37/03/21
تحمیل
الموضـوع:- الغناء في الأعراس - مسألة ( 17 ) حكم الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
الإشكال الثالث:- إنّ الغناء يدعو إلى الفجور والفسوق والانحراف فهو قبيحٌ عقلاً ، وما كان قبيحا عقلاً لا يمكن التخصيص بلحاظه فإنّ ذلك خلف كونه قبيحاً؛ إذ لو خُصّص وجار فمعنى ذلك إمّا ارتفاع القبح وهو خلف كونه قبيح أو الحكم بجوازه رغم كونه قبيحاً وهذا ايضاً لا يمكن ، فإذن لا يمكن الحكم بجوازه فإنّ قبحه عقلي باعتبار أنّه يدعو إلى الفسوق والفجور.
وأيضاً توجد بعض الروايات التي عبّرت عنه بأنّه زورٌ وباطلٌ ، ومعلومٌ أنّ الزور والباطل لا يقبل التخصيص عرفاً إذ ذلك خلف كونه باطلاً ، وهل يصحّ أن تقول ( الباطل حرامٌ ولا يجوز إلّا في الأعراس ) ؟!! إنّه لا يمكن ذلك.
ومن جملة من أشار إلى هذا الإشكال السيد صاحب مفتاح الكرامة ، حيث قال ما نصّه:- ( ثم إنا قد نقول إنّ تحريم الغناء كتحريم الزنا أخباره متواترة وأدلته متكاثرة عبّر عنه بقول الزور ولهو الحديث في القرآن ومطلق الروايات بأنّه الباعث على الفجور والفسوق فكان تحريمه عقلياً لا يقبل تقييداً ولا تخصيصاً والأخبار الواردة في ذلك محمولة على التقيّة ليلحظ ذلك )[1] .
وفيه:- إنّه تارةً يكون المقصود الإشارة إلى المحذور بلحاظ عالم الثبوت فيقال إنّه مادام قبيحاً عقلاً فهو لا يقبل التخصيص ثبوتاً بقطع النظر عن عالم الإثبات ولسان الأدلّة ، وأخرى يدّعى المحذور بلحاظ عالم الإثبات يعني يقال إنّ لسان الدليل حيث إنّه أخذ عنوان الزور والباطل فسوف يكون آبياً عن التخصيص عرفاً.
وعبارة السيد صاحب مفتاح الكرامة(قده) تلتئم مع الاثنين معاً فصدرها لعله يشير إلى المحذور الثبوتي بينما الذيل يشير إلى المحذور الإثباتي أو بالعكس.
أقول:-
إنّ كان يقصد الأوّل - يعني أنّه مادام قبيحاً عقلاً فلا يمكن التخصيص ثبوتاً - فيردّه:- إنّ هذا وجيهٌ لو كان الغناء موجباً للقبح بنحو العلّية التامّة وليس بنحو المقتضي ، فإنّه لو كان مقتضياً لذلك بنحو العلّية التامّة فسوف يصير كعنوان الظلم ، فإنّ عنوان الظلم علّة تامّةٌ للقبح عقلاً بحيث كلّما صدق عنوان الظلم كان قبيحاً عقلاً ولا يمكن أن يكون هناك ظلمٌ ولا يكون هناك قبحٌ عقلي ، فهو إذن علّة تامّة للقبح ، بخلاف الكذب فإنّه مقتضٍ للقبح وليس علّة تامّة فيمكن أن يتخلّف في بعض الأحيان ولا يكون قبيحاً كما إذا كان إصلاح ذات البين مثلاً ، فنقول هو قبيحٌ يعني لو لم يطرأ مانعٌ يمنع من قبحه ، فهو فيه اقتضاء القبح ، أما إذا طرأ مانعٌ فالمقتضي لا يؤثر حينئذٍ.
