35/05/28
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
في الدرس السابق ذكرنا وجهاً لبعض المحققين كان يُشكّل إشكالاً على ما ذكره الشيخ الأعظم(قدّس سرّه) من عدم جريان أدلّة الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي، باعتبار التهافت بين صدر هذه الأدلّة الدالّة على الأصول العملية وبين ذيلها، وكان حاصل هذا الإشكالهو: أنّ ما ذكره الشيخ مبني على أن يراد بذيل الرواية الحكم الشرعي التعبّدي، بأن يكون المقصود بقوله(عليه السلام):(ولكن ينقضه بيقين آخر) التي هي جملة طلبية في مقام الأمر بالنقض، أن يكون المراد بهذا الأمر بالنقض أمراً تعبّدياً شرعياً؛ حينئذٍ يحصل تهافت بين الذيل والصدر، وأمّا إذا كان المقصود بهذه العبارة هو الأمر الإرشادي، أي الإرشاد إلى ما يحكم به العقل وليست في مقام التأسيس إطلاقاً؛ حينئذٍ لابدّ من ملاحظة ما يحكم به العقل، يعني لابدّ من ملاحظة ما سيأتي من البحث عن منجّزية العلم الإجمالي عقلاً حتّى نرى أنّ هذا هل يخلق حالة التفاوت، أو لا ؟ وهذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّ محل الكلام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن ما يحكم به العقل، وبقطع النظر عن المنجّزية، أصلاً نريد أن نرى أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ هي في حدّ نفسها بقطع النظر عن المنجّزية هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو أنّها مختصّة بالشبهات البدوية ؟ هذا محل كلامنا. هذا الذي ذكره الشيخ بناءً على أنّ الذيل للإرشاد وليس في مقام التأسيس، وهذا خروج عن محل كلامنا؛ لأنّ التهافت على تقدير تماميته يكون مبنياً على المنجّزية ومانعية العلم الإجمالي من إجراء الأصول في جميع الأطراف، أو في بعض الأطراف هو بحثنا الذي سيأتي، نحن كلامنا عن أصل شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي. كان هذا هو الإشكال. ويبدو أنّ هذا الإشكال لا بأس به، لا بأس بأن يكون جواباً عن ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه).
الجواب الثاني: عن ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) هو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه يقال للشيخ(قدّس سرّه): غاية ما هناك أنّ هذا التهافت يختص بأدلّة الأصول الموجود فيها هذا الذيل، هذه الأدلّة التي يقع فيها صدر وذيل يقع فيها التهافت، لكنّ أدلّة الأصول ليست كلّها من هذا القبيل حيث توجد عندنا روايات في الاستصحاب خالية من هذا الذيل، وكذلك لدينا روايات في البراءة والحلّية خالية من الذيل، هذه الأدلّة الخالية من الذيل لا ضير في أن نتمسّك بإطلاقها في محل الكلام ولا يلزم من ذلك التهافت؛ لأنّه لا يوجد فيها ذيل من هذا القبيل حتّى يقال يلزم من شمولها لمحل الكلام وقوع التهافت بين صدر الرواية وذيلها. هذا الجواب الثاني ذكره كثير من المحققين وكان أحد الأجوبة عن ما يقوله الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) هو هذا.
الجواب الثالث: هو أيضاً ما ذُكر في كلماتهم من أنّ اليقين في ذيل رواية الاستصحاب المتقدّمة والعلم في ذيل بعض أدلّة الحلّية(حتّى يعلم أنّه حرام) منصرف إلى اليقين التفصيلي. (ولكن ينقضه بيقينٍ آخر) المقصود باليقين الناقض لليقين السابق هو اليقين التفصيلي، ينصرف إلى اليقين التفصيلي، فإذن: ذيل الرواية لا يكون شاملاً لمحل كلامنا حتى يقال بحصول التهافت بين صدرها وذيلها؛ لأنّ حصول التهافت كما هو واضح يتوقّف على شمول الصدر والذيل لمحل الكلام حتّى يحصل بينهما التهافت، أمّا إذا منعنا من شمول ذيل الرواية لمحل الكلام؛ لأنّ المراد باليقين هو خصوص اليقين التفصيلي، ذاك الذي يكون ناقضاً لليقين السابق ورافعاً له، هو فقط دون اليقين الإجمالي؛ فحينئذٍ تكون الرواية شاملة لمحل الكلام بصدرها وهذا معناه أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل محل الكلام، ما كان خالياً من الذيل واضح، وما كان فيه الذيل؛ فلأنّ الذيل منصرف إلى اليقين التفصيلي وهو غير موجود في محل الكلام.
