34/08/22
تحمیل
الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الثاني:- وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
ميزان وحدة الموضوع:-
ذكرنا فيما سبق أن الموضوع في باب الاستصحاب يلزم أن يكون واحداً وإلا فلا يصدق عنوان النقض والآن نريد أن نعرف أن المدار في تحديد الموضوع ووحدته على ماذا ؟
والجواب:- هناك احتمالات ثلاثة:-
الأول:- أن يكون المدار على النظر الدقيّ.
الثاني:- أن يكون المدار على لسان الدليل.
الثالث:- أن يكون المدار على النظر العرفي.
أما الاول فالمناسب حذفه من الحساب لأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب رأساً إذ الشك في البقاء ينشأ من اختلال بعض القيود إذ لو لم يختلّ شيءٌ من القيود فلا يحصل شكّ في البقاء وكلّ قيد اختل أو صفة اختلت هي إن لم تكن دخيلة في الموضوع عقلاً ودقّة فلا أقل من كونها محتملة الدخالة فلا نحرز بقاء الموضوع ووحدته فلو فرض أن الماء الكرّ أخذنا منه شيئاً قليلاً وشككنا في بقائه على الكرّيّة فيلزم أن لا يجري الاستصحاب لأنه بأخذ الشيء القليل منه تغيّر الموضوع دقّة وعقلاً وإن لم يتغيّر عرفا ًوهكذا الماء المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه يلزم أن لا يجري استصحاب النجاسة لأن الماء الذي زال تغيّره يغاير عقلاً ودقة الماء المتّصف بالتغيّر . إذن هذا الاحتمال يلزم حذفه من الحساب للمحذور المذكور مضافاً إلى أنه لا مقتضي من الأساس لجعل المدار على الوحدة الدقيّة . إذن حذف هذا من الحساب لجهتين الأولى فقدان المقتضي والثانية وجود المانع ، وعليه فيدور الأمر بين احتمالين بين أن يكون المدار في تحديد الموضوع على لسان الدليل وبين أن يكون المدار على النظر العرفي.
فإن كان المدار على لسان الدليل فيلزم أن ندور مدار لسان الدليل وملاحظة التعبير الوارد فيه فلو كان التعبير هكذا:- ( الماء المتغيّر نجس ) فلا يجري الاستصحاب لو زال التغيّر وشككنا في بقاء النجاسة لأن الموضوع في لسان الدليل جعل هو الماء المتغيّر والماء المتغيّر ليس بموجودٍ الآن وإنما الموجود هو الماء غير المتغيّر فلا وحدة للموضوع - هذا لو لاحظنا التعابير ولسان الدليل - ، بينما لو عبّر الدليل وقال:- ( الماء ينجس إن تغيّر أو إذا تغيّر ) بحيث جعلت نجاسة حكماً لذات الماء وليس للماء المتغيّر ففي مثله يجري الاستصحاب لأن الموضوع هو الماء وهو محفوظ في كلتا الحالتين - أي في حالة التغيّر في حالة زوال التغيّر - ويكون التغيّر حيثية تعليلية وليست تقييدية بخلافه على التعبير الأوّل فإنه يكون حيثية تقييدية
[1]
. إذن لو كان المدار على لسان الدليل فلابد من ملاحظة لسان الدليل ، بينما لو كان المدار على النظرة العرفيّة فسواء عبّر بأن الماء المتغيّر نجس أو عبّر بأن الماء نجس إن تغيّر فلا أثر لذلك بل الموضوع يكون هو ذات الماء فإن العرف يرى أن النجاسة تنصبّ على الماء فالماء يتّصف بأنه نجسٌ وأما التغيّر فهو صفة ولا يتحمل أن يكون موضوعاً للنجاسة بالنظرة العرفيّة ولذلك لا يقال عرفاً ( التغيّر أو المتغيّر نجس ) فإنه مضحك بل قل ( الماء نجسٌ ).
والخلاصة:- إذا جعلنا المدار على لسان الدليل فلابد وأن نفرّق بين التعبيرين بينما إذا جعلنا المدار على النظرة العرفيّة والفهم العرفي فلا فرق بين التعبيرين بل كيفما عبّر النص فنحن نذهب إلى العرف ونراه ماذا يرى في الموضوع . إذن الأمر يدور بين هذين الاحتمالين.
وأيهما هو الصحيح ؟
وقبل أن نجيب على هذا السؤال نطرح هذا الإشكال أو التساؤل التالي وحاصله:- إن الدليل يلزم أن نفهمه على طبق فهم العرف ففهم العرف هو الذي يحدّد المقصود من الدليل ومعه كيف نجعل مقابلةً بين الفهم العرفي - يعني النظرة العرفية - وبين الدليل والحال أن الدليل نفهمه من خلال العرف ومن خلال الفهم العرفي فلا معنى للمقابلة بين هذين الاحتمالين ؟ هذا إشكال قد يورد في القام وبالتالي سوف يكون طرح هذا البحث والتساؤل كلّه لا فائدة منه.
