أنت هنا: الرئيسية مرجعية السيد السيستاني السیرة الذاتية
 
 


السیرة الذاتیة

البريد الإلكتروني طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

1- مقدمه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة الميامين .

وبعد : لقد اثمر منبر الامام السيد الخوئي (قده) خلال اكثر من نصف قرن ثماراً عظيمة جليلة هي الأزكى والأفضل عطاءاً على صعيد الفكر الاسلامي وفي مختلف العلوم والقضايا والمواقف الاسلامية المهمة ، حيث تخرج من بين يديه مئات العلماء والفضلاء العظام الذين اخذوا على عاتقهم مواصلة مسيرته الفكرية ودربه الحافل بالبذل والعطاء والتضحية لخدمة الاسلام والعلم والمجتمع ، ومعظمهم اليوم اساتذة الحوزات العلمية وبالخصوص في النجف الأشرف ومنهم من هو في مستوى الكفاية والجدارة العلمية والاجتماعية التي تؤهله للقيام بمسؤولية التربية والتعليم ورعاية الامة في يومنا الحاضر .

ومن اهم وابرز اولئك العباقرة هو سيدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني ( دام ظله ) فهو من ابرز تلامذة الامام الخوئي الراحل (قده) نبوغاً وعلماً وفضلاً وأهلية ، وحديثنا في هذه السطور حول شخصية هذا العلم الكبير موجز في عدة نقاط :

2- ولادته ونشأته :

ولد سماحته في التاسع من شهر ربيع الاول عام 1349 للهجرة في المشهد الرضوي الشريف في اسرة علمية معروفة ، فوالده هو العالم المقدس ( السيد محمد باقر ) ووالدته هي العلوية الجليلة كريمة العلامة ( المرحوم السيد رضا المهرباني السرابي ) وجده الادنى هو العالم الجليل ( السيد علي ) الذي ترجم له العلامة الشيخ آغا بزرك في طبقات اعلام الشيعة قائلاً : ( انه كان في النجف الأشرف من تلامذة الحجة المؤسس المولى علي النهاوندي وفي سامراء من تلامذة المجدد الشيرازي ، ثم اختص بالحجة السيد اسماعيل الصدر ، وفي حدود سنة 1318هـ عاد الى مشهد الرضا ( عليه السلام ) واستقر فيه وحاز مكانة سامية مع ما كان له من حظ وافر من العلم مقروناً بالتقى والصلاح ) ومن تلامذته المعروفين الفقيه الكبير الشيخ محمد رضا آل ياسين .

وأسرة سيدنا الاستاذ (دام ظله) – التي هي من الاسر العلوية الحسينية – كانت تقطن مدينة (اصفهان) في القرن الحادي عشر الهجري ، ومن ابرز اعلامها يومذاك الفيلسوف الشهير ( محمد باقر الداماد ) صاحب كتاب القبسات ، ومن احفاده العلم الكبير ( السيد محمد ) الذي عين في منصب ( شيخ الاسلام ) في بلاد (سيستان) فانتقل اليها وسكنها هو وذريته من بعده ، وأول من هاجر منهم الى مشهد الرضا هو المرحوم ( السيد علي ) المار ذكره .

وقد نشأ سيدنا (دام ظله) في مسقط رأسه المشهد الرضوي نشأة عالية فتدرج في الاوليات والمقدمات ، ثم حضر في الفقه والاصول والمعارف الالهية على جمع من العلماء الأعلام ، منهم آية الله الميرزا محمد مهدي الاصفهاني (قده) المتوفى اواخر عام 1365هـ وآية الله الميرزا مهدي الاشتياني (قده) صاحب التعليقة على شرح منظومة السبزواري وآية الله الميرزا هاشم القزويني (قده) .

وفي اواخر عام 1368هـ انتقل الى الحوزة العلمية الدينية في قم المقدسة فحظر بحوث المرجع الكبير السيد حسين الطباطبائي البروجردي في الفقه والاصول ، وتلقى عنه الكثير من خبرته الفقهية ونظرياته في علم الرجال والحديث ، كما حضر درس الفقيه الكبير السيد محمد الحجة الكوهكمري (قده) .

