32/10/27
تحمیل
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي بحث الفقه 32/10/27 بسم الله الرحمن الرحیم انتهى كلامنا إلى التقريب الأخير للوجه الأول وهو أن عمل المسلم حينما يكون واجباً عينياً تعيينياً يفقد صفة الاحترام فيكون مالاً غير محترم فيمكن استيفاؤه منه من دون تدارك وضمان وعلى هذا يكون أخذ الأجرة في مقابله أكلاً للمال بالباطل فحال عمل المسلم إذا تعلّق به الوجوب حال الخمر والخنزير .
والجواب عنه هو أن نقول بأن مال المسلم - ومنه عمله - له حيثيتان :
الأولى : كونه مالاً لمسلم وبهذه الحيثية تثبت للمسلم السلطنة عليه ويكون مالاً محترماً ولا يجوز لأحد أن يتصرّف فيه بغير إذنه ورضاه ، وهذا الاحترام يزول بالوجوب فعندما يكون العمل واجباً عينياً تعيينياً يفقد صفة الاحترام ويمكن استيفاؤه منه من دون إذنه ورضاه فهناك حالة مقهورية على العمل فتزول السلطنة التي تقتضي احترام المال بهذا المعنى .
ولكن هذا الاحترام الذي يزول بالوجوب قد تقدّم سابقاً أنه لا دليل على اعتباره في صحة الإجارة فلا دليل على أنه يُعتبر في صحة الإجارة أن يكون المكلّف ليس مقهوراً على العمل المستأجَر عليه بمعنى أنه لا يجب عليه شرعاً إذ لا محذور في أن يكون العمل واجباً بمعنى أن يكون المكلّف مقهوراً عليه فلا يُعتبر إذنه ورضاه في تحققه خارجاً وفي استيفائه منه لو أمكن ذلك فعدم المقهورية بهذا المعنى ليس شرطاً في صحة الإجارة بل الإجارة تصحّ على العمل حتى لو كان المكلّف مقهوراً عليه بمعنى كونه واجباً عليه فهذا الاحترام يزول بالوجوب بلا إشكال لكنه لا دليل على اعتباره في صحة الإجارة .
الثانية : كونه ممّا له مالية شرعاً وبهذه الحيثية يثبت له الاحترام شرعاً بمعنى أن استيفاءه يكون موجباً للتدارك والضمان وليس هو مهدوراً فالشارع المقدّس لم يُسقط ماليته كما أسقط مالية الخمر والخنزير .
وهذا المعنى الثاني للاحترام يكون معتبراً في صحة الإجارة على ما هو المعروف والمشهور في ما بينهم إلا أن الوجوب لا ينافي هذا الاحترام ولا يُزيله أي أن الوجوب لا يقتضي زوال المالية عن العمل فلا مانع حينئذ من الجمع بين الإجارة وكون متعلّقها واجباً فإن هذه الإجارة تقع صحيحة لوجود الشرط المعتبر فيها وهو كون متعلّقها مما له مالية وهذا الشرط محفوظ في هذا العمل وإن كان واجباً لأن الوجوب لا يُزيل الاحترام بهذا المعنى .
إذاً لنا أن نقول إن ما يُزيله الوجوب من الاحترام ويكون منافياً له ليس معتبراً في صحة الإجارة وليس شرطاً فيها وهو ما كان بمعنى السلطنة على الفعل حيث لا يجوز للغير أن يتصرّف فيه إلا بإذنه وهو الاحترام بالمعنى الأول كما أن لنا أن نقول إن ما هو شرط في صحة المعاملة لا يُزيله الوجوب ولا ينافيه فالاحترام بمعنى أن يكون العمل له مالية ويكون مضموناً عند استيفائه هو محفوظ حتى في حالة كون العمل المستأجَر عليه واجباً فالوجوب لا يعني إسقاط هذه المالية مطلقاً والاحترام بهذا المعنى هو المعتبر في صحة الإجارة دون المعنى الأول أي عدم المقهورية فإنه ليس شرطاً في صحة الإجارة فالإجارة تصحّ حتى إذا كان متعلّقها واجباً لأن وجوب العمل لا يُزيل ماليته وعلى هذا فيمكن تصحيح الإجارة ولا موجب للالتزام ببطلانها من هذه الجهة .
هذا هو التقريب الأخير للوجه الأول لإثبات عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات .. وهذا الوجه كان يُلحظ فيه كما تبيّن - المنافاة بين أخذ الأجرة والوجوب بما هو وجوب ، ومن هنا يكون هذا الوجه مختّصاً بالواجبات ولا يشمل المستحبات .
