35/08/08
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي
الاعتراض الثالث: على ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) وهو آخر الاعتراضات، وهو أنّ يقال: أنّ ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ وجوب الحج إذا كان مترتباً على مطلق المعذوريّة عن أداء الدين الذي هو الفرض الثاني في تقريب كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)، هناك ذكر بأنّه في هذا الفرض جريان اصالة البراءة(الأصل الترخيصي) في الدَين إنّما هو باعتبار أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً حينئذٍ في هذا الفرض، باعتبار سقوط العلم الإجمالي في هذا الفرض عن المنجّزية، ومن الواضح أنّه إذا سقط عن المنجّزية لا مانع من إجراء الأصل الترخيصي، وبيّن كيف أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية، قال: إذ يشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحدٍ، وفي محل الكلام، هذا العلم الإجمالي ـــــــــــ بناءً على هذا الفرض ــــــــــــ لا يصلح لتنجيز كلا الطرفين، يعني وجوب أداء الدَين ووجوب الحج في عرضٍ واحد؛ لأنّه على تقدير تنجيزه لوجوب أداء الدَين سوف نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج ـــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ مترتب على عدم تنجّز وجوب أداء الدَين الذي عبّر عنه بالمعذورية عن أداء الدَين، مجرّد أن لا يتنجّز عليك وجوب أداء الدَين يجب عليك الحج، فإذا نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، يرتفع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم تنجّز وجوب أداء الدَين، أو قل بعبارةٍ أخرى: المعذورية عن أداء الدَين، فإذا تنجّز وجوب أداء الدَين بالعلم الإجمالي؛ حينئذٍ سوف نقطع بعدم وجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يمكنه في عرضٍ واحد أن ينجّز كلا المحتملين في الطرفين، يعني ينجّز وجوب أداء الدَين، وينجّز وجوب الحج أيضاً، هذا غير ممكن، إذا نجّز وجوب أداء الدَين ارتفع موضوع وجوب الحج وقطعنا بعدمه، مثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح للتنجيز، فجريان الأصل الترخيصي في الدَين على ما نُسب إلى المشهور، يقول: هذا على القواعد، ليس فيه مخالفة لما نختاره من القول بالعلّية؛ لأنّ العلم الإجمالي سقط عن التنجيز؛ وحينئذٍ يمكن إجراء الأصل الترخيصي في هذا الطرف......والخ ما ذكره المشهور.
أقول: الاعتراض الثالث يقول أنّ هذا الكلام غير صحيح وغير فنّي، باعتبار أنّه ذكر أنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذورية، ولو كانت عقلية، الذي هو الفرض الثاني، رتّب عليه هذا الكلام، السؤال هو: هل يمكن تصوّر أن يكون موضوع وجوب الحج هو خصوص فقط وفقط المعذورية عن أداء الدَين ؟ عدم تنجّز أداء الدَين فقط هو يكون موضوع وجوب الحج ؟ هذا الكلام معناه أنّه لو ثبت عند المكلّف عدم وجوب أداء الدَين واقعاً لا يترتّب وجوب الحج، يترتب وجوب الحج إذا لم يتنجّز أداء الدَين عليه، إذا كان معذوراً، أمّا لو ثبت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو ظاهراً لا يترتب عليه وجوب الحج، هذا الشيء غير ممكن الالتزام به، يعني عندما نقول بأنّ وجوب الحج يترتب على مطلق المعذورية عن أداء الدَين ليس المقصود بذلك هو تخصيص ترتب وجوب الحج على المعذورية فقط، واضح أنّ المقصود به ليس هذا، وإنّما المقصود به هو أنّه يترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو قل الأعم من عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، ومن المعذورية، ولو كانت عقلية، الأعم منذ لك هو موضوع وجوب الحج لا أن وجوب الحج يترتب فقط على المعذورية وعدم التنجّز العقلي، ليس هذا هو المقصود، وإنّما هذا يقال في قِبال الفرض الأوّل، في الفرض الأوّل كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، لكن المهم يثبت عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهرياً، مجرّد المعذورية العقلية وعدم التنجّز العقلي لا يكفي لترتيب وجوب الحج، هذا الفرض الأوّل، وإنّما يحتاج في وجوب الحج إلى إثبات عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهرياً، بالاستصحاب مثلاً، الفرض الثاني عندما يقول أنّ وجوب الحج مترتب على المعذورية ولو كانت عقلية ليس المقصود به تخصيص ترتيب وجوب الحج على المعذورية فقط، وإنّما المقصود به هو أنّ وجوب الحج يترتب على الأعم من وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً ومن المعذورية، ومن صرف عدم التنجّز، هذا هو المقصود بالفرض الثاني، بناءً على أنّ هذا هو المقصود بالفرض الثاني؛ حينئذٍ إذا نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، قال المحقق العراقي(قدّس سرّه): هنا نقطع بعدم وجوب الحج، الاعتراض يقول: لا قطع بعدم وجوب الحج حتّى يقال أنّ العلم الإجمالي سقط عن المنجّزية، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل الترخيصي في الدَين، لا نقطع بعدم وجوب الحج كما يقول، لو نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين في هذا الطرف، لا قطع بعدم وجوب الحج حتّى يتمّ ما ذكره من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، وبالتالي لا مانع من جريان الأصل الترخيصي في الدَين، وذلك لأنّ تنجّز أداء الدَين بالعلم الإجمالي لا يستلزم العلم بوجود الدين، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، باعتبار احتمال عدم وجود الدَين.
