34/08/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ أدلّة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
كان الكلام في الاعتراض الثالث، وهذا الاعتراض بتفاسيرهم المتقدّمة كأنّه يرتكز على إدعاء أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أنْ يكون المستصحب أمراً مجعولاً، وإلاّ يشترط في جريانه أنْ يترتب عليه أثر شرعي، سواء فسّرناه بالتفسير الثاني، أو بالتفسير الثالث.
والذي يريد أنْ يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) هو أنّ عدم التكليف ليس أمراً مجعولاً،، إمّا لما تقدّم من أنّه أزلي، وليس تحت الاختيار، وغير مقدور، وإمّا لما ذكرناه في التقريب الأخير، وهو أنّه يتحقق بمجرّد عدم وجود علّة، فلا داعي لجعله وتشريعه. إذن: هو ليس مجعولاً؛ لهذه الأسباب. على كلا التقديرين الغرض هو إثبات أنّ المستصحب ــــــ عدم التكليف ــــــ ليس أمراً مجعولاً، فإذا لم يكن مجعولاً، فحتّى يجري فيه الاستصحاب لابدّ أنْ يترتب عليه أثر شرعي، وحيث أنّ الأثر الذي يُراد إثباته في المقام، وهو القطع بعدم ترتّب العقاب، أو التأمين القطعي من ناحية العقاب، ليس أثراً شرعياً لعدم التكليف، وإنّما هو لازم عقلي له؛ فحينئذٍ يتعذّر الاستصحاب بلحاظه؛ لأنّ المستصحب ليس بنفسه مجعولاً شرعياً، ولا يترتب عليه أثر شرعي، فيكون حاله حال استصحاب حياة زيد لإثبات نبات لحيته، أو استصحاب سائر الموضوعات التكوينية التي لا يترتب عليها أثر شرعي، وإنّما يُراد إثبات الأثر العقلي لها، فلا يجري فيها الاستصحاب، وهذا يبتني على تسليم كبرى وهي أنّه يعتبر في الاستصحاب أنْ يكون المستصحب مجعولاً شرعياً، وإلاّ فيشترط أنْ يترتب عليه أثر شرعي، وإلاّ فلا يجري الاستصحاب. وقد تقدّم مناقشة هذه الكبرى، وأنّه لم يدل دليل على اعتبار ذلك في الاستصحاب، وإنّما يكفي في صحّة جريان الاستصحاب أنْ ينتهي التعبّد بالمستصحب إلى اثرٍ عملي من حيث التنجيز والتعذير، واستصحاب عدم المنع من الفعل يكون معذّراً للمكلّف.
فإذن: لا ينبغي التوقّف في إجراء الاستصحاب من هذه الجهة، وأنّ هذا الاعتراض كما يبدو ــــــ والله العالم ـــــ يعتمد كما قلنا على هذه الكبرى، وهذه الكبرى قد تقدّمت مناقشتها سابقاً. ومن هنا يظهر أنّ هذه هي الاعتراضات المشركة على إجراء الاستصحاب بكل صوره المتقدّمة.
وأمّا الاعتراضات المختصّة: فأولاً نتكلّم عن الاعتراضات المختصّة بالتقريب الأوّل للاستصحاب الذي هو عبارة عن استصحاب التكليف قبل البلوغ، الذي قلنا سابقاً أنّه من قبيل استصحاب عدم المجعول، لا استصحاب عدم الجعل الذي يختص بالتقريب الثاني، أي لا نستند إلى ما قبل الشريعة ونستصحب عدم الجعل، وإنّما نستند إلى ما قبل البلوغ ونستصحب عدم فعلية التكليف، أي عدم المجعول لا عدم الجعل.
الاعتراض الأول: هو ما ورد في أجود التقريرات، وحاصله:
[1]
أنّ المتيقّن قبل البلوغ هو ما يُعبّر عنه الميرزا(قدّس سرّه) بــ(اللاحرجيّة العقليّة)، ومقصوده منه هو عدم التكليف بحكم العقل في موردٍ غير قابلٍ للتكليف، أو قل: حكم العقل بعدم التكليف باعتبار حرجيّة التكليف بالنسبة إلى هذا المورد غير القابل للتكليف، فيحكم العقل باللاحرج من ناحية التكليف، لعدم كون المورد قابلاً للتكليف. هذا هو الثابت قبل البلوغ.