الوجه الثاني : وهو مختصّ بالعباديات - واجبة كانت أو مستحبة ولا يشمل الواجبات التوصّلية ، وهذا الوجه لو تمّ فهو كما يُثبت عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات العبادية كذلك يُثبت عدم جواز أخذ الأجرة على المستحبات العبادية ، وهذا الوجه هو عبارة عن دعوى منافاة أخذ الأجرة لقصد القربة المعتبر في العبادة باعتبار أن الداعي في باب الإجارة هو الأجرة والعوض لا التقرّب إليه سبحانه وتعالى فلا يقع الفعل عبادة لأن الداعي للإتيان به هو العوض والأجرة وإذا لم يقع عبادة فلا يستحق الأجير حينئذ الأجرة لأنه إنما استؤجر على الفعل العبادي وهو وإن جاء بذات الفعل إلا أنه قصد به العوض والأجرة .
وبعبارة ثانية : إن الأجير غير قادر على العمل المستأجَر عليه في محلّ الكلام والقدرة على العمل شرط في صحة الإجارة لأنه لم يُستأجَر على ذات العمل حتى يقال بكونه قادراً على الإتيان به وإنما استؤجر على الإتيان بعبادة وهو غير قادر على الإتيان بها لأنه عندما يأتي بالعمل العبادي كالصلاة - مثلاً فإنه يأتي بها بقصد العوض والأجرة لا بقصد التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى .
وبعبارة ثالثة : إن دليل صحة الإجارة الذي هو (أوفوا بالعقود) وأمثاله لا يشمل المقام فلا يمكن تصحيح الإجارة بهذه الأدلة لأن مفاد هذا الدليل هو لزوم الوفاء بالعقد والإتيان بمتعلّقه أداءً لحقّ الطرف الآخر باعتباره يستحق هذا العمل على الأجير وذلك بأن يأتي بالفعل الذي هو متعلّق العقد وفاءً لحقّ الطرف الآخر وهذا ممّا لا يجتمع مع الإتيان بالفعل تقرّباً إليه سبحانه وتعالى .
وهذا الوجه بجميع تقريباته يرجع في الحقيقة إلى أمر واحد وهو المنافاة بين قصد العوض والأجرة وقصد التقرّب وحيث إن الأجير يقصد العوض ويقصد أداء حقّ المستأجِر فهو غير قادر على قصد القربة للمنافاة بينهما وعلى ذلك فهو لا يستحقّ الأجرة لأنه غير قادر على الإتيان بالعمل الذي وقعت عليه الإجارة فتقع الإجارة باطلة لعدم القدرة على متعلّقها الذي هو شرط في صحة الإجارة .
وهذا الوجه الذي يرجع إلى ما ذُكر يستبطن افتراض أن الأجير لا بد أن يكون قاصداً للعوض والأجرة أو بحسب التقريب الثالث لا بد أن يقصد أداء حقّ المستأجر وحينئذ يقال إن قصد العوض أو قصد أداء حقّ المستأجر لا يجتمع مع قصد الإتيان بالفعل امتثالاً لأمره تعالى فالمفروض في هذا الدليل هو الفراغ عن أن الأجير لا بد أن يكون قاصداً عند الإتيان بالعمل العوض والأجرة .
ومن هنا قد يُشكل على هذا الوجه بعدم وجود الدليل على اللابدية المذكورة التي تفترض أن الأجير لا بد أن يقصد العوض فإذا لم يقصده ولو سهواً أو غفلة فهو لا يستحق الأجرة بل إن صحة الإجارة مرهونة بالإتيان بمتعلّقها فإذا فرضنا أنه بالإمكان أن لا يقصد الأجير العوض فبإمكانه حينئذ أن يقصد القربة .
