قبول الإمام علي ( عليه السلام ) الخلافة
حقّقت الثورة على عثمان مكسباً عظيماً للمسلمين ، فقضت على الاستغلال والتلاعب بمقدّرات الأمة ، وقضت على الغبن والظلم الاجتماعي ، ودكّت عروش الطغيان ، وحقّقت للأمة أهم ما تصبو إليه من تحقيق العدل والرخاء والأمن .
ويقول المؤرخون : إن الثوار وسائر القوّات المسلّحة قد احتفّت بالإمام ( عليه السلام ) وهي تهتف بحياته وتناديه : لا إمامَ لنا غيرك .
فقد أيقنت الأوساط الشعبية أن الإمام ( عليه السلام ) هو الذي يحقّق آمالها وأهدافها ، ويعيد لها كرامتها .
كما أيقنت أنها ستنعم في ظلال حُكمه بالحرّية والمساواة والعدل ، فأصرّت على انتخابه ( عليه السلام ) ، وتقليده شؤون الخلافة .
رفضه ( عليه السلام ) للخلافة :
استقبل الإمام الثوار بالوجوم وعدم الرضا بخلافتهم ، لعلمه بالأحداث الرهيبة التي ستواجهها إن قبل خلافتهم .
فإن الأحزاب النفعية التي خلقَتها حكومة عثمان قد تطعّمتْ بالخيانة ، وتسرْبَلت بالأطماع والمنافع الشخصية .
ولأنه ( عليه السلام ) كان يعلم أنها ستقف في وجهه ، وتعمل جاهدة على مناجزته ، والحيلولة بينه وبين تحقيق مخططاته السياسية الهادفة إلى تحقيق العدل ، والقضاء على الجور .
فهتف الإمام ( عليه السلام ) بجماهير الشعب التي احتفّت به معلناً رفضه الكامل لخلافتهم قائلاً لهم :
( لا حاجة لي في أمرِكم ، فمن اخترتُم رضيتُ به ) .
وأي حاجة للإمام في خلافتهم ، فهو لم ينشد مكسباً خاصاً له ( عليه السلام ) أو لأهل بيته ( عليهم السلام ) ، وإنما كان ينبغي تحقيق أهداف الأمة ، وإعادة الحياة الإسلامية إلى مَجراها الطبيعي .
لكن الجماهير أصرت على انتخابه ( عليه السلام ) قائلة : ما نختار غيرك .
ولم يتراجع الإمام ( عليه السلام ) ، وإنما أصر على الإمتناع والرفض ، ولكن الثوار لم يجدوا أحدا خليقاً بإدارة شؤون الأمة غير الإمام ( عليه السلام ) الذي توفّرت فيه جميع الصفات القيادية ، من الصلابة للحق ، والقدرة على تحمّل المسؤولية ، فأصرّت على فكرتها في ترشيحه للخلافة .
فأجابهم الإمام ( عليه السلام ) مُصرّاً على رفضه قائلاً : ( دَعوني والتمِسوا غيري ) .
وأحاطهم علماً بالأحداث المذهلة التي سيواجهها إن قبل خلافتهم قائلاً : ( أيها الناس ، إنا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت له العقول ) .
ولم تَعِ الجماهير قوله ، وإنما ازدحمت عليه تنادي : أمير المؤمنين ، أمير المؤمنين .
وكثر إصرار الناس عليه وتدافعهم نحوه ، فصارحهم بالواقع ليكونوا على بَيّنة من أمرهم قائلاً : ( إني إن أجبتُكم ركبت بكم ما أعلم ، وان تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، ألاَ وإني من أسمعِكم وأطوعكم لِمن وَلّيتُمُوه ) .
فأعرب ( عليه السلام ) لهم أنه إن تولّى قيادتهم فسوف يسير فيهم بالحق والعدل ، فلا يجامل أي إنسان ، ودعاهم إلى التماس غيره ، إلا أنهم أصرّوا عليه وهتفوا : ما نحن بِمُفارقِيكَ حتى نبايعَك .
وتزاحمت الجماهير عليه ، وانثالوا عليه من كل جانب ، وهم يطالبونه بقبول خلافتهم .
وقد وصف ( عليه السلام ) شِدة إصرارهم وازدحامهم عليه بقوله :
( فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون عَليّ من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ) .
فعند ذلك أجّلَهم إلى صباح اليوم الثاني لينظر في الأمر فافترقوا على ذلك .
قبول الإمام ( عليه السلام ) :
ولم يجد الإمام ( عليه السلام ) بُدّاً من قبول الخلافة خوفاً أن ينزو إليهم علج من بني أمية ، كما كان يتحدث بذلك ويقول ( عليه السلام ) : ( والله ما تقدّمتُ عليها إلا خوفاً من أن ينزو على الأمة تيس من بني أمية ، فيلعب بكتاب الله عزّ وجلّ ) .
البيعة :
ازدحمت الناس في الجامع الأعظم تنتظره ( عليه السلام ) بفارغ الصبر فلعلّه قد أجابهم إلى ما يريدون .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) تَحفّ به البقية الطيبة من صحابة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فقوبل ( عليه السلام ) بموجة من الهتافات المؤيدة له ، وقد أعلنوا عن رغبتهم المُلحّة في أن يتولّى شؤون المسلمين .
واعتلى الإمام ( عليه السلام ) أعواد المنبر ، فخاطب الجماهير قائلاً :
( أيها الناس ، إن هذا أمركم ، ليس لأحدٍ فيه حق إلا من أمرتُم ، وقد افترقنا بالأمس وكنتُ كارهاً لأمركم ، فأبيتُم إلا أن أكون عليكم ، إلا وأنه ليس لي أن أخذ درهماً دونكم ، فإن شئتم قعدتُ لكم ، وإلا فلا أأخذ على أحد ) .
وألقى الإمام ( عليه السلام ) الأضواء على سياسته المالية النيّرة ، فهو يحتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط بأموال الدولة ، فلا يستأثر بأي شيء منها ، ولا ينفق درهماً على مصالحه وشؤونه الخاصة ، وهو يشير بذلك إلى الذين تمرّغوا في أموال الخزينة المركزية أيام الحكم المباد فنهبوا الأموال ، وأخذوها بغير حِلّها .
وأنه إذا تولّى شؤون المسلمين فسوف يحرمون منها ، ويعاملون كبقية أفراد الشعب ، ويعود المال – حسب ما يريد الله – للأمة لا للحاكم .
وتعالَت الهتافات من جميع جنبات المسجد وهي تعلن الإصرار الكامل على انتخابه ، قائلين بلسان واحد : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس .
وتدافعت الجماهير كالموج المتلاطم إلى مبايعة الإمام ( عليه السلام ) ، وهي في الحقيقة تبايع الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد بايعه عرب الأمصار ، وأهل بدر ، والمهاجرين ، والأنصار عامة .
وابتهج المسلمون بهذه البيعة التي تحقق أهدافهم ، وتحقق ما يصبُون إليه من العزة والكرامة ، وقد انبرى أعلام الصحابة فأعلنوا أمام جماهير الأمة عن تأييدهم الشامل ودعمهم الكامل لحكومة الإمام ( عليه السلام ) .