أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الحقوق الاجتماعية في الاسلام الطفل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
 
 


الطفل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

البريد الإلكتروني طباعة

aalulbayt


أدب الطفل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
يمكن إبراز الخطوط الاَساسية لمدرسة أهل البيت في بيان تأديب الطفل وتعليمه في النقاط التالية :
أ ـ لا تقتصر تربية الاَولاد على الاَبوين فحسب بل هي مسؤولية اجتماعية تقع أيضاً على عاتق جميع أفراد المجتمع . وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الاِمام الصادق عليه السلام : «أيّما ناشئ نشأ في قوم ثمّ لم يؤدّب على معصية ، فإنّ الله عزّ وجلّ أوّل ما يعاقبهم فيه أن ينقص من أرزاقهم»(1).
فالاِمام عليه السلام يحدّد المسؤولية الجماعية عن الظواهر الاجتماعية السلبية ، ويكشف عن الترابط القائم بين التربية والتعليم ، وبين الوضع الاقتصادي ، فكل انحراف في التربية سوف يؤثر سلباً على الاقتصاد ، فللمعصية آثار تدميرية على المجتمع ، لذلك نجد القرآن الكريم ، ينقل دعوة النبي هود عليه السلام لقومه بالتوبة من المعصية والاستغفار كشرط أساسي لنزول المطر الذي حُبس عنهم ثلاث سنين : ( ويا قوم استغفروا ربّكم ثمَّ تُوبوا إليه يُرسل السماء عليكُم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوَّتكم ولا تتولَّوا مُجرمين ) (هود 11 : 52) .
فرؤية آل البيت عليهم السلام تنطوي على ضرورة تأديب أفراد المجتمع وخصوصاً
____________
(1) بحار الانوار 10 : 78 .

( 87 )
الاَحداث منهم على الطاعة ، وتميل إلى أن المسؤولية في ذلك لا تناط بالوالدين فحسب ، وإنّ كان دورهم أساسياً ، وإنّما تتسع دائرتها لتشمل الجميع ، فالسُنّة الاجتماعية بطبيعتها تنطبق على الجميع بدون استثناء .
ب ـ من الضروري مراعاة عمر الطفل ، فلكل عمر سياسة تربوية خاصة ، فمدرسة أهل البيت عليهم السلام سبقت المدارس التربوية المعاصرة بالاَخذ بمبدأ (التدرج) وهو مبدأ التزمت به المناهج التربوية المعاصرة ، بعد أنْ اثبتت التجارب العملية فائدته وجدواه ، ويمكن لنا أن نأتي بشواهد على ذلك ، ففيما يتعلق بالتربية الدينية ، يؤدب الطفل على الذكر لله إذا بلغ ثلاث سنين ، يقول الاِمام الباقر عليه السلام : «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين فقل له سبع مرّات : قل : لا إله إلاّ الله ، ثم يُترك..» (1). ثم نتدرج مع الطفل فنبدأ بتأديبه على الصلاة ، يقول الاِمام علي عليه السلام : «أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة والطهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً» (2) ، بعد ذلك : «يؤدّب الصّبي على الصّوم ما بين خمسة عشر سنة إلى ستّ عشرة سنة» كما يقول الاِمام الصادق عليه السلام (3).
وفي أثناء هذه الفترات يمكن تأديب الطفل على أُمور أُخرى لا تستلزم بذل الجهد ، كأن نؤدبه على العطاء والاحسان إلى الآخرين ، ونزرع في وعيه حبّ المساكين ، وفي هذا الصَّدد يقول الاِمام الصادق عليه السلام : «مُر الصّبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء ، وإن قلّ ، فإنّ كلَّ شيء
____________
(1) بحار الأنوار 104 : 95 .
(2) تنبيه الخواطر : 390 .
(3) بحار الأنوار 102 : 162 .

( 88 )
يراد به الله ـ وإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه ـ عظيم..» (1).
وهنا يبدو من الاَهمية بمكان الاشارة إلى أن الاَئمة عليهم السلام يتبنون بصورة عامة تقسيماً (ثلاثياً) لحياة الطفل ، ففي كل مرحلة من المراحل الثلاث ، يحتاج الطفل لرعاية خاصة من قبل الاَبوين ، وأدب وتعليم خاص، استقرأنا ذلك من الاحاديث الواردة في هذا المجال ، وكشاهد على تبنيهم التقسيم الثلاثي ، نورد هذه الرّوايات الثلاث :
عن النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «الولد سيّد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين ، فإن رضيت خلائقه لاحدى وعشرين سنة ، وإلاّ ضُرب على جنبيه ، فقد أعذرت إلى الله» (2).
وقد نسج الاِمام الصادق عليه السلام على هذا المنوال فقال : «دع ابنك يلعب سبع سنين ، ويؤدب سبع سنين ، والزمه نفسك سبع سنين ، فإن أفلح ، وإلاّ فإنَّه لا خير فيه» (3)، فمن خلال هاتين الروايتين نجد تقسيماً ثلاثياً لمرحلة الطفولة ، كل مرحلة تستغرق سبع سنين ، فالمرحلة الاَُولى هي مرحلة لعب ، والثانية مرحلة أدب ، والثالثة مرحلة تبني مباشر للطفل وملازمته كظله .
وفي الرّواية الثالثة نجد انها تلتزم هذا التقسيم لكن مع اختلاف طفيف إذ تجعل مدّة المرحلة الاَُولى والثانية ست سنين وتُبقي المرحلة الثالثة على عددها أي سبع سنين : عن الحسن الطّبرسي في مكارم الاَخلاق نقلاً
____________
(1) الوسائل 6 : 261 | 1 باب 4 من أبواب الصدقة .
(2) الوسائل 15 : 195 | 7 باب 83 من أبواب أحكام الاولاد .
(3) بحار الأنوار 104 : 95 .

( 89 )
عن كتاب المحاسن عن الامام الصادق عليه السلام قال: «احمل صبيّك حتى يأتي عليه ستّ سنين ، ثمّ أدّبه في الكتاب ستّ سنين ، ثم ضمّه اليك سبع سنين فأدّبه بأدبك ، فإن قبل وصَلُح وإلاّ فخلّ عنه» (1).
جـ ـ ينبغي عدم الاِسراف في تدليل الطفل ، واتباع أُسلوب تربوي يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب ، كما يحذّر أئمة أهل البيت عليهم السلام من الاَدب عند الغضب ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام «لا أدب مع غضب» (2) ، وذلك لاَن الغضب حالة تحرك العاطفة ولا ترشد العقل ، ولا تعطي العملية التربوية ثمارها المطلوبة بل تستحق هذه العملية ما تستحقه الاَمراض المزمنة من الصبر والاَناة وبراعة المعالجة . فالطفل يحتاج إلى استشارة عقلية متواصلة ؛ لكي يدرك عواقب أفعاله ، وهي لا تتحقق ـ عادة ـ عند الغضب الذي يحصل من فوران العاطفة وتأججها ، وبدون الاستشارة العقلية المتواصلة ، لا تحقق العملية أهدافها المرجوة ، فتكون كالطرق على الحديد وهو بارد .
وعند تمعننا المتأني في أحاديث أهل البيت عليهم السلام نجد أنّ هناك رخصة في اتباع أسلوب (الضرب) مع الصبي في المرحلة الثانية دون المرحلة الطفولة الأولى ، منها قول الاِمام علي عليه السلام : «أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصّلاة والطّهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً» (3).
ولكن بالمقابل نجد أحاديث أُخرى تحذر من اتباع أسلوب الضرب ،
____________
(1) الوسائل 15 : 195 | 6 باب 83 من أبواب أحكام الاولاد .
(2) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم 2 : 74 | 10529 .
(3) تنبيه الخواطر : 390 .