فالغناء لو كان من قبيل الظلم - يعني هو علّة تامّة للقبح - فآنذاك نسلّم أنّه لا يمكن التخصيص ثبوتاً ، فلا يمكن أن يحكم ويقال ( إلّا في الأعراس فهو يجوز ) فإنّ هذا لا يمكن مادام قبيحاً بحو العلّة التامّة .
بيد أنّ هذا الاحتمال باطلٌ في حدّ نفسة ، فإنّ العنوان الذي يكون بنحو العلّة التامّة للقبح ينحصر في الظلم فقط وفي جانب الحسن ينحصر بالعدل فقط والظاهر أنّه لا يوجد عنوانٌ آخر يكون مستلزماً وموجباً للحسن أو القبح بنحو العلّة التامّة غير هذين.
على أنّه لو كان قبيحاً بنحو العليّة التامّة يلزم أن لا نحتاج إلى دليلٍ إلى تحريم الغناء كالظلم فإنّ الظلم لا يحتاج إلى دليلٍ لتحريمه بل هو من الواضحات العقلية وما جاء شرعاً يكون مؤكداً للحكم العقلي ، والحال أنّ مسألة حرمة الغناء ليست مسألة واضحة عقلاً وإلا لما احتيج إلى إقامة الدليل ، ولَمَا أنكر الحرمة بعضٌ كالسبزواري والكاشاني(قده) وقالوا بأنّه ليس بحرام وإنما الحرام هو المقارِن ولم يقل لهما أحدٌ إنه لا يمكن أصلاً أن لا يكون الغناء حرام !!
إذن حرمة الغناء سمعيّة وليست عقليّة ، فإذا كان صاحب مفتاح الكرامة وغيره ممّن تمسّك بهذا الوجه يقصد هذا المعنى فهذا لا نوافق عليه.
ولعلّ صاحب الجواهر(قده) أشار إلى ما ذكرناه في ردّ صاحب مفتاح الكرامة بقوله:- ( إنّ الطرب والخفّة ونحوهما قد حلّل كثير من أسبابها كالجماع وتقبيل المحبوب المحلّل وضمّه والمسامرة معه ونحوه ممّا يفيد الإنسان طرباً أشدّ من الغناء فليس تحريمه حينئذٍ إلّا سمعياً )[2] .
وإن كان يقصد الاحتمال الثاني - يعني أنّ لسان الدليل آبٍ عن التخصيص فالمسألة إثباتية وليست ثبوتية - فيردّه:- إنّ الذي لا يقبل الخصيص عرفاً هو عنوان الباطل والزور لا عنوان الغناء ، وفرقٌ واضح بين المطلبين ، فتارةً النصّ يقول ( الباطل يجوز في حالة الأعراس ) فهنا يأتي الإشكال وهو أنّه إذا كان باطلاً كيف يجوز ؟! فالبطلان مع الجواز لا يلتئمان عرفاً فيتولّد المحذور الإثباتي ، ولكن لم يرد النصّ كذلك ، فهو لم يقل ( الباطل لا يجوز ) ، وإنما قال ( الغناء من الباطل إلّا في الأعراس ) ، يعني هو ليس من الباطل لا أنّه باطلٌ ويجوز ، فهذا الاستثناء هو استثناءٌ من الموضوع - يعني من الحكم عليه بالبطلان - لا أنّه باطلٌ ونحكم عليه بكونه جائزاً ، فلا نخلط بين القضيّتين.
وهذا نظير ما يقال ( الكذب قبيحٌ وباطل إلّا في إصلاح ذات البين ) ، يعني هو ليس من شريحة الباطل ، وهذا شيءٌ ممكنٌ لا محذور فيه وهو مقبولٌ عرفاً.
إن قلت:- إنّ ما ذكر في مقام مناقشة هذا الوجه شيءٌ علميٌّ وجيه ، ولكن يبقى في النفس شيءٌ وهو أنّ الغناء مثارٌ للانحراف - كما قيل - فكيف تحتمل أنّ الشارع يجوّزه في الأعراس ؟! إنّ هذا وجداناً يبقى يزاحم هذه القضية العلميّة .
قلت:- إذا كان الغناء مع الدّفّ والموسيقى ودخول الرجال على النساء وما شاكل ذلك فربما يكون الأمر كما تقول فإنّ هذا في الحقيقة انحرافٌ واضح ولا نحتمل في حقّ الإسلام أنّ يجوّز هذا الانحراف ، لكن نحن حينما نريد أن نقول بجواز الغناء في الأعراس فهو بشرائطٍ ، فلا آلات موسيقى ولا دخول الرجال على النساء ولا غير ذلك وإنّما المرأة تغنّي للنساء من دون استعمالٍ لآلات اللهو وغير ذلك وهذا المقدار لا يوجب ذلك الانحراف الذي لا يقبل تجويز الإسلام له ، وهذا في الحقيقة نجعله من مرونة الإسلام وهذا شيءٌ لا نجد منه مانعاً ، أمّا الذي تجد منه مانعاً وتشعر بالوجدان بأنّه لا يقبل الجواز هو ما إذا كان مقترناً بتلك الأمور الأخرى.
إذن اتضح أنّ هذا الإشكال قابلٌ للمناقشة والاندفاع.
الإشكال الرابع:- ما ذكره الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب من أنّ الرواية يرويها أبو بصير والأخذ بروايته أوّل الكلام[3] .
ومنشأ التشكيك في أبي بصير أحد أمرين:-
الأوّل:- وجود رواياتٍ ذامّة له ، فمن يطالع كتاب اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي(قده) يجد روايات ذامّة له ، ومع وجود روايات ذامّة كيف نأخذ برواياته ؟!!
والجواب واضحٌ:- فإنّنا نقول إنّه كما توجد روايات ذامّة له توجد روايات مادحة أيضاً ، وهذا شأن أكابر رواتنا ، فهي لم يسلم منها حتى مثل زرارة ، فهذه لابد من حملها على بعض المحامل ، وهذه مشكلةٌ غير مهمّة.
الثاني:- إنّ أبا بصير هو كنية لمتعدّدٍ ، وهم خمسة ، الأوّل أبو بصير يحيى بن القاسم - ابن أبي القاسم - والذي ولد فاقداً لبصره وقائده عليّ بن أبي حمزة وهذا الرجل يوجد في حقّه توثيق من قبل النجاشي والطوسي وممدوح بدرجة عظيمة ، والثاني ليث بن البختري المرادي الأسدي وتوجد روايات في مدحه ، والثالث عبد الله بن محمد الأسدي وهذا لا يوجد في حقّه توثيق ، والرابع يوسف بن الحارث وهو لا يوجد في حقّه توثيق أيضاً ، والخامس حمّاد بن عبد الله بن أسيد الهروي وهو لا يوجد في حقّه توثيق أيضاً.
إذن أبو بصير مشتركٌ بين خمسة واحد أو اثنين منهم ثقاة - وهما الأوّل والثاني - ، وثلاثة لا يوجد في حقّهم توثيق ، وعليه فسوف يصير مشتركٌ فكيف نأخذ برواياته ؟!
وقد أشار الشيخ الأنصاري(قده) في المكاسب إلى هذه المشكلة ولكنه لم يشر إلى المناشئ ، ثم فيما بعد على منهجه قال:- ولكن قد يقال لعلّها منجبرة بعمل المشهور ، ثم تأمّل في ذلك وقال يوجد مخالفٌ للمشهور ، ونصّ عبارته:- ( لكن في سند الروايات من هو غير صحيحٍ والشهرة على وجهٍ توجب الاعتبار غير ثابتةٍ لأنّ المحكي عن المفيد والقاضي وظاهر الحلبي وصريح الحلّي والتذكرة والإيضاح بل كلّ من لم يذكر الاستثناء بعد التعميم المنع ، لكن الإنصاف أنّ سند الروايات وإن انتهت إلى أبي بصير إلّا أنه لا يخلو من وثوثقٍ فالعمل بها تبعاً للأكثر غير بعيدٍ )[4] .