أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الطفل بين الوراثة والتربية ـ القسم الأول المحاضرة الرابعة عشرة : التربية على أساس الايمان
 
 


المحاضرة الرابعة عشرة : التربية على أساس الايمان

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الاول ص 353 ـ ص 377


المحاضرة الرابعة عشرة

التربية على أساس الايمان


قال الله تعالى : « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، والله سميع عليم» (1).
لقد تعرضنا في محاضرة سابقة إلى ضرورة استناد تربية الطفل إلى الأدراكات الطبيعية والميول الفطرية للانسان ، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة ، وهي الطريق الواقعي للسعادة الانسانية . وجرنا هذا الحديث إلى البحث في الوجدان الفطري بصنفية : العقيدي والأخلاقي بإسهاب ضمن ثلاث محاضرات . ولهذا فسيدور بحثنا من اليوم فصاعداً حول كيفية الاستفادة من الفطريات في تربية الطفل.

الأساس الأول للتربية :


إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والايمان به بلسان ساذج متسير الفهم . لقد سبق أن بينا في المحاضرة العاشرة أن الحاجة للايمان بالله موجودة في باطن كل انسان بفطرته الطبيعية . فعندما يبدأ جهاز الادراك عند الطفل بالنشاط والعمل ، ويستيقظ حس التتبع فيه ، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها ، فان نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الايمان بخالق العالم ، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل.
وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثروة الفطرية ، ويفهمه أن الذي خلقنا ، والذي يرزقنا ، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات
____________
(1) سورة البقرة |256.


( 354 )


والجمادات ، والذي خلق العالم ، وأوجد الليل والنهار ، هو الله تعالى ... إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات ويعاقبنا على السيئات.
هذا الحديث سهل جداً وقابل للاذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ويعتقد به . بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والالتزام ونحثه على الاستقامة في السلوك وتعلم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج.
إن للايمان بالله ـ وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الانسان ـ آثاراً ونتائج مهمة في إحياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العليا ، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للايمان بالله أثرين مهمين : ( الأول ) أنه يعمل على إحياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية ، ويصب ركائز السعادة الواقعية للانسان . ( والثاني ) : إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للايمان ، وتتحقق في الخارج.
ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي ، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الانسان ، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الايمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط . وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فانها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها.

القوانين الطبيعية من سنن الله :


لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق ، والحكمة المتناهية ، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل . وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم . إن الصدفة ( التي يستند إليها الماديون في نظريتهم ) لا علم لها ، ولا قدرة ، ولا حافظة ، ولا وجدان ... وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول.
يشرح الامام الصادق ( ع ) بعض آثار عظمة الله وقدرته في عالم


( 355 )


المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي ، ويستدل بها على وجود الله تعالى ، وفي الأثناء يسأل المفضل من الامام ( ع ) قائلاً : « يا مولاي ، إن قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة . فقال : سلهم عن هذه الطبيعة ، أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ؟ فإن هذه صنعته . وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد ، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة فاعلم أن هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه » (1).
إن النظام الدقيق والانسجام الشامل لأرجاء الكون ، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون . وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات ، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية ، وتجعل كلا منها في المدار الخاص به ، أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية . لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها . إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والتربتي والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة : ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عملها ، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في المصرف ، إنها لا تعالم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة . إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر ، ولا تملك أي إرادة أو اختيار في ذلك . لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته ، وسيرها لأداء هذه المهمة.
كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو اختياراً . وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً.
ولقد رأينا كيف أن الامام الصادق ( ع ) استدل عن طريق القوانين
____________
(1) بحار الأنوار ج 2|12.


( 356 )


الطبيعية على وجود الله تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته.

العالم في نظر الالهيين والماديين :


إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والايمان بالله والذي يقسم الناس إلى صنفين : مؤلهين وماديين ، هو نظرتهم إلى الكون فالالهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أسس بعلم الله تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة ، أما الماديون فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء ، بلا علم أو اختيار.
الالهيون يرون أن الانسان موجود ممتاز خلقه الله مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد وسوى له طريق التقدم في ظل العقل . أما الماديون فيرون أن الانسان وجد على أثر طائفة من العوامل الاتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة ، وصار بهذه الصورة الحاضرة.
الالهيون يرون أن الوجدان الخلقي ثروة ثمينة أودعها الله تعالى في باطن الانسان لضمان سعادته ، وأن الخالق الحكيم الذي هيأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للانسان هذه الطاقة الجبارة ( الوجدان ) ليميز في ظلها بين الخير والشر ، ويسير في طريق التعالي النفسي ، والتكامل الروحي . أما الماديون فانهم يرون أن الوجدان الانساني يشبه الانسان نفسه في كونه وليداً للصدفة ، وواقعاً على سبيل الإتفاق.
الالهيون يرون أن الانقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو انقياد للهداية التكوينية التي أوجدها الله الذي يجب الخير والسعادة للانسان ، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة ، ومشعل وضاء ، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان . ولذلك فانهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة الله تعالى بعين التكريم والاحترام . ويرون طريق الساعدة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها . أما الماديون فيرون أن الوجدان ـ وهو معلول للصدفة العمياء الصماء ـ لا يتصور له أي احترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصلاً ، لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة.


( 357 )


الايمان وإحياء الفطريات :


إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات . فالذين يؤمنون بالله إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم ، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره ، لأنهم يرون فيه إلهاماً إليهاً ، وهداية نحو السعادة.

« إن افراد البشر في أي سن كانوا ، يستجيبون للاحساس في نشاطهم أكثر من استجابتهم للمنطق ، وبذلك يطيعون قوانين الحياة الصامرمة إذا وجدوها مظهراً لارادة الله تعالى لا قوة عمياء ... برغبة أكثر . ولقد ثبت بالتجربة أن الانقياد إلى شخص واحد يكون أفضل بكثير من الانقياد إلى قاعدة . إن القوانين الطبيعية التي تخص حفظ الحياة ودوام التكاثر ، والتعالي النفسي تلقى سنداً ونفوذاً أكثر إذا استندت إلى المشيئة الإلهية » (1).

لقد شرحنا في محاضرات سابقة أن الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمها ، وهي مجبرة علىالانقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات ، أما الانسان العاقل والحر في إطاعة الإلهام الإلهي ومخالفته ، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى . إن الايمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية . إن القوة الايمانية تستطيع أن تحفظ الانسان في مزالق الغرائز . وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والالهام الالهي.

تعارض الوجدان والغرائز :


إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً ... كلهم يعلمون أن الظلم قبيح
____________
(1) راه ورسم زندكي ص 169.


( 358 )


ويدركون أن الخيانة سيئة ... الكل يرتاحون للصدق ، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد ، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة : فان الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم . ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة ، ذلك أن الانسان حر في إطاعة أوامر الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فان الانقياد للوجدان أمر هين . ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة ،وفي الغاب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان ، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الايمان وكان الاعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الانسانية.
لقد تعرض الصديق يوسف في ريعان شبابه وأحرج مراحل نضجه الجنسي ، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف : فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه ، وعرضت عليه الاتصال الجنسي به . كانا ـ كلاهما ـ بشرين ولكل منها رصيد ضخم من الميول الجنسية ... ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستسلمت إلى ميولها بينما نجد أن للقوة الايمانية والبرهان الالهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف . وبذلك حفظ شرفه ، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس الانحراف « ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه » (1).

طغيان الغرائز واندحار الوجدان :


كان ( عبد الملك بن مروان ) يعيش حياة هادئة في شبابه ، وكان إنساناً رحيماً وشفوقاً ، يعطف على الناس ، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشر ، كانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية ، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها ... ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الاسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام.
____________
(1) سورة يوسف |24.


( 359 )


ومرت الأيام بالتدريح ، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه . فقد تربع أبوه ( الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها ) على دست الخلافة ، على أثر التطورات السياسية المعروفة ، ونصب ( عبد الملك ) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد ...
ولم تمض أشهر قليلة حتى دس السم إلى مروان ومات ... فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده ... وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالا واسا للمبارزة والكفاح .
لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند ، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال الاانسانية أما اليوم فقد استيقظت غرائزه ، وتعالت ألسنة نيرانها ، حتى اضطر وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع ، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكبوا الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر .
يذكر لنا المؤرخون أنه لما أرسل ( يزيد ) جيشاً إلى مكة لقتل ( عبدالله بن الزبير ) كان عبدالملك يقول : العياذ بالله أفهل يجهز أحد جيشاً لمحاربة بيت الله الحرام ؟! أما عندما تولى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة الحجاج بن يوسف ( المجرم المعروف ) إلى مكة ، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم الله ليقبض على عبدالله بن الزبير وأخيراً فقد حز رأسه وأرسله إلى عبدالملك في الشام وعلق جثته على عود المشنقة !.
حينئذ يقول عبد الملك : إني كنت أتمانع من قتل نملة ضعيفة أما الآن فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي ! لقد قال أحد العلماء واسمه ( الزهري ) يوماً لعبد الملك : سمعت أنك تشرب الخمر ! فأجابه نعم والله ، أشرب الخمر ، وأشرب دماء الناس أيضاً (1).
ما أكثر الناس من أمثال عبدالملك على مر التاريخ ، وحتى في عصرنا
____________
(1) تتمة المنتهى ص 84.