هذه اللاحرجيّة العقليّة، وحكم العقل بعدم التكليف في الموردٍ الغير قابل للتكليف لا يحتمل بقاؤه بعد البلوغ؛ بل هو منتفٍ جزماً بوصول الصبي إلى مرحلة البلوغ، فهو منتفٍ قطعاً، وما نحتمل وجوده بعد البلوغ هو عدم التكليف في المورد القابل للتكليف، هو عدم التكليف بحكم الشارع من باب الامتنان، ومن باب رفع التكليف عنه، وليس هو عدم التكليف بحكم العقل في المورد الغير قابل للتكليف؛ بل هو عدم التكليف الشرعي في المورد القابل للتكليف، والحرج من ناحية التكليف، لكنّ الشارع من باب الامتنان والتفضّل يرفع هذا التكليف عنه، فعدم التكليف بعد البلوغ غير عدم التكليف قبل البلوغ، ذاك ثابت بملاك اللاحرجيّة العقليّة، وبملاك عدم قابلية الصبي للتكليف، وتحمّل حرج التكليف، بينما هذا ثابت من باب الامتنان الشرعي، والرفع الشرعي للتكليف مع قابلية المورد للتكليف ولحرج التكليف.
إذن: هذا غير ذاك، ومعه حينئذٍ لا معنى للتمسّك بالاستصحاب، واعتبار أنّ المتيقن سابقاً معلوم الارتفاع، وما يُشك في وجوبه بعد البلوغ لا يقين بحدوثه سابقاً، فكيف يجري الاستصحاب ؟
أجاب السيد الخوئي(قدّس سرّه) على هذا الاعتراض بجوابين:
[2]
الجواب الأولى: أنّ عدم التكليف بالنسبة إلى الصبي غير المميّز قد يصح فيه ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، من اللا حرجية العقلية، وعدم التكليف في المورد غير القابل للتكليف. هذا في الصبي غير المميّز، لكنّ عدم التكليف في الصبي المميّز ليس هكذا، هو قابل للتكليف، فلا فرق بين الصبي قبل يومٍ واحدٍ من التكليف عنه بعد يومٍ واحدٍ من ذلك، بالنتيجة هذا صبي مميّز قابل للتكليف، فالصبي يمر بمراحل ويخرج عن حالة الصبا التي لا يكون فيها قابلاً للتكليف قبل أنْ يصل إلى سن البلوغ، الصبي المميّز قابل للتكليف، فعدم التكليف عليه ليس من باب اللاحرجيّة العقليّة، وليس من باب عدم التكليف في الموضع الغير قابل للتكليف الذي يحكم به العقل، وإنّما الظاهر أنّ عدم التكليف هو من باب الحكم الشرعي، الشارع يرفع عنه التكليف بالرغم من قابليته للتكليف، ولتحمّل حرج التكليف. فلابدّ أنْ نفرّق بين الصبي غير المميّز، وبين الصبي المميّز، وكلام الميرزا(قدّس سرّه) يصح في الصبي غير المميّز، ولا يصح في الصبي المميّز، فعدم التكليف في الصبي المميّز شرعي وليس عقلي؛ لأنّه قابل للتكليف. قال:(كما يظهر من حديث رفع القلم أنّ الصبي حتّى يحتلم أنّ الشارع هو الذي رفع القلم عنه)، الشارع رفع التكليف عنه، وليس من باب اللاحرجيّة العقليّة، فلابدّ أنْ يكون هو قابلاً للتكليف، لكنّ الشارع امتناناً رفع عنه التكليف، كما يقال أنّ سياق حديث الرفع هو سياق الامتنان، فهو قابل للتكليف.
إذن: ليس دائماً نستطيع أنْ نقول أنّ المتيقن سابقاً هو اللاحرجيّة العقليّة، وأنّها غير عدم التكليف بعد البلوغ، الذي هو عدم التكليف من قِبل الشارع في المورد القابل للتكليف.
هذا الجواب تام وصحيح، وينقض على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) بالصبي المميّز، فعادة الصبي يمر بهذه الحالة، ولو قبل البلوغ بيومٍ واحد، ويكون قابلاً لتحمّل التكليف، فعدم التكليف عليه ليس من باب حكم العقل واللاحرجيّة العقليّة، وإنّما هو من باب حكم الشارع. فقط تبقى هذه الملاحظة وهي أنّ هذا الكلام يبتني على أنْ نقول باختصاص حديث رفع القلم بالصبي المميّز؛ لأنّ ظاهر حديث رفع القلم أنّ الرفع رفع شرعي، وأنّه من باب الامتنان، وهذا يختص بالصبي المميِّز القابل للتكليف، حتّى يرفع عنه التكليف شرعاً، وليس عقلاً، ومن باب الامتنان، أمّا الصبي قبل التمييز، والطفل الرضيع، فهذا لا معنى لأنْ يكون حديث رفع القلم شاملاً له، فلازم هذا الكلام هو أنْ نلتزم باختصاص حديث رفع القلم بالصبي المميِّز.