( 90 )
منها قول بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن موسى عليه السلام ابناً لي ، فقال : «لا تضربه ولا تطل» (1).
ويمكن الجمع بين الاَمرين ، بأنّ اسلوب الضرب ـ من حيث المبدأ ـ غير مجدٍ على المدى البعيد ، ولكن لابدَّ منه في حالات استثنائية مهمة ، وخاصة في ما يتعلق بأداء الفرائض الواجبة من صلاة وصيام ، والضرورة تقدر بقدرها لذلك نجد الاِمام علي عليه السلام يقول : «... فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً» ، وعليه يجب الابتعاد ـ ما أمكن ـ عن ضرب الاَطفال ؛ لانه ثبت تربوياً انه يُؤثر سلباً على شخصيتهم ولا يجدي نفعاً ، ولا مانع من اتباعه في حالات خاصة بقدر ، كالملح للطعام .
ولابدَّ من التنويه على ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام تراعي طاقة الطفل ، فلا تكلفه فوق طاقته ، بما يشق عليه .
عن الحلبي ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه عليهما السلام ، قال : «إنا نأمر صبياننا بالصلاة ، إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين . ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فاذا غلبهم العطش والغرث افطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه ، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم ، فاذا غلبهم العطش افطروا» (2).

____________
(1) بحار الأنوار 79 : 102 .
(2) فروع الكافي 3 : 409 | 1 باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ، وأُنظر 4 : 125 | 1 باب صوم الصبيان ومتى يؤخذون بها من فروع الكافي أيضاً . والغرث : الجوع .

( 91 )
وضمن هذا التوجه يستحسن ، تكليف الطفل بما يَقْدِرُ عليه ، كالقيام ببعض أعمال البيت ، مثل ترتيب الفراش ، وتنظيف الاَثاث ، والقاء الفضلات في أماكنها ، وتهيئة وتنسيق مائدة الطعام وأدواته ، والعناية بحديقة المنزل ، وما إلى ذلك من أعمال بسيطة تنمي روح العمل والمبادرة لدى الطفل ، وتعوده على الاعتماد على نفسه .
وهناك حق آخر للطفل مكمل لحقه في اكتساب الاَدب ألا وهو حقّ التعليم ، فالعلم كما الاَدب وراثة كريمة ، يحث أهل البيت عليهم السلام الآباء على توريثه لاَبنائهم . فالعلم كنز ثمين لا ينفذ . أما المال فمن الممكن ان يتلف أو يسرق ، وبالتالي فهو عرضة للضياع . ومن هذا المنطلق ، يقول الاِمام علي عليه السلام : «لا كنز أنفع من العلم» (1). ثم إنَّ العلم شرف يرفع بصاحبه إلى مقامات سامية ولو كان وضيع النسب ، يقول الاِمام علي عليه السلام : «العلم أشرف الاَحساب» (2).
فمن حق الولد على الوالد أنْ يسعى لاكتسابه هذا الشرف العظيم منذ نعومة أظفاره ، ومن حقه أيضاً على الاَب أن يُورِثه هذا الكنز المعنوي الذي لا يُقَدَّر بثمن ، والذي هو أصل كل خير . قال الشهيد الثاني رضي الله عنه في كتاب منية المريد : (اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طرّاً ، وكفى بذلك جلالة وفخراً. قال الله في محكم الكتاب ، تذكرة وتبصرة لأولي الاَلباب : ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الاَرض مثلهنَّ يتنزّل الاَمر بينهنَّ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ
____________
(1) بحار الأنوار 1 : 165 .
(2) بحار الأنوار 1 : 183 .

( 92 )
قدير وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ) (الطلاق 65 : 12) .
وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم ، لا سيّما علم التّوحيد الّذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة) (1).
ولما كان العلم بتلك الاَهمية ، يكتسب حق التعليم مكانته الجسيمة ، لذلك نجد أن الحكماء يحثون أولادهم على كسب العلم ، وفاءً بالحق الملقى على عواتقهم . يقول الاِمام الصادق عليه السلام : «كان فيما وعظ لقمان ابنه،
أنه قال له : يابنيّ اجعل في أيّامك ولياليك نصيباً لك في طلب العلم ، فإنك لن تجد تضييعاً مثل تركه» (2). كما نجد الاَئمة عليهم السلام ، يعطون هذا الحق ما يستحقه من عناية ، لا سيّما وأن الاِسلام يعتبر العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وهذه الفريضة لا تنصبّ على الاَب والام فحسب بل تنسحب إلى أولادهما ، لذا نجد الاِمام علياً عليه السلام يؤكد على الآباء بقوله : «مروا أولادكم بطلب العلم» (3).
ولما كان العلم في الصِّغر كالنقش على الحجر ، يتوجب استغلال فترة الطفولة لكسب العلم أفضل استغلال ، وفق برامج علمية تتبع مبدأ الاَولوية ، أو تقديم الاَهم على المهم ، خصوصاً ونحن في زمن يشهد ثورة علمية ومعرفية هائلة ، وفي عصر هو عصر السرعة والتخصص . ولقد أعطى أهل البيت عليهم السلام لتعلم القرآن أولوية خاصة ، وكذلك تعلم مسائل الحلال والحرام ، ذلك العلم الذي يمكِّنه من أن يكون مسلماً يؤدي
____________
(1) مقدمة مُنية المريد .
(2) بحار الانوار 16 : 169 .
(3) كنز العمال 16 : 584 | 45953 .

( 93 )
فرائض الله المطلوبة منه ، وللتدليل على ذلك ، نجد أن من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام : «.. أبتدأتك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله ، وشرائع الاِسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره»(1) .
وأيضاً نجد في هذا الصَّدد ما قاله أحدهم للاِمام الصّادق عليه السلام : (إنّ لي ابناً قد أُحبّ أن يسألك عن حلال وحرام ، لا يسألك عما لا يعنيه ، فقال عليه السلام : «وهل يسأل النّاس عن شيءٍ أفضل من الحلال والحرام» (2)؟! وزيادة على ضرورة تعليم الاطفال العلوم الدينية من قرآن وفقه ، تركز السُنّة النبوية المعطرة على أهمية تعلم الطفل لعلوم حياتية معينة كالكتابة والسباحة والرَّمي ، وسوف أورد بعض الروايات الواردة في هذا الخصوص .
منها : قول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلّمه الكتابة ، ويزوّجه إذا بلغ» (3). إذن فتعليم الكتابة حق حياتي تنقشع من خلاله غيوم الجهل والاَميّة عن الطفل .
وفي حديث نبوي آخر، نلاحظ أنّ حق تعليم الكتابة يتصدر بقية الحقوق الحياتية للطفل ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : «حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة ، والسّباحة ، والرّماية ، وأن لا يرزقه إلاّ طيّباً» (4).

____________
(1) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح ـ كتاب 31 .
(2) بحار الأنوار 1 : 294 .
(3) بحار الأنوار 74 : 80 .
(4) كنز العمال 16 : 443 | 45340 .

( 94 )
وهناك نقطة جوهرية كانت مثار اهتمام الاَئمة عليهم السلام وهي ضرورة تحصين عقول الناشئة من الاتجاهات والتيارات الفكرية المنحرفة من خلال تعليمهم علوم أهل البيت عليهم السلام واطلاعهم على أحاديثهم ، وما تتضمنه من بحر زاخر بالعلوم والمعارف . وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الاِمام علي عليه السلام : «علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها» (1)، وقال الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : «بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة» (2).
ومن المعلوم أن فكر المرجئة حينذاك يملي للظالمين ويمدّ لهم حبال الاَمل في النجاة ؛ لاَنه يرفض الثورة على الحاكم الظالم ، ويُرجئ حسابه إلى يوم القيامة ، ويعتبر الفاسق الذي يرتكب الكبائر مؤمناً ! لاَجل ذلك النشء اهتم الاَئمة عليهم السلام بتحصين فكر النشىء الجديد ضد التيارات الفكرية المنحرفة والوافدة ، من خلال الدعوة إلى تعليم الاَطفال الافكار الاِسلامية الاَصيلة التي تُستقى من منابع صافية .

