33/04/16
تحمیل
(بحث يوم السبت 16 ربيع الثاني 1433 هـ 92)
الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سكوت المدعى عليه / فروع متعلقة بقضية لزوم كون إحلاف الحاكم للمنكر بموافقة المدّعي وطلبه / الفرع الثاني : في أن المُدّعى عليه لا يصح منه أن يتبرّع باليمين من دون طلب من المدّعي / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
كان الكلام في فروع متعلقة بقضية لزوم كون إحلاف الحاكم للمنكر بموافقة المدّعي وطلبه وتقدم الكلام على الفرع الرابع وهو في كفاية تحقق اليمين من المنكر - بعد طلبه من المدّعي والحاكم -في ترتب الآثار من سقوط الحقّ وذهاب الدعوى أم يُعتبر انضمام حكم الحاكم إليه ؟
وقد تقدّم في البحث السابق أنه يظهر من الشيخ صاحب الجواهر (قده) الجزم باشتراط الانضمام بمعنى أن مجرد يمين المنكر قبل حكم الحاكم لا يترتب عليه السقوط وغيره من الآثار وقد تقدّم نقل عبارته وقلنا إن الذي يُستفاد منها هو الاستدلال على رأيه بأمرين :
الأول : قوله (صلى الله عليه وآله) : (إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان) حيث فهم منه أن القضاء لا يكون إلا بالبيّنات والأيمان وهما إنما ينفعان حينما يتعقّبهما القضاء والحكم فيُستفاد منه عدم ترتب الأثر على اليمين إلا بعد حكم الحاكم .
ولكن يرد عليه أن غاية ما يُفهم من هذا الحديث أن القضاء والحكم لا يكون إلا بالأيمان والبيّنات وأما أن الأثر لا يترتب على اليمين قبل حكم الحاكم فهذا مما لا يكاد يُستفاد منه .
والثاني : عدم إمكان الالتزام بظاهر النصوص لأن ظاهرها ثبوت الحقّ بنفس البيّنة واليمين فإذا ثبت الحقّ بمجرد البيّنة التي يقيمها المدّعي أو اليمين الذي يصدر من المُدّعى عليه فلا تكون ثمة فائدة في حكم الحاكم بل يُصبح حينئذ لاغياً لأن المفروض انقطاع الدعوى بنفس البيّنة أو اليمين وعلى ذلك فلا بد من حمل النصوص على محمل آخر وهو أنها بصدد تعليم الحاكم ما يحكم به من البيّنات والأيمان .
ولكن يمكن التأمل في ما ذُكر بأن يقال إنه حتى مع الالتزام بأن يمين المنكر يكون مسقطاً للحقّ فهناك ثمرة تترتب على حكم الحاكم وهي توفّر عنصر الإلزام فإن حكم الحاكم يكون مُلزِماً للجميع سواء أكانوا أطرافاً في الدعوى أم لم يكونوا كالقضاة الآخرين في ما لو أراد المدّعي الترافع إلى أحدهم في حين أن يمين المنكر لو فُرض سقوط الحقّ به اجتهاداً من المنكر أو تقليداً - فليس فيه عنصر الإلزام لاسيما إذا فرضنا أن المدّعي كان لا يرى ذلك
[1]
- اجتهاداً أو تقليداً - فإنه لو اقتصرنا على يمين المنكر فلا يكون ثمة مُلزِم للمدّعي في أن يلتزم بسقوط حقّه بمجرد هذه اليمين بخلاف ما لو انضم إليها حكم الحاكم فإنه يكون ملزماً للجميع وإن فُرض أنهم كانوا لا يرون ذلك اجتهاداً أو تقليداً وذلك لأن لحكم الحاكم موضوعية تؤثّر في إلزام الكلّ بمفاد الحكم وحينئذ يظهر أنه لا معنى للقول بأن الحقّ إذا سقط باليمين أو ثبت بالبيّنة فلا فائدة من حكم الحاكم .