الجواب الثاني: العدم المتيقن سابقاً، وإنْ كان أزلياً وعدماً محمولياً وغير منتسبٍ إلى الشارع؛ لأنّ الذي يحكم به هو العقل، هذا صحيح، بينما عدم التكليف الذي يكون بعد البلوغ هو عدم نعتي منتسب إلى الشارع وليس أزلياً، لكن يمكن إثبات انتساب هذا العدم إلى الشارع بنفس الاستصحاب، باعتبار أنّ الانتساب المذكور هو من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب لا على المستصحب، حتّى يلزم من إثباته بالأصل محذور الأصل المثبت، وإنّما يثبت الانتساب بنفس الاستصحاب وليس بالتعبّد بالمستصحب حتّى يقال أنّ هذا يثبت لازماً للمستصحب، فيكون الأصل بلحاظه أصلاً مثبتاً. ثمّ قال:(سيأتي في مباحث الاستصحاب أنّ اللوازم التي لا تثبت بالاستصحاب هي اللّوازم العقلية والعادية للمستصحب). أمّا اللّوازم العقلية والعادية لنفس التعبّد الاستصحابي فتثبت ولا يلزم منها المثبتية؛ لأنّ التعبّد الاستصحابي ثابت بالوجدان، وليس بالتعبّد، المستصحب يثبت بالتعبّد، فلا تثبت به إلاّ لوازمه الشرعية دون لوازمه العقلية والعادية، أمّا نفس التعبّد الاستصحابي فيثبت بالوجدان، فتترتب عليه كل لوازمه، العقلية والعادية، والشرعية. يقول: أنّ انتساب العدم ـــــ عدم التكليف ـــــ إلى الشارع، لو سلّمنا أنّه قبل البلوغ غير منتسبٍ إلى الشارع، انتسابه إلى الشارع يتحقق بالاستصحاب؛ لأنّه من الآثار العادية والعقلية لنفس التعبّد الاستصحابي، واللّوازم العقلية والعادية تترتب على الاستصحاب، الاستصحاب يثبت، فتترتب عليه، ولا يكون الاستصحاب بلحاظها أصلاً مثبتاً.
وعليه : التعبّد الاستصحابي تترتب عليه آثاره، ومن آثاره أنّ هذا المستصحب الذي هو عدم التكليف ينتسب إلى الشارع بعد أنْ لم يكن منتسباً إليه، بالتعبّد الاستصحابي من قِبل الشارع ينتسب العدم إلى الشارع؛ وحينئذٍ تترتب عليه آثاره ويتحقق هذا الانتساب. يقول: لا مشكلة في أنّ العدم قبل البلوغ لا ينتسب إلى الشارع، سوف ينتسب إلى الشارع بنفس إجراء الاستصحاب.