بعبارةٍ أخرى: من المحتمل أن لا يجب عليه أداء الدَين واقعاً، باعتبار أنّ تنجّز وجوب أداء الدَين لا يستلزم العلم بوجود الدَين حتّى نقول هنا نعلم بعدم وجوب الحج؛ لأننا قطعنا بوجوب أداء الدَين، وعند القطع بوجوب أداء الدَين؛ حينئذٍ نقطع بعدم وجوب الحج، هذا لا يحصل في المقام؛ لأننا نحتمل عدم وجود الدين، ومع عدم وجود الدين؛ حينئذٍ لا يجب عليه واقعاً أداء الدَين، فعلى تقدير أن لا يجب عليه أداء الدَين؛ حينئذٍ يتحقق موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو الأعم ـــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ ليس موضوع وجوب الحج هو فقط عدم تنجّز أداء الدَين، عدم وجوب أداء الدَين واقعاً هو أيضاً موضوع لوجوب الحج، ليس لدينا قطع بعدم وجود الدَين؛ بل نحتمل وجود الدَين، ومع احتمال وجود الدَين؛ حينئذٍ يجب أداء الدَين، ونحتمل عدم وجود الدَين؛ فحينئذٍ لا يجب أداء الدَين. إذن: وجوب الحج يكون محتملاً، ولا قطع بعدمه كما هو يقول، هو يريد أن يقول أنّه بمجرّد أن ينجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين نقطع بعدم وجوب الحج، فيثبت ما ذكره، بينما الصحيح هو أنّه بمجرّد تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين، هذا لا يستلزم القطع بوجوب الحج؛ لأننا نحتمل عدم وجوب الحج؛ لأننا نحتمل وجود الدَين ووجوب أداء الدَين، ومع هذا الاحتمال؛ حينئذٍ المهم عندنا هو أن لا قطع بوجوب الحج، وإذا لم يكن هناك قطع بوجوب الحج؛ حينئذٍ لا يتم كلامه؛ لأنّه يبقى العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحد ـــــــــــ بقطع النظر عن الكلام المتقدّم في الاعتراض السابق من الانحلال الحقيقي ـــــــــــــ هنا يوجد احتمال وهنا أيضاً يوجد احتمال، وتنجيز العلم الإجمالي للاحتمال في باب الدَين لا يوجب القطع بعدم وجوب الحج، القطع بعدم وجوب الحج غير موجود، فيبقى الاحتمال موجود والاحتمال الآخر موجود؛ وحينئذٍ يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحد بقطع النظر عن ما تقدّم من دعوى الانحلال الحقيقي.
هذا هو الاعتراض الثالث على كلامه(قدّس سرّه)؛ وحينئذٍ ننتهي إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الصحيح في هذا التنبيه أن يقال: لا مانع من جريان الأصل الترخيصي في الدَين في المثال بناءً على مسلك الاقتضاء؛ وحينئذٍ إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، أو على مطلق المعذورية وعدم التنجّز؛ حينئذ أمكن عن طريق إجراء الأصل الترخيصي في الدَين إثبات وجوب الحج واقعاً، هنا لا يُفرّق بين أن يكون الأصل الجاري في الدَين أصلاً تنزيلياً ـو أصلاً غير تنزيلي، على كلا التقديرين، هذا الأصل الترخيصي، تنزيلياً كان، أو غير تنزيلي، إذا جرى في الدَين يمكن إثبات وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، أو عدم التنجّز، أو المعذورية، فأيّ أصلٍ يجري في الدَين، سواء كان استصحاباً يثبت به عدم وجوب أداء الدَين، أو كان اصلاً غير تنزيلي، كالبراءة يثبت به مجرّد المعذورية وعدم التنجّز، أي شيء يجري في الدَين يمكن أن نثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم؛ وحينئذ كما هو واضح مع ثبوت وجوب الحج؛ حينئذٍ لا مجال لجريان الأصل الترخيصي في الحج؛ لأنّه قد ثبت وجوب الحج واقعاً بمجرّد جريان الأصل الترخيصي في الدَين، ولعلّ المشهور ذهب إلى وجوب الحج واقعاً على المكلّف بإجراء الأصل الترخيصي في باب الدَين لهذا الشيء.