وهذه المسألة هي في الحقيقة مسألة سيّالة وكان ينبغي بحثها في ما تقدّم في باب الإقرار بأن يقال إنه هل يكفي الإقرار في سقوط الحقّ أو لا بد من حكم الحاكم وكذا في باب البيّنة بأن يقال إنه هل تكفي البيّنة في سقوط الحق أو لا بد من انضمام حكم الحاكم إليها وكذلك يقال نظير ذلك في المقام، وفقهاؤنا الأعلام (قدهم) بحثوا هذه المسألة في باب الإقرار ويظهر من كلماتهم هناك أن الإقرار يكون موجباً لثبوت الحقّ وترتّب الآثار فيجوز للمدّعي المطالبة والتقاصّ بلا توقف على حكم الحاكم بخلاف البيّنة حيث قالوا بعدم ثبوت الحقّ بها وعدم ترتّب الآثار عليها من دون حكم الحاكم ففرّقوا بينهما .
هذا .. وقد ذُكرت وجوه عديدة في بيان الفرق بين الإقرار والبيّنة :
منها : ما أشار إليه الشهيد الثاني (قده)
[2]
من تعليل الفرق بينهما بأن البيّنة منوطة باجتهاد الحاكم حيث يُعمل نظره فيقبلها أو يردّها وغير الحاكم غير قادر على العمل بها لعدم قدرته على إحراز وجود شرائطها وارتفاع موانعها لفقده للاجتهاد اللازم له
[3]
بخلاف الإقرار فإن غير الحاكم قادر على العمل به لعدم افتقاره إلى الاجتهاد فلا يكون العمل به ولا تحقق آثاره متوقفاً على حكم الحاكم .
واعتُرض عليه :
أولاً : بالنقض بالبيّنة في غير مقام الخصومة كالبيّنة على الطهارة أو النجاسة إذ ظاهرهم الاتفاق على جواز العمل بها لكل من قامت عنده في هذه الموارد من دون افتراض التوقف على حكم الحاكم، ومن الواضح أن شرائط البيّنة وموانعها لا تختلف في هذا المورد عمّا هي عليه في محل الكلام ، وهذا يعني أن غير الحاكم يمكنه إحراز شرائط العمل بالبيّنة وإحراز ارتفاع الموانع التي تمنع من العمل بها فأيّ فرق بين البيّنة والإقرار حينئذ .
وثانياً : بالنقض بنفس الإقرار حيث إن له شرائط وموانع أيضاً مبحوثة في كتاب الإقرار - فإذا التُزم في البيّنة بأن إحراز شرائطها وارتفاع موانعها لا يكون إلا بالاجتهاد فليكن الإقرار أيضاً كذلك إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة وبالتالي لا يمكن التفريق بينهما على هذا الأساس .. مضافاً إلى أنه يمكن أن نفترض إحراز توفّر شرائط العمل بالبيّنة وارتفاع الموانع بنظر الحاكم نفسه فهل يُلتزم حينئذ بلزوم الاحتياج إلى حكم الحاكم في هذه الحالة حتى بالنسبة إلى الحاكم نفسه !! لا جرم أن دعوى الاحتياج لا تخلو من مجازفة .
ومنها : ما يُستفاد من كلمات الشيخ صاحب الجواهر (قده) والشيخ الأنصاري (رض)
[4]
مما حاصله :
أن الإقرار بنفسه يفصل الخصومة وينهي النزاع ولذلك لا يكون العمل به رفعاً للخصومة حتى يقال بأن رفع الخصومة مختص بالحاكم بل إنه بمجرد أن يقرّ المقرّ ترتفع الخصومة تلقائياً ومعه لا وجه لحكم الحاكم لأن المطلوب منه إنما هو رفع الخصومة وحلّ النزاع فإذا حصلا بسبب معيّن فلا حاجة له حينئذ ، وهذا بخلاف الحال مع البيّنة فإنه لا توجب بنفسها رفع الخصومة وفضّ النزاع وإنما هي تكون مستنداً للحاكم في حكمه المحقِّق لذلك
[5]
.