وخلال مدة اقامته في قم راسل العلامة المرحوم السيد علي البهبهاني عالم الاهواز الشهير ومن اتباع مدرسة المحقق الطهراني ، وكان موضوع المراسلات بعض مسائل القبلة حيث ناقش سيدنا الاستاذ (مد ظله) بعض نظريات المحقق الطهراني ووقف السيد البهبهاني موقف المدافع عنها ، وبعد تبادل عدة رسائل كتب المرحوم السيد البهبهاني لسيدنا الاستاذ (دام ظله) رسالة مؤرخة في 7/ رجب /1370هـ يثني فيها على مهارته العلمية واصفاً اياه بـ ( عمدة العلماء المحققين ونخبة الفقهاء المدققين ) وموكلاً تكميل البحث إلى حين اللقاء به عند التشرف بزيارة الامام الرضا (عليه السلام) .

وفي اوائل عام 1371هـ غادر سيدنا الاستاذ (مد ظله) مدينة قم متجهاً الى موئل العلم والفضل للحوزات العلمية النجف الأشرف ، فسكن ( مدرسة البخارائي العلمية ) ، وحضر البحوث الفقهية والاصولية للعلمين الكبيرين السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (قده) والشيخ حسين الحلي (قده) ولازمهما مدة طويلة ، وحضر خلال ذلك ايضا بحوث بعض الاعلام الاخرين منهم السيد الحكيم (قده) والسيد الشاهرودي (قده) .

3- نبوغه العلمي :

لقد برز السيد السيستاني (دام ظله) في بحوث اساتذته بتفوق بالغ على اقرانه وذلك في قوة الاشكال وسرعة البديهة وكثرة التحقيق والتتبع ومواصلة النشاط على ذلك انه منح من بين زملائه واقرانه في عام 1380هـ - وهو في الحادية والثلاثين من عمره – ( شهادة الاجتهاد المطلق ) من قبل استاذيه السيد الخوئي (قده) والشيخ الحلي (قده) ولم يمنح السيد الخوئي شهادة الاجتهاد لأحد من تلامذته إلا سيدنا الاستاذ وآية الله الشيخ علي الفلسفي من مشاهير علماء مشهد المقدسة كما لم يمنح الشيخ الحلي اجازة الاجتهاد لغيره (دام ظله) وقد كتب له ايضا شيخ محدثي عصره العلاّمة الشيخ أغا بزرك الطهراني (قده) شهادة يطري فيها على مهارته في علمي الرجل والحديث وهي مؤرخة كذلك في عام 1380هـ .

4- عطاءه الفكري وتأليفاته :

اشتغل سيدنا الاستاذ (دام ظله) من اوائل عام 1381هـ بالقاء محاضراته ( البحث الخارج ) في الفقه في ضوء مكاسب الشيخ الاعظم الانصاري ، وأعقبه بشرح العروة الوثقى ، فتم له منه شرح كتاب الطهارة وأكثر كتاب الصلاة وقسم من كتاب الخمس وتمام كتاب الصوم والاعتكاف ويواصل في هذه الايام شرح كتاب الزكاة .

وقد كانت له محاضرات فقيّة اخرى خلال هذه السنوات تناولت كتاب القضاء وابحاث الربا وقاعدة الالزام وقاعدة التقية وغيرهما من القواعد الفقهية ، كا كانت له محاضرات رجالية شملت حجية مراسيل ابن ابي عمير وشرح مشيخة التهذيبين وغيرهما .

وابتدأ (دام ظله) بإلقاء محاضراته في علم الاصول من شعبان عام 1384هـ وقد أكمل دورته الثالثة في شعبان عام 1411هـ ، ويوجد تسجيل صوتي لجميع محاضراته الفقهية والاصولية من عام 1397هـ وإلى اليوم .