وأمّا إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على خصوص عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، إذا أحرزت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً يثبت حينئذٍ وجوب الحج، وإلاّ فلا يثبت؛ حينئذٍ الأصل الترخيصي الجاري في الدَين، مهما كان لا يثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ وجوب الحج واقعاً ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ مترتّب على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وأيّ أصلٍ ترخيصي يجري في الدَين لا يستطيع أن يثبت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وإنّما هو يثبت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً إذا كان استصحاباً، أو يثبت التأمين والمعذورية وعدم التنجّز إذا كان أصلاً غير تنزيلي، وهذا معناه أننا هنا نعجز عن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخيصي في الدَين، بينما في الصورة السابقة كان يمكن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخيصي في الدَين، سواء كان أصلاً تنزيلياً، أو كان أصلاً غير تنزيلي، والنكتة هي أنّه هناك افترضنا أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً ومن المعذورية وعدم التنجّز، ايّ واحدٍ منهم تحقق يترتب عليه وجوب الحج واقعاً، وهذا قطعاً يتحقق بإجراء الأصل الترخيصي في الدَين، أمّا إذا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فالأصل الترخيصي في الدَين لا يحرز ذلك. ومن هنا كان هناك مجال لإجراء الأصل الترخيصي في الطرف الآخر، يعني إجراء الأصل الترخيصي في الحج؛ لأنّي لا أحرز وجوب الحج واقعاً، وإنّما احتمل ذلك، فيكون هناك مجال لإجراء الأصل الترخيصي في الحج ومعارضته مع الأصل الترخيصي في الدَين، هذا مجرّد إمكان، لكن الصحيح هو أنّ الأصل الترخيصي الجاري في الدَين إذا كان استصحاباً فيكون مقدّماً على الأصل الترخيصي الجاري في الحج، باعتباره حاكماً، الاستصحاب الجاري في الدَين يكون حاكماً على الأصل الترخيصي الجاري في الحج حتّى إذا كان ذلك الأصل الترخيصي الجاري في الحج تنزيلياً، يعني استصحاب وغيره، للحكومة القائمة على اساس أنّ هذا أصل سببي وذاك أصل مسببي؛ لأنّ الشك في وجوب الحج مسببَ عن الشك في وجوب أداء الدَين واقعاً، فالأصل الذي يجري في الدَين يكون أصلاً سببياً، بينما الأصل الذي يجري في الحج يكون أصلاً مسببياً، والأصل السببي يكون حاكماً على الأصل المسببي ومقدّماً عليه، ومن هنا الصحيح هو تقديم الأصل السببي الجاري في الدين على الأصل المسببي الجاري في الحج حتّى إذا كان استصحاباً أيضاً مماثلاً للأصل الجاري في الشكّ السببي، وبناءً على هذا التقديم بالحكومة ما يثبت هو وجوب الحج ظاهراً لا واقعاً، يثبت وجوب الحج استناداً إلى هذا الاستصحاب ثبوتاً ظاهرياً.
وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل الجاري في الدَين لم يكن استصحاباً وإنّما كان براءة؛ حينئذٍ نكات الحكومة هنا تختل؛ وحينئذٍ إذا أختلّت نكات الحكومة في هذه البراءة، فسوف يقع التعارض بين البراءة الجارية في الدَين وبين الأصل الترخيصي الجاري في الحج، وإذا وصلت النوبة إلى التعارض بين الأصلين الترخيصيين في الطرفين، في هذه الحالة يتنجّز العلم الإجمالي على المكلّف؛ لأننّا نتكلّم بناءً على مسلك الاقتضاء، وعلى مسلك الاقتضاء العلم الإجمالي يتنجّز بتعارض الأصلين في الطرفين وتساقطهما، وإنّما لا يتنجّز إذا جرى أحد الأصلين في أحد الطرفين بلا معارض، هنا لا مانع من جريانه، أمّا عندما يعارض الأصل الترخيصي في أحد الطرفين بالأصل الترخيصي في الطرف الآخر يتعارضان، فيتساقطان، فينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين. هذه هي النتيجة التي تذكر في المقام بالنسبة إلى هذا التنبيه.
التنبيه الثالث من تنبيهات العلم الإجمالي
هذا التنبيه معقود في الشبهة غير المحصورة. لهم كلام طويل في الشبهة غير المحصورة حيث ذكروا أنّ الكلام في الشبهة غير المحصورة أولاً يقع في ما سمّوه بتعريفها، أو في ما هو الميزان في كون الشبهة محصورة، وفي كون الشبهة غير محصورة، ثمّ يقع الكلام في حكمها، بعد أن نعرف ماهي الشبهة غير المحصورة وما هو الميزان في تحققها، يقع الكلام في حكمها، والمقصود من حكمها هو مسألة وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية.
وبعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي في موارد الشبهة غير المحصورة، هل حاله حال العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة الذي كنّا نتكلّم عنه سابقاً من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ؟ في البحث الأوّليعني في تحديد الشبهة غير المحصورة، أو في بيان ما هو الميزان في كون الشبهة غير محصورة، ذكروا أموراً كثيرة في بيان ما هو الميزان:
الميزان الأوّل: هو تعسّر العد، إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة كثرة بالغة إلى حدٍّ بحيث يعسر عدّها تكون الشبهة غير محصورة، في قِبال ما يمكن عدّه؛ وحينئذٍ تكون الشبهة محصورة.
الميزان الثاني: هو عدم التمكّن من الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي، كل علمٍ إجمالي تكون أطرافه كثيرة بحيث لا يتمكّن المكلّف من موافقتها القطعية، فهذه شبهة غير محصورة، وأمّا إذا كانت الأطراف بحيث يتمكّن المكلّف من موافقتها القطعية كما هو الحال في الأمثلة المتعارفة؛ حينئذٍ تكون هذه الشبهة شبهة محصورة.
الميزان الثالث: هو ما لا يتمكّن المكلّف عادةً من مخالفته القطعية، يعني ما يتعسّر مخالفته القطعية، العلم الإجمالي يكون علماً إجمالياً في شبهةٍ غير محصورة عندما تتعسّر المخالفة القطعية لكل أطراف العلم الإجمالي. في السابق كان الميزان في كون الشبهة غير المحصورة هو أن يتعسّر عليه موافقتها القطعية، أمّا الثاني فيقول أنّ الميزان هو أن تتعسّر المخالفة القطعية لجميع الأطراف؛ فحينئذٍ تكون الشبهة غير محصورة. المهم هو الميزان الثاني والثالث؛ لأنّ فيهما كلام وهناك ميزان آخر سيأتي التعرّض إليه.
من الواضح أنّ الميزان الثاني الذي هو تعسّر الموافقة القطعية لجميع المحتملات يختص بالشبهات الوجوبية ولا يمكن فرضه في الشبهات التحريمية، باعتبار أنّ الموافقة القطعية في باب المحرّمات ممّا يمكن ولا يتعسّر إطلاقاً مهما كثرت الأطراف تكون ممكنة؛ لأنّها تتحقق بالترك وهذا أمر متيسّر لكل أحد وليس فيه عسر، ومن هنا لا يمكن جريان هذا الميزان في الشبهات التحريمية؛ لأنّ الشبهات التحريمية مهما كثرت أطرافها لا يتعسّر موافقتها القطعية، بخلاف الشبهات الوجوبية حيث يمكن تطبيق هذا الميزان بشكلٍ واضح؛ لأنّه في الشبهات الوجوبية إذا كثرت الأطراف كثرة معتد بها؛ حينئذٍ يمكن افتراض تعسّر الموافقة القطعية في باب الواجبات؛ لأنّ الموافقة القطعية في باب الواجبات تحتاج إلى الفعل، فإذا كانت الأطراف كثيرة جدّاً يمكن فرض تعسّر الموافقة القطعية في باب الواجبات، فإذن: الميزان الثاني يختص بالشبهات الوجوبية تماماً عكس الميزان الثالث؛ لأنّ الميزان الثالث يختص بالشبهات التحريمية ولا يتأتى في الشبهات الوجوبية، حيث في الشبهات التحريمية يمكن فرض التعسّر فيها عندما تكون الأطراف كثيرة؛ لأنّ المخالفة القطعية في باب المحرّمات تحتاج إلى الارتكاب، فإذا كانت الأطراف كثيرة جدّاً لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب الجميع، فتتعسّر عليه المخالفة القطعية، فيمكن تصوّر تحقق الميزان في الشبهات التحريمية، وأمّا في الشبهات الوجوبية لا يمكن فرض هذا الميزان؛ لأنّه في الشبهات الوجوبية المخالفة القطعية في باب الواجبات يكفي فيها مجرّد الترك حتّى لو يعلم بوجوب أمر دائر بين مليون طرفٍ، المخالفة القطعية له سهلة المئونة وهو أن يترك، فلا يمكن تصوّر تعسّر المخالفة القطعية في باب الواجبات، وإنّما يمكن فرض ذلك في باب المحرّمات.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) في هذا الميزان الثالث؛ لأنّه أختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، له كلام في هذا وله اعتراضات نتعرّض لها إن شاء الله تعالى.