4 ـ حق العدل والمساواة :

إنّ النظرة التمييزية للاَطفال ـ وخصوصاً بين الذكر والاَُنثى ـ تزرع بذور الشقاق بين الاَشقاء ، وتحفر الاَخاديد العميقة في مجرى العلاقة الاَخوية بينهما ، فالطفل ذو نفسية حساسة ، ومشاعره مرهفة ، فعندما يحسّ أنّ والده يهتم كثيراً بأخيه ، سوف يطفح صدره بالحقد عليه . وقد يحدث أن
____________
(1) الوسائل 21 : 578 | 5 باب 84 من أبواب أحكام الاَولاد .
(2) فروع الكافي 6 : 50 | 5 باب تأديب الولد ، وعنه في تهذيب الاحكام 8 : 111 | 381 ، والوسائل 21 : 476 ـ 477 | 1 باب 84 من أبواب أحكام الاَولاد .

( 95 )
أحدَ الوالدين أو كليهما يحب أحد أولاده ، أو يعطف عليه ـ لسبب ما ـ أكثر من إخوته ، وهذا أمر طبيعي وغريزي ، ولكن إظهار ذلك أمام الاِخوة، وإيثار الوالدين للمحبوب بالاهتمام والهدايا أكثر من إخوته ، سوف يؤدي إلى تعميق مشاعر الحزن والاَسى لدى الآخرين ، ويفرز مستقبلاً عاقبةً قد تكون وخيمة . وعليه فالتزام العدالة والمساواة بين الاولاد يكون أشبه بمانعة الصواعق ، إذ تحيل العدالة والمساواة من حصول أدنى شرخ في العلاقة بين أفراد الاُسرة ، وإلاّ فسوف تكون عاملاً مشجعاً لانطلاق مشاعر الغيرة والحقد فيما بينهم .
وفي قصة يوسف عليه السلام درس في كيفية معاملة الاَبناء بالعدل والمساواة.. فهذا يوسف قريب من قلب والده يعقوب عليه السلام لاَنه توسّم فيه أَمارات النبوّة، لذا آثره على إخوته ، فأثار ذلك حفيظتهم وبغضاءهم ، وظهرت أمارة ذلك عليهم ، مما دفع يعقوب عليه السلام إلى تحذير يوسف عندما قصَّ عليه رؤياه وما تحمل من إرهاصات في رفعته وعلوّ شأنه ، بأنْ قال له : ( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتِك فيكيدوا لك كيداً ) (يوسف 12 : 5) .
ويحث الاَئمة عليهم السلام على الاستفادة من هذا الدَّرس القرآني الذي لا يُنسى ، وقد وضعوه نصب أعينهم.. فعن مسعدة بن صدقة قال : قال جعفر ابن محمد عليه السلام : «قال والدي عليه السلام : والله إنّي لاَصانع بعض ولدي ، وأجلسه على فخذي ، وأُكثر له المحبّة ، وأكثر له الشّكر ، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي ، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره ، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته..»(1).

____________
(1) تفسير العياشي 2 : 166 | 2 .

( 96 )
وهناك عدة شواهد من السُنّة النبوية تعطي وصايا ذهبية للوالدين في هذا المجال ، وتكشف عن الحقوق المتبادلة بين الجانبين ، حيثُ يلزم الوالد من الحقوق لولده ، ما يلزم الولد من الحقوق لوالده ، يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم ، كما أن لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك»(1) ، وأيضاً يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «اعدلوا بين أولادكم في النُّحْلِ ـ أي العطاء ـ كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف» (2).
فهنا نجد نظرة أرحب وأعمق للحق ، فكما أنَّ للاَب حق البِّر ، عليه بالمقابل حق العدالة ، فالحقوق يجب أن تكون متبادلة ، وكلٌّ يتوجب عليه الاِيفاء بالتزاماته ، ويمكن التدليل على عمق النظرة النبويّة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ الله تعالى يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم حتّى في القُبَل» (3) صحيح أنّ القاعدة العامة في الاِسلام تجاه الاَبوين ، هي قاعدة الاِحسان ، لا قاعدة العدل ، فلا يسوغ للابن أن يقول : إن أبي لا يعطيني ، فأنا لا أُعطيه، أو إنّه لا يحترمني فلا احترمه ؛ ذلك إنّ الاَب هو السبب في منح الحياة للولد وهو أصله . ولكن الصحيح أيضاً هو أن يتبع الآباء مبدأ العدل والمساواة في تعاملهم مع ابنائهم ، ليس فقط في الاُمور المعنوية من اعطاء الحنان والعطف والتقبيل بل أيضاً في الاُمور المادية ، في العطيّة ، فقد وصّى النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم الآباء بقوله : «ساووا بين أولادكم في العطيّة ، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النّساء» (4).

____________
(1) كنز العمال 16 : 446 | 45358 ، وقريب منه ما قبله برقم 45357 .
(2) كنز العمال 16 : 444 | 45347 .
(3) كنز العمال 16 : 445 | 45350 .
(4) كنز العمال 16 : 444 | 45346 .

( 97 )

5 ـ حقوق الاَولاد المالية :

لاشك أن على الوالدين واجباً مالياً تجاه أولادهما ، وهو وجوب الانفاق على معيشتهم ، وتوفير حوائجهم الحيويّة من طعام ولباس وسكن وما إلى ذلك ، والشريعة تعتبر الاقربين أولى بالمعروف ، والدينار الذي يُنفق على الاَهل أعظم أجراً من الذي ينفق في موارد خيرية أُخرى . كما أن الاَولاد يرثون من الوالدين ، فلا يُجوّز الشرع المقدس حرمان الاَولاد من نيل حقوقهم المفروضة لهم ـ كطبقة أُولى من طبقات الارث ـ إلاّ في موارد نادرة كالارتداد ، أو قتل الوالدين . وحول ميراث الاَولاد ، قال عزّ من قائل (يوصيكُمُ اللهُ في أولادكُم للذّكر مثلُ حظِّ الاَُنثيين...) (ولكم نصفُ ما تركَ أزواجُكُم إن لَّم يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فإن كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ ممَّا تَرَكنَ مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أو دَينٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكتُم إن لَّم يَكُن لَّكُم وَلَدٌ فإن كانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكتُم مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أو دَينٍ..)(النساء4 : 11ـ12) .
ورب سائل يسأل ويقول : ذكرتم في الفقرة السابقة عن حق الاَولاد في العدالة والمساواة ، وعدم التفرقة بين الاولاد في العطاء ، فلماذا يعطي القرآن ياترى للذكر مثل حظ الانثيين ؟
لقد طُرح هذا السؤال قديماً على الاَئمة عليهم السلام وكان جوابهم واحداً.. (عن اسحاق بن محمّد النَّخَعي قال : سأل الفهفكي أبا محمد عليه السلام : ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ، ويأخذ الرّجل سهمين ؟ فقال أبو محمد عليه السلام : «إن المرأة ليس عليها جهاد ، ولا نفقة ، ولا عليها معقُلة، إنما ذلك على الرّجال» . فقلت في نفسي قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي
( 98 )
العوجاء سأل أبا عبدالله عليه السلام عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل أبو محمد عليه السلام عليَّ فقال : «نعم ، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء ـ وكان زنديقاً ـ والجواب منّا واحد») (1).
وهناك تحليلات أُخرى للاَئمة عليهم السلام صفوة القول فيها : إنّ الرّجل يُعطي للمرأة الصَّداق ، وهو حق جعله الله تعالى لها وحدها ، زد على ذلك ، أنّ الرّجل هو المعيل للمرأة ، وليس عليها إعالته . وعليه فإن هذا الاختلاف بين الاَولاد الذكر والانثى في الميراث هو عين العدالة .
والقرآن يصرح بأنّ أولاد الاَنبياء قد ورثوا من آبائهم : ( وورث سليمان داوود ) (النمل 27 : 16) . حتى إن الاِمام علياً عليه السلام استشهد بهذه الآية المباركة على حق فاطمة الزهراء عليها السلام بوراثة أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : «هذا كتاب الله ينطق» فسكتوا وانصرفوا (2)! وقد منع أبو بكر فاطمة إرث أبيها بدعوى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة»، وهذا القول كما لا يخفى يخالف صريح القرآن ، وقد ولَّد صدمةً نفسية حادّة لبنت المصطفى ، لاِحساسها العميق بالغبن ، وعدم قدرتها على نيل حقوقها ، الاَمر الذي اسهم بقسط في وفاتها .
بقي علينا أنْ نشير إلى أنّ الاَنبياء والاَوصياء والصالحين ، قد الزموا أنفسهم بحق الوصية لابنائهم ، والقرآن الكريم قد نقل لنا وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه : ( ووصّى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بنيَّ إنَّ الله اصطفى لكُمُ الدّين فلا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضَر يعقوب الموتُ إذ قال لبنيه
____________
(1) بحار الأنوار 104 : 328 .
(2) كنز العمال 5 : 625 | 14101 ، عن طبقات ابن سعد .