وقد اخرج بحثه الشريف عدة من الفضلاء البارزين وبعضهم على مستوى تدريس البحث الخارج : كالعلامة الشيخ مهدي مرواريد ، والعلامة السيد حبيب حسينيان والعلامة السيد احمد المددي والعلامة الشيخ مصطفى الهرندي والعلامة الشيخ باقر الايرواني ، والعلامة السيد هاشم الهاشمي وغيرهم ممن هم من افاضل اساتذة الحوزات العلمية .

وضمن اشتغال سماحته (دام ظله) بالدرس والبحث خلال هذه المدة كان مهتماً بتألي كتب مهمة وجملة من الرسائل بالاضافة إلى ما كتبه من تقريرات بحث اساتذته فقه واصولاً .

وفيما يلي قائمة بأسماء بعض مؤلفاته :

1- شرح العروة الوثقى وهو عدة مجلدات في شرح معظم كتاب الطهارة وقسم من كتاب الصلاة والخمس .

2- البحوث الاصولية وهي عدة مجلدات دورة اصولية كاملة .

3- كتاب القضاء .

4- كتاب البيع والخيارات .

5- رسالة في الصلاة في اللباس المشكوك .

6- رسالة في الربا .

7- رسالة في خمس الفوائد والأرباح .

8- رسالة في صلاة المسافر .

9- رسالة في القبلة .

10- رسالة في قاعدة اليد .

11- رسالة في قاعدة التجاوز والفراغ .

12- رسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار .

13- رسالة في التقية .

14- رسالة في قاعدة الالزام .

15- رسالة في قاعدة القرعة .

16- رسالة في الاجتهاد والتقليد .

17- رسالة في صيانة الكتاب العزيز عن التحريف .

18- رسالة في حجية مراسيل ابن أبي عمير .

19- رسالة في تاريخ تدوين الحديث في الاسلام .

20- شرح مشيخة التهذيبين .

21- نقد رسالة تصحيح الاسانيد للأردبيلي .

22- رسالة في مسالك القدماء في حجية الاخبار .

23- الفوائد الغروية .

24- الفوائد الفقهية .

25- شرح مشيخة الفقيه .

26- رسالة في تحقيق نسبة كتاب العلل إلى الفضل بن شاذان .

27- رسالة في اختلاف الآفاق في رؤية الهلال .

28- رسالة في حكم ما اذا اختلف المجتهدان المتساويان في الفتوى .

29- تعليقة على العروة الوثقى .

30- منهاج الصالحين .

31- المسائل المنتخبة .

32- مناسك الحج .

هذا وقد طبع من تقريرات بحثه جزء في ( قاعدة لا ضرر ولا ضرار ) وجزء آخر في بعض المباحث الاصولية .

5- منهجه في البحث والتدريس :

وهو منهج متميز على مناهج كثير من اساتذة الحوزة وأرباب البحث الخارج ، فعلى صعيد الاصول يتجلى منهجه بعدة خصائص :

أ) التحدث عن تاريخ البحث ومعرفة جذوره التي ربما تكون فلسفية كمسألة بساطة المشتق وتركيبه او عقائدية وسياسية كبحث التعادل والتراجح الذي اوضح فيه ان قضية اختلاف الاحاديث فرضتها الصراعات الفكرية العقائدية آنذاك والظروف السياسية التي احاطت بالائمة ( عليهم السلام ) ومن الواضح ان الاطلاع على تاريخ البحث يكشف عن زوايا المسألة ويوصلنا إلى واقع الآراء المطروحة فيها .

ب) الربط بين الفكر الحوزوي والثقافات المعاصرة ، ففي بحثه حول المعنى الحرفي في بيان الفارق بينه وبين المعنى الاسمي وهل هو فارق ذاتي ام لحاظي ؟

اختار اتجاه صاحب الكفاية في ان الفرق باللحاظ لكن بناه على النظرية الفلسفية الحديثة وهي نظرية التكثر الادراكي في فعالية الذهن البشري وخلاقيته ، فيمكن للذهن تصور مطالب واحد بصورتين تارة بصورة الاستقلال والوضوح فيعبر عنه بالاسم وتارة بالآلية والانكماش ويعبر عنه بالحرف .

