32/10/14


تحمیل

 استعرضنا فيما سبق الى روايات المسألة وسنتعرض الآن الى ما اشتمل عليه المتن من نقاط ، وهي ثلاث:-

النقطة الاولى:- لا يجوز قطع أو قلع شيء من نبات الحرم أعم من كونه شجراً أو شيئاً آخر ، وهذا كما قلنا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب.

 وقد يستدل على ذلك بصحيحة حريز المتقدمة التي جاء فيها ( كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين ) وطبيعي توجد تكملة لها وهي ليست مهمة الآن وهي ( إلا ما غرسته أنت ).

 وهو شيء جيد بيد أن المشكلة هي أن متعلق التحريم محذوف فان نفس النبات أي ( ما نبت ) لا يتعلق به التحريم فانه اسم ذاتٍ والتحريم إنما يتعلق بالفعل كما هو واضح وحيث أن المتعلق محذوف فإذا قبلنا بقاعدة ( ان حذف التعلق يدل على العموم ) كما يظهر من كلمات السيد الخوئي التي تقدمت فيلزم أن يكون متعلق التحريم ليس خصوص القلع والقطع بل الأعم من ذلك كالأكل والبيع وما شاكلهما والحال أن الفقهاء لا يعرف عنهم الالتزام بهذه التوسعة فلا بد من علاج هذه المشكلة.

 وحاصل هذه المشكلة هو انه بناءاً على قبول هذه القاعدة لا معنى لتخصيص الحرمة بخصوص القلع والقطع بل يلزم أن يكون المحرم ما هو أوسع من ذلك ، ولعله من هذه الناحية حاول السيد الخوئي[1] أن يدعي أن المقصود من هذه الصحيحة هو نفس ما أفيد في موثقة زرارة التي قرأناها بعد صحيحة حريز وهي قد خصصت التحريم بالقلع والقطع حيث قالت ( حرم الله حرمه بريداً في بريد أن يختلا خلاه أو يعضد شجره إلا الاذخِر ) انه خُصِّص التحريم بخصوص اختلاء الخلا - أي قطع النبات وقطع الشجر - وبقرينة هذه الصحيحة نفسر صحيحة حريز بذلك أيضاً ، يعني نقول ان المقصود من قوله ( فهو حرام ) في صحيحة حريز التي تقول ( كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين ) هو أن قطعه وقلعه حرام بقرينة موثقة زرارة.

 وما ذكره وجيه لو كان لموثقة زرارة مفهوم - أي لها مفهوم الحصر - بحيث تحصر التحريم بخصوص القلع والقطع فيتولد آنذاك مفهوم بسبب هذا الحصر ونستفيد منه أن غير القلع والقطع ليس بحرام فيكون هذا مخصصاً وموضحاً للمقصود من صحيحة حريز ويتم آنذاك ما أفاده (قده) ، ولكن من الواضح أن موثقة زرارة ليس لها مفهوم فانها قالت ( حرم الله حرمه ... أن يختلا خلاه أو يعضد شجره ) وهذا لا ينافي حرمة أشياء أخر غير القلع والقطع . اللهم إلا أن يقال ان تلك الروايتين تُفرغان عن مطلب واحد وتريدان أن تبينا مطلباً فارداً ولكن الجزم بهذا مشكل ، وعليه تبقى صحيحة حريز على عمومها وبالتالي يلزم أن لا نخصص التحريم بخصوص القلع والقطع. وهذا إشكال يورد على من يبني على هذه القاعدة.

 اما على ما اخترناه من عدم تمامية القاعدة المذكورة وأن المناسب في أمثال ذلك تقدير المتعلق المناسب حسب ما هو المعهود والمعروف وما تقتضيه مناسبات الحكم والموضوع فاِن كان ذلك ثابتاً فبها وان لم يكن فيحصل الإجمال ونقتصر على القدر المتيقن وسوف لا تواجهنا المشكلة التقدمة لأن القدر المتيقن من التحريم بقرينة موثقة زرارة هو القلع والقطع فهما محرمان جزماً للموثقة المذكورة وما زاد على ذلك حيث نشك في تحريمه فتجري البراءة عنه.