ولكن يجاب عليه بأن مقصود المستشكل ليس كون قصد القربة وقصد أداء حقّ المستأجِر أموراً اختيارية معتبرة في صحة الإجارة حتى يقال إنه لا دليل على اعتبارها ويمكن أن لا يقصد الأجير القربة ولا أداء حقّ المستأجِر كما في حالة الغفلة والنسيان وإنما الظاهر أن مقصوده هو أن هذه أمور قهرية موجودة في ارتكاز الإنسان لا يمكن التفكيك بينها وبين الإجارة فالمستأجَر على عمل الذي يُدفع إليه لقاء ذلك العمل هو شاء أو أبى يأتي بالعمل بقصد تلك الأجرة إذ لولاها لما أتى بالعمل وهذا يكشف عن أن الداعي إلى الإتيان بالعمل هو العوض والأجرة ومن هنا لا يصح إنكار وجود هذا القصد في باب الإجارة وفي محلّ الكلام ولا بد أن يتّجه الكلام اتجاهاً آخر غير أن نبحث عن إمكان التفكيك بين الإجارة وقصد العوض وأن قصد العوض موجود أو هو غير موجود وإنما لا بد أن يُبحث عن وجه إمكان الجمع بين قصد العوض وقصد القربة فهل المنافاة بينهما تامة بحيث لا يمكن الجمع بينهما فمن يقصد العوض لا يمكن أن يقصد التقرّب ومن يقصد التقرّب لا يمكن أن يقصد العوض أم هي غير تامة بحيث يمكن الجمع بينهما ؟
حاول محقّقونا (رض) رفع المنافاة والجمع بين القصدين بتقريبات نذكر أهمها :
التقريب الأول : - وهو التقريب المعروف المذكور في الكفاية والمكاسب وغيرهما - وهو ما يُسمّى بالداعي على الداعي بدعوى أن العمل يصدر من المكلّف بداعي قصد القربة فتتحقّق العبادية ويأتي بالعمل المستأجَر عليه وأما العوض والأجرة فهو داعٍ ولكنه داعٍ إلى العمل القربي أي أنه داعٍ إلى الإتيان بالعمل بقصد القربة فيكون داعياً على الداعي وليس هو الداعي مباشرة للإتيان بالعمل .
وبعبارة أخرى : إن المنافاة مسلّمة عندما يكون العوض داعياً للعمل ويكون قصد القربة داعياً للعمل أيضاً أي أنهما في عرض واحد فلا يمكن حينئذ الجمع بينهما إذ لا يمكن أن يؤتى بالعمل بقصد الداعيين معاً ومن هنا لا يصح الإتيان بالعمل القربي مع الرياء ، وأما إذا كانت هناك طولية بين الداعيين بأن يؤتى بالفعل بداعي القربة وامتثالاً لأمره تعالى ويكون المحرّك والداعي للإتيان به كذلك أي بقصد القربة - هو قصد العوض والأجرة فهذا لا يُخلّ بعبادية العمل وإمكان الإتيان بالعبادة المستأجَر عليها .
ويتوجّه على هذا التقريب اعتراض بدويّ حاصله أن هذا تلاعب بالألفاظ لم يُغيّر من الواقع شيئاً فالنتيجة أن العمل صدر منه بداعي العوض ولم يصدر منه بداعي القربة فقط ، وبعبارة أكثر وضوحاً أن العوض يساهم في تحريك المكلّف نحو الإتيان بالعمل وهذا يتنافى مع قصد القربة .
ولكن أجيب عنه بأن هناك خلطاً بين افتراض أن يكون قصد الأجرة في عرض قصد القربة وبين أن يكون في طوله فالمدّعى في أصل الوجه أي الداعي على الداعي هو أن الداعي إلى أخذ الأجرة هو في طول قصد القربة وإنما الذي ينافي قصد القربة هو كون الداعي في عرضه مثل الرياء فالذي يأتي بالفعل رياءً لا يمكنه أن يأتي به بقصد القربة فالمدّعى في المقام هو كون الأجير يأتي بالعمل بداعي قصد القربة ويكون الداعي إلى الإتيان به بقصد القربة هو قصد الأجرة والعوض فلا بد من التفريق بين الأمرين .
يشهد لما ذكرنا وقوعه في كثير من عبادات الناس فإن أكثر الناس لا يخلو من أن يكون الداعي لهم إلى الإتيان بالأعمال العبادية هو الطمع في الجنة أو الخوف من النار ولولا أحد هذين الأمرين لم نجد أكثر أولئك مطيعين فإذاً الإتيان بالعبادة غرض آخر غير قصد التقرّب إليه سبحانه وتعالى وهو الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب وهو غرض دنيوي يُرجى بسببه إبعاد الألم عن الشخص نفسه وهو ينشأ من حبّ الذات فحينئذ شكّل الطمع في الثواب أو الخوف من العقاب داعياً على الداعي مع أن أحداً لم يستشكل في صحة العبادات التي يؤتى بها كذلك وعلى هذا يكون التقريب المذكور تاماً .
|
||