( 360 )


الحاضر ! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الاعتيادية ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم ، ويطلقون العنان لميولهم النفسية ، إلا إذا استكانوا بالايمان وتسلحوا به ضد طغيان الغرائز ! ... « إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا ما رحم ربي » (1).

العقل والغرائز :


والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز ، وتعديل الميول النفسانية ، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها . أما عندما يشتد هيجانها ، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه فان سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الانساني قدرته على المقاومة ، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود ، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة ، تسيطر على الانسان وتوجهه كيف تشاء.
وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الامام علي ( ع ) فيقول : « قد أحرقت الشهوات عقله ، وأماتت قبله ، وأولهت عليها نفسه » (2).

العلم والغرائز :


يتصور البعض ان ارتفاع المستوى الثقافي ، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة ، والأخذ بيد الانسان إلى الفضيلة والكمال ... غافلين عن أن قوة التمدن المادية ( أي العلم الفاقد للايمان ) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز ، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الانسان بحيث أنها عندما تثور ، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل ، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة ، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي.
____________
(1) سورة يوسف |53.
(2) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 532 ط إيران.


( 361 )


غلبة الغريزة على العلم :


ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية ، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف !.
ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل ، وإثبات فساد ذلك من الناحية الاجتماعية والقضائية والاقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي ، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق ، لا يتورعون من أخذ الرشوة ، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد !.
ما أكثر المتمدنين الذي يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي ولكنهم لا يستطيعون الامتناع عن شربها حتى ليلة واحدة !.
ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء لا يطبقون علمهم وينقادون لأهوائهم ... منها :
1 ـ قوله ( ص ) : « العلماء عالمان : عالم عمل بعلمه فهو ناج ، وعالم تارك لعلمه فقد هلك » (1).
2 ـ وقد ورد أيضاً : « أوحى الله إلى داود : لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا ، فأولئك قطاع الطريق على عبادي » (2).
3 ـ قال رسول الله ( ص ) : يا أباذر ، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه » (3).
____________
(1) لئالي الأخبار ص 192.
(2) لئالي الأخبار ص 192.
(3) لئالي الأخبار.


( 362 )


4 ـ وفي حديث آخر : « أشد الناس عذاباً في القيامة ، عالم لم يعمل بعلمه ، ولم ينفعه علمه » (1).
إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يومأً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية ... وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الانسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الانسانية ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا !.

« إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد اضمحلال بعض القيود والموانع الاجتماعية تثبت أنه وإن كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويوجدون المدنيات المختلفة ، لكنهم ليسوا متمدنين ».
« هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة ، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الاجتماعية فقط » (2).


الهمجية في لباس التمدن :


لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والانسانية قبل الحرب العالمية . ولكنه عندما اندلعت نيران الحرب انفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة ... وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية ـ أي لباسه الواقعي فقد استولت سحب الاجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والانتقام محل الضحكات المصطنعة في وجوه الجماهير المتمدنة !.

« التبعيد ، والقتل العام للمدنيين ، ومعسكرات العمل الاجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب ، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب

____________
(1) مجموعات ورام ج 1|220.
(2) إنديشه هاي فرويد ص 116.


( 363 )
والقمع والارهاب ) والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل ... كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب . ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية ، وهكذا اختفت مظاهر احترام الحياة والمثل الانسانية ، والقيم الأخلاقية في كل مكان » (1).

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإلهية ) قبل الحرب يأمل انتشار التعاليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها ... إنه يقول :

« إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدم خدمات مهمة إلى الانسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الاجتماعية ، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي » (2).

إن فرويد يوصي بما يلي :

« من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني ، فيعود الناس على غض النظر عن هذه التسلية ، ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط ، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ ».

إنه يعتقد بأن :

« الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنسانأً راشداً ، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة » (3).