وفي هذا المجال أجاب السيد الخوئي(قده)
[2]
بما حاصله:- إن المقصود هو هذا ( هل المدار على النظرة العرفيّة ؟ يعني نرجع إلى دليل ( لا تنقض اليقين الشك ) ونلاحظ هل يصدق النقض عرفاً أو لا ؟ فإذا رجعنا إلى الدليل المذكور وجعلنا المدار على النقض العرفي فهذا معناه أن المدار على النظرة العرفيّة وأما ذاك الاحتمال الآخر الذي يقول إن المدار على لسان الدليل فالرجوع لا يكون إلى حديث ( لا تنقض ) بل إلى دليل الحكم المستصحب وأقصد به مثل ( الماء نجس إن تغيّر ) مثلاً فنرجع إليه ونلاحظ لسانه ) . إذن ليس المقصود هو النظر إلى دليلٍ واحدٍ وملاحظة دليلٍ واحدٍ ونتردّد بأنه هل المدار في هذا الدليل الواحد هو على النظرة العرفيّة أو على لسان الدليل حتى يقال لا مقابلة بينهما وإنما المقصود هو أنه هل نلاحظ ذلك الدليل أو نلاحظ هذا الدليل فيوجد لدينا دليلان هما دليل ( لا تنقض ) ودليل ( الماء نجس إن تغيّر ) فإن لاحظنا دليل ( لا تنقض ) وجعلنا المدار على النقض العرفي فهذا معناه أن المتّبع هو النظرة العرفيّة فهذا هو المقصود من النظرة العرفيّة يعني ملاحظة دليل ( لا تنقض ) ، وأما إذا جعلنا المدار على دليل الحكم المستصحب - يعني ( الماء نجس إن تغير ) مثلاً - فهذا يعني أن المدار على لسان الدليل . إذن هذا هو مقصود الأعلام وهكذا فسَّر(قده) مقصود الأعلام من هذين الاحتمالين.
وفيه:- إن الكل ينبغي أن يكون متفقاً على أن المدار هو على صدق النقض ولا يمكن أن نترك حديث ( لا تنقض اليقين ) كلا بل هو المهم في البين ويلزم أن يصدق النقض حتى يجري الاستصحاب ، ولكن السؤال هو أن صدق النقض فرع وحدة الموضوع فكيف نحدّد الموضوع وأنه واحدٌ فهل المدار في تحديد الموضوع على الدقّة العقليّة أو على لسان الدليل أو على النظرة العرفيّة ؟ إذن هذا هو المقصود وهكذا ينبغي أن يُفهَم المطلب ولا يوجد احتمال آخر فلا معنى إذن لتفسير النظرة العرفيّة - يعني النظر إلى حديث لا تنقض - وتفسير القصود من لسان الدليل يعني ملاحظة لسان دليل الحكم المستصحب - يعني ( الماء نجس إن تغيّر ) مثلاً - كلّا فإن هذا لا معنى له . إذن ما ذكره(قده) لا ينبغي أن يخطر على ذهنٍ أبداً.
وحلّ الإشكال والتساؤل أن يقال:- إن الدليل تارةً نتعامل مع ألفاظه كما يتعامل البعض كذلك - يعني يدور مدار الألفاظ والتعابير الواردة في النص ولا يعمل نظرته العرفيّة ومناسبات الحكم والموضوع والقرائن العرفيّة الأخرى المناسبة بل يبقى حرفياً ويدور مدار الألفاظ والتعابير والكلمات وهذا نحو من السير وهناك نحو آخر هو أن التعابير لا نتركها تركاً تاماً بل نعطيها قسطاً من الثمن ولكن لا كل القسط من الثمن بل نحكِّم أموراً أخرى هي ما وراء النصّ وغير النصّ فإذا أردنا أن نقتصر على الألفاظ الواردة في النص فهذا معناه أن المدار على لسان الدليل وإذا أردنا أن نضمّ إلى ذلك المناسبات والقرائن العرفيّة فهذا معناه أن المتّبع هو النظرة العرفيّة دون لسان الدليل فالمغايرة إذن بين المطلبين واضحة بلا حاجة إلى ما ذكره(قده).
وبعد أن اتضح لنا هذا المطلب واندفاع هذا الاشكال نعود من جديد ونطرح سؤالنا ونقول:-
هل المناسب هو هذا السير - يعني ملاحظة الألفاظ والتعابير ولا نعير أهميّة إلى الأمور الأخرى العرفيّة - أو أن المدار على النظرة العرفية والنكات والقرائن العرفية لا أن نبقى متشبثين ومتمسكين بألفاظ النص فقط ؟
والجواب:- المناسب هو الثاني - أي تحكيم مناسبات الحكم والموضوع - وتحديد موضوع الحكم لا من خلال التعابير الواردة في النص فقط بل بعد ضمّ النكات والقرائن العرفيّة ، والوجه فيه هو أن الخطاب خطابٌ عرفيّ صدر من إنسان عرفيّ إلى إنسان عرفيّ فيكون المدار على ما يصدق عليه النقض عرفاً وإنما يصدق النقض عرفاً إذا كان الموضوع محدّداً حسب النظرة العرفيّة وعلى طبق ما يفهمه العرف فيكون المدار إذن.
[1] وكل حيثية تكون مصبّاً للحكم وموضوعاً له أو جزءاً منه يعبّر عنها بالتقييدية وإذا لم تكن موضوعاً بل هي مجرد علّة فيعبّر عنها بالتعليلية.
[2] مصباح الأصول، الخوئي، ج3، 238- 240، ط قديمة.