دعوى انصراف اليقين في ذيل الرواية إلى اليقين التفصيلي تؤيَد بكلمة(بعينه) في أدلّة بعض الأصول العملية كما في أدلّة الإباحة والبراءة حيث ورد في بعض الروايات(حتّى تعلم الحرام منه بعينه) الظاهر أنّ مقتضى الظهور الأوّلي لكلمة(بعينه) وأي كلمةٍ أخرى تدخل في الدليل أنّها في مقام الاحتراز وليست لغرض التأكيد الصرف لمعرفة الحرام المذكور قبلها، هي ليست في هذا المقام؛ لأنّه خلاف الظهور الأوّلي؛ لأنّ الظهور الأوّلي هو أن تكون احترازية، بمعنى كأنّه(عليه السلام) يريد أن يقول أنّ الحرام على قسمين، مرّة يعرف الحرام بعينه ومرّة يعرف الحرام، لكن لا بعينه، يعرف الحرام بعينه كما يتحقق في موارد العلم التفصيلي، ويعرف الحرام لا بعينه كما يتحقق في موارد العلم الإجمالي، يعرف الحرام، لكنّه لا يعرفه بعينه، فكلمة(بعينه) أُتي بها للاحتراز عن معرفة الحرام لا بعينه، أي للاحتراز عن موارد العلم الإجمالي التي هي محل الكلام، فيختصّ الذيل بخصوص موارد العلم التفصيلي(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).[1] يعني إلى أن يحصل لك علم تفصيلي بحرمة الشيء، وأمّا إذا لم يحصل لك علم تفصيلي بحرمة الشيء، فهو لك حلال، الغاية حينئذٍ لا تكون شاملة لموارد العلم الإجمالي؛ فحينئذٍ في محل الكلام يكون الأصل والإباحة والبراءة الموجودة في الصدر شاملة لمحل الكلام من دون أن تشمله الغاية وذيل هذه الروايات. هذا يكون مؤيداً لاختصاص العلم أو اليقين في أدلّة الأصول بخصوص العلم التفصيلي واليقين التفصيلي. إذا تمّت دعوى الانصراف؛ فحينئذٍ تكون إشكالاً آخر يُسجّل على ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، ولا بأس بجعل كلمة(بعينه) مؤيِدة لما ذُكر، باعتبار أنّ الظاهر منها أنّها احترازية، وكونها احترازية يكون بانّها تحترز عن معرفة الحرام لا بعينه وتخرجه عن الغاية والذيل، فتختص الغاية والذيل بخصوص معرفة الحرام بعينه. هذا هو الذي يوجب رفع اليد عن الحلّية المذكورة في صدر الرواية، وأمّا العلم الإجمالي ومعرفة الحرام لا بعينه فهي لا توجب رفع اليد عن الحلّية، وهذا معناه شمول دليل الحلّية لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّي لا أعلم أنّه حرام بعينه، وهذا المعنى المطلوب، أنّ أدلّة الأصول تشمل هذا الطرف بخصوصه وتشمل هذا الطرف بخصوصه.
من هنا يظهر أنّ الأخذ بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) غير واضح؛ بل يبدو أنّ أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي، المقصود من شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي هو شمولها لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، وليس المقصود شمولها لهذا الطرف منضمّاً إلى الطرف الآخر، ليس هذا ما نثبته، نقول أنّ هذا الطرف بخصوصه مشمول لأدلّة الأصول العملية، موضوع الأصل العملي محفوظ فيه؛ لأنّ موضوع الأصل العملي هو الشك وعدم العلم، وهذا محفوظ في هذا الطرف بخصوصه، وإذا التفتنا إلى الطرف الآخر أيضاً نقول محفوظ فيه بخصوصه، لا نريد أن ندّعي الآن أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل هذا الطرف منضماً إلى الطرف الآخر، هذا ليس محل كلامنا. إلى هنا يبدو أنّ أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي.