( 99 )
ما تعبدُونَ من بعدي قالوا نعبُدُ إلهك وإله آبائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحنُ له مسلمون)(البقرة 2 : 132 ـ 133) .
وتنقل لنا النصوص الاِسلامية وصية قديمة وقيّمة هي وصية آدم عليه السلام إلى ابنه شيت نقتبس منها : «.. إذا نفرت قلوبكم من شيء فاجتنبوه ، فإني حين دنوت من الشّجرة لاَتناول منها نفر قلبي ، فلو كنت امتنعت من الاَكل ، ما أصابني ما أصابني» (1).
وقد استخدم الاَئمة عليهم السلام الوصية أداة تنويرية ، وكأسلوب لايصال أفكارهم النيّرة ، وإرشاداتهم الخيّرة للاجيال التالية ، فمن خلال الوصية يُطلعون أبناءهم على ثوابتهم العقائدية ، وعلى خلاصة تجربتهم الحياتية.
إقرأ بتمعن هذه الفقرات المنتخبة من وصايا الاِمام علي عليه السلام لفلذة كبده الحسن عليه السلام وسوف تدرك ـ بلا شك ـ صفاء بصيرته ، وطهارة وجدانه ، وعمق إنسانيته : «أُوصيك بتقوى الله أي بنيّ ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله . وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ! أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت.. واعلم يا بنيَّ أنَّ أحبّ ما أنت آخذ به إليَّ من وصيتي ، تقوى الله ، والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والاَخذُ بما مضى عليه الاَوّلون من آبائك ، والصّالحون من أهل بيتك..» (2).
وأيضاً اقرأ هذا المقطع من وصيته عليه السلام لولده الحسين عليه السلام ، يضمّنه
____________
(1) بحار الأنوار 78 : 453 .
(2) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح ـ كتاب 31 .

( 100 )
أسمى المعاني وأجمل المشاعر : «يا بنيَّ أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ في الرّضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصّديق والعدوّ ، وبالعمل في النّشاط والكسل ، والرّضى عن الله في الشدّة والرّخاء..» (1).
وقد سلك بقية العترة الطاهرة هذا المسلك ، يوصي السابق منهم اللاحق ، ولا يتّسع المجال لذكر جميع وصاياهم عليهم السلام ، وفيما أوردناه كفاية لما أردناه .
وفي نهاية هذا المطلب ، يبدو من الضروري بمكان ، ان نلخّص ما توصلنا إليه من نقاط البحث بالقول : ان للولد على أبيه حقوقاً عديدة منها: ما يسبق ولادته ، كحقه في الوجود وحق اختيار والدته .
ومنها ما يُوجب له بعد ولادته : كحقه في الحياة ، فلا يجوز إطفاء شمعة حياته بالوأد والقتل ، وكحقه بانتحال الاسم الحَسِن ، وتعهده بالتأديب والتربية الصالحة ، وتعليمه العلوم والمعارف الضرورية والنافعة ، ومعاملة الاَولاد بالعدل والمساواة ، والاِنفاق عليهم بسخاء ، وعدم مصادرة حقوقهم المالية الواجبة ، وعدم البخل عليهم بالوصايا النافعة للدنيا والآخرة . وعلى هذا الصعيد لابدَّ من الاستشهاد في نهاية المطاف برسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام الذي استلهم بنودها من معدن الرسالة ومعين النبوة ، وما أروع الصورة البيانية التي يرسمها الاِمام السجاد عليه السلام لحقوق الاَولاد عندما يقول : «.. وحق ولدِكَ أن تعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عما وليته به
____________
(1) تحف العقول 88 .

( 101 )
من حسن الاَدب والدلالة على ربه عزّ وجلّ ، والمعونة على طاعته . فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الاِحسان إليه ، معاقب على الاِساءة إليه» (1).

____________
(1) شرح رسالة الحقوق حسن القبانجي1 : 581 .

( 102 )

( 103 )


الفصل الثالث


الحقوق المتبادلة بين الزوجين


( 104 )

( 105 )


المبحث الاَول
حقوق الزوجة


في الواقع ان الاُسرة مجتمع صغير يقوم على أكتاف شخصين هما : الرجل والمرأة . والمجتمع ليس كثرة عددية تنمو ، وإنما هو علاقات بين أفراد تقوم على هدف معين ، وقد حدّد القرآن هذا الهدف بالسكنى أو الاطمئنان في علاقة الذكر بالاُنثى ، من خلال المودة والرّحمة بينهما ، يقول عزّ من قائل : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم30 :21) ، وهذا المجتمع يتكون باسلوب تعاقدي يكشف عن قبول الطرفين بفحوى العقد وما يفرضه من حقوق وواجبات ، وبألفاظ صريحة لا لبس فيها ولا تقبل الاِنكار . قال سبحانه وتعالى : ( فانكحوهنَّ بإذن أهلهنَّ وآتوهن أجورهنَّ بالمعروف محصناتٍ غير مسافحات..) (النساء4 : 25) . وبمقتضى هذه الآية الكريمة ونحوها من الاَدلّة نجد أن إذن الولي بالنسبة للبنت الباكر أمر ضروري في نظر الفقهاء ، لصيانة حق المرأة في الاختيار السليم للزوج ، فليس الاِذن لامتهان كرامتها ، وإنّما هو إجراء احترازي يمنع المرأة من اتخاذ قرار متسرع بالموافقة على الزواج من شخص تحت تأثير رغبة نفسية عابرة ، أو تأثر عاطفي .