وعندما دخل في بحث المشتق في النزاع الدائر بين العلماء حول اسم الزمان ، تحدث عن الزمان بنظرة فلسفية جديدة وهي انتزاع الزمان من المكان (زمكان) بلحاظ تعاقب النور والظلام ، وفي بحثه حول مدلول صيغة الامر ومادته وبحثه في التجري طرح نظرية بعض علماء الاجتماع من ان تقسيم الطالب لأمر والتماس وسؤال نتيجة لتدخل صفة الطالب في حقيقة طلبه من كونه عالياً او مساوياً او سافلاً .

وكذلك جعل ضابط استحقاق العقوبة عنوان العبد وطغيانه على المولى مبني على التقسيم الطبقي للمجتمعات البشرية القديمة من وجود موالي وعبيد وعالي وسافل وما اشبه ذلك فهذه النظرة من رواسب الثقافات السالفة التي تتحدث باللغة الطبقية لا باللغة القانونية المبنية على المصالح الانسانية العامة .

ج) الاهتمام بالاصول المرتبطة بالفقه : ان الطالب الحوزوي يلاحظ في كثير من العلماء اغراقهم واسهابهم في بحوث اصولية لا يعد الاسهاب فيها الا ترفاً فكرياً لا ينتج ثمرة عملية للفقيه في مسيرته الفقهية كبحثهم في الوضع وكونه امراً اعتبارياً او تكوينياً وانه تعهد او تخصيص ، وبحثهم في بيان موضوع العلم وبعض العوارض الذاتية في تعريف الفلاسفة لموضوع العلم وما شاكل ذلك .

ولكن الملاحظ في دروس سيدنا الاستاذ (دام ظله) هو الاغراق وبذل الجهد الشاق في الخروج بمبنى علمي رصين في البحوث الاصولية المتربطة بعملية الاستنباط كمباحث الاصول العملية والتعادل والتراجح والعام والخاص ، واما البحوث الاخرى التي اشرنا لبعض مسمياتها ، فبحثه فيها بمقدار الثمرة العلمية في بحوث اخرى او الثمرة العملية في الفقه .

د) الابداع والتجديد : هناك كثير من الاساتذة الماهرين في الحوزة من لا يملك روح التجديد بل يصب اهتمامه على التعليق فقط والتركيز على جماليات البحث لا على جوهره فيطرح الآراء الموجودة ويعلق على بعضها ويختار الاقوى في نظره ، الاّ ان سيدنا الاستاذ يختلف في هذا النهج فيحاول الابداع والتجديد إما في صياغة المطلب بصياغة جديدة تتناسب مع الحاجة للبحث كما صنع ذلك عندما دخل بحث استعمال اللفظ في عدة معان حيث بحثه الاصوليون من زاوية الامكان والاستحالة كبحث عقلي فلسفي لا ثمرة عملية تترتب عليه وبحثه سيدنا الاستاذ من حيث الوقوع وعدمه لانه اقوى دليل على الامكان ، وبحثه كذلك من حيث الاستظهار وعدمه .

وعندما دخل بحث التعادل والتراجح رأي ان سر البحث يكمن في علة اختلاف الاحاديث فاذا بحثنا وحددنا أسباب اختلاف النصوص الشرعية انحلت المشكلة العويصة التي تعترض الفقيه والباحث والمستفيد من نصوص اهل البيت ( عليهم السلام ) وذلك يغنينا عن روايات الترجيح والتخيير كما حملها صاحب الكفاية على الاستحباب .

وهذا البحث تناوله غيره ولكنه بشكل عقلي صرف اما السيد الاستاذ فانه حشد فيه الشواهد التاريخية والحديثية وخرج منه بقواعد مهمة لحل الاختلاف وقام بتطبيقها في دروسه الفقهية ايضاً .