ممّا ذكرناه مراراً من أنّ محل الكلام هو عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بالمعنى الذي ذكرناه بقطع النظر عن منجّزية العلم الإجمالي وحكم العقل بالمانعية، بقطع النظر عن هذا، أقول: من هنا يظهر أنّ ما قيل من أنّ شمول دليل الأصل العملي لأطراف العلم الإجمالي بالمعنى المتقدّم وإثباته الترخيص فيه والسعة لا ينافي نفي الترخيص ونفي السعة من جهةٍ أخرى، لا منافاة بينهما، ليكن دليل الأصل شاملاً لهذا الطرف ويثبت فيه السعة والترخيص، هذا لا ينافي أن لا يكون هذا الطرف مرخّصاً فيه، ولا ينافي نفي الترخيص ونفي السعة، لكن من جهةٍ أخرى، وذلك باعتبار هذه النكتة، وهي أنّ دليل الترخيص بحسب الفهم العرفي، ايّ دليل ترخيصٍ، ومنه محل الكلام، أنّ دليل الترخيص بحسب الفهم العرفي إنّما يدل على الحكم الحيثي، يعني يدل على الحكم بالترخيص والحلّية من حيثيةٍ معيّنةٍ ومن جهةٍ معيّنةٍ، هذا الحكم بالحلّية من جهةٍ معيّنة لا ينافي الحكم بعدم الحليّة وعدم الترخيص من جهةٍ أخرى، أصلاً لا توجد منافاة بينهما؛ بل نلتزم بالحلّية ونلتزم بالحرمة، فيكون الشيء حلالاً من جهةٍ وفي نفس الوقت يكون حراماً من جهةٍ أخرى، وحينما نلتزم بحرمته من تلك الجهة الثانية في نفس الوقت نلتزم بحلّيته من هذه الجهة ـــــــــــــ مثلاً ـــــــــــــ إذا قيل، كما يُمثّل له(أنّ الجبن حلال) الذي يُفهم عرفاً من هذا الدليل هو أنّ الجبن من جهة كونه جبناً يكون حلالاً، من جهة كونه جبناً ليس فيه شيء يقتضي المنع وعدم الترخيص، إذن: هو حلال من جهة كونه جبناً، هذا لا ينافي كونه حراماً من جهة كونه مغصوباً، فالجبن يكون حلالاً باعتباره جبن، لكنّه في نفس الوقت يكون حراماً باعتباره مغصوباً من حيثيةٍ أخرى بحيث أنّ العرف لا يرى تنافياً بين هذا التحريم وبين هذا التحليل. وبعبارةٍ أخرى: لا يرى أنّ هذا التحريم الثابت للجبن باعتباره مغصوباً، لا يراه تقييداً لإطلاق(الجبن حرام)؛ بل يبقى هذا على إطلاقه(الجبن حلال مطلقاً) يعني حتّى إذا كان مغصوباً، ولا نقيّده بما إذا لم يكن مغصوباً هو حلال مطلقاً؛ لأن الحلّية هي حلّية حيثية؛ لأنّها حلّية من حيث كونه جبناً، والحلّية من حيث كونه جبناً لا تنافي الحرمة من حيث كونه غصباً. نفس هذه النكتة تُطبّق في محل الكلام، فيقال أنّ الدليل الدال على الترخيص في محل كلامنا، دليل الأصل العملي(رفع ما لا يعلمون) وأمثاله الاستصحاب وغيره، كلّ دليلٍ يدلّ على الحلّية إنّما يدلّ على الحلّية والترخيص والسعة في هذا الطرف من حيث كونه مشكوكاً، ومن حيث كونه غير معلوم، من هذه الحيثية يدلّ على الترخيص فيه، وهذا الترخيص من حيث كونه غير معلوم لا ينافي عدم الترخيص وعدم السعة باعتباره معلوم بالإجمال، هو نفس الطرف يكون حلالاً باعتباره مشكوكاً وفي نفس الوقت يكون حراماً وممنوعاً وغير مرخّص فيه باعتباره معلوماً بالإجمال. أو قل بعبارة أكثر وضوحاً: باعتباره طرفاً لعلم إجمالي.
أقول: هذا الكلام وإن سيق لبيان عدم شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي الذي هو محل كلامنا، الغرض منه أنّ أدلّة الأصول العملية لا تشمل أطراف العلم الإجمالي، لكنّه في الواقع اعتراف بشمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي، بمعنى أنّه هو يقول أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل هذا الطرف وتثبت فيه الترخيص والحلّية غاية الأمر أنّ هذا الترخيص ترخيص حيثي، لكن هي تثبت فيه الترخيص والحلّية من حيث كونه مشكوكاً وغير معلوم. ويُدّعى أنّ هناك جهةً أخرى وحيثية أخرى تقتضي تحريم هذا نفسه لكن من حيثية أخرى ولا منافاة بين هذين الحكمين، بين هذه الحلّية الحيثية وبين المنع باعتبار كونه طرفاً للعلم الإجمالي. الملاحظة على هذا الكلام هي أنّ هذا كأنّه خروج عن محل الكلام، هذا في الحقيقة إثبات المنع في هذا الطرف وعدم إمكان الالتزام بالترخيص الفعلي في هذا الطرف باعتبار منجّزية العلم الإجمالي، كأنّه يريد أن يقول أنّ هذا الطرف باعتباره مشكوك هو حلال، لكن هذه الحلّية لا تكون فعلية دائماً وفي جميع موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ هناك جهة أخرى تقتضي المنع في هذا الطرف، وهي كون هذا الطرف طرفاً للعلم الإجمالي، هذا رجوع إلى منجّزية العلم الإجمالي، هذا رجوع إلى مانعية العلم الإجمالي من أن يكون الترخيص في هذا الطرف ترخيصاً فعلياً، بأن يكون المكلّف مرخّصاً له في