1440/03/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أقسام الصوم المحظور/صوم العيدين

 

(كان كلامنا في المقام الثالث وهو ما يستدل به على الحرمة الذاتية، وإنتهينا من الدليل الثاني)

 

الدليل الثالث: - وهو العمدة في المقام – هو وجود روايات تدل على أن الحرمة ذاتية، وعلى أساسها ذهب جملة من الفقهاء إلى القول بها.

 

الرواية الأولى: التي هي من أهمها، بل أدعي أنها صريحة في الحرمة الذاتية[1] ، هي صحيحة خلف و قد نقل صاحب الوسائل جزءاً منها[2] ، لكن بما أن الإستدلال بها يتوقف على بعض الفقرات التي لم يذكرها صاحب الوسائل فننقلها من الكافي[3] الذي هو المصدر الأصلي لها. والرواية هي:

 

"قال خلف بن حماد الكوفي: تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً[4] لم تطمث، فلما اقتضها سال الدم، فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام. قال: فأروها القوابل ومن ظنوا أنه يبصر ذلك من النساء، فاختلفن، فقال: بعض هذا من دم الحيض، وقال بعض: هو من دم العذرة. فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا: هذا شيء قد أشكل، والصلاة فريضة واجبة، فلتتوضأ ولتصل وليمسك عنها زوجها حتى ترى البياض[5] ، فإن كان دم الحيض لم يضرها الصلاة، وإن كان دم العذرة كانت قد أدت الفرض. ففعلت الجارية ذلك. وحججت في تلك السنة، فلما صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت: جعلت فداك، إن لنا مسألة، قد ضقنا بها ذرعاً، فإن رأيت أن تأذن لي فأتيك وأسألك عنها؟ فبعث إليّ: إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فأقبل إن شاء الله. قال خلف: فرأيت الليل حتى إذا رأيت الناس قد قل اختلافهم بمنى توجهت إلي مضربه، فلما كنت قريباً إذا أنا بأسود قاعد على الطريق فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من الحاج فقال: ما اسمك؟ قلت: خلف بن حماد. قال: ادخل بغير إذن، فقد أمرني أن أقعد ههنا فإذا أتيت أذنت لك، فدخلت وسلمت فرد السلام وهو جالس على فراشه وحده ما في الفسطاط غيره، فلما صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله، فقلت له: إن رجلاً من مواليك تزوج جارية معصراً لم تطمث، فلما اقتضها سال الدم، فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام، وإن القوابل اختلفن في ذلك، فقال: بعضهن: دم الحيض، وقال بعضهن: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: فلتتق الله، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها، وإن كان من العذرة فلتتق الله ولتتوضأ ولتصل ويأتيها بعلها إن أحب ذلك. فقلت له: وكيف لهم أن يعلموا ممّا هو حتى يفعلوا ما ينبغي؟ قال: فالتفت يميناً وشمالاً في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد، قال: ثم نهد[6] إليّ فقال: يا خلف، سر الله سر الله فلا تذيعوه، ولا تعلموا هذا الخلق أصول دين الله، بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلالٍ، قال: ثم عقد بيده اليسرى تسعين[7] ، ثم قال: تستدخل القطنة ثم تدعها ملياً، ثم تخرجها إخراجاً رقيقاً، فإن كان الدم مطوقاً في القطنة فهو من العذرة، وإن كان مستنقعاً في القطنة فهو من الحيض، قال خلف: فاستحفني الفرح فبكيت، فلما سكن بكائي قال: ما أبكاك؟ قلت: جعلت فداك، من كان يحسن هذا غيرك؟ قال: فرفع يده إلى السماء وقال: والله إني ما أخبرك إلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله عزّوجلّ."

 

هذه الرواية تامة سنداً، حيث رواها الشيخ الكليني بثلاث طرق، الأولان منها معتبران بناءاً على وثاقة (محمد بن خالد البرقي) وهو الصحيح، وقد أشار إليهما بقوله: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا[8] ، عن أحمد بن محمد بن خالد جميعاً، عن محمد بن خالد، عن خلف بن حماد). أما الثالث ضعيف ب(محمد بن أسلم) إذ لم تثبت وثاقته، وأشار إليه بقوله: (ورواه أحمد[9] أيضاً، عن محمد بن أسلم، عن خلف بن حماد الكوفي).

 

والإستدلال بها على الحرمة الذاتية يكون بتقريبين:-

 

التقريب الأول: صلاة هذه الجارية لو كانت مشروعة - لإحتمال أن يكون الدم دم العذرة فيحتمل وجوبها - لما جعل الإمام (عليه السلام) تركها من تقوى الله، حيث قال (عليه السلام): ( فلتتق الله، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة ).

بعبارة أخرى: جعلُ ترك الصلاة من تقوى الله لا يناسب الحرمة التشريعية، بل - بناءاً على الحرمة التشريعية – الإتيان بها لإحتمال وجوبها يكون موافقاً لتقوى الله وطاعة وإنقياداً، فما يناسبه هو الحرمة الذاتية.

 

وهذا التقريب كأنه ناظر إلى جواب الإمام (عليه السلام) للسائل فقط من دون ملاحظة صدر الرواية وفتوى فقهائهم، بخلاف التقريب الثاني الذي هو ناظر إلى ذلك.