هـ) المقارنة بين المدارس المختلفة : ان المعروف عن الكثير من الاساتذة حصر البحث في مدرسة معينة او اتجاه خاص ولكن السيد السيستاني يقارن بحثه بين فكر مدرسة مشهد وفكر مدرسة قم وفكر مدرسة النجف الأشرف فهو يطرح آراء الميرزا مهدي الاصفهاني (قده) من علماء مشهد وآراء السيد البروجردي (قده) كتعبير عن فكر مرسة قم وآراء المحققين الثلاثة ( الشيخ النائيني والشيخ العراقي والشيخ الاصفهاني ) والسيد الخوئي (قده) والشيخ حسين الحلي (قده) كمثال لمدرسة النجف الأشرف .

وتعدد الاتجاهات هذه يوصع امامنا زوايا البحث والرؤية الواضحة لواقع المطلب العلمي .

وأما منهجه الفقهي فله فيه منهج خاص يتميز في تدريس الفقه وطرحه ، ولهذا المنهج عدة ملامح :

1/ المقارنة بين فقه الشيعة وفقه غيرهم من المذاهب الاسلامية الاخرى ، فان الاطلاع على الفكر الفقهي السني المعاصر لزمان النص كالاطلاع على موطأ مالك وخراج ابي ويسف وآراء الفقهاء الآخرين يوضح امامنا مقاصد الأئمة (ع) ونظرهم حين طرح النصوص .

2/ الاستفادة من علم القانون الحديث في بعض المواضع الفقهية كمراجعته للقانون العراقي والمصري والفرنسي عند بحثه في كتاب البيع والخيارات ، والاحاطة بالفكر القانوني المعاصر تزود الانسان خبرة قانونية يستعين بها على تحليل القواعد الفقهية وتوسعة مداركها وموارد تطبيقها .

3/ التجديد في الاطروحة : ان معظم علمائنا الأعلام يتلقون بعض القواعد الفقهية بنفس التي طرحها السابقون ولا يزيدون في البحث فيها إلا عن صلاحية المدرك لها او عدمه ووجود مدرك آخر وعدمه ، اما السيد السيستاني فانه يحاول الاهتمام في بعض القواعد الفقهية بتغيير الصياغة ، مثلاً بالنسبة لقاعدة الالزام التي يفهمها بعض الفقهاء من الزاوية المصلحية بمعنى ان للمسلم المؤمن الاستفادة في تحقيق بعض رغباته الشخصية من بعض القوانين للمذاهب الاخرى وان كان مذهبه لا يقره ، يطرحه السيد السيستاني على أساس الاحترام ويسيمها بقاعدة الاحترام اي احترام آراء الآخرين وقوانينهم ، وانطلاقه من حرية الرأي وهي على سياق ( لكل قوم نكاح ) و ( نكاح اهل الشرك جائز ) وكذلك بالنسبة إلى قاعدة التزاحم التي يطرحها الفقهاء والاصوليون كقاعدة عقلية او عقلائية صرفة يدخلها السيد الاستاذ تحت قاعدة الاضطرار التي هي قاعدة شرعية اشار لها النصوص نحو ( ما من شيء حرمه الله الا وقد احله لمن اضطر إليه ) فان مؤدى قاعدة الاضطرار هو مؤدى قاعدة التزاحم بضميمة متمم الجعل التطبيقي .

واحياناً يقوم بتوسعة القاعدة كما في قاعدة (لا تعاد) حيث خصها الفقهاء بالصلاة لورود النص في ذلك بينما السيد السيستاني جعل صدر الرواية المتضمن لقوله ( لا تعاد الصلاة الا من خمسة ) مصداقاً لكبرى اخرى تعم الصلاة وغيرها من الواجبات ، وهذه الكبرى موجودة في ذيل النص ( ولا تنقض السنة الفريضة ) فالمناط هو تقديم الفريضة على السنة في الصلاة وغيرها ومن مصاديق هذا التقديم هو تقديم الوقت والقبلة .. الخ . على غيرها من اجزاء الصلاة وشرائطها لان الوقت والقبلة من الفرائض لا من السنن .