ارتكاب هذا الطرف، الذي يمنع من ذلك هو كونه طرفاً للعلم الإجمالي، الذي يمنع من ذلك هو العلم الإجمالي وحكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي ومانعية العلم الإجمالي بحسب ما يراه العقل من أن يكون الترخيص فعلياً في أحد الأطراف، هذا معناه أننا نمنع من شمول دليل الأصل، أو قل: نمنع من ثبوت الترخيص الفعلي في هذا الطرف باعتبار منجّزية العلم الإجمالي، وهذا خروج عن محل الكلام، نحن نتكلّم عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية، هذا سيأتي الكلام عنه، بقطع النظر عن المنجّزية نقول أدلّة الأصول العملية في حدّ نفسها هل هي مختصّة بالشبهات البدوية، أو تشمل موارد العلم الإجمالي ؟ الشيخ (قدّس سرّه) كان يدّعي أنّها تختص بالشبهات البدوية، هذا ظاهر كلامه، هل كلام الشيخ (قدّس سرّه) صحيح أنّها تختص بالشبهات البدوية، أو أنّ فيها قابلية وإطلاق يجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أمّا مسألة أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لجميع الأطراف، أو لبعض الأطراف، فهذه مسألة سيأتي الحديث عنها، هذا الوجه كأنّه يستعين بمنجّزية العلم الإجمالي ومانعية العلم الإجمالي من الترخيص في بعض الأطراف بحكم العقل لمنع ثبوت الترخيص الفعلي في هذا الطرف، وإنّما يكون ترخيصاً غير فعلي؛ لأنّ العمل بالنتيجة يكون بالتحريم، كما هو في مثال الجبن عندما يكون مغصوباً، العمل لا يكون بالحلّية، وإنّما يكون العمل بالتحريم، فيُلتزم بحرمة الجبن عندما يكون مغصوباً ولا أثر لحلّيته الحيثية التي فُرض وجودها واجتماعها مع التحريم من جهة الغصب، في محل الكلام العمل يكون بالتحريم باعتبار أنّ هذا طرف للعلم الإجمالي، والذي أثبت هذا التحريم ومنع من أن يكون الترخيص فعلياً في هذا الطرف هو عبارة عن منجّزية العلم الإجمالي، هذا خروج عن محل الكلام، هذا لا يعني إطلاقاً أنّ أدلّة الأصول العملية لا تشمل أطراف العلم الإجمالي؛ بل قد يعني العكس، يعني أنّ أدلّة الأصول العملية هي تشمل في الواقع أطراف العلم الإجمالي.
هناك مطلب آخر قد يُستدَل به لمنع الشمول وهذا المطلب على الظاهر لا يختص بخصوص أدلّة الأصول التي تشتمل على الذيل؛ بل يجري في جميع الموارد، كما أنّ المطلب الذي نقلناه الآن أيضاً لا يختص بهذه الأدلّة، مطلق أدلّة الأصول العملية هي تثبت الحلّية الحيثية، هذا المطلب المتقدّم. أمّا المطلب الجديد الذي يُستدَل به على عدم الشمول، فخلاصته: أنّ شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي إنّما يتم عن طريق التمسّك بإطلاق هذه الأدلّة، ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على مقدّمات الحكمة ومن أهم مقدّمات الحكمة عدم وجود قرينة على الاختصاص، وعدم وجود قرينة على التقييد، والقرينة أعمّ من أن تكون قرينة لفظية، أو قرينة لبّية، كما أنّ القرينة اللّفظية على الاختصاص تمنع من الإطلاق، كذلك القرينة اللّبيّة على الاختصاص أيضاً تمنع من انعقاد الإطلاق. في محل الكلام يقال أنّ هناك قرينة لبّية ارتكازية متصلّة تمنع من انعقاد الإطلاق في أدلّة الأصول العملية لكي تشمل أطراف العلم الإجمالي، وهذه القرينة اللّبّية المتّصلة هي عبارة عن الارتكاز العقلائي، الارتكاز العقلائي لا يقبل أن يثبت ترخيص ظاهري في هذا الطرف مع العلم بثبوت التكليف الشرعي، الارتكاز العقلائي يرى أنّ هنا توجد مناقضة، ما معنى أنّه يعلم بالتكليف، ويعلم أنّ أحدهما نجس، ويعلم بأنّ احدى الصلاتين واجبة، يثبت له ترخيص في هذا الطرف وترخيص في ذاك الطرف، هذا غير مقبول عقلائياً، الارتكاز العقلائي لا يساعد على ذلك ولا يتقبّل أن تكون أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ شمولها لأطراف العلم الإجمالي غير مقبول عقلائياً؛ لأنّ العقلاء يرون وجود مناقضة بين التكليف المعلوم في موارد العلم الإجمالي وبين الترخيص ولو في بعض الأطراف، يرون هذه مناقضة وغير مقبولة لهم، وهذا الارتكاز قرينة متّصلة بالكلام تمنع من انعقاد إطلاقه. هذا الوجه يختلف عن الوجه السابق، في هذا الوجه لم نستعن لإثبات عدم شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بمنجّزية العلم الإجمالي العقلية التي سيقع الحديث عنها، وإنّما أدُّعي الارتكاز العقلائي الذي هو يشكّل قرينة لبّيّة متصلة بالكلام تمنع من انعقاد الاطلاق وبالتالي يكون الدليل غير قابل لأن يشمل موارد العلم الإجمالي وأطرافه.
في الدرس السابق ذكرنا وجهاً لبعض المحققين كان يُشكّل إشكالاً على ما ذكره الشيخ الأعظم(قدّس سرّه) من عدم جريان أدلّة الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي، باعتبار التهافت بين صدر هذه الأدلّة الدالّة على الأصول العملية وبين ذيلها، وكان حاصل هذا الإشكالهو: أنّ ما ذكره الشيخ مبني على أن يراد بذيل الرواية الحكم الشرعي التعبّدي، بأن يكون المقصود بقوله(عليه السلام):(ولكن ينقضه بيقين آخر) التي هي جملة طلبية في مقام الأمر بالنقض، أن يكون المراد بهذا الأمر بالنقض أمراً تعبّدياً شرعياً؛ حينئذٍ يحصل تهافت بين الذيل والصدر، وأمّا إذا كان المقصود بهذه العبارة هو الأمر الإرشادي، أي الإرشاد إلى ما يحكم به العقل وليست في مقام التأسيس إطلاقاً؛ حينئذٍ لابدّ من ملاحظة ما يحكم به العقل، يعني لابدّ من ملاحظة ما سيأتي من البحث عن منجّزية العلم الإجمالي عقلاً حتّى نرى أنّ هذا هل يخلق حالة التفاوت، أو لا ؟ وهذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّ محل الكلام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن ما يحكم به العقل، وبقطع النظر عن المنجّزية، أصلاً نريد أن نرى أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ هي في حدّ نفسها بقطع النظر عن المنجّزية هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو أنّها مختصّة بالشبهات البدوية ؟ هذا محل كلامنا. هذا الذي ذكره الشيخ بناءً على أنّ الذيل للإرشاد وليس في مقام التأسيس، وهذا خروج عن محل كلامنا؛ لأنّ التهافت على تقدير تماميته يكون مبنياً على المنجّزية ومانعية العلم الإجمالي من إجراء الأصول في جميع الأطراف، أو في بعض الأطراف هو بحثنا الذي سيأتي، نحن كلامنا عن أصل شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي. كان هذا هو الإشكال. ويبدو أنّ هذا الإشكال لا بأس به، لا بأس بأن يكون جواباً عن ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه).
الجواب الثاني: عن ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) هو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه يقال للشيخ(قدّس سرّه): غاية ما هناك أنّ هذا التهافت يختص بأدلّة الأصول الموجود فيها هذا الذيل، هذه الأدلّة التي يقع فيها صدر وذيل يقع فيها التهافت، لكنّ أدلّة الأصول ليست كلّها من هذا القبيل حيث توجد عندنا روايات في الاستصحاب خالية من هذا الذيل، وكذلك لدينا روايات في البراءة والحلّية خالية من الذيل، هذه الأدلّة الخالية من الذيل لا ضير في أن نتمسّك بإطلاقها في محل الكلام ولا يلزم من ذلك التهافت؛ لأنّه لا يوجد فيها ذيل من هذا القبيل حتّى يقال يلزم من شمولها لمحل الكلام وقوع التهافت بين صدر الرواية وذيلها. هذا الجواب الثاني ذكره كثير من المحققين وكان أحد الأجوبة عن ما يقوله الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) هو هذا.
الجواب الثالث: هو أيضاً ما ذُكر في كلماتهم من أنّ اليقين في ذيل رواية الاستصحاب المتقدّمة والعلم في ذيل بعض أدلّة الحلّية(حتّى يعلم أنّه حرام) منصرف إلى اليقين التفصيلي. (ولكن ينقضه بيقينٍ آخر) المقصود باليقين الناقض لليقين السابق هو اليقين التفصيلي، ينصرف إلى اليقين التفصيلي، فإذن: ذيل الرواية لا يكون شاملاً لمحل كلامنا حتى يقال بحصول التهافت بين صدرها وذيلها؛ لأنّ حصول التهافت كما هو واضح يتوقّف على شمول الصدر والذيل لمحل الكلام حتّى يحصل بينهما التهافت، أمّا إذا منعنا من شمول ذيل الرواية لمحل الكلام؛ لأنّ المراد باليقين هو خصوص اليقين التفصيلي، ذاك الذي يكون ناقضاً لليقين السابق ورافعاً له، هو فقط دون اليقين الإجمالي؛ فحينئذٍ تكون الرواية شاملة لمحل الكلام بصدرها وهذا معناه أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل محل الكلام، ما كان خالياً من الذيل واضح، وما كان فيه الذيل؛ فلأنّ الذيل منصرف إلى اليقين التفصيلي وهو غير موجود في محل الكلام.
دعوى انصراف اليقين في ذيل الرواية إلى اليقين التفصيلي تؤيَد بكلمة(بعينه) في أدلّة بعض الأصول العملية كما في أدلّة الإباحة والبراءة حيث ورد في بعض الروايات(حتّى تعلم الحرام منه بعينه) الظاهر أنّ مقتضى الظهور الأوّلي لكلمة(بعينه) وأي كلمةٍ أخرى تدخل في الدليل أنّها في مقام الاحتراز وليست لغرض التأكيد الصرف لمعرفة الحرام المذكور قبلها، هي ليست في هذا المقام؛ لأنّه خلاف الظهور الأوّلي؛ لأنّ الظهور الأوّلي هو أن تكون احترازية، بمعنى كأنّه(عليه السلام) يريد أن يقول أنّ الحرام على قسمين، مرّة يعرف الحرام بعينه ومرّة يعرف الحرام، لكن لا بعينه، يعرف الحرام بعينه كما يتحقق في موارد العلم التفصيلي، ويعرف الحرام لا بعينه كما يتحقق في موارد العلم الإجمالي، يعرف الحرام، لكنّه لا يعرفه بعينه، فكلمة(بعينه) أُتي بها للاحتراز عن معرفة الحرام لا بعينه، أي للاحتراز عن موارد العلم الإجمالي التي هي محل الكلام، فيختصّ الذيل بخصوص موارد العلم التفصيلي(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).[1] يعني إلى أن يحصل لك علم تفصيلي بحرمة الشيء، وأمّا إذا لم يحصل لك علم تفصيلي بحرمة الشيء، فهو لك حلال، الغاية حينئذٍ لا تكون شاملة لموارد العلم الإجمالي؛ فحينئذٍ في محل الكلام يكون الأصل والإباحة والبراءة الموجودة في الصدر شاملة لمحل الكلام من دون أن تشمله الغاية وذيل هذه الروايات. هذا يكون مؤيداً لاختصاص العلم أو اليقين في أدلّة الأصول بخصوص العلم التفصيلي واليقين التفصيلي. إذا تمّت دعوى الانصراف؛ فحينئذٍ تكون إشكالاً آخر يُسجّل على ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، ولا بأس بجعل كلمة(بعينه) مؤيِدة لما ذُكر، باعتبار أنّ الظاهر منها أنّها احترازية، وكونها احترازية يكون بانّها تحترز عن معرفة الحرام لا بعينه وتخرجه عن الغاية والذيل، فتختص الغاية والذيل بخصوص معرفة الحرام بعينه. هذا هو الذي يوجب رفع اليد عن الحلّية المذكورة في صدر الرواية، وأمّا العلم الإجمالي ومعرفة الحرام لا بعينه فهي لا توجب رفع اليد عن الحلّية، وهذا معناه شمول دليل الحلّية لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّي لا أعلم أنّه حرام بعينه، وهذا المعنى المطلوب، أنّ أدلّة الأصول تشمل هذا الطرف بخصوصه وتشمل هذا الطرف بخصوصه.
من هنا يظهر أنّ الأخذ بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) غير واضح؛ بل يبدو أنّ أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي، المقصود من شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي هو شمولها لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، وليس المقصود شمولها لهذا الطرف منضمّاً إلى الطرف الآخر، ليس هذا ما نثبته، نقول أنّ هذا الطرف بخصوصه مشمول لأدلّة الأصول العملية، موضوع الأصل العملي محفوظ فيه؛ لأنّ موضوع الأصل العملي هو الشك وعدم العلم، وهذا محفوظ في هذا الطرف بخصوصه، وإذا التفتنا إلى الطرف الآخر أيضاً نقول محفوظ فيه بخصوصه، لا نريد أن ندّعي الآن أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل هذا الطرف منضماً إلى الطرف الآخر، هذا ليس محل كلامنا. إلى هنا يبدو أنّ أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي.
ممّا ذكرناه مراراً من أنّ محل الكلام هو عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بالمعنى الذي ذكرناه بقطع النظر عن منجّزية العلم الإجمالي وحكم العقل بالمانعية، بقطع النظر عن هذا، أقول: من هنا يظهر أنّ ما قيل من أنّ شمول دليل الأصل العملي لأطراف العلم الإجمالي بالمعنى المتقدّم وإثباته الترخيص فيه والسعة لا ينافي نفي الترخيص ونفي السعة من جهةٍ أخرى، لا منافاة بينهما، ليكن دليل الأصل شاملاً لهذا الطرف ويثبت فيه السعة والترخيص، هذا لا ينافي أن لا يكون هذا الطرف مرخّصاً فيه، ولا ينافي نفي الترخيص ونفي السعة، لكن من جهةٍ أخرى، وذلك باعتبار هذه النكتة، وهي أنّ دليل الترخيص بحسب الفهم العرفي، ايّ دليل ترخيصٍ، ومنه محل الكلام، أنّ دليل الترخيص بحسب الفهم العرفي إنّما يدل على الحكم الحيثي، يعني يدل على الحكم بالترخيص والحلّية من حيثيةٍ معيّنةٍ ومن جهةٍ معيّنةٍ، هذا الحكم بالحلّية من جهةٍ معيّنة لا ينافي الحكم بعدم الحليّة وعدم الترخيص من جهةٍ أخرى، أصلاً لا توجد منافاة بينهما؛ بل نلتزم بالحلّية ونلتزم بالحرمة، فيكون الشيء حلالاً من جهةٍ وفي نفس الوقت يكون حراماً من جهةٍ أخرى، وحينما نلتزم بحرمته من تلك الجهة الثانية في نفس الوقت نلتزم بحلّيته من هذه الجهة ـــــــــــــ مثلاً ـــــــــــــ إذا قيل، كما يُمثّل له(أنّ الجبن حلال) الذي يُفهم عرفاً من هذا الدليل هو أنّ الجبن من جهة كونه جبناً يكون حلالاً، من جهة كونه جبناً ليس فيه شيء يقتضي المنع وعدم الترخيص، إذن: هو حلال من جهة كونه جبناً، هذا لا ينافي كونه حراماً من جهة كونه مغصوباً، فالجبن يكون حلالاً باعتباره جبن، لكنّه في نفس الوقت يكون حراماً باعتباره مغصوباً من حيثيةٍ أخرى بحيث أنّ العرف لا يرى تنافياً بين هذا التحريم وبين هذا التحليل. وبعبارةٍ أخرى: لا يرى أنّ هذا التحريم الثابت للجبن باعتباره مغصوباً، لا يراه تقييداً لإطلاق(الجبن حرام)؛ بل يبقى هذا على إطلاقه(الجبن حلال مطلقاً) يعني حتّى إذا كان مغصوباً، ولا نقيّده بما إذا لم يكن مغصوباً هو حلال مطلقاً؛ لأن الحلّية هي حلّية حيثية؛ لأنّها حلّية من حيث كونه جبناً، والحلّية من حيث كونه جبناً لا تنافي الحرمة من حيث كونه غصباً. نفس هذه النكتة تُطبّق في محل الكلام، فيقال أنّ الدليل الدال على الترخيص في محل كلامنا، دليل الأصل العملي(رفع ما لا يعلمون) وأمثاله الاستصحاب وغيره، كلّ دليلٍ يدلّ على الحلّية إنّما يدلّ على الحلّية والترخيص والسعة في هذا الطرف من حيث كونه مشكوكاً، ومن حيث كونه غير معلوم، من هذه الحيثية يدلّ على الترخيص فيه، وهذا الترخيص من حيث كونه غير معلوم لا ينافي عدم الترخيص وعدم السعة باعتباره معلوم بالإجمال، هو نفس الطرف يكون حلالاً باعتباره مشكوكاً وفي نفس الوقت يكون حراماً وممنوعاً وغير مرخّص فيه باعتباره معلوماً بالإجمال. أو قل بعبارة أكثر وضوحاً: باعتباره طرفاً لعلم إجمالي.
أقول: هذا الكلام وإن سيق لبيان عدم شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي الذي هو محل كلامنا، الغرض منه أنّ أدلّة الأصول العملية لا تشمل أطراف العلم الإجمالي، لكنّه في الواقع اعتراف بشمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي، بمعنى أنّه هو يقول أنّ أدلّة الأصول العملية تشمل هذا الطرف وتثبت فيه الترخيص والحلّية غاية الأمر أنّ هذا الترخيص ترخيص حيثي، لكن هي تثبت فيه الترخيص والحلّية من حيث كونه مشكوكاً وغير معلوم. ويُدّعى أنّ هناك جهةً أخرى وحيثية أخرى تقتضي تحريم هذا نفسه لكن من حيثية أخرى ولا منافاة بين هذين الحكمين، بين هذه الحلّية الحيثية وبين المنع باعتبار كونه طرفاً للعلم الإجمالي. الملاحظة على هذا الكلام هي أنّ هذا كأنّه خروج عن محل الكلام، هذا في الحقيقة إثبات المنع في هذا الطرف وعدم إمكان الالتزام بالترخيص الفعلي في هذا الطرف باعتبار منجّزية العلم الإجمالي، كأنّه يريد أن يقول أنّ هذا الطرف باعتباره مشكوك هو حلال، لكن هذه الحلّية لا تكون فعلية دائماً وفي جميع موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ هناك جهة أخرى تقتضي المنع في هذا الطرف، وهي كون هذا الطرف طرفاً للعلم الإجمالي، هذا رجوع إلى منجّزية العلم الإجمالي، هذا رجوع إلى مانعية العلم الإجمالي من أن يكون الترخيص في هذا الطرف ترخيصاً فعلياً، بأن يكون المكلّف مرخّصاً له في ارتكاب هذا الطرف، الذي يمنع من ذلك هو كونه طرفاً للعلم الإجمالي، الذي يمنع من ذلك هو العلم الإجمالي وحكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي ومانعية العلم الإجمالي بحسب ما يراه العقل من أن يكون الترخيص فعلياً في أحد الأطراف، هذا معناه أننا نمنع من شمول دليل الأصل، أو قل: نمنع من ثبوت الترخيص الفعلي في هذا الطرف باعتبار منجّزية العلم الإجمالي، وهذا خروج عن محل الكلام، نحن نتكلّم عن شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية، هذا سيأتي الكلام عنه، بقطع النظر عن المنجّزية نقول أدلّة الأصول العملية في حدّ نفسها هل هي مختصّة بالشبهات البدوية، أو تشمل موارد العلم الإجمالي ؟ الشيخ (قدّس سرّه) كان يدّعي أنّها تختص بالشبهات البدوية، هذا ظاهر كلامه، هل كلام الشيخ (قدّس سرّه) صحيح أنّها تختص بالشبهات البدوية، أو أنّ فيها قابلية وإطلاق يجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أمّا مسألة أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لجميع الأطراف، أو لبعض الأطراف، فهذه مسألة سيأتي الحديث عنها، هذا الوجه كأنّه يستعين بمنجّزية العلم الإجمالي ومانعية العلم الإجمالي من الترخيص في بعض الأطراف بحكم العقل لمنع ثبوت الترخيص الفعلي في هذا الطرف، وإنّما يكون ترخيصاً غير فعلي؛ لأنّ العمل بالنتيجة يكون بالتحريم، كما هو في مثال الجبن عندما يكون مغصوباً، العمل لا يكون بالحلّية، وإنّما يكون العمل بالتحريم، فيُلتزم بحرمة الجبن عندما يكون مغصوباً ولا أثر لحلّيته الحيثية التي فُرض وجودها واجتماعها مع التحريم من جهة الغصب، في محل الكلام العمل يكون بالتحريم باعتبار أنّ هذا طرف للعلم الإجمالي، والذي أثبت هذا التحريم ومنع من أن يكون الترخيص فعلياً في هذا الطرف هو عبارة عن منجّزية العلم الإجمالي، هذا خروج عن محل الكلام، هذا لا يعني إطلاقاً أنّ أدلّة الأصول العملية لا تشمل أطراف العلم الإجمالي؛ بل قد يعني العكس، يعني أنّ أدلّة الأصول العملية هي تشمل في الواقع أطراف العلم الإجمالي.
هناك مطلب آخر قد يُستدَل به لمنع الشمول وهذا المطلب على الظاهر لا يختص بخصوص أدلّة الأصول التي تشتمل على الذيل؛ بل يجري في جميع الموارد، كما أنّ المطلب الذي نقلناه الآن أيضاً لا يختص بهذه الأدلّة، مطلق أدلّة الأصول العملية هي تثبت الحلّية الحيثية، هذا المطلب المتقدّم. أمّا المطلب الجديد الذي يُستدَل به على عدم الشمول، فخلاصته: أنّ شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي إنّما يتم عن طريق التمسّك بإطلاق هذه الأدلّة، ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على مقدّمات الحكمة ومن أهم مقدّمات الحكمة عدم وجود قرينة على الاختصاص، وعدم وجود قرينة على التقييد، والقرينة أعمّ من أن تكون قرينة لفظية، أو قرينة لبّية، كما أنّ القرينة اللّفظية على الاختصاص تمنع من الإطلاق، كذلك القرينة اللّبيّة على الاختصاص أيضاً تمنع من انعقاد الإطلاق. في محل الكلام يقال أنّ هناك قرينة لبّية ارتكازية متصلّة تمنع من انعقاد الإطلاق في أدلّة الأصول العملية لكي تشمل أطراف العلم الإجمالي، وهذه القرينة اللّبّية المتّصلة هي عبارة عن الارتكاز العقلائي، الارتكاز العقلائي لا يقبل أن يثبت ترخيص ظاهري في هذا الطرف مع العلم بثبوت التكليف الشرعي، الارتكاز العقلائي يرى أنّ هنا توجد مناقضة، ما معنى أنّه يعلم بالتكليف، ويعلم أنّ أحدهما نجس، ويعلم بأنّ احدى الصلاتين واجبة، يثبت له ترخيص في هذا الطرف وترخيص في ذاك الطرف، هذا غير مقبول عقلائياً، الارتكاز العقلائي لا يساعد على ذلك ولا يتقبّل أن تكون أدلّة الأصول العملية شاملة لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ شمولها لأطراف العلم الإجمالي غير مقبول عقلائياً؛ لأنّ العقلاء يرون وجود مناقضة بين التكليف المعلوم في موارد العلم الإجمالي وبين الترخيص ولو في بعض الأطراف، يرون هذه مناقضة وغير مقبولة لهم، وهذا الارتكاز قرينة متّصلة بالكلام تمنع من انعقاد إطلاقه. هذا الوجه يختلف عن الوجه السابق، في هذا الوجه لم نستعن لإثبات عدم شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بمنجّزية العلم الإجمالي العقلية التي سيقع الحديث عنها، وإنّما أدُّعي الارتكاز العقلائي الذي هو يشكّل قرينة لبّيّة متصلة بالكلام تمنع من انعقاد الاطلاق وبالتالي يكون الدليل غير قابل لأن يشمل موارد العلم الإجمالي وأطرافه.