( 106 )
وبعد الاِذن يأتي الاَجر أو ما نطلق عليه (المهر) ، وهو حق آخر للمرأة ؛ لكي تشعر أنها مطلوبة وليست طالبة ، وهذا الشعور يوفّر لها حياءها المغروس في جبلّتها ، ويوفر لها أيضاً كرامتها ، ولا يعني إعطاء المهر للزوجة أنها أصبحت مملوكة للزوج ، بل قال تعالى ( وآتُوا النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحلَةً ) (النساء 4 : 4) إنما هي شريكة حياة ، تعاقدت مع الرجل ضمنياً على العيش المشترك ، الذي يقوم على حقوق والتزامات متبادلة.. ( ولهُنَّ مِثلُ الَّذي عليهنَّ بالمعرُوفِ..) (البقرة 2 : 228) .
وعلى الرغم من هذا الاهتمام القرآني الواضح بحقوق المرأة ، إلاّ أنك تجد عند أعداء القرآن جملة من الاتهامات الباطلة التي تثار حول موقف القرآن الكريم من حقوق المرأة ، من انه فرض عليها الحجاب فقيَّد حريتها، وأنه وضع القيمومة بيد الرّجل، ومنحه نصيباً مضاعفاً من الميراث وما إلى ذلك . وهؤلاء الذين يذرفون دموع التماسيح على حقوق المرأة ، يريدون الطعن بمصداقية القرآن ككتاب سماوي ، ومنبع للتشريع الاِسلامي ، ويحاولون الاِيحاء بتخلف هذا الكتاب المقدس ، وعدم مسايرته لروح العصر ! ولاَجل الرّد على تلك المزاعم التي تظهر عند التمعن والتحقيق أوهن من بيت العنكبوت ، لابدَّ من الرجوع إلى القرآن واستنطاقه ، وإلى العترة الطاهرة الذين هم عِدل القران وتراجمة الوحي ، وسوف نجد ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ بأن القرآن قد منح المرأة مكانتها الاِنسانية ، إذ كانت النظرة إليها تتسم بالضعة والهوان. فالديانات غير السماوية القديمة كانت تعتبر المرأة مخلوقة من طبيعة وضيعة ! أما الرجل فقد خلق من عنصر مكرم ! حتى إن البعض قد ذهب أبعد من ذلك عندما ادّعى بأن المرأة خلقت من رجس ، وان إله الشر هو الخالق لها !

( 107 )
وكان عرب الجاهلية ، يبالغون في النيل من المرأة والحطّ من شأنها حتى جعلوها حيواناً خلق على صورتهم ليخدمهم ويلبّي رغباتهم الجنسية .

وحدة التكوين والمسؤولية :
لقد دحض القرآن الحكيم هذه العقائد العارية عن الصحة ، وأقر بأنَّ طبيعة التكوين وأصل الخلقة بين الرّجل والمرأة واحد ، فلم يخلق الرجل من جوهر مكرم ، ولا المرأة من جوهر وضيع ، بل خلقهما الله من عنصر واحد وهو التراب ومن نفس واحدة . يقول تعالى : ( يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ) (النساء 4 : 1) . وبذلك ارتقى بالمرأة ، عندما جعلها مثل الرّجل تماماً من جهة الطبيعة التكوينية ، ووفَّر لها من خلال ذلك حق الكرامة الاِنسانية .
ثم إنّ القرآن وحَّد بين الرّجل والمرأة في تحمّل المسؤوليّة ، فقال عزّ من قائل : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة..) (النحل 16 : 97) ، على أنّ التساوي بينهما في أصل الخلقة والكرامة والمسؤوليّة ، لا يعني بتاتاً إنكار الاختلاف الفطري والطبيعي الموجود بينهما ، والذي يؤدي إلى الاختلاف في الحقوق والواجبات . فميزان العدالة السليم هو التسوية بين المرء وواجباته ، وليس التسوية في الحقوق والواجبات بين جنسين مختلفين تكويناً وطبعاً .
ومن هذا المنطلق ، فليس التفضيل في الاِرث اختلالاً في العدالة ، بل
( 108 )
هو عين العدالة ، فالرّجل عليه الصّداق منذ بداية العلقة الزوجية ، وعليه النفقة إلى النهاية !
من جانب آخر لا يريد القرآن تحديد حريّة المرأة ومكانتها من خلال فرض الحجاب.. بل أراد صيانتها بالحجاب دون تقييدها ، مع الاِيحاء باحترام المرأة لدى نفسها ولدى الآخرين ، إذ أراد لها ، ان تخرج في المجتمع ـ إذا خرجت ـ غير مثيرة للغرائز الكامنة في نفوس الرجال ، فتكون محافظة على نفسها ، وغير مضرّة بالآخرين .
كما أقرّ القرآن للمرأة بحق الاعتقاد والعمل وفق ضوابط محددة ومنح المرأة الحقوق المدنية كاملة ، فلها حق التملك ، ولها أن تهب أو ترهن أو تبيع وما إلى ذلك ، كما منحها حق التعليم ، فوصلت إلى مراتب علمية عالية ، وأشاد بنزعة التحرر لدى المرأة من الظلم والطغيان ، وضرب لذلك مثلاً في امرأة فرعون (آسية) التي ظلت على الرغم من الاجواء الضاغطة ، محافظةً على عقيدة التوحيد ، التي آمنت بها ، فاصبحت مثلاً يُحتذى.. ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربي ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) (التحريم 66 : 11). إنه موقف صارم لاهوادة فيه ، ويختلف عن موقف مؤمن آل فرعون الذي وقف بوجه فرعون هو الآخر ولكن بلباقة !
وهكذا يكشف لنا القرآن عن مقدار الصلابة التي يمكن أن تكتسبها المرأة ، إذا امتلكت الاِيمان والرؤية السليمة ، ويحدث العكس من ذلك لو حادت عن طريق الهداية كامرأة نوح عليه السلام ، فسوف تغدو أسيرة لعواطفها وأهوائها ، تحركها أينما شاءت ، فتكون كالريشة في مهب الريح .

( 109 )
وكانت قضية المرأة وحقوقها كزوجة أو أم مثار اهتمام السّنُة النبوية الشريفة ، يقول النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم «مازال جبرئيل يوصيني بالمرأة ، حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها إلاّ من فاحشةٍ مبينة» (1). ثم يحدد ثلاثة حقوق أساسية للمرأة على زوجها وهي :
1 ـ توفير القوت لها .
2 ـ توفير اللباس اللائق بها .
3 ـ حسن المعاشرة معها .
وفي ذلك يقول الحديث الشريف : «حقّ المرأة على زوجها : أن يسدّ جوعها ، وأن يستر عورتها ، ولا يقبّح لها وجهاً» (2).
فالحديث أعلاه لا يقصر حق الزوجة على الاَمور المادية الضرورية من طعام وكساء ، بل يُقرن ذلك بحق معنوي ، هو أن لا يقبّح لها وجهاً ، بتعبير آخر ان يحسن معاشرتها ، لا سيما وأنها زميلته في الحياة ، وشريكته في العيش ، ومن الخطأ أن يتعامل معها باعتبارها آلة للمتعة ، أو وسيلة للخدمة، فيعاملها بطريقة إصدار الاَوامر . وهناك توجهات نبوية تحثُّ على التعامل الاِنساني مع الزوجة وحتى استشارتها ، وإن لم يُردْ الزوج أنْ يأخذ برأيها في ذلك المورد ، لاَن استشارة الزوج لزوجته ، اجراء حوار مستمر معها ، وهذا ممّا يندب إليه العقل والشرع .
إذن لها حق معنوي مكمل لحقوقها المادية ، وهو حق الاحترام
____________
(1) بحار الأنوار 103 : 253 .
(2) بحار الأنوار 103 : 254 .