____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 117.
(2) انديشه هاى فرويد ص 96.
(3) انديشه هاى فرويد ص 97.


( 364 )


أوهام فرويدية :


كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية ، إنه كان يتصور أن الانسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة القيم العليا ، لكن اندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد ، وقلبت تفكيره رأساً على عقب ، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطئ ... وراح يقول :

« ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية ، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس . ولكن هذا لايأس والألم ليسا وجيهين في الحقيقة ، وذلك أنا نعتبر سكان العالم لهذه الجهة منحطين وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه » (1).
« بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الاعتداءات البشرية يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي ، ولا تزال الاعتداءات موجودة حلف أستار المجتمع ».
« هناك كثير من المتمدنين الذين يستاؤون من تصور ارتكاب القتل أو الاتصال الجنسي مع المحارم ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم وأطماعهم الجنسية ».
« إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب ، فسيلحقون الأذى

____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 117.


( 365 )
بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب ، والخداع ، والفتراء ، وما شاكل ذلك ... » (1)
« إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعدالة والاعتداءات الأخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الاعتيادية مباحة في حال الحرب . ولذلك فان الحكومة لا تكتفي بالاستعانة بالمكر والحيلة المواجهة العدو فقط ، بل لا تتمانع من الكذب العمد . ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً » (2).


التمدن الفاقد للايمان :


إن المدينة المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الايمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والانهيار.
إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والاعتداءات التي ارتكبت في أثنائها وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الانسانية من تصوره ، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه.
إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليها ، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر ... هي قوة الايمان بالله . فالايمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها ... القوة الايمانية تحفظ الانسان في أخطر لحظات الانحراف والانزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه الايمان بالله قوة لا تغلب ولا تدحر ، وملجأ لا يتحطم « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصال لها ».
إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الاسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو ( الايمان بالله ).
____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 123.
(2) انديشه هاى فرويد ص 125.


( 366 )


يشترك الاسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شؤون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد ، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون ، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم . أما الهدف من التربية في الاسلام فهو أن يتربى الأفراد ، مضافاً إلى استقامة سلوكهم على التفكير السليم ، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير.

النوايا الصالحة :


تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للانسان فقط . أما المذهب التربوي للاسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة.
يقول الرسول الأعظم ( ص ) : « نية المؤمن خير من عمله » (1).
وعن الامام الصادق ( ع ) ضمن حديث طويل : « والنية أفضل من العمل , ألا وإن النية هو العمل ، ثم تلا قوله عز وجل : « قل كل يعمل على شاكلته ) يعني : على نيته » (2)
إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئاً ، أما المذهب الاسلامي فيرى أن المسلم الواقعي والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الاسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى ، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهياً ، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته ، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية.
يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية ـ الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك ـ عن هذا الموضوع فيقول :
____________
(1) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2|84.
(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 1|6.


( 367 )
« للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيع الواجبات الأخلاقية . ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية . في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون . ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الاسلامية التي تنبع من إرادة الله ، الارادة التي كشفت لرسوله محمد ( ص ) ، هذا القانون وهذه الارادة الإلهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة . إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقى وأفضل وأن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر » (1).


العمل المستند إلى الايمان :


يستند أساس السعادة الانسانية في الاسلام إلى دعامتين ، الأولى : الأيمان ، والإخرى : العمل الصالح . ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة : « الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ونظائرها . والنكتة التي تجلب الانتباه هنا هي أن الايمان مقدم على العمل الصالح دائماً ، ذلك أن الاسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى الاعتقاد الحقيقي ، وتنبع من منبع الايمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الاسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه.
إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة ، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها.
____________
(1) مقدمة كتاب ( حقوق دار إسلام ) ص ج.


( 368 )


الرياء والتظاهر :


أما الأعمال الصالحة التي لا تملك أساساً إيماناً ثابتاً ، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس ، أو العادة الاجتماعية ... لا تبقى ثابتة أبداً ، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف.
إن الاحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة فمن يقوم بهذا العم المقدس امتثالاً لأمر الله واحتراماً للايمان ، يعمل في كل مكان وبلا أي منة بل يكون رائده الاخلاص وجلب رضى الله دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم أما الذي لا ينبع له إحسانه من رصيد إيماني بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط ، والتظاهر أمام الناس ، وانتشار أمره في الصحف والمجلات ، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الاطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه ، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الاحسان ، أو يتخلى عنه تماماً :

« يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية : لما كانت المشكلة الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية فاننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين . هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي . ذلك أن الانسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأها ، مضافاً إلى أن سلوكاً كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها . لأن المقصود أن يتكامل الانسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية ، ليس الهدف أن نحث الانسان على أن يؤدي حركات أخلاقية . فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي ، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والموقتة التي تزول بأبسط مبرر . إن القواعد الأخلاقية إذا فرضت على الانسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالة ، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة » (1).

