37/02/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / الزيادة في الواجب
ندخل الآن في المطلب الأخير قبل الانتقال إلى الخاتمة التي نبحث فيها عن شرائط جريان الأصول العملية، بعد أن فرغنا عن الأصول العملية يقع البحث في الخاتمة في شرائط جريان الأصول العملية.
تعرض الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) إلى بحثٍ تحت عنوان(دوران الأمر بين الواجب والحرام), وذكر بأنه من اقسام الشك في المكلف به, وهذا يكون في ما اذا اشتبه الواجب بالحرام كما لو علم إجمالاً بوجوب أحد شيئين، وكذلك علم إجمالاً بحرمة أحدهما الاخر، وفُرِض اشتباه الواجب بالحرام، ففي هذه الحالة يوجد عند المكلّف علم إجمالي بوجوب أحدهما، وعلم إجمالي آخر بحرمة أحدهما، وفي نفس الوقت يدور أمر كل منهما بين المحذورين، أي بين أن يكون واجباً أو يكون حراماً, لأنه يعلم في هذا الفرض بأنّ كل واحد منهما هو إمّا واجب أو حرام, فكل فعلٍ على حِده يدور أمره بين المحذورين, فكأنّ العلوم الاجمالية في هذا الفرض متعدّدة.
وهذه المسألة غير مسألة دوران الأمر بين المحذورين في الفعل الواحد التي تقدّم بحثها في أصالة التخيير، فهناك يعلم المكلّف بأنّ لديه فعلاً واحداً يدور أمره بين الواجب والحرام، ونستطيع التعبير عن هذا بأنه يعلم بأنه إمّا يكون الفعل واجباً والترك حرام، وإمّا العكس، أي أنّ الترك واجب والفعل حرام, وليس في مسألة دوران الأمر بين المحذورين أكثر من ذلك.
وهناك مسألة اخرى تكلّمنا عنها في مسألة دوران الأمر بين المحذورين وهي ما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في وقائع متعدّدة، ومثّلوا لذلك بما إذا علم المكلف بأنه إمّا أن يكون قد حلِف على أن يجلس في مكانٍ معينٍ في صباح كل يوم، وإمّا أنه حلِف على ترك الجلوس في ذلك المكان في صباح كل يوم، فيكون الجلوس في صباح اليوم الأول دائر أمره بين الوجوب والتحريم، وهكذا في صباح اليوم الثاني، وهكذا في صباح اليوم الثالث... وهكذا, فالفعل يدور أمره بين الوجوب والتحريم في وقائع متعدّدة, فالجلوس في كل صباح يدور أمره بين محذورين ولم يكن هذا الأمر موجوداً في أصل المسألة؛ لأنه مثلاً إمّا أن يكون حلِف على السفر، أو حلِف على ترك السفر، وليس ذلك في كل يومٍ، وإنما في يوم معين، فيدور الأمر بين أن يكون السفر واجباً، وبين أن يكون حراماً.
وهذه المسألة ــــــــــ دوران الأمر بين محذورين في وقائع متعدّدة ـــــــــ تشبه مسألتنا باعتبار أنّ العلم الاجمالي فيها يتعدّد بتعدّد الوقائع, وهذا التعدّد موجود في محل كلامنا باعتبار أنّ كل فعلٍ من الفعلين يدور أمره بين أن يكون واجباً، وبين أن يكون حراماً، فالمكلّف عندما يلتفت إلى هذا الفعل على حِده فأنه يعلم بأنه إمّا أن يكون واجباً، وإمّا أن يكون حراماً، وكذلك الكلام في الفعل الاخر عندما يأخذه على حِده, فيتعدّد العلم الإجمالي, فيكون شبيه دوران الأمر بين المحذورين بلحاظ وقائع متعدّدة, فهناك وقائع متعددة وفي المقام أفعال متعددة، فيتعدّد العلم الإجمالي بلحاظها. وهناك مشابهة من جهةٍ أخرى بين المقامين هي أنّ هناك لم يكن المكلف قادراً على الموافقة القطعية لكل واحدٍ من العلمين الإجماليين؛ لأنّها لا تتحقق لا في الفعل ولا في الترك، فمثلاً: في صباح اليوم الأول هو يعلم أنّ الجلوس إمّا أن يكون واجباً، وإمّا أن يكون حراماً، فكيف يوافقه قطعاً ؟! وفي محل الكلام تتعذّر الموافقة القطعية ايضاً؛ لأنه بلحاظ كل واحدٍ من الفعلين يدور أمره بين المحذورين وهكذا الفعل الثاني, فإذا فعل يحتمل الموافقة، وإذا ترك كذلك.