الاعتراض الثالث: على ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) وهو آخر الاعتراضات، وهو أنّ يقال: أنّ ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ وجوب الحج إذا كان مترتباً على مطلق المعذوريّة عن أداء الدين الذي هو الفرض الثاني في تقريب كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)، هناك ذكر بأنّه في هذا الفرض جريان اصالة البراءة(الأصل الترخيصي) في الدَين إنّما هو باعتبار أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً حينئذٍ في هذا الفرض، باعتبار سقوط العلم الإجمالي في هذا الفرض عن المنجّزية، ومن الواضح أنّه إذا سقط عن المنجّزية لا مانع من إجراء الأصل الترخيصي، وبيّن كيف أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية، قال: إذ يشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحدٍ، وفي محل الكلام، هذا العلم الإجمالي ـــــــــــ بناءً على هذا الفرض ــــــــــــ لا يصلح لتنجيز كلا الطرفين، يعني وجوب أداء الدَين ووجوب الحج في عرضٍ واحد؛ لأنّه على تقدير تنجيزه لوجوب أداء الدَين سوف نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج ـــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ مترتب على عدم تنجّز وجوب أداء الدَين الذي عبّر عنه بالمعذورية عن أداء الدَين، مجرّد أن لا يتنجّز عليك وجوب أداء الدَين يجب عليك الحج، فإذا نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، يرتفع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم تنجّز وجوب أداء الدَين، أو قل بعبارةٍ أخرى: المعذورية عن أداء الدَين، فإذا تنجّز وجوب أداء الدَين بالعلم الإجمالي؛ حينئذٍ سوف نقطع بعدم وجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يمكنه في عرضٍ واحد أن ينجّز كلا المحتملين في الطرفين، يعني ينجّز وجوب أداء الدَين، وينجّز وجوب الحج أيضاً، هذا غير ممكن، إذا نجّز وجوب أداء الدَين ارتفع موضوع وجوب الحج وقطعنا بعدمه، مثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح للتنجيز، فجريان الأصل الترخيصي في الدَين على ما نُسب إلى المشهور، يقول: هذا على القواعد، ليس فيه مخالفة لما نختاره من القول بالعلّية؛ لأنّ العلم الإجمالي سقط عن التنجيز؛ وحينئذٍ يمكن إجراء الأصل الترخيصي في هذا الطرف......والخ ما ذكره المشهور.
أقول: الاعتراض الثالث يقول أنّ هذا الكلام غير صحيح وغير فنّي، باعتبار أنّه ذكر أنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذورية، ولو كانت عقلية، الذي هو الفرض الثاني، رتّب عليه هذا الكلام، السؤال هو: هل يمكن تصوّر أن يكون موضوع وجوب الحج هو خصوص فقط وفقط المعذورية عن أداء الدَين ؟ عدم تنجّز أداء الدَين فقط هو يكون موضوع وجوب الحج ؟ هذا الكلام معناه أنّه لو ثبت عند المكلّف عدم وجوب أداء الدَين واقعاً لا يترتّب وجوب الحج، يترتب وجوب الحج إذا لم يتنجّز أداء الدَين عليه، إذا كان معذوراً، أمّا لو ثبت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو ظاهراً لا يترتب عليه وجوب الحج، هذا الشيء غير ممكن الالتزام به، يعني عندما نقول بأنّ وجوب الحج يترتب على مطلق المعذورية عن أداء الدَين ليس المقصود بذلك هو تخصيص ترتب وجوب الحج على المعذورية فقط، واضح أنّ المقصود به ليس هذا، وإنّما المقصود به هو أنّه يترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو قل الأعم من عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، ومن المعذورية، ولو كانت عقلية، الأعم منذ لك هو موضوع وجوب الحج لا أن وجوب الحج يترتب فقط على المعذورية وعدم التنجّز العقلي، ليس هذا هو المقصود، وإنّما هذا يقال في قِبال الفرض الأوّل، في الفرض الأوّل كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، لكن المهم يثبت عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهرياً، مجرّد المعذورية العقلية وعدم التنجّز العقلي لا يكفي لترتيب وجوب الحج، هذا الفرض الأوّل، وإنّما يحتاج في وجوب الحج إلى إثبات عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهرياً، بالاستصحاب مثلاً، الفرض الثاني عندما يقول أنّ وجوب الحج مترتب على المعذورية ولو كانت عقلية ليس المقصود به تخصيص ترتيب وجوب الحج على المعذورية فقط، وإنّما المقصود به هو أنّ وجوب الحج يترتب على الأعم من وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً ومن المعذورية، ومن صرف عدم التنجّز، هذا هو المقصود بالفرض الثاني، بناءً على أنّ هذا هو المقصود بالفرض الثاني؛ حينئذٍ إذا نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، قال المحقق العراقي(قدّس سرّه): هنا نقطع بعدم وجوب الحج، الاعتراض يقول: لا قطع بعدم وجوب الحج حتّى يقال أنّ العلم الإجمالي سقط عن المنجّزية، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل الترخيصي في الدَين، لا نقطع بعدم وجوب الحج كما يقول، لو نجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين في هذا الطرف، لا قطع بعدم وجوب الحج حتّى يتمّ ما ذكره من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، وبالتالي لا مانع من جريان الأصل الترخيصي في الدَين، وذلك لأنّ تنجّز أداء الدَين بالعلم الإجمالي لا يستلزم العلم بوجود الدين، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، باعتبار احتمال عدم وجود الدَين.
بعبارةٍ أخرى: من المحتمل أن لا يجب عليه أداء الدَين واقعاً، باعتبار أنّ تنجّز وجوب أداء الدَين لا يستلزم العلم بوجود الدَين حتّى نقول هنا نعلم بعدم وجوب الحج؛ لأننا قطعنا بوجوب أداء الدَين، وعند القطع بوجوب أداء الدَين؛ حينئذٍ نقطع بعدم وجوب الحج، هذا لا يحصل في المقام؛ لأننا نحتمل عدم وجود الدين، ومع عدم وجود الدين؛ حينئذٍ لا يجب عليه واقعاً أداء الدَين، فعلى تقدير أن لا يجب عليه أداء الدَين؛ حينئذٍ يتحقق موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو الأعم ـــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ ليس موضوع وجوب الحج هو فقط عدم تنجّز أداء الدَين، عدم وجوب أداء الدَين واقعاً هو أيضاً موضوع لوجوب الحج، ليس لدينا قطع بعدم وجود الدَين؛ بل نحتمل وجود الدَين، ومع احتمال وجود الدَين؛ حينئذٍ يجب أداء الدَين، ونحتمل عدم وجود الدَين؛ فحينئذٍ لا يجب أداء الدَين. إذن: وجوب الحج يكون محتملاً، ولا قطع بعدمه كما هو يقول، هو يريد أن يقول أنّه بمجرّد أن ينجّز العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين نقطع بعدم وجوب الحج، فيثبت ما ذكره، بينما الصحيح هو أنّه بمجرّد تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين، هذا لا يستلزم القطع بوجوب الحج؛ لأننا نحتمل عدم وجوب الحج؛ لأننا نحتمل وجود الدَين ووجوب أداء الدَين، ومع هذا الاحتمال؛ حينئذٍ المهم عندنا هو أن لا قطع بوجوب الحج، وإذا لم يكن هناك قطع بوجوب الحج؛ حينئذٍ لا يتم كلامه؛ لأنّه يبقى العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحد ـــــــــــ بقطع النظر عن الكلام المتقدّم في الاعتراض السابق من الانحلال الحقيقي ـــــــــــــ هنا يوجد احتمال وهنا أيضاً يوجد احتمال، وتنجيز العلم الإجمالي للاحتمال في باب الدَين لا يوجب القطع بعدم وجوب الحج، القطع بعدم وجوب الحج غير موجود، فيبقى الاحتمال موجود والاحتمال الآخر موجود؛ وحينئذٍ يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز كلا الطرفين في عرضٍ واحد بقطع النظر عن ما تقدّم من دعوى الانحلال الحقيقي.
هذا هو الاعتراض الثالث على كلامه(قدّس سرّه)؛ وحينئذٍ ننتهي إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الصحيح في هذا التنبيه أن يقال: لا مانع من جريان الأصل الترخيصي في الدَين في المثال بناءً على مسلك الاقتضاء؛ وحينئذٍ إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، أو على مطلق المعذورية وعدم التنجّز؛ حينئذ أمكن عن طريق إجراء الأصل الترخيصي في الدَين إثبات وجوب الحج واقعاً، هنا لا يُفرّق بين أن يكون الأصل الجاري في الدَين أصلاً تنزيلياً ـو أصلاً غير تنزيلي، على كلا التقديرين، هذا الأصل الترخيصي، تنزيلياً كان، أو غير تنزيلي، إذا جرى في الدَين يمكن إثبات وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين، ولو ظاهراً، أو عدم التنجّز، أو المعذورية، فأيّ أصلٍ يجري في الدَين، سواء كان استصحاباً يثبت به عدم وجوب أداء الدَين، أو كان اصلاً غير تنزيلي، كالبراءة يثبت به مجرّد المعذورية وعدم التنجّز، أي شيء يجري في الدَين يمكن أن نثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم؛ وحينئذ كما هو واضح مع ثبوت وجوب الحج؛ حينئذٍ لا مجال لجريان الأصل الترخيصي في الحج؛ لأنّه قد ثبت وجوب الحج واقعاً بمجرّد جريان الأصل الترخيصي في الدَين، ولعلّ المشهور ذهب إلى وجوب الحج واقعاً على المكلّف بإجراء الأصل الترخيصي في باب الدَين لهذا الشيء.
وأمّا إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على خصوص عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، إذا أحرزت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً يثبت حينئذٍ وجوب الحج، وإلاّ فلا يثبت؛ حينئذٍ الأصل الترخيصي الجاري في الدَين، مهما كان لا يثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ وجوب الحج واقعاً ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ مترتّب على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وأيّ أصلٍ ترخيصي يجري في الدَين لا يستطيع أن يثبت عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وإنّما هو يثبت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً إذا كان استصحاباً، أو يثبت التأمين والمعذورية وعدم التنجّز إذا كان أصلاً غير تنزيلي، وهذا معناه أننا هنا نعجز عن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخيصي في الدَين، بينما في الصورة السابقة كان يمكن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخيصي في الدَين، سواء كان أصلاً تنزيلياً، أو كان أصلاً غير تنزيلي، والنكتة هي أنّه هناك افترضنا أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب على الأعم من عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً ومن المعذورية وعدم التنجّز، ايّ واحدٍ منهم تحقق يترتب عليه وجوب الحج واقعاً، وهذا قطعاً يتحقق بإجراء الأصل الترخيصي في الدَين، أمّا إذا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فالأصل الترخيصي في الدَين لا يحرز ذلك. ومن هنا كان هناك مجال لإجراء الأصل الترخيصي في الطرف الآخر، يعني إجراء الأصل الترخيصي في الحج؛ لأنّي لا أحرز وجوب الحج واقعاً، وإنّما احتمل ذلك، فيكون هناك مجال لإجراء الأصل الترخيصي في الحج ومعارضته مع الأصل الترخيصي في الدَين، هذا مجرّد إمكان، لكن الصحيح هو أنّ الأصل الترخيصي الجاري في الدَين إذا كان استصحاباً فيكون مقدّماً على الأصل الترخيصي الجاري في الحج، باعتباره حاكماً، الاستصحاب الجاري في الدَين يكون حاكماً على الأصل الترخيصي الجاري في الحج حتّى إذا كان ذلك الأصل الترخيصي الجاري في الحج تنزيلياً، يعني استصحاب وغيره، للحكومة القائمة على اساس أنّ هذا أصل سببي وذاك أصل مسببي؛ لأنّ الشك في وجوب الحج مسببَ عن الشك في وجوب أداء الدَين واقعاً، فالأصل الذي يجري في الدَين يكون أصلاً سببياً، بينما الأصل الذي يجري في الحج يكون أصلاً مسببياً، والأصل السببي يكون حاكماً على الأصل المسببي ومقدّماً عليه، ومن هنا الصحيح هو تقديم الأصل السببي الجاري في الدين على الأصل المسببي الجاري في الحج حتّى إذا كان استصحاباً أيضاً مماثلاً للأصل الجاري في الشكّ السببي، وبناءً على هذا التقديم بالحكومة ما يثبت هو وجوب الحج ظاهراً لا واقعاً، يثبت وجوب الحج استناداً إلى هذا الاستصحاب ثبوتاً ظاهرياً.
وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل الجاري في الدَين لم يكن استصحاباً وإنّما كان براءة؛ حينئذٍ نكات الحكومة هنا تختل؛ وحينئذٍ إذا أختلّت نكات الحكومة في هذه البراءة، فسوف يقع التعارض بين البراءة الجارية في الدَين وبين الأصل الترخيصي الجاري في الحج، وإذا وصلت النوبة إلى التعارض بين الأصلين الترخيصيين في الطرفين، في هذه الحالة يتنجّز العلم الإجمالي على المكلّف؛ لأننّا نتكلّم بناءً على مسلك الاقتضاء، وعلى مسلك الاقتضاء العلم الإجمالي يتنجّز بتعارض الأصلين في الطرفين وتساقطهما، وإنّما لا يتنجّز إذا جرى أحد الأصلين في أحد الطرفين بلا معارض، هنا لا مانع من جريانه، أمّا عندما يعارض الأصل الترخيصي في أحد الطرفين بالأصل الترخيصي في الطرف الآخر يتعارضان، فيتساقطان، فينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين. هذه هي النتيجة التي تذكر في المقام بالنسبة إلى هذا التنبيه.
التنبيه الثالث من تنبيهات العلم الإجمالي
هذا التنبيه معقود في الشبهة غير المحصورة. لهم كلام طويل في الشبهة غير المحصورة حيث ذكروا أنّ الكلام في الشبهة غير المحصورة أولاً يقع في ما سمّوه بتعريفها، أو في ما هو الميزان في كون الشبهة محصورة، وفي كون الشبهة غير محصورة، ثمّ يقع الكلام في حكمها، بعد أن نعرف ماهي الشبهة غير المحصورة وما هو الميزان في تحققها، يقع الكلام في حكمها، والمقصود من حكمها هو مسألة وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية.
وبعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي في موارد الشبهة غير المحصورة، هل حاله حال العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة الذي كنّا نتكلّم عنه سابقاً من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ؟ في البحث الأوّليعني في تحديد الشبهة غير المحصورة، أو في بيان ما هو الميزان في كون الشبهة غير محصورة، ذكروا أموراً كثيرة في بيان ما هو الميزان:
الميزان الأوّل: هو تعسّر العد، إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة كثرة بالغة إلى حدٍّ بحيث يعسر عدّها تكون الشبهة غير محصورة، في قِبال ما يمكن عدّه؛ وحينئذٍ تكون الشبهة محصورة.
الميزان الثاني: هو عدم التمكّن من الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي، كل علمٍ إجمالي تكون أطرافه كثيرة بحيث لا يتمكّن المكلّف من موافقتها القطعية، فهذه شبهة غير محصورة، وأمّا إذا كانت الأطراف بحيث يتمكّن المكلّف من موافقتها القطعية كما هو الحال في الأمثلة المتعارفة؛ حينئذٍ تكون هذه الشبهة شبهة محصورة.
الميزان الثالث: هو ما لا يتمكّن المكلّف عادةً من مخالفته القطعية، يعني ما يتعسّر مخالفته القطعية، العلم الإجمالي يكون علماً إجمالياً في شبهةٍ غير محصورة عندما تتعسّر المخالفة القطعية لكل أطراف العلم الإجمالي. في السابق كان الميزان في كون الشبهة غير المحصورة هو أن يتعسّر عليه موافقتها القطعية، أمّا الثاني فيقول أنّ الميزان هو أن تتعسّر المخالفة القطعية لجميع الأطراف؛ فحينئذٍ تكون الشبهة غير محصورة. المهم هو الميزان الثاني والثالث؛ لأنّ فيهما كلام وهناك ميزان آخر سيأتي التعرّض إليه.
من الواضح أنّ الميزان الثاني الذي هو تعسّر الموافقة القطعية لجميع المحتملات يختص بالشبهات الوجوبية ولا يمكن فرضه في الشبهات التحريمية، باعتبار أنّ الموافقة القطعية في باب المحرّمات ممّا يمكن ولا يتعسّر إطلاقاً مهما كثرت الأطراف تكون ممكنة؛ لأنّها تتحقق بالترك وهذا أمر متيسّر لكل أحد وليس فيه عسر، ومن هنا لا يمكن جريان هذا الميزان في الشبهات التحريمية؛ لأنّ الشبهات التحريمية مهما كثرت أطرافها لا يتعسّر موافقتها القطعية، بخلاف الشبهات الوجوبية حيث يمكن تطبيق هذا الميزان بشكلٍ واضح؛ لأنّه في الشبهات الوجوبية إذا كثرت الأطراف كثرة معتد بها؛ حينئذٍ يمكن افتراض تعسّر الموافقة القطعية في باب الواجبات؛ لأنّ الموافقة القطعية في باب الواجبات تحتاج إلى الفعل، فإذا كانت الأطراف كثيرة جدّاً يمكن فرض تعسّر الموافقة القطعية في باب الواجبات، فإذن: الميزان الثاني يختص بالشبهات الوجوبية تماماً عكس الميزان الثالث؛ لأنّ الميزان الثالث يختص بالشبهات التحريمية ولا يتأتى في الشبهات الوجوبية، حيث في الشبهات التحريمية يمكن فرض التعسّر فيها عندما تكون الأطراف كثيرة؛ لأنّ المخالفة القطعية في باب المحرّمات تحتاج إلى الارتكاب، فإذا كانت الأطراف كثيرة جدّاً لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب الجميع، فتتعسّر عليه المخالفة القطعية، فيمكن تصوّر تحقق الميزان في الشبهات التحريمية، وأمّا في الشبهات الوجوبية لا يمكن فرض هذا الميزان؛ لأنّه في الشبهات الوجوبية المخالفة القطعية في باب الواجبات يكفي فيها مجرّد الترك حتّى لو يعلم بوجوب أمر دائر بين مليون طرفٍ، المخالفة القطعية له سهلة المئونة وهو أن يترك، فلا يمكن تصوّر تعسّر المخالفة القطعية في باب الواجبات، وإنّما يمكن فرض ذلك في باب المحرّمات.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) في هذا الميزان الثالث؛ لأنّه أختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، له كلام في هذا وله اعتراضات نتعرّض لها إن شاء الله تعالى.