاكمة عليه، لكن أدلة البراءة الشرعية ليست هكذا، حيث أنّ موضوعها هو عدم البيان على الواقع وليس عدم مطلق البيان،؛ حينئذٍ لا تكون أدلة الاحتياط الشرعي حاكمة على أدلة البراءة الشرعية. إذن: حتى يصح كلام الأصوليين في قِبال الإخباريين لابدّ من فرض اختلاف مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان عن أدلة البراءة الشرعية، وهذا ينافي أنّ جميع أدلة البراءة الشرعية إمضائية، فإذا كانت جميع أدلة البراءة الشرعية إمضائية؛ فحينئذ يكون مفادها هو نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ وحينئذٍ نقع في هذه المشكلة التي لا يلتزم بها الأصوليون، فإذن: لابدّ من فرض اختلاف المفادين، وهذا ينافي فرض الإمضائية في جميع أدلة البراءة الشرعية.
الملاحظة الثالثة: أصل مسألة أنّ ارتكازية معذورية الجاهل بعد الفحص، هذا هل يوجب انصراف دليل البراءة الشرعية ـــــــ الذي هو بحسب الفرض في حدّ نفسه لولا هذا الوجه يكون مطلقاً ــــــــ إلى ما بعد الفحص ؟ هل يوجب منع شموله لحالة ما قبل الفحص، أو لا ؟ مجرد أنّ المرتكز في أذهان العقلاء هو قبح العقاب بلا بيان ومعذورية الجاهل بعد الفحص لماذا يوجب تقييد أدلة البراءة الشرعية واختصاصها بخصوص حالة ما بعد الفحص ؟ هذا الارتكاز العقلائي هو لنكتة كما هو واضح، لماذا ارتكز في أذهان العقلاء أنّ الجاهل بعد الفحص يكون معذوراً ؟ دائماً الأصل المؤمّن، سواء كان عقلياً، أو عقلائياً هو ثابت بنكتة التسهيل، الغرض منه هو تسهيل الأمر على العباد، وهذه النكتة بنظر العقلاء لا مانع من تعميمها لحالة ما قبل الفحص، يعني العقلاء أنفسهم الذين ارتكز في أذهانهم معذورية الجاهل بعد الفحص لا يرون مانعاً من أنّ الشارع يوسّع من دائرة هذه المعذورية، فيجعلها شاملة لحالة ما قبل الفحص بنفس النكتة وهي نكتة التسهيل، قد يريد الشارع توسعة التسهيل على العباد لا يجعل البراءة والمعذورية ثابتة فقط في حالة ما بعد الفحص، يمكن أن تتسع نكتة التسهيل في نظر الشارع، فيوسّع من دائرة المعذورية، فيجعل المعذورية حتى لحالة ما قبل الفحص، مع هذا الشيء الذي ذكرنا، لماذا تكون مجرّد في أذهان العقلاء معذورية الجاهل مرتكزة في أذهانهم لحالة بعد الفحص ؟ هذا لماذا يوجب تقييد الدليل الشرعي، والحال أنّ نفس العقلاء لا يرون مانعاً من أنّ الشارع قد يوسّع من دائرة المعذورية ومن دائرة التسهيل على المكلفين، فيجعل التسهيل بعد الفحص ويجعله أيضاً قبل الفحص ؟ لا ضير في ذلك، فهذا الكلام إنما يتم في حالة ما إذا كانت نكتة الارتكاز بنفسها توجب تضييق الجعل الشرعي وجعله مختصّاً بحالة معينة، لكن النكتة في محل الكلام ليست هكذا؛ بل هي تقتضي تسهيل الأمر على العباد وعدم إيقاعهم في الحرج، والعقلاء يقولون أنّ عدم الإيقاع في الحرج لا يختص بحالة بعد الفحص، فقد يرى الشارع أنّ المصلحة تقتضي التسهيل على العباد حتى في حالة ما قبل الفحص، عندما لا يرى العقلاء مانعاً من ذلك نحن نقول أنّ هذه الارتكازية توجب انصراف الدليل إلى خصوص ما عد الفحص، واختصاص أدلة البراءة جميعاً بحالة ما بعد الفحص، هذا غير واضح. هذه هي الملاحظات على الوجه الأول بتقريبه الثاني.
الوجه الثاني: من وجوه قصور المقتضي عن شمول أدلة البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية لحالة ما قبل الفحص. هذا الوجه مبني على دعوى قصور المقتضي بعد لحاظ مجموع أدلة البراءة بعضها مع بعض ــــــــ والمقصود بأدلة البراءة الثابت منها سنداً ودلالة ــــــــ، إذا لاحظنا أدلّة البراءة الشرعية بعضها مع بعض، فهذا سيؤدي إلى عدم ثبوت البراءة في حالة ما قبل الفحص، هذه خلاصة هذا الوجه.