ولكن اعتُرض عليه بأنه لا إشكال عند فقهائنا (رض) في صحة حكم الحاكم مع الإقرار بل إن ظاهرهم وجوب الحكم على الحاكم بعد صدور الإقرار من المنكر إذا طلبه المدّعي بل لزوم كتابة الإقرار بعده أيضاً إذا طلبها المدّعي وهذا لا يكاد يجتمع مع القول بأن الإقرار يُنهي الخصومة فإنه لو كان الأمر كذلك لم يكن ثمة مجال لصدور الحكم وكتابته بعد الإقرار .
ومن هنا فإن المسألة لا تخلو من اختلال ولأجل هذا ذهب جماعة آخرون من فقهائنا إلى عدم التفصيل بين البيّنة والإقرار وإن كانوا قد اختلفوا على رأيين فقال بعضهم بعدم الفرق في ثبوت الحقّ وجواز العمل بهما
[6]
لكل أحد بقطع النظر عن حكم الحاكم ، وقال آخرون بالمنع من ذلك
[7]
قبل حكم الحاكم .
والظاهر أن مبنى الرأي الأول
[8]
- بعد وضوح ثبوت الحقّ بالإقرار وجواز العمل به لكل أحد بلا توقف على حكم الحاكم - هو عموم أدلة البيّنة وحجيتها في إثبات مفادها لكل أحد ولا مبرّر لتخصيصها بشخص دون آخر ولا بمورد دون آخر فلو قامت البيّنة على الطهارة أو النجاسة فيلزم العمل بها لكل من قامت عنده فلا فرق بين هذا المورد وما هو محل الكلام من إثبات الحقّ أو نفيه بها فإن عموم أدلتها يمنع من تخصيصها بمورد دون آخر فلا يكون حينئذ فرق بينها وبين الإقرار .
فظهر من هذا البيان أن إلغاء الفرق بين البابين يبتني على الالتزام بعموم أدلة البيّنة حتى لمحلّ الكلام ، وأما إذا استُشكِل في ذلك مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص ما نحن فيه فيتّجه التفريق بينهما فيُلتزم حينئذ بشمول الإقرار لمحلّ الكلام لعموم أدلته وعدم شمول البيّنة له للاستشكال في عموم أدلتها بحسب الفرض .
وأما الرأي الثاني فهو مبني على الاستناد إلى روايات مطلقة تقدّم ذكرها تدل على أن الفصل في الخصومات سواء كان بالبيّنة أو بالإقرار مختص بالحاكم وليس ثمة فرق بينهما في عدم جواز الاستناد إليهما لكل أحد في ذلك .
ولكن لا يخلو ما ذكرناه مما نقلناه عن علمائنا (رض) من نظر إذ الظاهر منه وجود خلط بين مقامين فإن ما نحن فيه قد طُرح أساساً في ثبوت الحقّ وعدمه بالبيّنة أو بالإقرار بقطع النظر عن حكم الحاكم لا في فصل الخصومة بهما الذي يترتّب عليه إنهاء الدعوى وعدم جواز المطالبة والتقاصّ أو إقامتها مجدّداً ولو عند حاكم آخر .
وهذا إذا أُخِذ بنظر الاعتبار فلعله يمكن الجمع بين هذه الكلمات التي يتراءى منها أنها متنافية أو متعارضة .. وللكلام تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى .
[1] أي سقوط الحقّ بمجرّد يمين المنكر .
[2] المسالك مج13 ص442 .
[3] أي لإحراز وجود شرائط البيّنة وارتفاع موانعها .
[4] كتاب القضاء باب الإقرار .
[5] أي لرفع الخصومة وحلّ النزاع .
[6] أي بالإقرار وبالبينة .
[7] أي من ثبوت الحقّ بهما وجواز العمل بهما قبل حكم الحاكم .
[8] القائل بعدم الفرق بين البيّنة والإقرار في ثبوت الحقّ وجواز العمل بهما لكل أحد بقطع النظر عن حكم الحاكم .