( 110 )
والتقدير المخلص ، وانتقاء تعابير مهذبة لائقة عند التخاطب معها ، تشيع أجواء الطمأنينة ، وتوقد شمعة المحبة ، يقول الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم : «قول الرّجل للمرأة : إنّي احبّك ، لا يذهب من قلبها أبداً» (1)، ويؤكد الاِمام علي بن الحسين عليه السلام الحقوق آنفة الذكر ، بعد ان يُذكّر الزّوج بنعمة السكن والاَنس التي توفرها الحياة الزوجية ، مشيراً إلى حقوقها المعنوية : كحق الاِكرام ، والرّحمة ، والعفو عنها عند الخطأ والزَّلل الذي يحدث ـ في كثير من الاحيان ـ نتيجة الجهل ، فيقول عليه السلام : «.. وأما حق زوجتك ، فأن تعلم أن الله عزّ وجل جعلها لك سكناً وأنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عزّ وجل عليك ، فتكرمها ، وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب ، فإن لها عليك أنْ ترحمها ؛ لاَنها اسيرتك ، وتطعمها وتكسوها ، وإذا جهلت عفوت عنها»(2).
فاكرام الزوجة ، والرّحمة بها ، والعفو عن زلاتها العادية ، هي الضمان الوحيد والطريق الاَمثل لاستمرار العلقة الزوجية ، وبدون مراعاة هذه الامور يصبح البناء الاَسري هشاً كالبناء على الرّمل . فقد ثبت أن أكثر حوادث الطلاق تحصل من أسباب تافهة .
لقد فصل أحد القضاة في أربعين ألف قضية خلاف زوجي ، وبعدها قال هذه الجملة : (انك لتجد التوافه ـ دائماً ـ في قرارة كل شقاء زوجي) . فلو تحلى الزّوجان بالصبر ، وغضا النظر عن بعض الاخطاء التي تحصل من غير عمد ، لاَمكن صيانة العش الزّوجي من الانهيار .

____________
(1) وسائل الشيعة 14 : 10 | 9 باب 2 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه .
(2) وسائل الشيعة 6 : 134 .

( 111 )
ويتطرق الاِمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق لحق الزوجة ، ويلقي أضواءً إضافية على حقها المعنوي المتمثل بالرّحمة والمؤانسة فيقول : «وأما حق رعيتك بملك النكاح ، فان تعلم ان الله جعلها سكناً ومستراحاً وانساً وواقية ، وكذلك كلّ واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه . ويعلم ان ذلك نعمة منه عليه ، ووجب ان يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم، فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية فان لها حق الرّحمة والمؤانسة ولا قوة إلاّ بالله» (1) .
والتمعن في هذه السطور يظهر لنا أن الرابطة الزوجية هي نعمة كبرى تستحق الشكر اللفظي ، بان يحمد الله تعالى عليها، وتستوجب الشكر العملي ، بأن يكرم زوجته ، ويرفق بها ، ويعاملها باللّطف والرّحمة ، ويعقد معها صداقة حقيقية ، كما يعقد أواصر الصداقة مع الآخرين ، أما لو تصرف معها بالعنف ، وأحصى عليها كل شاردة وواردة، فسوف يقطع شرايين الودّ والمحبة معها ، ويكون كسكين حادة تقطع رباط الزوجية المقدس .
ولقد بيّن الاِمام الصادق عليه السلام بكلِّ وضوح السياسة التي يجب على الزّوج اتباعها ، لاستمالة زوجته ، وعدم قطع حبال الودّ معها ، فقال : «لا غنى بالزّوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته ، وهي : الموافقة ؛ ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها ، وحُسن خلقه معها . واستعماله
____________
(1) ميزان الحكمة 1 : 157 .

( 112 )
استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها . وتوسعته عليها» (1).
على أن أشد ما يسترعي الانتباه : إن هذه الاقوال ، ليست ـ مجرّد ـ كلمات تنشر في الهواء ، يطلقها الاَئمة عليهم السلام من أجل الموعظة ، بل جسّدها أهل بيت العصمة بحذافيرها على صعيد الواقع ، فلا توجد إشكالية انفصام في سلوك أهل البيت عليهم السلام بين الوعي والواقع ، ومن الشواهد الدالة على ذلك ، يروي الحسن بن الجهم قال : رأيت أبا الحسن عليه السلام اختضب فقلتُ : جعلت فداك اختضبت ؟ فقال : «نعم ، إنّ التهيّة ممّا يزيد في عفّة النّساء ، ولقد ترك النّساء العفّة بترك أزواجهنّ التهيّة... أيسرّك أن تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيّة» ؟ قلتُ : لا ، قال : «فهو ذاك» (2).
فالاِمام عليه السلام يدرك أنّ الاستمالة تشكل النقطة المركزية في الحياة المشتركة لكلا الزوجين ؛ لذلك يراعي حق الزوجة ، ويسعى إلى استمالة قلبها من خلال التهيّة ، ولاَن عدم التوافق في هذا الجانب ، يعتبر من الاَسباب الاَساسية في الاخفاق في الزَّواج . صحيح أنّ الزّواج في الاِسلام ليس هو إشباع شهوة الجنس . فالجنس مجرّد وسيلة لهدفية الزّواج ، المتمثلة بضرورة خلق جيل صالح تستمر فيه الحياة الاِنسانية .
ولا يعني ذلك التقصير بحق الزّوجة في المتعة الجنسية بالمقدار المتعارف ، فلا يجوّز الشرع هجرها أكثر من أربعة أشهر .

____________
(1) بحار الانوار 78 : 237 ، تحف العقول : 238 .
(2) وسائل الشيعة 14 : 183 | 1 باب 141 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه .

( 113 )


المبحث الثاني
حقوق الزّوج


لكي تسير سفينة الزواج إلى شاطئ الاَمان ، لابدّ من إعطاء قائد هذه السفينة حقوقه كاملة ، ولعل أوّل حق منحه الله تعالى للزوج ، هو حق القيمومة ، يقول تعالى : ( الرجال قوّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء 4 : 34) ، فحق القوامة استمدّه الرجل من تفوقه التكويني على المرأة ، وأيضاً من تحمله لتكاليف المعيشة الشاقة . ولكن قيمومة الرّجل لا تبيح له التسلط والخروج عن دائرة المسؤولية إلى دائرة التحكم والتعامل القسري مع الزوجة ؛ لاَن ذلك يتصادم مع حق المرأة في المعاشرة الحسنة ، الذي أشار إليه القرآن صراحةً : ( وعاشروهن بالمعروف ) (النساء 4 : 19) .
لاشك أنّ الاِسلام قد طلب من الزّوجة الانقياد للزوج في كل ما يرتضيه العقل والشرع ، وبدون ذلك لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . فالاِسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القيمومة وسيلة لاِذلال المرأة ، أو الانتقاص من مكانتها . صحيح أنّ أعظم النّاس حقاً على المرأة زوجها ، ولكن هذا الحق يجب أنْ لا يُساء تفسيره وتطبيقه بما يؤدي إلى إذلال الزَّوجة .