____________
(1) سرنوشت بشر ص 216.


( 369 )
« يرى بعض الكتاب أنهم أجل من أن يحتاجوا إلى المقررات والأنظمة الدينية والأخلاقية ، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة . إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة . ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة . إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرأوها بصورة سطحية أو لم يقرأوها أصلاً ، فيرون أن ( فولتير ) و( داروين ) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة . ولا ثبات هذا الادعاء ننقل نصاً لفولتير في موسوعته الفلسفية ... ».


الايمان والقيام بالواجب :


إن المؤمنين بالله العظيم ، والذين يعمر قلوبهم العشق الإلهي ، يسعون في القيام بواجباتهم ، والأعمال الصالحة بشوق ونشاط لا يتطرق الملل والكلل إليهما ... ولا يتسرب إلى نفوسهم الرياء ... إنهم يعملون لله وحده ولا ينتظرون الجزاء إلا من عظمته.
« عن أبي عبدالله ( ع ) في قول الله عز وجل : « ليبلوكم أيكم أحسن عملا » . قال : ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنما الاصابة

« ما الذي نستنتجه مما مر ؟ إن الانسان ، الملحد وحش كاسر ! ».
« إن بعض المهندسين الجاهلين للفلسفة ينكرون العلل الغائية ، ولكن الفلاسفة الحقيقيين يذعنون لها . وكما يقول كاتب معروف : إن كتاب الدعاء هو الذي يعرف الله للأطفال ، بينما يثبت ( نيوتن ) وجود الله للمثقفين ».
« إن الإلحاد هو العيب المهم في عدة قليلة من الأذكياء والخرافة عيب الحمقى » (2).

____________
(1) سرنوشت بشر ص 156.


( 370 )


الايمان وتعديل الغرائز :


إن من أهم نتائج الايمان الواقعي بالله ، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة ، وضبط الرغبات اللامشروعة ، فعندما يتحطم سد العقل والعلم والوجدان ، ويفق مقاومته أمام الضربات القاصمة للغرائز ، يثبت الايمان بالله خشية الله ، والنية الصادقة والحسنة . ثم قال : الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص : الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل » (1).
في قوته رصيناً وطيد الأركان ... ويمنع من إسراف الغرائز ، ويحفظ صاحبه من السقوط الحتمي ، وقد اعتبر ذلك من علائم المؤمن في الروايات الاسلامية.
« عن أبي جعفر ( ع ) قال : إنما المؤمن ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولاباطل ، وإذا سخط لم سخطه من قول الحق ، والذي إذا قدر لم يخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق » (2).
لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها مهواة سحيقة للانسان . فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة استجابة لإحدى الرغبات النفسية . أما الرجال المؤمنون فانهم يستطيعون في المواقع الحساية بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس.
يقول الامام أمير المؤمنين ( ع ) ضمن حديث طويل في بيان علائم المؤمن : « لا يحيف في حكمه ولا يجور في عمله ، نفسه أصلب من الصلد ، حياؤه يعلو شهوته ، وودة يعلو حسده ، وعفو يعلو حقده » (3)

الايمان والعزم :


يشير الامام علي ( ع ) في هذه الجمل بعد الاشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين إلى أن غريزة الشهوة والحسد والانتقام مكبوتة في
____________
(1) الكافي للكليني ج 2|16.
(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15|94.
(3) المصدر السابق ج 15|97.


( 371 )


نفوس الأشخاص المؤمنين وأن القوة الايمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر.
« عن أبي عبدالله ( ع ) قال : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على من تحت يده ، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة . ورجل قال بالحق في ما له وعليه » (3)
في هذا الحديث يبين الامام الصادق عليه السلام غلبة الايمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد.
وللرسول الأعظم ( ص ) بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول : « ... مشمولاً بحفظ الله ، مؤيداً بتوفيق الله ، لا يحيف على من يبغض ، ولا بأثم في من يحب ، لا يجوز ولا يعتدي ، لا يقبل الباطل من صديقة ، ولا يرد الحق على عدوه » (1)
إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفوسهم ، أو مكنة في الانحراف بهم عن السلوك الصحيح والطريق المستقيم.