هذا الجواب كأنّه يعتبر أنّ المشكلة الحقيقية ناشئة من مسألة الانتساب وعدمه، يعني أنّ الوجه في الاعتراض هو أنّ العدم سابقاً ليس منتسباً إلى الشارع، فركّز كلامه على إثبات إمكان انتساب العدم إلى الشارع بواسطة الاستصحاب، فتنحل المشكلة. فكأنّ المشكلة في الانتساب وعدمه، بينما هذه ليست هي المشكلة الحقيقية، أساساً هو لماذا يقول أنّ العدم لابدّ أن ينتسب إلى الشارع حتّى يجري الاستصحاب ؟ هذا على ما تقدّم لا نسلّمه، هو ما دام عدم تكليف فأنّه يثبت التأمين والمعذرية، حتّى إذا لم ينتسب إلى الشارع، فإذا ثبت عدم التكليف بدليل معتبر، فأنّه يكفي لإثبات تأمينٍ ومعذرية ولو لم يكن منتسباً إلى الشارع، فأساساً فكرة أنّه لابدّ من إثبات الانتساب حتّى يجري الاستصحاب هي فكرة غير صحيحة. ثمّ على تقدير الانتساب هو لا يحل المشكلة؛ لأنّ المشكلة ليست في الانتساب، وإنّما المشكلة في أنّ هناك عدمان متغايران متعددّان أحدهما عدم التكليف قبل البلوغ، والآخر عدم التكليف بعد البلوغ، أحدهما عدم قبل البلوغ ثابت بملاك اللاحرجية العقلية التي يحكم بها العقل، والثاني بعد البلوغ هو عدم ثابت بملاك الامتنان من قبل الشارع والرفع الشرعي، هذا غير هذا، والانتساب لو سلّمنا به سوف لن يجعلهما شيئاً واحداً، فحتى لو فرضنا أنّ عدم التكليف انتسب بالاستصحاب إلى الشارع، لكن يبقى عدم التكليف هو عدم ثابت بملاك اللاحرجية العقلية، وهذا غير عدم التكليف الثابت شرعاً من قبل الشارع بملاك الامتنان، الشارع هو تصدّى لرفع التكليف في المورد القابل للتكليف، هذا غير عدم التكليف الثابت بحكم العقل في المورد الغير قابل للتكليف، هذه هي المشكلة، أي أنّ المشكلة في تعدد العدم، وكل منهما ثابت بملاك غير الملاك الذي يثبت به الآخر؛ حينئذٍ يقال: أنّ ذاك العدم مرتفع قطعاً والعدم الثاني الذي يُشك فيه لا يقين بوجوده أساساً سابقاً؛ بل لعل هناك يقين بعدمه سابقاً، فكيف يجري الاستصحاب؟ وهذه المشكلة لا يرفعها إثبات تصحيح الانتساب إلى الشارع بواسطة التعبّد الاستصحابي، فحتّى لو صححّنا هذه النسبة، فأولاً: الانتساب اساساً ليس معتبراً في جريان الاستصحاب، فالاستصحاب يجري حتّى لو لم يكن هناك انتساب؛ لأنّ عدم التكليف ولو لم ينتسب إلى الشارع هو يثبت لنا التأمين والمعذرية، وثانياً: حتّى تصحيح الانتساب لا يحل المشكلة؛ لأنّ المشكلة لم تنشأ من الانتساب، وإنّما نشأت من دعوى تعدد المتيقن والمشكوك، فلا يجري فيه الاستصحاب.
الجواب الصحيح عن أصل الاعتراض هو: أن نبحث في أنّ العدم يتعدد بتعدد ملاكه أو لا ؟ لا إشكال في أنّ العدم يتعدد بتعدد ما يعرض عليه، وما يضاف إليه العدم، عدم هذا الكتاب غير عدم هذا الجدار، عدم زيد غير عدم عمرو، لكن هل يتعدد العدم بتعدد ملاكاته ؟ المحقق النائيني(قدّس سرّه) لم يذكر أكثر من أنّ العدم السابق له ملاك والعدم بعد البلوغ له ملاك آخر، ملاك العدم الأوّل هو عدم قابلية المورد للتكليف، بينما ملاك الثاني هو الرفع الشرعي والامتنان الشرعي، الملاكات تعددت، فهل تعدد الملاك يوجب تعدد العدم، أو لا ؟ فإذا قلنا أنّه لا يوجب تعدد العدم؛ فحينئذٍ يسقط الاعتراض؛ لأنّه لا يوجد تعدد، وإنّما العدم هو عدم واحد، وإنْ كان هذا العدم الواحد في مرحلة البداية كان له ملاك، وهو عدم قابلية المورد للتكليف، وفي النهاية له ملاك آخر، وهو الرفع الشرعي والامتنان، لكن هو لا يتعدد، هو نفس العدم السابق، وليس غيره حقيقة، وليس هناك تعدد في الموضوع عرفاً، هذا إشكال آخر سيأتي في الاعتراض الثاني، وإنّما هنا هو قال أنّ الموضوع متعدد حقيقةً، المتيقن غير المشكوك حقيقة، والجواب عنه هو أن يقال أنّه هو نفسه حقيقة وليس متعدد حقيقة، هو نفس العدم السابق وإنْ تعددّت ملاكاته. إذا آمنا بهذه الفكرة تكون هي الجواب الصحيح عن الاعتراض. وهذا هو الصحيح، فالعدم لا يتعدد بتعدد ملاكاته، وإنّما يتعدد بتعدد ما يُضاف إليه.
[1] أجود التقريرات، تقرير بحث النائيني للسيد الخوئي، ج 2، ص 190.
[2] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، ص 264.