4/ النظرة الاجتماعية للنص : ان من الفقهاء من هو حر في الفهم بمعنى انه جامد على حدود حروف النص من دون محاولة التصرف في سعة دلالات النص وهناك من الفقهاء من يقرأ اجواء النص والظروف المحيطة به ليتعرف مع سائر الملابسات التي تؤثر على دلالته ، فمثلاً في ما ورد من ان رسول الله (ص) حرم أكل لحم الحمير الاهلية يوم خيبر ، اخذنا بالفهم الحرفي لقلنا بالحرمة او الكراهة لأكل لحم الحمير الاهلية ولو اتبعنا الفهم الاجماعي لرأينا ان النص ناظر لظروف حرجة وهي ظروف الحرب مع اليهود في خيبر والحرب تحتاج لنقل السلاح والمؤنة ولم تكن هناك وسائل نقل الا الدواب ومنها الحمير ، فالنهي في الواقع نهي إداري لمصلحة موضوعية اقتضتها الظروف آنذاك ولا يستفاد منه تشريع الحرمة ولا الكراهة ، وسيدنا الاستاذ من النمط الثاني من العلماء في التعامل مع النص .

5/ توفير الخبرة بمواد الاستنباط : ان السيد السيستاني يركز دائماً على ان الفقيه لا يكون فقيهاً بالمعنى الأتم حتى يتوفر لديه خبرة وافية بكلام العرب وخطبهم واشعارهم ومجازاتهم كي يكون قادراً على تشخيص ظهور النص تشخيصاً موضوعياً لا ذاتياً وان يكون على اطلاع تام بكتب اللغة وأحوال مؤلفيها ومناهج الكتابةفيها فان ذلك دخيل في الاعتماد على قول اللغوي او عدم الاعتماد عليه وان يكون على احاطة بأحاديث اهل البيت (ع) ورواتها بالتفصيل ، فان علم الرجال فمن الضروري للمجتهد لتحصيل الوثوق الموضوعي التام بصلاحية المدرك ، وله آراء خاصة يخالف بها المشهور في هذا العصر مثلاً ما اشتهر من عدم الاعتداد بقدح ابن الغضائري اما لكثرة قدحه او لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه مما لا يرتضيه سيدنا الاستاذ بل يرى ثبوت الكتاب وان ابن الغضائري هو المعتمد في مقام الجرح والتعديل اكثر من النجاشي والشيخ وامثالهما ويرى الاعتماد على منهج الطبقات في تعيين الراوي وتوثيقه ومعرفة كون الحديث مسنداً او مرسلاً على ما قرره السيد البروجردي (قده) .

ويرى ايضا ضرورة الالمام بكتب الحديث واختلاف النسخ ومعرفة حال المؤلف من حيث الضبط والتثبت ومنهج التأليف ، وأما ما يشاع في هذا المجال من كون الصدوق اضبط من الشيخ فلا يرتضيه ، بل يرى الشيخ ناقلاً اميناً لما وجده من الكتب الحاضرة عنده بقرائن يستند إليها .

فهذه الجهات الخبرية قد لا يعتمد عليها كثير من الفقهاء في مقام الاستنباط بل يكتفي بعضهم بالظهور الشخصي من دون ان يجمع القرائن المختلفة لتحقيق الظهور الموضوعي بل قد يعتمد على كلام بعض اللغويين بدون التحقيق في المؤلف ومنهج التأليف ولا يكون لبعض آخر اي رصيد في علم الرجال والخبرة بكتب الحديث .

6- معالم شخصيته :

ان من يعاشر السيد السيستاني (دام ظله) ويتصل به يرى فيه شخصية فذة تتمتع بالخصائص الروحية والمثالية التي حث عليها اهل البيت (ع) والتي تجعل منه ومن امثاله من العلماء المخلصين مظهراً جلياً لكلمة ( عالم رباني ) وقوله (ع) ( مجاري الامور بيد العلماء امناء الله على حلاله وحرامه ) ومن أجل وضع النقاط على الحروف اطرح بعض المعالم الفاضلة التي رأيتها بنفسي عند اتصالي به درساً ومعاشرة :