 

التقريب الثاني: الصلاة إذا لم تكن محرمة بالذات على الحائض لم يكن وجه للمنع عن الإتيان بها بداعي الرجاء والإحتمال كما ذكر فقهاء العامة، بينما هناك وجه لمنعها من الصلاة، و ردّ ما قاله فقهاؤهم إذا كانت الحرمة ذاتية. فبناءاً على الحرمة الذاتية جواب الإمام (عليه السلام) بتركها الصلاة يكون ردّاً على فقهائهم، ويكون مبرراً لأمرها بالإمساك عن الصلاة، وهذان الأمران لا يمكن تصورهما مع الحرمة التشريعية.

بعبارة أخرى: يفهم من جوابه (عليه السلام) أنه يريد أن يردّ على فقهاء العامة، ويمنع الجارية من الصلاة، وهذا لا يكون إلا عندما تكون الحرمة ذاتية.

 

ويرد على التقريب الثاني انه مبني على افتراض ان فقهاء العامة امروا بالاحتياط، والاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية، و ردّ الامام عليهم يتوقف على كون الحرمة ذاتية.

لكن هناك احتمال آخر وهو ان فقهاء العامة امروها _غفلة عن مسألة لزوم التشريع_ بالصلاة كما كانت تصلي في الايام السابقة، أي بداعي امتثال الأمر الجزمي _ فيلزم من ذلك الحرمة التشريعية _ وحينئذ لا يستفاد من رد الامام عليه السلام الحرمة الذاتية، بل يكون الملحوظ بالرد عدم الوقوع في الحرمة التشريعية.

قد يقال بانه من المستبعد غفلة فقهاء العامة عن لزوم التشريع، وهذا (الاستبعاد) قرينة على ان ما امروا به هو الاحتياط.

واستظهر البعض دوران الأمر بين المحذورين، بين حرمة الصلاة وبين وجوبها، وهذا يؤيد كون الحرمة ذاتية لعدم امكان الاحتياط.

اقول ان التأمل في صدر الرواية وذيلها وما فيها من خصوصيات يعطي معنى آخر فيها:-

حاصله

اولاً: انه ليس في الرواية ما يشير إلى ان الامام عليه السلام كان ناظراً في جوابه إلى ما قاله العامة، لأن خلف بن حماد _حسب ظاهر الرواية_ لم ينقل إليه ما قاله العامة.

ثانياً: ان ظاهر جواب الامام عليه السلام بالإمساك عن الصلاة هو في فرض تبين[10] كون الدم دم حيض، كما ان امره لها بالصلاة هو في فرض تبين كونه دم عذرة.

فالرواية هكذا تقول (قال فلتتق الله فان كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة ......وان كان من العذرة فلتتق الله ولتتوضأ ولتصل ......)، ولم يبين الامام عليه السلام حكمها في حال الشك ،

ومن هنا يقوى الاحتمال الذي ذكره السيد الحكيم (قد) في المستمسك[11] من ان المراد بالامر بالاتقاء في صدر الرواية هو الأمر بالفحص والاستعلام، و كأن الامام عليه السلام يريد بيان انه حيث دار الامر بين ان يكون الدم دم حيض او دم عذرة يجب عليها الفحص حتى تعرف انه دم حيض او عذرة فاذا فحصت و تبين انه دم حيض يجب عليها الامساك عن الصلاة و يحرم على زوجها اتيانها، و ان تبين انه دم عذرة فلتصل و ليأتها زوجها، فالأمام عليه السلام ليس ناظرا الى تشخيص الوظيفة في حال الشك و التردد.

و الذي يؤيد هذا الكلام ذيل الرواية حيث ان حماد مباشرة ذكر انه كيف لهم ان يعلموا مما هو؟ فكأنه فهم ان الامام عليه السلام امرهم بالاستعلام والفحص.

في المقابل يوجد احتمال ان يكون المراد من الامر بالاتقاء هو الامر بالاحتياط فان كان دم حيض لم يضرها ما فعلت و ان تبين انه دم عذرة فقد جاءت بالوظيفة [12] فيكون تشخيصا للوظيفة في حال التردد و الشك.

لكن هذا الاحتمال الثاني بعيد لانه _مضافا الى انه مخالف لما ذكرناه من القرائن_ لايناسب ان يقول عليه السلام (فان كان من دم الحيض فالتمسك عن الصلاة )و انما المناسب عندما يكون المأمور به هو الاحتياط بالصلاة ان يقول عليه السلام فان كان في الواقع هو دم حيض لم يضرها ذلك كما ذكر ذلك فقهاء العامة لا ان يأمرها بالامساك عن الصلاة .

 


[1] صاحب الدعوى هو المحقق آغا رضا الهمداني، لاحظ مصباح الفقيه (ط.ق) ج١ق١ص٢٨٥.
[2] وسائل الشيعة ج٢، ص٢٧٢، أبواب الحيض ب٢، ح١ (ط آل البيت عليهم السلام).
[3] الكافي ج٣، ص٩٢، ح١.
[4] المعصرة الجارية أول ما أدركت و حاضت أو أشرفت على الحيض ولم تحض.
[5] أي: حتى تطهر.
[6] أي: نهض و تقدم.
[7] أي: وضع رأس الظفر من المُسبّحة (السبابة) اليسرى على المفصل الأسفل من الابهام.
[8] هذا هو الطريق الثاني.
[9] هو أحمد بن محمد بن خالد البرقي.
[10] الظاهر ان المستدلين بالرواية من كلا الطرفين افترضوا امر الامام عليه السلام بالإمساك في حال الشك والتردد بين دم الحيض وبين دم العذرة، وهذا المطلب غير واضح.
[11] مستمسك العروة الوثقى ج٣، ص٣١١.
[12] فيكون الحكم كما ذكره فقهاء العامة.