ويقال في مقام توضيحه: أنّ ما تمّ سنداً ودلالة من أدلة البراءة الشرعية هو عبارة عن آيتين من الكتاب وحديث الرفع. الآيتان من الكتاب هما: الآية الأولى:﴿لا يُكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها﴾. وقوله تعالى:﴿وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يُبيّن لهم ما يتّقون ﴾. وحديث الرفع واضح وتام سنداً ودلالة، ودال على البراءة. الآيتان الشريفتان تدلان على البراءة بلحاظ المستثنى منه، لكنهما في نفس الوقت تدلان على عدم البراءة بلحاظ المستثنى(حتى يُبيّن لهم ما يتقون) قبل أن يبيّن لهم ما يتقون توجد براءة، وهذه البراءة ترتفع إذا بيّن لهم ما يتقون، فتدل على البراءة قبل أن يبيّن لهم ما يتقون، هذا المستثنى، وتدل على عدم البراءة بعد أن يبيّن لهم ما يتقون. وكذلك الآية الأخرى، قبل أن يؤتيها لا يكلّف نفساً، لكن بعد الإيتاء عدم براءة، فلا براءة قبل الإيتاء والتبيين، وإنما تكون البراءة ثابتة قبل ذلك.
أمّا حديث الرفع، فله قابلية الشمول بإطلاقه لحالة ما بعد الفحص وحالة ما قبل الفحص، باعتبار أنّ المكلّف لا يعلم. وبعبارة أخرى: يدلّ حديث الرفع على البراءة في حالة عدم وصول الحكم للمكلّف، وعدم الوصول تارة يكون بعد الفحص وتارةً يكون بسبب عدم الفحص، وبالنتيجة هو لا يعلم ولم يصله الحكم، فهي تشمل الحالتين، ومن هنا يقع التعارض بين الحديث من جهة وبين الآيتين الشريفتين بلحاظ المستثنى من جهة أخرى؛ لأنّ الآيتين بلحاظ المستثنى تقول بعد التبيين وبعد الإيتاء لا توجد براءة، دلالة الآيتين على عدم البراءة بعد التبيين والإيتاء، الكلام في أنه ما هو المقصود بالتبيين والإيتاء ؟ ليس المقصود هو إيصال الشارع للتكليف إلى كل مكلّف، وإنما المقصود هو جعل الحكم في معرض الوصول بحيث لو فحص المكلف عنه لوصل إليه، فهذا هو المقصود بالتبيين والإيتاء الذي ترتفع معه البراءة، فإذا جعل الشارع الحكم في معرض الوصول، فلا براءة؛ بل يجب الاحتياط، سواء فحص المكلّف أو لم يفحص، فلا براءة عندما يكون الحكم في معرض الوصول.
بالنسبة إلى حديث الرفع، فقد قلنا أنّ مقتضى إطلاقه هو شموله لحالة ما قبل الفحص وحالة ما بعد الفحص، ومن هنا يقع التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه بين الآيتين بلحاظ المستثنى وبين حديث الرفع، ومادّة الاجتماع في هذا التعارض بنحو العموم والخصوص من وجه هي إذا لم يصل الحكم إلى المكلّف لعدم الفحص وليس إذا لم يصل الحكم إليه بعد الفحص، في هذه الحالة حديث الرفع يجعل له البراءة؛ لأنه مطلق، والآيتان الشريفتان بلحاظ المستثنى تنفي البراءة مع افتراض أنّ الحكم في معرض الوصول لكن المكلّف لم يفحص، فلم يصله الحكم لعدم الفحص؛ وحينئذٍ هي تنفي البراءة في هذه الحالة، فيتعارضان في مادّة الاجتماع. هناك قاعدة تقول عندما يتعارض الكتاب مع خبر غير قطعي يقدّم الكتاب، فإذا قدّمنا الكتاب نحكم بأنّه لا براءة قبل الفحص، وهذا هو المطلوب؛ لأنّه قبل الفحص يجب الاحتياط ولا تجري البراءة، فمقتضى الجمع بين أدلة البراءة تختص البراءة بحالة ما بعد الفحص، وهذا هو المطلوب في المقام، فلا تشمل حالة ما قبل الفحص؛ لأنّ الأدلة تعارضت وقدّمنا الكتاب، والمفروض أنّ الكتاب يقول بعد التبيين، يعني بعد جعل الحكم في معرض الوصول يجب الاحتياط ولا تجري البراءة.