أ)   الانصاف واحترام الرأي : فان السيد السيستاني انطلاقاً من عشق العلم والمعرفة ورغبة في الوصول إلى الحقيقة وتقديساً لحرية الرأي والكلمة البناءة تجده كثير القراءة والتتبع للكتب والبحوث ومعرفة الآراء حتى آراء بعض العلماء من غير اساتذته او آراء بعض المغمورين في خضم الحوزة العلمية فتراه بعض الاحيان قد يشير في بحثه لرأي لطيف لأحد الأفاضل مع انه ليس من اساتذته كالشيخ محمد رضا المظفر في كتابه اصول الفقه ، فطرح هذه الآراء ومناقشتها مع انها لم تصدر من اساطين اساتذته يمثل لنا صورة حية من صور الانصاف واحترام آراء الآخرين .

ب) الأدب في الحوار : ان بحوث النجف معروفة بالحوار الساخن بين الزملاء او الاستاذ وتلميذه وذلك مما يصقل ثقافة الطالب وقوته العلمية واحياناً قد يكون الحوار جدلاً فارغاً لا يوصل لهدف علمي بل مضمونه ابراز العضلات في الجدل وقوة المعارضة وذلك ما يستهلك وقت الطالب الطموح ويبعده عن الجو الروحي للعلم والمذاكره ويتركه يحوم في حلقة عقيمة دون الوصول للهدف ، اما بحث السيد السيستاني (دام ظله) فانه بعيد كل البعد عن الجدل واساليب الاسكات والتوهين فهو في النقاش مع اساتذته وآراء الآخرين يستخدم الكلمات المؤدبة التي تحفظ مقام العلماء وعظمتهم حتى ولو كان الرأي المطروح واضح الضعف والاندفاع ، وفي اجابته لاستفهامات الطالب يتحدث بانفتاح وبروح الارشاد والتوجيه ولو صرف التلميذ الحوار الهادف إلى الجدل الفارغ عن المحتوى فان السيد السيستاني يحاول تكرار الجواب بصورة علمية ومع اصرار الطالب فان السيد الاستاذ حينئذ يفضل السكوت على الكلام .

ج) خلق التربية : التدريس ليس وظيفة رسمية او روتينية يمارسها الاستاذ في مقابل مقدار من المال ، فان هذه النظرة تبعد المدرس عن تقويم التلميذ والعناية بتربيته والصعود بمستواه العلمي للتفوق والظهور ، كما ان التدريس لا يقتصر على التربية العلمية في محاولة الترشيد التربوي لمسيرة الطالب بل التدريس رسالة خطيرة تحتاج مزاولتها لروح الحب والإشفاق على الطالب وحثه نحو العلم وآداب العلم ايضاً واذا كان يحصل في الحوزة او غيرها احياناً رجال لا يخلصون لمسؤولية التدريس والتعليم فان في الحوزات اساتذة مخلصين يرون التدريس رسالة سماوية لابدّ من مزاولتها بروح المحبة والعناية التامة بمسيرة التلميذ العلمية والعملية ، وقد كان الامام الحكيم (قده) مضرب المثل في خلقه التربوي لتلامذته وطلابه وكما كانت علاقة الامام الخوئي (قده) بتلامذته فقد رأيت هذا الخلق متجسداً في شخصية السيد السيستاني (دام ظله) فهو يحث دائماً بعد الدرس على سؤاله ونقاشه فيقول : اسألوا ولو على رقم الصفحة لبحث معين او اسم كتاب معين حتى تعتادوا على حوار الاستاذ والصلة العلمية به وكان يدفعنا لمقارنة بحثه مع البحوث المطبوعة والوقوف عند نقاط الضعف والقوة وكان يؤكد دائماً على احترام العلماء والالتزام بالأدب في نقاش أقوالهم ويتحدث عن اساتذته بروحية وهمة عالية وأمثال ذلك من شواهد الخلق الرفيع .