ذكر الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) أنّ الموافقة القطعية لأحد العلمين لا تكون منجّزة؛ لأنها تستلزم المخالفة القطعية للعلم الاخر, فالعلمين الأساسيين هما: العلم الأول الذي هو أنه يعلم بوجوب أحدهما، والعلم الثاني هو العلم بحرمة أحدهما الاخر, فالعلم بوجوب أحدهما موافقته القطعية تكون بالإتيان بكلا الفعلين، فهوـــــــــ أي الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ــــــــ يقول: بأنّ هذا فيه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعلم بحرمة أحدهما, كما أنّ الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الثاني التي تتحقق بالترك لكل منهما فيها مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الاول الذي هو عبارة عن العلم بوجوب أحدهما, ومن هنا لا يمكن الالتزام بالموافقة القطعية لكلا العلمين، ولا تتنجّز على المكلف؛ لأنّ فيها مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الاخر ولا مائز بين العلمين الإجماليين، ومن هنا يقول: بعد سقوط الموافقة القطعية لهذين العلمين يتعيّن المصير إلى الموافقة الاحتمالية, وهي تكون بأن يأتي بأحدهما ويترك الاخر. نعم هو يتخيّر بين ما يفعله ويتركه، فيستطيع أن يفعل الاول ويترك الثاني، ويستطيع أن يعكس؛ لأنّ الموافقة الاحتمالية تتحققّ في كلٍ منهما.[1] يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه):( والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك، لأن الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الآخر).
ويظهر من هذا الكلام أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يقول: بأنّ هذا التخيير ابتدائي وليس استمرارياً, بمعنى أنه الآن مخير في الإتيان بالأول وترك الثاني، أو يعكس، فإذا اختار فعل الأول وجب عليه ترك الآخر، وهذا معنى أنّ التخيير ابتدائي، وإذا اختار ترك الأول يجب عليه فعل الثاني, ولا يصح أن يقول بأنّي اتعامل مع الفعل الأول لوحده فأختار فعله، ثمّ يأتي إلى الفعل الثاني فيقول أنّي اتعامل مع هذا الفعل لوحده واختار فعله، أو يختار ترك الأول ويختار ترك الثاني ايضاً، فأنه لا يصح. وفي مقابل التخيير الابتدائي التخيير الاستمراري الذي يعني أنه في كل واحدٍ من الفعلين هو مخيّر, فيأتي المكلّف إلى الفعل الأول، فيقول بأنّ امره عندي يدور بين الوجوب والتحريم، والحكم هو التخيير، فأختار فعله، ثمّ يأتي إلى الفعل الثاني، فيقول بأنّ أمره عندي يدور بين الوجوب والتحريم، فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين، ويقول بأنّي مخيرٌ بينهما، فأختار فعله, أو يختار تركهما، وهذا هو معنى التخيير الاستمراري، كما قيل بذلك في تعدد الوقائع، فكل واقعة يدور أمرها بين الوجوب والتحريم، فالجلوس في اليوم الأول يدور أمره بين الوجوب والتحريم، فيتخيّر، والجلوس في اليوم الثاني أيضاً يدور أمره بين الوجوب والتحريم، فيتخيّر أيضاً..... وهكذا، فيكون التخيير استمرارياً.
وجه التخيير الاستمراري: هو أن يقال بأنّ كل واحدٍ من الفعلين هو واقعة مستقلّة يدور أمرها بين المحذورين؛ لأنه يعلم إمّا بوجوبه، أو حرمته، ومع تعذّر الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي يحكم بالتخيير، فيتخيّر المكلّف في هذا الفعل الواحد بين فعله وتركه، والفعل الثاني واقعة مستقلّة أخرى، فيأتي فيها نفس الكلام، أي يتخيّر المكلف بين الفعل والترك.