( 114 )
إنّ المرأة ريحانة ، وعليه فهي رقيقة ، تنقصها الصّلابة ، والحزم والاِرادة؛ لذا تحتاج إلى سياج يصد عنها رياح السّموم ؛ كيما تذبل هذه الريحانة وتذهب نضارتها وهي في أوان عطرها الفوّاح ، والسياج هو الرّجل يمتلك القوة والارادة والاستعداد للتضحية .
ومن حقوق الزوج الاَُخرى ، أن تمكنه الزّوجة من نفسها ، كلما أراد ذلك ، ماعدا الحالات الاستثنائية الطبيعية التي تمر بها بنات حوّاء ، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «... إنّ من خَيْر [نسائكم] الولود الودود ، والسّتيرة [العفيفة] ، العزيزة في أهلها ، الذليلة مع بعلها ، الحصان مع غيره ، التي تسمع له وتطيع أمره ، إذا خلا بها بذلت ما أراد منها» (1). ويقول أيضاً : «خير نسائكم التي إذا دخلت مع زوجها خلعت درع الحياء» (2)، وهناك أحاديث أُخر تحذّر المرأة من الابتعاد عن فراش الزوجية ، وأنها سوف تدان في الحياة الدنيوية ، وتلعنها الملائكة حتى تعود إلى زوجها .
ثم إن عليها أن تحترم زوجها ، وأن تُسهم بدورها في عقد المودة والمحبة معه ، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : «لو أمرت أحداً أن يسجد لاَحد لاَمرتُ المرأة ان تسجد لزوجها» (3).
وانطلاقاً من هذا التوجه النبوي ، يتوجب على الزوجة ، ان تكون لطيفة
____________
(1) مستدرك الوسائل 14 : 161 | 10 باب 5 من أبواب مقدمات النكاح ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث ، وما بين المعقوفات من مصدره ، والمراد بالذليلة ، أي : المطيعة ، وبالحصان : العفيفة كما في لسان العرب 13 : 120 (حصن) .
(2) مستدرك الوسائل 14 : 160 | 6 باب 5 من أبواب مقدمات النكاح .
(3) وسائل الشيعة 14 : 115 | 1 باب 81 من أبواب مقدمات النكاح .

( 115 )
المعشر مع الزوج ، تخاطبه بعبارات تدخل السرور على قلبه والبهجة في جنانه ، خصوصاً عندما يعود من العمل ، خائر القوى ، مرهق الاعصاب . فعليها أن تستقبله والبشر يطفح على وجهها ، وتعرض خدماتها عليه ، وبذلك تنال رضاه .. «وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها» (1). ـ كما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وحول هذا الاَمر يقول الاِمام الباقر عليه السلام : «لا شفيع للمرأة أنجح عند ربّها من رضا زوجها ، ولمّا ماتت فاطمة عليها السلام قام عليها أمير المؤمنين عليه السلام وقال : اللّهم إنّي راض عن ابنة نبيّك ، اللّهم انّها قد أُوحشت ، فَأْنِسها..» (2).
اتّضح مما سبق أن للزوج : حق القيمومة ، وحق التمكين أو الاستمتاع، وفوق هذا وذاك لما سُلِّمت اليه دفة قيادة الاَُسرة توجب له حق الطاعة في الحدود المشروعة ومن مصاديق ذلك ، ليس للزوجة أنْ تخرج من بيتها بدون إذن زوجها ، وورد في الحديث : «... ولا تخرج من بيته إلاّ باذنه، فان فعلت لعنتها ملائكة السموات ، وملائكة الارض ، وملائكة الرضا ، وملائكة الغضب...» (3).
إنَّ المرأة كنز ثمين يجب الحفاظ عليه في مكان أمين ، والبيت هو المكان الذي يصون المرأة . لذا يخاطب القرآن النساء بقوله : ( وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرَّجن تبُّرج الجاهلية الاَولى ) (الاَحزاب 33 : 33) .
وهناك حقوق أُخرى للزوج منها : الحفاظ على كرامته ، وصون أمواله
____________
(1) بحار الانوار 103 : 146 .
(2) بحار الانوار 103 : 257 .
(3) مستدرك الوسائل 14 : 237 | 1 باب 60 من أبواب مقدمات النكاح .

( 116 )
في غيابه ، وعدم كشف أسراره ، وليس لها أن تصوم ـ تطوعاً ـ إلاّ بإذنه .
وعلى العموم تحتاج الحياة الزوجية ـ لكي تستمر ـ إلى الرّضا، والاحترام المتبادل ، وإسداء الخدمة.. كما تحتاج الزّهور ـ لكي تبقى متفتحة ـ إلى النور ، والهواء ، والماء .
وتجدر الاشارة إلى أن الالتزام بالحقوق المتبادلة للزوجين إضافة إلى كونه مسقطاً للواجب ، يترتب عليه ثواب عظيم ، والعكس هو الصحيح، فالرّجل إذا سقى زوجته أُجر (1)ومن حسُن برّه بأهله زاد الله في عمره(2). وبالمقابل : «ايّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام اغلق الله عنها سبعة أبواب النار ، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيّها شاءت» (3).. «وأيّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً ، إلاّ نظر الله اليها ، ومن نظر الله إليه لم يعذبه» (4).
وهنا يبدو من الاَهمية بمكان الاشارة إلى أن ضمانات الالزام بالحقوق في القوانين الاِلهية هي أكثر من مثيلاتها في القوانين الوضعية . لماذا ؟ لاَن الاِنسان في القانون الوضعي يتمكن من التملّص والالتفاف على الحقوق المترتبة عليه من خلال وسائل الحيلة ، والرشوة ، والتهديد ، والاكراه وما
____________
(1) بحار الانوار 103 : 225 .
(2) من حديث للاِمام الصادق عليه السلام في بحار الانوار 103 : 225 .
(3) من حديث للاِمام علي عليه السلام في وسائل الشيعة 14 : 123 | 2 باب 89 من أبواب مقدمات النكاح .
(4) من حديث للاِمام الصادق عليه السلام في بحار الانوار 103 : 251 .

( 117 )
شابه ذلك .
أما في القوانين الاِلهية ، فإضافة لوسائل الالزام والتنفيذ الخارجية ـ من شَرَطَة ومحاكم ـ توجد عوامل إلزام وضبط داخلية ، متمثلة في الخشية والخوف من عقاب الله تعالى وسخطه ووعيده الاخروي . فالانسان المسلم يسعى لكسب رضا الله تعالى من خلال أداء حقه أداء حقوق الآخرين ، والقرآن يرى أنّ ظُلم الاِنسان للآخرين هو ظلم يقع على نفسه في نهاية الاَمر : ( ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه..) (البقرة 2 : 231) .
فالوازع الديني يصبح أداة كبح كبرى لكل نزعة شيطانية تريد التنصل من الحقوق والالتزامات . أما الانسان الوضعي فليس لديه من عوامل الكبح والضبط الداخلية إلاّ الوجدان والاخلاق اللذين كثيراً ما ينحرفان عن جادة الصواب لمختلف الاَسباب ، فتنقلب المقاييس لديه فيصبح المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً !
زد على ذلك وجود ترابط وثيق في الاسلام بين البعد الاجتماعي والبعد العبادي ، فكل اخلال في البعد الاَوّل ـ من خلال عدم الالتزام بحقوق الآخرين ـ سوف ينعكس سلباً على الجانب العبادي وهذا ما أوضحه الحديث النبوي الشريف : «من كان له امرأة تؤذيه ، لم يقبل الله صلاتها ، ولا حسنة من عملها حتّى تعينه وترضيه وإن صامت الدّهر.. وعلى الرّجل مثل ذلك الوزر ، إذا كان لها مؤذياً ظالماً» (1).

____________
(1) وسائل الشيعة ـ 14 : 116 | 1 باب 82 من أبواب مقدمات النكاح .

( 118 )
وقد اتضح من جميع ما تقدم أن للزوجين حقوقاً متبادلة يترك الاِخلال بها آثاراً تدميرية على كيان الاَُسرة ، وبالمقابل يؤدي الالتزام بها إلى خلق وحدة اجتماعية متلاحمة .