د) الورع : ان هناك ظاهرة جلية في كثير من العلماء والأعاظم وهي ظاهرة البعد عن مواقع الضوضاء والفتن وربما يعتبر هذا البعد عند البعض موقفاً سلبياً لأنه هروب من مواجهة الواقع وتسجيل الموقف الصريح المرضي للشرع المقدس ولكنه عند التأمل يظهر بانه موقف ايجابي وضروري احياناً للمصلحة العامة ومواجهة الواقع وتسجيل الموقف الشرعي يحتاج لظروف موضوعية وارضية صالحة تتفاعل مع هذا الموقف ، فلو وقعت في الساحة الاسلامية او المجتمع الحوزوي إثارات وملابسات بحيث تؤدي لطمس بعض المفاهيم الاساسية في الشريعة الاسلامية وجب على العلماء بالدرجة الاولى التصدي لازاحة الشبهات وابراز الحقائق الناصعة فاذا ظهرت البدع وجب على العالم ان يظهر علمه فان لم يفعل سلب منه نور الايمان ، كما جاء في الحديث .

ولكن لو كان مسار الفتنة مساراً شخصياً وجواً مفعماً بالمزايدات والتعصبات العرقية والشخصية لمرجع معين او خط معين او كانت الاجواء تعيش حرباً دعائية مؤججة بنار الحقد والحسد المتبادل فان علماء الحوزة ومنهم السيد السيستاني (دام ظله) يلتزمون دوماً الصمت والوقار والبعد عن هذه الضوضاء الصاخبة وما يحدث غالباً من التنافس على الألقاب والمناصب والاختلافات الجزئية كما هو الحال في يومنا الحاضر ، هذا مضافاً لزهده المتمثل في لباسه المتواضع ومسكنه الصغير الذي لا يملكه وأثاثه البسيط .

هـ) الانتاج الفكري : السيد السيستاني ليس فقيهاً فقط بل هو رجل مثقف مطلع على الثقافات المعاصرة ومتفتح على الأفكار الحضارية المختلفة ويمتلك الرؤية الثاقبة في المسيرة العالمية في المجال الاقتصادي والسياسي وعنده نظرات إدارية جيدة وافكار اجتماعية مواكبة للتطور الملحوظ واستيعاب للأوضاع المعاصرة بحيث تكون الفتوى في نظره صالحاً للخير في المجتمع المسلم .

7- إمامته في الصلاة :

كان سيدنا الاستاذ مد ظله في عيادة استاذه المرحوم الامام الخوئي (قده) في 29 ربيع الآخر 1409هـ لوعكة صحية ألمت به فطلب منه ان يقيم صلاة الجماعة في محرابه في جامع الخضراء فلم يوافق على ذلك في البداية فألح عليه في الطلب وقال له ( لو كنت احكم كما كان يفعل ذلك المرحوم الحاج آقا حسين القمي لحكمت عليكم بلزوم القبول ) فاستمهله بضعة أيام وفي نهاية الأمر استجاب لطلبه وأمَ المصلين من يوم الجمعة 5 جمادى الأولى 1409هـ إلى الجمعة من ذي الحجة عام 1414هـ حيث أغلق الجامع من قبل السلطة كما سيأتي .

8- مسيرته الجهادية :

كان النظام البعثي يسعى بكل وسيلة للقضاء على الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ السنين الأولى من تسلمه للسلطة في العراق ، وقد قام بعمليات تسفير واسعة للعلماء والفضلاء وسائر الطلاب الاجانب ، ولاقى سيدنا الاستاذ مد ظله عناءاً بالغاً من جراء ذلك وكاد ان يسفر عدة مرات وتم تسفير مجاميع من تلامذته وطلاب مجلس درسه في فترات متقاربة ، ثم كانت الظروف القاسية جداً ايام الحرب العراقية الايرانية ، ولكن على الرغم من ذلك فقد اصر دام ظله على البقاء في النجف الأشرف وواصل التدريس في حوزته العلمية المقدسة ايماناً منه بلزوم استمرار المسار الحوزوي المستقل عن الحكومات تفادياً للسلبيات التي تنجم عن تغيير هذا المسار .

وفي عام 1411هـ عندما قضى النظام على الانتفاضة الشعبانية اعتقل سيدنا الاستاذ (دام ظله) ومعه مجموعة من العلماء كالشهيد الشيخ مرتضى البروجردي والش&