الايمان والهدوء النفسي :


إن الأثر الثاني للايماني بالله يظهر في الهدوء النفسي . إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الايمان يقدرون على الاحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث ، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم فلا يصابون بأي إضطراب أو قلق تجاهها.
لقد حاصرت الحوادث والمفاجئات الطبيعية في العالم مثل الموت والمرض والزلزال والفيضان ، وما شاكل ذلك ، البشر من جهة ، والاخفاقات وحالات
____________
(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4|38.
(2) بحار الانوار للعلامة المجلسي ج 15|82.


( 372 )


الفشل والانهيار في الحياة من جهة أخرى ... بحيث تلاقي جميع الطبقات الاجتماعية الأمرين من تلك المصائب والويلات.
وكما تخطو البشرية في مجالات المدنية ، وتزداد مباهج الحياة يوماً بعد يوم وتفتح العلوم الطبيعية أبواباً جديدة للذة على العالم كلما تتعقد المشاكل الاجتماعية وتتحرك حوافز الحرص والجشع وتثور دوافع حب المال والجاه ويطول الأمل ، ويشتد السعي وراء اللذة ، وتكثر الرغبات النفسانية . ومن الطبيعي في حاله كهذه أن تزداد الاخفاقات والانهيارات الروحية ويسود القلق والاضطراب على العام :

مرض القلق :


لقد أدى القلق والضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى ، وهذا المرض الؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء.
فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة ، أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر !.
والبعض الآخر يلجأون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت ، والتخلص من شر القلق الداخلي إلى استعمال المشروبات الروحية والحشيشة ، وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم.
أما القسم الآخر فانهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الاصابة بالأمراض النفسية أو الجنون ، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة !.
وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الاختيار من يدها ، وأقدمت على الانتحار هرباً من القلق والألم ، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الاضطرابات.


( 373 )


لقد اهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام ، وألفوا في ذلك انكتب المختلفة ، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الايحاء ، والتحليل النفسي ، وحل العقد النفسية ... إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصولا إلى نتائج مفيدة ... ولكن تلك النتائج ضئيلة ، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم.
إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية ، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة ، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصايا ، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب.

الايمان وعلاج القلق :


هنا يظهر دور الايمان الكبير في علاج مرض القلق . فإن المؤمنين يستدون إلى الله تعالى في مد الحياة وجزرها ، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار ، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية ، ونفوساً تتحدى التحطيم ، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة .
« ... إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » (1) . إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود ، ذلك هو الله تعالى « ألا بذكر الله تطمئن القلوب » (2).
وقد ورد عن الامام الصادق ( ع ) في تفسير قوله تعالى : « فقد استمسك بالعروة الوثقى » قوله ( ع ) : « هي الايمان بالله وحده لا شريك له » (3).
كما أن حديثاً آخر يستند هذا الموضوع ، ذلك أن الراوي يقول : « سألت أبا عبدالله ( ع ) عن قوله عز وجل : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب
____________
(1) سورة الأحقاف |13.
(2) سورة الرعد |28.
(3) الكافي ج 2|14.


( 374 )


المؤمنين) قال : هو الإيمان . قال : قلت ( وأيدهم بروح منه ) ؟ قال : هو الإيمان . وعن قوله : ( وألزمهم كلمة التقوى ) ؟ قال : هو الإيمان»(1).
لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي ، والارتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة ، ولقد قام النبي ( ص ) والأئمة ( ص ) والأئمة ( ع ) بتفسير ذلك كله بالايمان ... فالايمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب ، لم يصب ذلك القلب بقلق أصلاً ، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف.

« يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأستاذ الفلسفة في جامعة ( هارفرد ) : إن أشد العقاقير تأثيرا في رفع القلق هو الايمان بالله والاعتقاد الديني » (2)
« إن الايمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الانسان بمددها ، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الانسانية » (3)

تشكل القيمة المعنوية للايمان ، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين ، فصلا مستقلا من فصول علم النفس الحديث في العالم ، ذلك أن كثيرا من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الايمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين !.

الالحاد والقلق :


يعترف العلماء المعاصرون بأن قسماً مهماً من الاضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الايمان.