( 119 )


الخلاصة


لقد توصلنا في الفصل الاَول من هذه الدراسة المختصرة إلى الاَمور التالية : ـ
1 ـ إنّ مدرسة الاِسلام قد سبقت المدارس الاَُخرى ، في ايلاء قضية حقوق الانسان الاَهمية التي تستحق . من خلال اعلان الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن المساواة بين البشر وذلك في حجة الوداع . ومن خلال الوثيقة التاريخية التي حررها الاِمام أمير المؤمين عليه السلام في عهده لمالك الاشتر . وأيضاً من خلال رسالة الحقوق الجامعة ، التي دونها الاِمام زين العابدين عليه السلام في القرن الاَول الهجري .
وإنّ الغاية من ذلك ، هي السعي لاقامة مجتمع سليم يقوم على قواعد الحق والعدالة .
2 ـ إنّ القرآن الكريم قد عني بالجانب الاجتماعي من حياة الجماعة ، عنايةً لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه . ولأجل ذلك رتّب لاَفراده حقوقاً أساسية تتعلق بوجودهم وكرامتهم ، منها على سبيل المثال لا الحصر : حق الحياة ، وحق التمتع بالعيش الآمن ، وحق الكرامة ، وكسب العلم والمعرفة ، وحق التفكير والتعبير ، وما إلى ذلك من حقوق أساسية لا غنى عنها ، لتحقيق إنسانية الاِنسان ، وتحقيق حريته .
3 ـ تحثُّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام على اعطاء حقوق الضعفاء الذين لا يملكون حولاً ولا قوة . سواء الحقوق المالية منها ، أو المعنوية كحقهم
( 120 )
الطبيعي في الاحترام والتوقير .
4 ـ أولت مدرسة أهل البيت عليهم السلام عنايةً خاصة لتلك الحقوق المتلبسة بالصفة الاَخلاقية ، كحق المعلم والمتعلم ، وحق الاَخ ، وحق الجليس ، وحق الناصح ، وهي حقوق قد تجاهلتها أو قد قللت من أهميتها المدارس الحقوقية الاخرى .
5 ـ اهتم الاِسلام بالجِوار ، الذي يأتي بالمرتبة الثانية في النسيج الاجتماعي بعد رابطة الاَُسرة . تمثل ذلك في وصايا جبريل عليه السلام المتكررة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمراعاة حق الجار ، وللمساحة التي احتلها موضوع الجِوار في أحاديث أهل البيت عليهم السلام على وجه العموم ، ورسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام على وجه التعيين . وقد اشرنا إلى عمق نظرة الاَئمة عليهم السلام المتميزة لمعنى حسن الجوار ، فليس هو كفّ الاَذى فحسب بل الصبر على الاَذى ! وقد جسّدوا هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع من خلال سلوكهم السويّ في تعاملهم مع جيرانهم .
وفي الفصل الثاني ، تناولنا بصورة مفصلة الحقوق العائلية ، وخرجنا بالنتائج التالية :
1 ـ إنّ الاِسلام يحرص على تقوية النسيج الاجتماعي ، الذي يربط بين أفراد العائلة . عندما جعل للوالدين حق الاِحسان ، ووضع حقهم في المرتبة التالية بعد حقه تعالى .
2 ـ اتبع الاَئمة الاَطهار عدة محاور من أجل بيان حقوق الوالدين منها : تفسير ما ورد من آيات بغية اعطاء رؤية قرآنية صافية في هذا الصدد . كما استثاروا الوازع الاَخلاقي عند الاَبناء تجاه آبائهم . وحددوا الحكم
( 121 )
الشرعي لمسألة الاِحسان للوالدين ، باعتبارها فريضة من أكبر الفرائض ، وكشفوا عن الحكمة من ذلك ، وتتمثل بادامة النّسل ، وعدم قطع الاَرحام، وأيضاً كشف الاَئمة الاَطهار عن الآثار السلبيّة ـ الدنيويّة والاُخرويّة ـ لمن عق والديه . وشكّل سلوكهم السويّ قدوة حسنة في الاِحسان للوالدين .
3 ـ حدد الاِسلام حقوق الاَولاد سواءً قبل الولادة أو بعدها ، فَضَمِنَ لهم حق الوجود من خلال تحريمه لوأد البنات ، وأيضاً من خلال تشجيعه على الزَّواج والانجاب ، وتنفيره من العزوبية والرهبانية .
ومن أجل تنشئة جيل جديد صالح ، أرشد الاِسلام الزّوج إلى اختيار الزَّوجة الصالحة . كما أوجب الاِسلام على الاَم أن تصون نفسها من الرذيلة حتى يصان حق الولد في الانتساب الشرعي إلى أبيه . كما ضمن الاِسلام للاَولاد حقوقاً لمرحلة ما بعد الولادة كحقهم الطبيعي في الحياة ، وعليه فلا يبيح الاِسلام تهديد حياتهم بأي شكل ، وتحت أية ذريعة .
4 ـ ضمن الاِسلام للاَولاد حقهم في المعاملة العادلة ، بلا تمييز بين الذَّكر والاُنثى . كما جاء ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمة الاَطهار عليهم السلام ، فعملوا على قشع غيوم النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من شأن الاُنثى لحساب الذَّكر ولاتقيم لها وزناً .
5 ـ لقد سبقت مدرسة أهل البيت عليهم السلام المدارس التربوية المعاصرة بالاخذ بمبدأ (التدرج) في تعليم وتربية الطفل .
وقد تبنت هذه المدرسة الاِلـهية تقسيماً (ثلاثياً) لحياة الطفل ، ففي كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث ، يحتاج الطفل لسياسة تربوية تتناسب مع عمره وقدرته .

( 122 )
6 ـ أجاب الاَئمة الاَطهار عليهم السلام على شبهة تفريق الاسلام بين الذَّكر والاُنثى في الميراث بما حاصله : أن هذا التفريق هو عين الحق والعدالة، ذلك أن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ، وفوق ذلك لها على الرَّجل حق النفقة .
7 ـ اتبع الاَئمة عليهم السلام أُسلوب الوصية لاَولادهم كأداة لاِيصال افكارهم النَّيرة وتجاربهم النافعة للاَجيال التالية .
وفي الفصل الثالث المخصص للحديث عن الحقوق المتبادلة بين الزوجين نخرج بالنتائج التالية :
1 ـ حدد الاِسلام بدقة الحقوق المتبادلة بين الزوجين . التي تنشأ باسلوب تعاقدي ، يكشف عن قبولهم ببنود العقد وما ينشئه من حقوق وواجبات .
2 ـ للزوجة ـ التي تجمعها مع الرَّجل في الاِسلام ، وحدة التكوين والمسؤولية ـ حقوق أساسية ، منها المادي المتعلق بمعيشتها ، ومنها المعنوي المتعلق بحسن المعاشرة معها .
3 ـ للزوج حقوق عديدة على زوجته ، لعل من أبرزها حق القيمومة . ولكن الاِسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القيمومة وسيلةً لاِذلال المرأة ، أو الانتقاص من مكانتها ، أو سلب حقوقها . وله عليها ـ أيضاً ـ حق التمكين ، وعدم الخروج من البيت إلاّ باذنه .
وفي نهاية المطاف استنتجنا في الدراسة أن ضمانات الالتزام بالحقوق في القوانين الإلهية المتمثلة في المسائل الشرعية ، هي أكثر من ضمانات
( 123 )
الالزام في القوانين الوضعية ، التي يتمكن الاِنسان في التملص منها والالتفاف عليها ، بخلاف المسائل الشرعية التي تملك سلطة ضبط داخلية للافراد ، متمثلةً بالخشية من عقاب الله وسخطه ، إضافة لامتلاكها سلطة الزام خارجية متمثلة بقانون العقوبات .
كما استنتجنا وجود ترابطٍ وثيق في الاِسلام بين الجانب العبادي والجانب الاجتماعي ، وكل إخلال في الثاني سوف ينعكس سلبياً على الاَول ، من جراء الاعتداء على حقوق العباد .
والحمد لله على هدايته، والصلاة والسلام
على أشرف الاَنبياء والمرسلين محمد،
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه
المخلصين ومن سار على
نهجهم إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا : أن
الحمدُ لله ربِّ
العالمين.
*