وجه التخيير الابتدائي: الذي هو ظاهر كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، هو أن العلم الإجمالي في كل واحدٍ من الفعلين وإن سقط عن المنجّزية باعتبار عدم قدرة المكلّف على امتثاله, لكن هذين العلمين الإجماليين في الفعلين، يعني في كل فعلٍ على حِده في الحقيقة تولدا من العلمين الإجماليين المفروضين في محل الكلام، والعلمان هما أنه يعلم إجمالاً بوجوب أحد الفعلين ويعلم علماً اجمالياً آخر بحرمة احد الفعلين, والآن نسأل: هل يقبل العلمان الاساسيان المفروضان في محل الكلام التنجيز, أي هل يمكن موافقتهما القطعية ؟ وهل يمكن مخالفتهما القطعية ؟
نعم يقبلان التنجيز،فالعلم الإجمالي الأول بلحاظ مجموع الفعلين هو يعلم أنّ أحدهما واجب، وهذا العلم لوحده قابل للتنجيز، ويمكن أن نتصوّر فيه المخالفة القطعية، وذلك بترك كلا الفعلين, مع العلم بوجوب أحدهما كالظهر والجمعة، وكذلك العلم الاجمالي الأساسي الثاني ـــــــــ العلم بحرمة احد الفعلين ـــــــــ فأنه في حدِّ نفسه قابل للتنجيز وتُتصوّر فيه المخالفة القطعية، وذلك بأن يأتي بكلٍ منهما؛ وحينئذ كل علمٍ اجمالي ينجّز حرمة مخالفته القطعية؛ لأنه لا إشكال في تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية بعد فرض إمكانها, فالعلم الاجمالي الأول بأنّ أحدهما واجب ينجّز حرمة المخالفة القطعية بتركهما معاً، والعلم الاجمالي الثاني بحرمة أحدهما ينجّز حرمة مخالفته القطعية بفعلهما معاً، وبالتالي نجّز هذان العلمان الإجماليان على المكلف حرمة ترك كلا الفعلين وحرمة فعلهما معاً, وحينئذ تكون النتيجة أنّ هذا المكلف لا يجوز له أن يفعل كلا الفعلين معاً؛ لأنّ هذا مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الذي يقول بأنّ أحدهما حرام، ولا يجوز له أن يترك كلا الفعلين معاً؛ لأنّ فيه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الذي يقول بأنّ احدهما واجب. والنتيجة هي ما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، هي أن يفعل أحدهما ويترك الاخر، وإذا اختار فعل هذا الأول يجب عليه ترك الثاني، وإذا اختار ترك الأول يجب عليه فعل الثاني.
ندخل الآن في المطلب الأخير قبل الانتقال إلى الخاتمة التي نبحث فيها عن شرائط جريان الأصول العملية، بعد أن فرغنا عن الأصول العملية يقع البحث في الخاتمة في شرائط جريان الأصول العملية.
تعرض الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) إلى بحثٍ تحت عنوان(دوران الأمر بين الواجب والحرام), وذكر بأنه من اقسام الشك في المكلف به, وهذا يكون في ما اذا اشتبه الواجب بالحرام كما لو علم إجمالاً بوجوب أحد شيئين، وكذلك علم إجمالاً بحرمة أحدهما الاخر، وفُرِض اشتباه الواجب بالحرام، ففي هذه الحالة يوجد عند المكلّف علم إجمالي بوجوب أحدهما، وعلم إجمالي آخر بحرمة أحدهما، وفي نفس الوقت يدور أمر كل منهما بين المحذورين، أي بين أن يكون واجباً أو يكون حراماً, لأنه يعلم في هذا الفرض بأنّ كل واحد منهما هو إمّا واجب أو حرام, فكل فعلٍ على حِده يدور أمره بين المحذورين, فكأنّ العلوم الاجمالية في هذا الفرض متعدّدة.
وهذه المسألة غير مسألة دوران الأمر بين المحذورين في الفعل الواحد التي تقدّم بحثها في أصالة التخيير، فهناك يعلم المكلّف بأنّ لديه فعلاً واحداً يدور أمره بين الواجب والحرام، ونستطيع التعبير عن هذا بأنه يعلم بأنه إمّا يكون الفعل واجباً والترك حرام، وإمّا العكس، أي أنّ الترك واجب والفعل حرام, وليس في مسألة دوران الأمر بين المحذورين أكثر من ذلك.
وهناك مسألة اخرى تكلّمنا عنها في مسألة دوران الأمر بين المحذورين وهي ما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في وقائع متعدّدة، ومثّلوا لذلك بما إذا علم المكلف بأنه إمّا أن يكون قد حلِف على أن يجلس في مكانٍ معينٍ في صباح كل يوم، وإمّا أنه حلِف على ترك الجلوس في ذلك المكان في صباح كل يوم، فيكون الجلوس في صباح اليوم الأول دائر أمره بين الوجوب والتحريم، وهكذا في صباح اليوم الثاني، وهكذا في صباح اليوم الثالث... وهكذا, فالفعل يدور أمره بين الوجوب والتحريم في وقائع متعدّدة, فالجلوس في كل صباح يدور أمره بين محذورين ولم يكن هذا الأمر موجوداً في أصل المسألة؛ لأنه مثلاً إمّا أن يكون حلِف على السفر، أو حلِف على ترك السفر، وليس ذلك في كل يومٍ، وإنما في يوم معين، فيدور الأمر بين أن يكون السفر واجباً، وبين أن يكون حراماً.
وهذه المسألة ــــــــــ دوران الأمر بين محذورين في وقائع متعدّدة ـــــــــ تشبه مسألتنا باعتبار أنّ العلم الاجمالي فيها يتعدّد بتعدّد الوقائع, وهذا التعدّد موجود في محل كلامنا باعتبار أنّ كل فعلٍ من الفعلين يدور أمره بين أن يكون واجباً، وبين أن يكون حراماً، فالمكلّف عندما يلتفت إلى هذا الفعل على حِده فأنه يعلم بأنه إمّا أن يكون واجباً، وإمّا أن يكون حراماً، وكذلك الكلام في الفعل الاخر عندما يأخذه على حِده, فيتعدّد العلم الإجمالي, فيكون شبيه دوران الأمر بين المحذورين بلحاظ وقائع متعدّدة, فهناك وقائع متعددة وفي المقام أفعال متعددة، فيتعدّد العلم الإجمالي بلحاظها. وهناك مشابهة من جهةٍ أخرى بين المقامين هي أنّ هناك لم يكن المكلف قادراً على الموافقة القطعية لكل واحدٍ من العلمين الإجماليين؛ لأنّها لا تتحقق لا في الفعل ولا في الترك، فمثلاً: في صباح اليوم الأول هو يعلم أنّ الجلوس إمّا أن يكون واجباً، وإمّا أن يكون حراماً، فكيف يوافقه قطعاً ؟! وفي محل الكلام تتعذّر الموافقة القطعية ايضاً؛ لأنه بلحاظ كل واحدٍ من الفعلين يدور أمره بين المحذورين وهكذا الفعل الثاني, فإذا فعل يحتمل الموافقة، وإذا ترك كذلك.
ذكر الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) أنّ الموافقة القطعية لأحد العلمين لا تكون منجّزة؛ لأنها تستلزم المخالفة القطعية للعلم الاخر, فالعلمين الأساسيين هما: العلم الأول الذي هو أنه يعلم بوجوب أحدهما، والعلم الثاني هو العلم بحرمة أحدهما الاخر, فالعلم بوجوب أحدهما موافقته القطعية تكون بالإتيان بكلا الفعلين، فهوـــــــــ أي الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ــــــــ يقول: بأنّ هذا فيه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الثاني؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعلم بحرمة أحدهما, كما أنّ الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الثاني التي تتحقق بالترك لكل منهما فيها مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الاول الذي هو عبارة عن العلم بوجوب أحدهما, ومن هنا لا يمكن الالتزام بالموافقة القطعية لكلا العلمين، ولا تتنجّز على المكلف؛ لأنّ فيها مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الاخر ولا مائز بين العلمين الإجماليين، ومن هنا يقول: بعد سقوط الموافقة القطعية لهذين العلمين يتعيّن المصير إلى الموافقة الاحتمالية, وهي تكون بأن يأتي بأحدهما ويترك الاخر. نعم هو يتخيّر بين ما يفعله ويتركه، فيستطيع أن يفعل الاول ويترك الثاني، ويستطيع أن يعكس؛ لأنّ الموافقة الاحتمالية تتحققّ في كلٍ منهما.[1] يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه):( والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك، لأن الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الآخر).
ويظهر من هذا الكلام أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يقول: بأنّ هذا التخيير ابتدائي وليس استمرارياً, بمعنى أنه الآن مخير في الإتيان بالأول وترك الثاني، أو يعكس، فإذا اختار فعل الأول وجب عليه ترك الآخر، وهذا معنى أنّ التخيير ابتدائي، وإذا اختار ترك الأول يجب عليه فعل الثاني, ولا يصح أن يقول بأنّي اتعامل مع الفعل الأول لوحده فأختار فعله، ثمّ يأتي إلى الفعل الثاني فيقول أنّي اتعامل مع هذا الفعل لوحده واختار فعله، أو يختار ترك الأول ويختار ترك الثاني ايضاً، فأنه لا يصح. وفي مقابل التخيير الابتدائي التخيير الاستمراري الذي يعني أنه في كل واحدٍ من الفعلين هو مخيّر, فيأتي المكلّف إلى الفعل الأول، فيقول بأنّ امره عندي يدور بين الوجوب والتحريم، والحكم هو التخيير، فأختار فعله، ثمّ يأتي إلى الفعل الثاني، فيقول بأنّ أمره عندي يدور بين الوجوب والتحريم، فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين، ويقول بأنّي مخيرٌ بينهما، فأختار فعله, أو يختار تركهما، وهذا هو معنى التخيير الاستمراري، كما قيل بذلك في تعدد الوقائع، فكل واقعة يدور أمرها بين الوجوب والتحريم، فالجلوس في اليوم الأول يدور أمره بين الوجوب والتحريم، فيتخيّر، والجلوس في اليوم الثاني أيضاً يدور أمره بين الوجوب والتحريم، فيتخيّر أيضاً..... وهكذا، فيكون التخيير استمرارياً.
وجه التخيير الاستمراري: هو أن يقال بأنّ كل واحدٍ من الفعلين هو واقعة مستقلّة يدور أمرها بين المحذورين؛ لأنه يعلم إمّا بوجوبه، أو حرمته، ومع تعذّر الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي يحكم بالتخيير، فيتخيّر المكلّف في هذا الفعل الواحد بين فعله وتركه، والفعل الثاني واقعة مستقلّة أخرى، فيأتي فيها نفس الكلام، أي يتخيّر المكلف بين الفعل والترك.
وجه التخيير الابتدائي: الذي هو ظاهر كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، هو أن العلم الإجمالي في كل واحدٍ من الفعلين وإن سقط عن المنجّزية باعتبار عدم قدرة المكلّف على امتثاله, لكن هذين العلمين الإجماليين في الفعلين، يعني في كل فعلٍ على حِده في الحقيقة تولدا من العلمين الإجماليين المفروضين في محل الكلام، والعلمان هما أنه يعلم إجمالاً بوجوب أحد الفعلين ويعلم علماً اجمالياً آخر بحرمة احد الفعلين, والآن نسأل: هل يقبل العلمان الاساسيان المفروضان في محل الكلام التنجيز, أي هل يمكن موافقتهما القطعية ؟ وهل يمكن مخالفتهما القطعية ؟
نعم يقبلان التنجيز،فالعلم الإجمالي الأول بلحاظ مجموع الفعلين هو يعلم أنّ أحدهما واجب، وهذا العلم لوحده قابل للتنجيز، ويمكن أن نتصوّر فيه المخالفة القطعية، وذلك بترك كلا الفعلين, مع العلم بوجوب أحدهما كالظهر والجمعة، وكذلك العلم الاجمالي الأساسي الثاني ـــــــــ العلم بحرمة احد الفعلين ـــــــــ فأنه في حدِّ نفسه قابل للتنجيز وتُتصوّر فيه المخالفة القطعية، وذلك بأن يأتي بكلٍ منهما؛ وحينئذ كل علمٍ اجمالي ينجّز حرمة مخالفته القطعية؛ لأنه لا إشكال في تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية بعد فرض إمكانها, فالعلم الاجمالي الأول بأنّ أحدهما واجب ينجّز حرمة المخالفة القطعية بتركهما معاً، والعلم الاجمالي الثاني بحرمة أحدهما ينجّز حرمة مخالفته القطعية بفعلهما معاً، وبالتالي نجّز هذان العلمان الإجماليان على المكلف حرمة ترك كلا الفعلين وحرمة فعلهما معاً, وحينئذ تكون النتيجة أنّ هذا المكلف لا يجوز له أن يفعل كلا الفعلين معاً؛ لأنّ هذا مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الذي يقول بأنّ أحدهما حرام، ولا يجوز له أن يترك كلا الفعلين معاً؛ لأنّ فيه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي الذي يقول بأنّ احدهما واجب. والنتيجة هي ما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، هي أن يفعل أحدهما ويترك الاخر، وإذا اختار فعل هذا الأول يجب عليه ترك الثاني، وإذا اختار ترك الأول يجب عليه فعل الثاني.