« في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الانتحار عملية انتحار واحدة كل ( 35 ) دقيقة ، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون ، وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء

____________
(1) الكافي ج 2|15.
(2) دع القلق وابدأ الحياة ص 159.
(3) نفس المصدر 155.


( 375 )
والاطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للانسان كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الانتحارات والاصابات بالجنون ».
« يقول الدكتو ( كارل جونك ) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه : لقد راجعني في طي الثلاثين عاماً الأخيرة أناس من جميع الدول المتمدنة في العالم . وقد عالجت مئات المرضى ، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة ، لم يوجد ينهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر . ولذا أستطيع القول بكل تاكيد أن كلاً منهم كان قد تمرض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لاتباعها . وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفقوا للعلاج أصلاً » (1).


إيمان الأنبياء :


إن أجلى مثال للايمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جداً ، مليئة بالأخطار والمشاكل ، وكانوا يتعرضون للموت في كل لحظة ، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق ، ذلك أنهم كانوا مؤمنين بالله وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه.
ولقد تعلم اتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم فراحوا في ظل إيمانهم بالله أقوياء إلى درجة أنهم لم يتزعزعوا أمام الحوادث والمصائب التي يلاقونها ، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب ... كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم ، في الفقر والغنى ، في الموت والمرض ... وفي كل الحالات إلى الله تعالى ، متطلعين إلى رحمته وكرمه . وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه الامرأة المسلمة : ـ
____________
(1) دع القلق وابدأ الحياة ص 154.


( 376 )


« خرجت مع صديق لي بالبادية فأضللنا الطريق ، فإذا رأينا في يمين الطريق خيمة فقصدناها فسلمنا ، فإذا امرأة ردت علينا السلام ، فقالت : من أنتم ؟ قلنا : ضالين قصدناكم لنأنس بكم . فقالت : أديروا وجوهكم حتى أعمل من محقكم شيئاً ففعلنا ، فقالت : أجلسوا حتى يجيء إبني وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر فرفعتها مرة ، فقالت : أسأل الله بركة المقبل . وقالت : أما الناقة فناقة ابني ، وأما الراكب فليس هو . فلما ورد الراكب عليها قال : يا أم عقيل عظم الله أجرك بسبب عقيل قالت : ويحك مات عقيل ؟ قال : نعم . قالت : بما مات ؟ قال : أزدحمته الناقة وألقته في البئر . فقالت له : أنزل وخذ زمام القوم . فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعاماً ، فشرعنا في أكل الطعام ونتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : أيها القوم أفيكم من يحسن في كتاب الله شيئاً ؟ قلت : بلى ! قالت : إقرأ علي آيات أتسلى بها من موت الولد . قلت : الله عز وجل يقول : « وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة ... المهتدون » قالت : الله هذه الآية في كتاب الله هكذا ؟ قلت : أي والله إن هذه الآية في كتاب الله هكذا فقالت : السلام عليكم فقامت وصلت ركعات ثم قالت : أللهم اني فعلت ما أمرتني به ، فانجز لي ما وعدتني به » (1).
أي قوة غير الايمان بالله قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة ؟!.
أي قدرة غير الاعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب ، بهذه الفورية ؟!!

إحياء الفطرة الأولى :


نعود فنلخص ما ذكرناه فيما سبق ، وهو أن الايمان بالله إحياء لأولى القوى الفطرية عند الانسان ... إن الايمان بالله كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي ... وهو أعظم ملجأ للانسان ، وأكبر عامل للهدوء النفسي
____________
(1) لئالي الأخبار ص 305 الطبعة الحديثة.


( 377 )


واطمئنان الخاطر ... وبصورة موجزة ، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم.
إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى ، ويلقنه درس الايمان به بلسان ساذج بسيط . إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة اتباعاً لمنهج القرآن الكريم ويبذر في نفسه بذور الأمل ، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم.
يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان ، فالله قادر على حل مشاكله وتيسير أموره ، فإن رفعنا يد الحاجة نحوه ساعدنا على مهمتنا.
على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الانسانية هو جلب رضى الله ، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا ، عن طريق نبيه العظيم ، إن الصدق والأمانة يسببان رضى الله ، والخيانة تسبب غضبه.
يجب على المربي أن يوقظ الاحساس بالمسؤولية أما الله في الطفل منذ الطفوله ويحثه على الشعور بواجبه ، وإشعاره بالأسلوب البسيط أن الله يراقبك في كل حال ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة ، ولا يخفى شيء على الله ... إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك.
إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الايمانية عند الطفل ، ويربونه مؤمناً منذ الصغر ، فانهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة ، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى.