35/08/10
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي/ الشبهة غير المحصورة
ما ذكرنا هو أهم الوجوه التي ذُكرت في مقام تحديد الشبهة غير المحصورةفي مقام بيان ما هو الميزان في الشبهة غير المحصورة في مقابل الشبهة المحصورة. أهم الوجوه هي ما ذكرناه.
ولكن الصحيح في هذا الصدد هو أن يقال: من الواضح أنّ عنوان الشبهة غير المحصورة لم يرد في شيء من الأدلّة، ليس هناك نص واحد ذُكر فيه عنوان الشبهة غير المحصورة؛ ولذا لا ضرورة ولا حاجة إلى البحث عن مفهوم هذا العنوان؛ لأنّه لم يرد في شيء من الأدلّة، وإنّما الموجود عندنا هو العلم الإجمالي ومنجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وأيضاً من الأمور الواضحة أنّ هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً في موارد محددّة اتفقوا عليه وسيأتي البحث فيها، أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية في موارد معيّنة، هذا أيضاً لا إشكال فيه من قبيل خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ والعسر والحرج أيضاً، هذه أمور يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجّزية.
الكلام يقع في أنّ كثرة الأطراف بماهي كثرة أطراف من دون أن نضمّ إلى هذه الكثرة سبب سقوط المنجّزية عن العلم الإجمالي، كثرة الأطراف بما هي كثرة أطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقاً، أو بالتفصيل بين حرمة المخالفة القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية، أو أنّها لا توجب سقوطه ؟ الكلام يقع في هذا؛ ولذا لابدّ في محل الكلام أن نستبعد مسألة الوقوع في العسر والحرج، ونستبعد مسألة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف، بقطع النظر عن هذه كلّها كثرة الأطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو لا ؟ علم إجمالي فرغنا عن أنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، هذا عندما تكون الأطراف قليلة، ولكن عندما تكون أطرافه كثيرة هل يبقى على تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يسقط عن هذا التنجيز ؟ الكلام في هذا، سواء سمّيناها شبهة غير محصورة، أو لم نسمّها شبهة غير محصورة، كثرة الأطراف هل هي سبب من أسباب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو لا ؟ وإذا فرغنا عن أنّها سبب من أسباب السقوط؛ حينئذٍ لابدّ أن نبحث عن مقدار الكثرة التي يتحقق بها سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.
وبعبارة ثانية: نستطيع أن نقول: هل هناك دليل يدلّ على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ؟ لأنّه علم إجمالي ولا يمكن إنكار ذلك، أو أنّ المفروض في محل كلامنا هو وجود علم إجمالي بلا إشكال، هل هناك دليل يدلّ على أنّ هذا العلم الإجمالي عندما تكون أطرافه كثيرة يسقط عن المنجّزية، ولا يحكم العقل بتنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يوجد عندنا دليل ؟ الكلام ينبغي أن يقع في هذا؛ ولذا لابدّ أن ندخل في تفاصيل هذا البحث، ما هي الوجوه التي ذُكرت لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز عندما تكون أطرافه كثيرة ؟ لابدّ من استعراض هذه الوجوه، بقطع النظر عن عنوان(الشبهة غير المحصورة) وما هو مفهومه وما هي تحديداته ؟ ولذا نستعرض هذه الوجوه:
الوجه الأوّل: الذي استُدل به على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، بلا أن ندخل في تفاصيل سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يسقطه عن أحدهما فقط، نؤخّر هذا الكلام الآن، بالنتيجة الدليل الأوّل الذي استُدلّ به على أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة عندما تكون أطرافه كثيرة ليس حاله حال العلم الإجمالي عندما تكون أطرافه قليلة، هناك ينجّز ولا إشكال في تنجيزه، بينما هنا يسقط عن التنجيز، وهل سقوطه مطلقاً، أو بالتفصيل ؟ هذه مسألة نؤخّر بحثها. الدليل الأوّل هو الذي تقدّم نقله عن الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، حيث يظهر من كلامه بأنّه ذكر أنّ غير المحصور هو ما بلغ من الكثرة إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل في تلك الوقايع، في عبارة أخرى يحدّد الوجه أكثر ويقول: أنّ كثرة الأطراف توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات.[1] وهذا هو الذي أشرنا إليه في الدرس السابق من أنّه يريد أن يقول أنّ كثرة الأطراف بطبيعة الحال توجب ضعف احتمال التكليف في كلّ طرف، أن يكون احتمال التكليف في هذا الطرف احتمالاً ضعيفاً، وكلّما كثرت الأطراف التي يتردّد المعلوم بالإجمال بينها يضعف الاحتمال في كل طرف، فإذا بلغت الكثرة إلى درجةٍ بحيث أصبح احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف احتمالاً موهوماً لا يعتني به العقلاء؛ حينئذٍ تتحقق الشبهة غير المحصورة ويُحكم بعدم منجّزية ذلك العلم الإجمالي. هو لم يذكر أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف عندما يصير احتمالاً موهوماً، قهراً وبالضرورة يكون احتمال عدم الانطباق على ذاك الطرف يكون واصلاً إلى درجة الاطمئنان، وهذا الاطمئنان اطمئناناً معتبراً وحجّة ومؤمّن عند العقلاء، وبضميمة عدم الردع يثبت أنّه مؤمّن شرعي.
إذن: هذا الطرف عندما يأتي إليه المكلّف لديه اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وهذا الاطمئنان مؤمّن عقلاً وشرعاً، فبإمكانه أن يُقدِم ويرتكب ذلك الطرف.
هذا الطرح للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وتخريج جواز الارتكاب وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية على الأقل بمقدار وجوب الموافقة القطعية، سقوط العلم الإجمالي عن تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية يتم على اساس أنّ احتمال التكليف في كل طرف يكون موهوماً، فيحصل الاطمئنان بعدمه والاطمئنان حجّة. هناك عدّة اعتراضات على هذا الوجه:
الاعتراض الأوّل: وهذا الاعتراض مذكور في كلمات كثير من المحققين؛ لأنّهم اهتموا بهذا الوجه الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه)، حاصل هذا الاعتراض: قالوا بأنّ الاطمئنان إنّما يكون حجّة في غير المقام، الاطمئنان يكون حجّة في الأغراض الدنيوية التي لا يكون هناك أهمية خاصّة للمحتمل فيها، المحتمل في تلك الموارد ليس له أهمية خاصّة؛ فحينئذٍ قالوا: إذا حصل اطمئنان بالعدم، هذا الاطمئنان يكون معتبراً وحجّة عند العقلاء ويعملون به. أمّا إذا فرضنا أنّ المحتمل في تلك الموارد كان على درجة من الأهمّية، نعم، احتماله ضعيف وعلى خلافه الاطمئنان، لكنّ المحتمل قوي وله درجة من الأهمية، في هذه الحالة لا نعترف بأنّ هناك بناءً على العمل بالاطمئنان عندما يكون المحتمل مهمّاً من قبيل الدماء، حتّى لو كان الاحتمال ضعيفاً، لكن هذا لا يبررّ الإقدام عندما يكون المحتمل مهمّاً وقوياً، ليس هناك بناء على العمل بالاطمئنان حتّى في هكذا موارد، الموارد الأخرى من الأغراض الدنيوية يمكن البناء على الاطمئنان؛ لأنّ المحتمل ليس له تلك الدرجة من الأهمّية؛ حينئذٍ يقال: في محل الكلام المحتمل هو العقاب والضرر الأخروي، بالنتيجة هو يعتمد على اطمئنانه بعدم الانطباق على هذا الطرف في إقدامه على ارتكاب هذا الطرف والإتيان به، لكن يوجد احتمال ولو كان ضعيفاً، بأنّ التكليف موجود في هذا الطرف، وهذا التكليف الموجود في هذا الطرف مع العلم به، ولو إجمالاً يترتب عليه ضرر أخروي، فالمحتمل هو المخالفة التي فيها ضرر أخروي، مثل هذا المحتمل الذي له درجة كبيرة من الأهمّية ولا يكون الاطمئنان مسوّغاً للوقوع فيه؛ بل في هذه الحالة الاطمئنان لا يكون مورداً للعمل؛ بل العقلاء يعتنون بالاحتمال الضعيف إذا كان المحتمل قوياً. ما نحن فيه المحتمل هو العقاب، وهذا له أهميّة كما هو واضح، وليس حاله حال المنافع الشخصية والدنيوية، فالاحتمال ولو كان ضعيفاً، ولو على خلافه الاطمئنان، لكن ما دام المحتمل مهمّاً وقوياً، فلا بناء على العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بهذا الاحتمال ولو كان ضعيفاً، وبحسب تعبير السيّد الخوئي(قدّس سرّه) يقول: أنّ احتمال التكليف حتّى إذا كان ضئيلاً، لوجود الاطمئنان على عدمه في هذا الطرف، هو يساوق احتمال العقاب[2] كما هو الحال في كل احتمال تكليف، احتمال التكليف يعني احتمال العقاب على المخالفة. إذن: احتمال التكليف ولو كان ضعيفاً يعني احتمال العقاب بتلك الدرجة من الضعف، هذا العقاب له أهمّية خاصّة، وليس هناك بناء على العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف للعقاب؛ لأنّ العقاب هو الملاك في تنجّز التكليف ما لم يحصل مؤمّن ولو كان هذا الاحتمال احتمالاً ضعيفاً.
ويُجاب عن هذا الاعتراض: بأنّ هذا الاعتراض إنّما يرد على الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّ مقصوده بهذا الوجه هو التمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب، عندما يريد أن يصل إلى النتيجة، وهي تسويغ الإقدام على هذا الطرف والأطراف الأخرى تمسّكاً بالاطمئنان بعدم العقاب، بدعوى أنّ احتمال التكليف في هذا الطرف لمّا كان ضعيفاً وموهوماً، فيحصل اطمئنان بعدم التكليف في هذا الطرف، والاطمئنان بعدم التكليف في هذا الطرف يساوق الاطمئنان بعدم العقاب، فيتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب للإقدام على هذا الطرف. لو كان هذا هو مقصوده؛ فحينئذٍ يمكن أن يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّه يقال له: حتّى لو فرضنا وجود اطمئنان بعدم العقاب، لكن احتمال العقاب موجود بدرجةٍ ضئيلة، فيقال حينئذٍ: حتّى لو كان احتمال العقاب ضعيفاً، لكنّ المحتمل الذي هو العقاب مهم، وله درجة من الأهمّية، فحتّى لو كان احتماله ضعيفاً لكنّه ممّا يعتني به العقلاء، فكيف تتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب لتسويغ وتجويز الدخول في هذه الشبهة ؟
وأمّا إذا فرضنا أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ليس هذا مقصوده، وإنّما هو يريد أن يقول بأنّ احتمال التكليف في هذا الطرف لمّا كان موهوماً وضعيفاً قهراً يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، وأنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق مؤمّن عند العقلاء وبعدم الردع يكون مؤمّناً شرعياً؛ وحينئذٍ نقطع بعدم العقاب، مع وجود المؤمّن العقلي والشرعي يقطع المكلّف بعدم العقاب؛ وحينئذٍ لا يوجد احتمال العقاب احتمالاً ضعيفاً، فيرِد الكلام السابق من أنّه كيف تلغي الاحتمال الضعيف للعقاب ولا تعتني به وتعتمد على الاطمئنان بعدم العقاب ؟! ولكن، هو لا يعتمد على الاطمئنان بعدم العقاب ولا يعتني باحتمال العقاب الضعيف، وإنّما هو يريد أن يصل إلى نتيجة القطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ الاطمئنان حجّة ومؤمّن ومعتبر، ومع وجود المؤمّن؛ حينئذٍ يُقطع بعدم العقاب؛ فحينئذٍ لا يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّه لا يريد أن يتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب حتّى يقال مادام هناك درجة ولو ضعيفة من العقاب، هذا الاحتمال ولو كان ضعيفاً يكون منجّزاً؛ لأنّ المحتمل مهم، وإنّما يريد أن يتمسّك بالنتيجة بالقطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ هناك اطمئناناً بعدم التكليف، والتكليف موهوم في هذا الطرف وهناك اطمئنان بعدمه، العقلاء بنوا على هذا الاطمئنان وجعلوه مؤمّناً كالعلم بعدم التكليف، وهذا معناه حصول القطع بعدم العقاب، ومع وجود المؤمّن يحصل القطع بعدم العقاب، ومن هنا، فالظاهر أنّ الاعتراض الأوّل لا يرد على الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) إذا فسّرنا كلامه بهذا التفسير الأخير.
الاعتراض الثاني: وهذا الاعتراض موجود أيضاً في كلمات كثير من المحققين وينقله المرحوم الشيخ الحلّي(قدّس سرّه)، عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) في تقريرات بحثه، ويقول أنا كتبت عنه هذا المعنى، وإن كان الظاهر أنّه غير موجود في أجود التقريرات ولا في فوائد الأصول، وموجود أيضاً في درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري(قدّس سرّه)،[3] حاصل هذا الجواب هو المنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف؛ إذ لا يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف، كان التخريج لكلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) هو أنّ احتمال التكليف في كل طرفٍ يكون موهوماً، فيحصل اطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف، وهذا الاطمئنان معتبر وحجّة........الخ. الاعتراض الثاني يقول: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف؛ بل وجود الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف محال، أصلاً يستحيل افتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف من أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ الأطراف ــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ كلّها متساوية في هذا الاطمئنان وليس هناك شيء يميّز هذا الطرف عن ذاك الطرف؛ لأنّ في هذا الطرف يوجد اطمئنان بعدم الانطباق فيه، وفي ذاك الطرف أيضاً يوجد اطمئنان بعدم الانطباق فيه، فالأطراف متساوية في أنّها تستحق هذا الانطباق؛ حينئذٍ إذا فرضنا وجود اطمئنانات متعدّدة بعدم الانطباق بعدد أطراف العلم الإجمالي الكثيرة؛ حينئذٍ هذا محال؛ لأنّ هذه الاطمئنانات الفعلية بعدم الانطباق في جميع أطراف العلم الإجمالي تكون مناقضة ومنافية للعلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ إذ كيف يمكن الجمع بين اطمئنانات متعددّة بعدد أطراف العلم الإجمالي بعدم الانطباق ؟! هذا الطرف هناك اطمئنان بعدم الانطباق فيه، وذاك الطرف أيضاً ......وهكذا كلّ الأطراف، إذن: أين صار العلم الإجمالي بالانطباق ؟! أين صار العلم الإجمالي بوجود التكليف، والعلم الإجمالي بوجود الحرام، أو النجاسة في هذه الأطراف ؟! الاطمئنانات المتعدّدة بعدم الانطباق إذا كانت موجودة في جميع الأطراف، فأنّها تناقض العلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لوضوح المناقضة والمنافاة بين الموجبة الجزئية وبين السالبة الكلّية، فالموجبة الجزئية الحاصلة بالعلم الإجمالي، وهي أننا نعلم بالانطباق في الجملة، على بعض الأطراف، تنافي وتناقض السالبة الكلّية الحاصلة نتيجة تجميع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق في جميع الأطراف؛ لأنّ معنى تجميع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق في جميع الأطراف أن نحصل على هذه النتيجة: وهي عدم الانطباق في هذه الأطراف، أو قل: هناك اطمئنان بعدم الانطباق في جميع الأطراف، وهذا يناقض العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لأنّ السالبة الكلية تنافي وتناقض الموجبة الجزئية، وحتّى لو فرضنا أنّ الحاصل هو الظنّ بعدم الانطباق وليس الاطمئنان به، مع ذلك هو أيضاً لا يجتمع مع الانطباق بنحو الموجبة الجزئية، من غير الممكن أن يظنّ المكلّف بعدم الانطباق في جميع هذه الأطراف مع علمه بالانطباق بنحو الموجبة الجزئية؛ بل حتّى احتمال عدم الانطباق في جميع الأطراف أيضاً يناقض العلم بالانطباق في الجملة، كيف تعلم بالانطباق في الجملة وفي كل طرف أنت تحتمل عدم الانطباق ؟! فالسالبة الكلّية لا تجتمع مع الموجبة الجزئية، سواء كان هناك اطمئنان بالسالبة الكلّية، أو كان هناك ظنّ بالسالبة الكلّية، أو كان هناك احتمال السالبة الكلّية، كلّ ذلك لا يجتمع مع الموجبة الجزئية، فكيف تقول أنّ هناك اطمئنان في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي بعدم الانطباق ؟!
إذن: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي .
وأجيب عن هذا الاعتراض بالنقض بأمرين:
الأمر الأوّل: مذكور في كلمات السيّد الشهيد(قدّس سرّه)[4] وهو النقض بالشك في الأطراف، يعني الشكّ في الانطباق وعدمه في كل طرف، وهذا موجود قهراً، فعلى الأقل المكلّف يشكّ في أنّ المعلوم بالإجمال ينطبق على هذا الطرف، أو لا ينطبق، وكذلك في الطرف الثاني أيضاً يوجد شكّ في الانطباق وعدمه، ولنعبّر عن الشك بالاحتمال، يقول: احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف، واحتمال عدم الانطباق في الطرف الثاني، واحتمال عدم الانطباق في الطرف الثالث ......وهكذا جميع الأطراف، هذا أيضاً لا يجتمع مع العلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لما قلناه قبل قليل من أنّ الموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلّية، سواء كان هناك اطمئنان بالسالبة الكلّية، أو ظنّ بها، أو احتمالها؛ إذ لا يجوز الشكّ في الانطباق وعدمه في جميع الأطراف مع العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف، يقول: هذا نقض؛ لأنّ هذا الشيء موجود في كل العلوم الإجمالية، بالنتيجة في كل علمٍ إجمالي لابدّ أن يكون هناك شكّ في هذا الطرف، على الأقل هناك شك في هذا الطرف، ولا يمكن إنكار هذا، فحتّى لو فرضنا عدم وجود اطمئنان، لكن ماذا تقول في الشكّ ؟ لا يمكن إنكار أنّ هناك شكّاً في الانطباق وعدمه في كل طرف، شكّ في ثبوت التكليف في هذا الطرف وعدم ثبوته، بحيث المكلّف يحتمل عدم الانطباق وفي الثاني يحتمل عدم الانطباق، وفي الثالث أيضاً يحتمل عدم الانطباق .....وهكذا في كل الأطراف الألف، مجموع هذه الاحتمالات الألف سوف يؤدي إلى احتمال عدم الانطباق في جميع الأطراف، فالمكلّف يحتمل عدم الانطباق في جميع هذه الأطراف، أو قل: يشكّ في الانطباق في جميع هذه الأطراف، هذا أيضاً لا يُعقل أن يجتمع مع الموجبة الجزئية، لا يُعقل أن يجتمع مع العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف، فما يكون به الجواب عن هذا يكون به الجواب عن محل الكلام.
الأمر الثاني: ولعلّه يمكن إرجاعه إلى النقض الأوّل، وهو النقض بالشبهة المحصورة، في الشبهة المحصورة هناك طرفان، إذا لم نفترض عوامل خاصّة، قهراً سوف يكون هناك شكّ في هذا الطرف في انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وفي الطرف الثاني أيضاً يوجد شك، فإذن: احتمال عدم الانطباق موجود في هذا الطرف، وموجود في الطرف الثاني أيضاً. إذا كان مجموع الاحتمالين يؤدّيان إلى احتمال عدم الانطباق في الجميع، كما هو المُدّعى، بحيث يصبح المكلّف يحتمل عدم الانطباق في الطرفين هذا أيضاً ينافي العلم الإجمالي بالانطباق في أحدهما، وهذا ليس شيئاً مختصاً بالشبهات غير المحصورة.
ما ذكرنا هو أهم الوجوه التي ذُكرت في مقام تحديد الشبهة غير المحصورةفي مقام بيان ما هو الميزان في الشبهة غير المحصورة في مقابل الشبهة المحصورة. أهم الوجوه هي ما ذكرناه.
ولكن الصحيح في هذا الصدد هو أن يقال: من الواضح أنّ عنوان الشبهة غير المحصورة لم يرد في شيء من الأدلّة، ليس هناك نص واحد ذُكر فيه عنوان الشبهة غير المحصورة؛ ولذا لا ضرورة ولا حاجة إلى البحث عن مفهوم هذا العنوان؛ لأنّه لم يرد في شيء من الأدلّة، وإنّما الموجود عندنا هو العلم الإجمالي ومنجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وأيضاً من الأمور الواضحة أنّ هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً في موارد محددّة اتفقوا عليه وسيأتي البحث فيها، أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية في موارد معيّنة، هذا أيضاً لا إشكال فيه من قبيل خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ والعسر والحرج أيضاً، هذه أمور يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجّزية.
الكلام يقع في أنّ كثرة الأطراف بماهي كثرة أطراف من دون أن نضمّ إلى هذه الكثرة سبب سقوط المنجّزية عن العلم الإجمالي، كثرة الأطراف بما هي كثرة أطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقاً، أو بالتفصيل بين حرمة المخالفة القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية، أو أنّها لا توجب سقوطه ؟ الكلام يقع في هذا؛ ولذا لابدّ في محل الكلام أن نستبعد مسألة الوقوع في العسر والحرج، ونستبعد مسألة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف، بقطع النظر عن هذه كلّها كثرة الأطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو لا ؟ علم إجمالي فرغنا عن أنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، هذا عندما تكون الأطراف قليلة، ولكن عندما تكون أطرافه كثيرة هل يبقى على تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يسقط عن هذا التنجيز ؟ الكلام في هذا، سواء سمّيناها شبهة غير محصورة، أو لم نسمّها شبهة غير محصورة، كثرة الأطراف هل هي سبب من أسباب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو لا ؟ وإذا فرغنا عن أنّها سبب من أسباب السقوط؛ حينئذٍ لابدّ أن نبحث عن مقدار الكثرة التي يتحقق بها سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.
وبعبارة ثانية: نستطيع أن نقول: هل هناك دليل يدلّ على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ؟ لأنّه علم إجمالي ولا يمكن إنكار ذلك، أو أنّ المفروض في محل كلامنا هو وجود علم إجمالي بلا إشكال، هل هناك دليل يدلّ على أنّ هذا العلم الإجمالي عندما تكون أطرافه كثيرة يسقط عن المنجّزية، ولا يحكم العقل بتنجيزه لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يوجد عندنا دليل ؟ الكلام ينبغي أن يقع في هذا؛ ولذا لابدّ أن ندخل في تفاصيل هذا البحث، ما هي الوجوه التي ذُكرت لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز عندما تكون أطرافه كثيرة ؟ لابدّ من استعراض هذه الوجوه، بقطع النظر عن عنوان(الشبهة غير المحصورة) وما هو مفهومه وما هي تحديداته ؟ ولذا نستعرض هذه الوجوه:
الوجه الأوّل: الذي استُدل به على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، بلا أن ندخل في تفاصيل سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، أو يسقطه عن أحدهما فقط، نؤخّر هذا الكلام الآن، بالنتيجة الدليل الأوّل الذي استُدلّ به على أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة عندما تكون أطرافه كثيرة ليس حاله حال العلم الإجمالي عندما تكون أطرافه قليلة، هناك ينجّز ولا إشكال في تنجيزه، بينما هنا يسقط عن التنجيز، وهل سقوطه مطلقاً، أو بالتفصيل ؟ هذه مسألة نؤخّر بحثها. الدليل الأوّل هو الذي تقدّم نقله عن الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، حيث يظهر من كلامه بأنّه ذكر أنّ غير المحصور هو ما بلغ من الكثرة إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل في تلك الوقايع، في عبارة أخرى يحدّد الوجه أكثر ويقول: أنّ كثرة الأطراف توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات.[1] وهذا هو الذي أشرنا إليه في الدرس السابق من أنّه يريد أن يقول أنّ كثرة الأطراف بطبيعة الحال توجب ضعف احتمال التكليف في كلّ طرف، أن يكون احتمال التكليف في هذا الطرف احتمالاً ضعيفاً، وكلّما كثرت الأطراف التي يتردّد المعلوم بالإجمال بينها يضعف الاحتمال في كل طرف، فإذا بلغت الكثرة إلى درجةٍ بحيث أصبح احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف احتمالاً موهوماً لا يعتني به العقلاء؛ حينئذٍ تتحقق الشبهة غير المحصورة ويُحكم بعدم منجّزية ذلك العلم الإجمالي. هو لم يذكر أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف عندما يصير احتمالاً موهوماً، قهراً وبالضرورة يكون احتمال عدم الانطباق على ذاك الطرف يكون واصلاً إلى درجة الاطمئنان، وهذا الاطمئنان اطمئناناً معتبراً وحجّة ومؤمّن عند العقلاء، وبضميمة عدم الردع يثبت أنّه مؤمّن شرعي.
إذن: هذا الطرف عندما يأتي إليه المكلّف لديه اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وهذا الاطمئنان مؤمّن عقلاً وشرعاً، فبإمكانه أن يُقدِم ويرتكب ذلك الطرف.
هذا الطرح للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وتخريج جواز الارتكاب وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية على الأقل بمقدار وجوب الموافقة القطعية، سقوط العلم الإجمالي عن تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية يتم على اساس أنّ احتمال التكليف في كل طرف يكون موهوماً، فيحصل الاطمئنان بعدمه والاطمئنان حجّة. هناك عدّة اعتراضات على هذا الوجه:
الاعتراض الأوّل: وهذا الاعتراض مذكور في كلمات كثير من المحققين؛ لأنّهم اهتموا بهذا الوجه الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه)، حاصل هذا الاعتراض: قالوا بأنّ الاطمئنان إنّما يكون حجّة في غير المقام، الاطمئنان يكون حجّة في الأغراض الدنيوية التي لا يكون هناك أهمية خاصّة للمحتمل فيها، المحتمل في تلك الموارد ليس له أهمية خاصّة؛ فحينئذٍ قالوا: إذا حصل اطمئنان بالعدم، هذا الاطمئنان يكون معتبراً وحجّة عند العقلاء ويعملون به. أمّا إذا فرضنا أنّ المحتمل في تلك الموارد كان على درجة من الأهمّية، نعم، احتماله ضعيف وعلى خلافه الاطمئنان، لكنّ المحتمل قوي وله درجة من الأهمية، في هذه الحالة لا نعترف بأنّ هناك بناءً على العمل بالاطمئنان عندما يكون المحتمل مهمّاً من قبيل الدماء، حتّى لو كان الاحتمال ضعيفاً، لكن هذا لا يبررّ الإقدام عندما يكون المحتمل مهمّاً وقوياً، ليس هناك بناء على العمل بالاطمئنان حتّى في هكذا موارد، الموارد الأخرى من الأغراض الدنيوية يمكن البناء على الاطمئنان؛ لأنّ المحتمل ليس له تلك الدرجة من الأهمّية؛ حينئذٍ يقال: في محل الكلام المحتمل هو العقاب والضرر الأخروي، بالنتيجة هو يعتمد على اطمئنانه بعدم الانطباق على هذا الطرف في إقدامه على ارتكاب هذا الطرف والإتيان به، لكن يوجد احتمال ولو كان ضعيفاً، بأنّ التكليف موجود في هذا الطرف، وهذا التكليف الموجود في هذا الطرف مع العلم به، ولو إجمالاً يترتب عليه ضرر أخروي، فالمحتمل هو المخالفة التي فيها ضرر أخروي، مثل هذا المحتمل الذي له درجة كبيرة من الأهمّية ولا يكون الاطمئنان مسوّغاً للوقوع فيه؛ بل في هذه الحالة الاطمئنان لا يكون مورداً للعمل؛ بل العقلاء يعتنون بالاحتمال الضعيف إذا كان المحتمل قوياً. ما نحن فيه المحتمل هو العقاب، وهذا له أهميّة كما هو واضح، وليس حاله حال المنافع الشخصية والدنيوية، فالاحتمال ولو كان ضعيفاً، ولو على خلافه الاطمئنان، لكن ما دام المحتمل مهمّاً وقوياً، فلا بناء على العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بهذا الاحتمال ولو كان ضعيفاً، وبحسب تعبير السيّد الخوئي(قدّس سرّه) يقول: أنّ احتمال التكليف حتّى إذا كان ضئيلاً، لوجود الاطمئنان على عدمه في هذا الطرف، هو يساوق احتمال العقاب[2] كما هو الحال في كل احتمال تكليف، احتمال التكليف يعني احتمال العقاب على المخالفة. إذن: احتمال التكليف ولو كان ضعيفاً يعني احتمال العقاب بتلك الدرجة من الضعف، هذا العقاب له أهمّية خاصّة، وليس هناك بناء على العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف للعقاب؛ لأنّ العقاب هو الملاك في تنجّز التكليف ما لم يحصل مؤمّن ولو كان هذا الاحتمال احتمالاً ضعيفاً.
ويُجاب عن هذا الاعتراض: بأنّ هذا الاعتراض إنّما يرد على الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّ مقصوده بهذا الوجه هو التمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب، عندما يريد أن يصل إلى النتيجة، وهي تسويغ الإقدام على هذا الطرف والأطراف الأخرى تمسّكاً بالاطمئنان بعدم العقاب، بدعوى أنّ احتمال التكليف في هذا الطرف لمّا كان ضعيفاً وموهوماً، فيحصل اطمئنان بعدم التكليف في هذا الطرف، والاطمئنان بعدم التكليف في هذا الطرف يساوق الاطمئنان بعدم العقاب، فيتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب للإقدام على هذا الطرف. لو كان هذا هو مقصوده؛ فحينئذٍ يمكن أن يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّه يقال له: حتّى لو فرضنا وجود اطمئنان بعدم العقاب، لكن احتمال العقاب موجود بدرجةٍ ضئيلة، فيقال حينئذٍ: حتّى لو كان احتمال العقاب ضعيفاً، لكنّ المحتمل الذي هو العقاب مهم، وله درجة من الأهمّية، فحتّى لو كان احتماله ضعيفاً لكنّه ممّا يعتني به العقلاء، فكيف تتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب لتسويغ وتجويز الدخول في هذه الشبهة ؟
وأمّا إذا فرضنا أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ليس هذا مقصوده، وإنّما هو يريد أن يقول بأنّ احتمال التكليف في هذا الطرف لمّا كان موهوماً وضعيفاً قهراً يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، وأنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق مؤمّن عند العقلاء وبعدم الردع يكون مؤمّناً شرعياً؛ وحينئذٍ نقطع بعدم العقاب، مع وجود المؤمّن العقلي والشرعي يقطع المكلّف بعدم العقاب؛ وحينئذٍ لا يوجد احتمال العقاب احتمالاً ضعيفاً، فيرِد الكلام السابق من أنّه كيف تلغي الاحتمال الضعيف للعقاب ولا تعتني به وتعتمد على الاطمئنان بعدم العقاب ؟! ولكن، هو لا يعتمد على الاطمئنان بعدم العقاب ولا يعتني باحتمال العقاب الضعيف، وإنّما هو يريد أن يصل إلى نتيجة القطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ الاطمئنان حجّة ومؤمّن ومعتبر، ومع وجود المؤمّن؛ حينئذٍ يُقطع بعدم العقاب؛ فحينئذٍ لا يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّه لا يريد أن يتمسّك بالاطمئنان بعدم العقاب حتّى يقال مادام هناك درجة ولو ضعيفة من العقاب، هذا الاحتمال ولو كان ضعيفاً يكون منجّزاً؛ لأنّ المحتمل مهم، وإنّما يريد أن يتمسّك بالنتيجة بالقطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ هناك اطمئناناً بعدم التكليف، والتكليف موهوم في هذا الطرف وهناك اطمئنان بعدمه، العقلاء بنوا على هذا الاطمئنان وجعلوه مؤمّناً كالعلم بعدم التكليف، وهذا معناه حصول القطع بعدم العقاب، ومع وجود المؤمّن يحصل القطع بعدم العقاب، ومن هنا، فالظاهر أنّ الاعتراض الأوّل لا يرد على الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) إذا فسّرنا كلامه بهذا التفسير الأخير.
الاعتراض الثاني: وهذا الاعتراض موجود أيضاً في كلمات كثير من المحققين وينقله المرحوم الشيخ الحلّي(قدّس سرّه)، عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) في تقريرات بحثه، ويقول أنا كتبت عنه هذا المعنى، وإن كان الظاهر أنّه غير موجود في أجود التقريرات ولا في فوائد الأصول، وموجود أيضاً في درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري(قدّس سرّه)،[3] حاصل هذا الجواب هو المنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف؛ إذ لا يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف، كان التخريج لكلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) هو أنّ احتمال التكليف في كل طرفٍ يكون موهوماً، فيحصل اطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف، وهذا الاطمئنان معتبر وحجّة........الخ. الاعتراض الثاني يقول: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف؛ بل وجود الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف محال، أصلاً يستحيل افتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق على كل طرف من أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ الأطراف ــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ كلّها متساوية في هذا الاطمئنان وليس هناك شيء يميّز هذا الطرف عن ذاك الطرف؛ لأنّ في هذا الطرف يوجد اطمئنان بعدم الانطباق فيه، وفي ذاك الطرف أيضاً يوجد اطمئنان بعدم الانطباق فيه، فالأطراف متساوية في أنّها تستحق هذا الانطباق؛ حينئذٍ إذا فرضنا وجود اطمئنانات متعدّدة بعدم الانطباق بعدد أطراف العلم الإجمالي الكثيرة؛ حينئذٍ هذا محال؛ لأنّ هذه الاطمئنانات الفعلية بعدم الانطباق في جميع أطراف العلم الإجمالي تكون مناقضة ومنافية للعلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ إذ كيف يمكن الجمع بين اطمئنانات متعددّة بعدد أطراف العلم الإجمالي بعدم الانطباق ؟! هذا الطرف هناك اطمئنان بعدم الانطباق فيه، وذاك الطرف أيضاً ......وهكذا كلّ الأطراف، إذن: أين صار العلم الإجمالي بالانطباق ؟! أين صار العلم الإجمالي بوجود التكليف، والعلم الإجمالي بوجود الحرام، أو النجاسة في هذه الأطراف ؟! الاطمئنانات المتعدّدة بعدم الانطباق إذا كانت موجودة في جميع الأطراف، فأنّها تناقض العلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لوضوح المناقضة والمنافاة بين الموجبة الجزئية وبين السالبة الكلّية، فالموجبة الجزئية الحاصلة بالعلم الإجمالي، وهي أننا نعلم بالانطباق في الجملة، على بعض الأطراف، تنافي وتناقض السالبة الكلّية الحاصلة نتيجة تجميع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق في جميع الأطراف؛ لأنّ معنى تجميع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق في جميع الأطراف أن نحصل على هذه النتيجة: وهي عدم الانطباق في هذه الأطراف، أو قل: هناك اطمئنان بعدم الانطباق في جميع الأطراف، وهذا يناقض العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لأنّ السالبة الكلية تنافي وتناقض الموجبة الجزئية، وحتّى لو فرضنا أنّ الحاصل هو الظنّ بعدم الانطباق وليس الاطمئنان به، مع ذلك هو أيضاً لا يجتمع مع الانطباق بنحو الموجبة الجزئية، من غير الممكن أن يظنّ المكلّف بعدم الانطباق في جميع هذه الأطراف مع علمه بالانطباق بنحو الموجبة الجزئية؛ بل حتّى احتمال عدم الانطباق في جميع الأطراف أيضاً يناقض العلم بالانطباق في الجملة، كيف تعلم بالانطباق في الجملة وفي كل طرف أنت تحتمل عدم الانطباق ؟! فالسالبة الكلّية لا تجتمع مع الموجبة الجزئية، سواء كان هناك اطمئنان بالسالبة الكلّية، أو كان هناك ظنّ بالسالبة الكلّية، أو كان هناك احتمال السالبة الكلّية، كلّ ذلك لا يجتمع مع الموجبة الجزئية، فكيف تقول أنّ هناك اطمئنان في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي بعدم الانطباق ؟!
إذن: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي .
وأجيب عن هذا الاعتراض بالنقض بأمرين:
الأمر الأوّل: مذكور في كلمات السيّد الشهيد(قدّس سرّه)[4] وهو النقض بالشك في الأطراف، يعني الشكّ في الانطباق وعدمه في كل طرف، وهذا موجود قهراً، فعلى الأقل المكلّف يشكّ في أنّ المعلوم بالإجمال ينطبق على هذا الطرف، أو لا ينطبق، وكذلك في الطرف الثاني أيضاً يوجد شكّ في الانطباق وعدمه، ولنعبّر عن الشك بالاحتمال، يقول: احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف، واحتمال عدم الانطباق في الطرف الثاني، واحتمال عدم الانطباق في الطرف الثالث ......وهكذا جميع الأطراف، هذا أيضاً لا يجتمع مع العلم الإجمالي بالانطباق في بعض هذه الأطراف؛ لما قلناه قبل قليل من أنّ الموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلّية، سواء كان هناك اطمئنان بالسالبة الكلّية، أو ظنّ بها، أو احتمالها؛ إذ لا يجوز الشكّ في الانطباق وعدمه في جميع الأطراف مع العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف، يقول: هذا نقض؛ لأنّ هذا الشيء موجود في كل العلوم الإجمالية، بالنتيجة في كل علمٍ إجمالي لابدّ أن يكون هناك شكّ في هذا الطرف، على الأقل هناك شك في هذا الطرف، ولا يمكن إنكار هذا، فحتّى لو فرضنا عدم وجود اطمئنان، لكن ماذا تقول في الشكّ ؟ لا يمكن إنكار أنّ هناك شكّاً في الانطباق وعدمه في كل طرف، شكّ في ثبوت التكليف في هذا الطرف وعدم ثبوته، بحيث المكلّف يحتمل عدم الانطباق وفي الثاني يحتمل عدم الانطباق، وفي الثالث أيضاً يحتمل عدم الانطباق .....وهكذا في كل الأطراف الألف، مجموع هذه الاحتمالات الألف سوف يؤدي إلى احتمال عدم الانطباق في جميع الأطراف، فالمكلّف يحتمل عدم الانطباق في جميع هذه الأطراف، أو قل: يشكّ في الانطباق في جميع هذه الأطراف، هذا أيضاً لا يُعقل أن يجتمع مع الموجبة الجزئية، لا يُعقل أن يجتمع مع العلم بالانطباق في بعض هذه الأطراف، فما يكون به الجواب عن هذا يكون به الجواب عن محل الكلام.
الأمر الثاني: ولعلّه يمكن إرجاعه إلى النقض الأوّل، وهو النقض بالشبهة المحصورة، في الشبهة المحصورة هناك طرفان، إذا لم نفترض عوامل خاصّة، قهراً سوف يكون هناك شكّ في هذا الطرف في انطباق المعلوم بالإجمال عليه، وفي الطرف الثاني أيضاً يوجد شك، فإذن: احتمال عدم الانطباق موجود في هذا الطرف، وموجود في الطرف الثاني أيضاً. إذا كان مجموع الاحتمالين يؤدّيان إلى احتمال عدم الانطباق في الجميع، كما هو المُدّعى، بحيث يصبح المكلّف يحتمل عدم الانطباق في الطرفين هذا أيضاً ينافي العلم الإجمالي بالانطباق في أحدهما، وهذا ليس شيئاً مختصاً بالشبهات غير المحصورة.