 نعم لو لم يكن هذا القدر التيقن ثابتتاً لكان المناسب تحريم جميع الأفعال التي يحتمل حرمتها بما في ذلك الأكل والبيع وغيرهما لأنه سوف يحصل علم إجمالي بحرمة بعض هذه الأفعال وحيث لا نشخص ذلك الفعل بخصوصه فمقتضى العلم الاجمالي لزوم الاحتياط بترك الجميع ، ولكن حيث أن موثقة زرارة بأيدينا وهي قد دلت على تحريم القلع والقطع فينحل ذلك العلم الاجمالي إذ يصير القلع والقطع متيقن الحرمة فلا يجري أصل البراءة بلحاظهما وأما ما زاد على ذلك فتجري البراءة فيه بلا معارضة طبقاً للقاعدة التي تقول متى ما كان لدينا علم إجمالي وكان بعض أطرافه لا يجري فيه الأصل فيجري آنذاك الأصل في بقية الإطراف بلا معارضة وينحل العلم الاجمالي ويعبر عن هذا الانحلال بالانحلال الحكمي ، كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم اما في إناء الخمر أو في إناء الماء فان إناء الخمر لا يجري فيه أصل البراءة أو الطهارة فيجري الأصل في الطرف الثاني بلا معارضة فيجوز ارتكابه ، ان نفس هذا نذكره في المقام.

والخلاصة:- بناءاً على عدم تمامية قاعدة ( حذف المتعلق يدل على العموم ) لا مشكلة في البين فانه وان تشكَّل علم إجمالي بمقتضى صحيحة حريز بحرمة بعض الأفعال المتعلقة بنبات الحرم ولكنه منحل حكماً حيث نتيقن بحرمة القلع والقطع بسبب موثقة زرارة فيبقى ما زاد مجرى للبراءة ، أما من يسلم بهذه القاعدة كالسيد الخوئي (قده) فلابد وأن يدعي إحدى دعويين ان تمت واحدة اِنحل الإشكال الأُولى أن ندعي أن موثقة زرارة يوجد لها مفهوم الحصر فتقيد آنذاك صحيحة حريز ، والثانية أن نقول أنهما تُفرِغان وتريدان أن تبينا مطلباً فارداً وكلتا الدعويين محل تأمل.

النقطة الثانية:- يستثنى من حرمة القطع ما يحصل قطعه بسبب المشي على الأرض ، ولماذا ذلك ؟ قد يوجه ذلك بأحد الوجوه الثلاثة التالية:-

الأول:- التمسك بقاعدة نفي الحرج حيث قال تعالى ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) فان القاعدة المذكورة تنفي كل حكم حرجي وحيث أن حرمة المشي الموجب للقلع تورث الحرج فمقتضى قاعدة نفي الحرج انتفاء الحرمة المذكورة.

 وهذا شيء وجيه ولكن يرد عليه أنه أخص من المدعى لأنه ينفي الحرمة في حالة الحرج - أي الحرج الشخصي - فلو فرض وجود طريق ثانٍ لا يوجد فيه النبات فيلزم سلوكه ولا يجوز سلوك الطريق الذي فيه النبات ، ان هذا هو مقتضى التمسك بالقاعدة والحال أن المدعى هو أن المشي جائز واِن حصل القطع سواء لزم الحرج أو لا فالمدعى أوسع من هذا الدليل.

 نعم من يبني على أن قاعدة نفي الحرج تنفي الحرج النوعي دون الشخصي - أي لا شخص الواقعة و شخص هذا الإنسان أو ذاك وإنما يلحظ النوع والغالب - فربما يتم انتفاء الحرمة بشكل مطلق ولكن هذا شيء لم يثبت فان ظاهر قوله تعالى ( ما جعل عليكم في الدين منم حرج ) الانحلال - أي ما جعل عليك أيها الشخص إذا لزم الحرج في حقك وما جعل عليك أيها الشخص الثاني إذا لزم الحرج وهكذا - أما أن يلحظ المجموع كشخص فارد فهذا يحتاج الى قرينة ودليل ، وعلى أي حال هذا البيان أخص من المدعى.

البيان الثاني:- التمسك بالسيرة بدعوى انها قد جرت على أن المسلمين يسيرون في حرم مكة من دون تقيُّد بهذه الناحية ، ومعه يثبت المطلوب وهو أنه لا حرمة في القلع الذي يحصل بسبب المشي.

 وهذا وجيه لو فرض أن الطابع العام في مكة هو الزراعة ، بيد أن مكة - خصوصاً في ذلك الزمان - ليس المعهود فيها ذلك ، ولا نريد أن ندعي أنه لا زراعة فيها حتى يلزم لغوية صدور هذه الرواية التي نهت عن قلع شجر الحرم ، كلا ، وإنما نقول هي ليست ظاهرة بارزة حتى تشكِّل عنوان السيرة ، فالجزم بانعقاد السيرة على عدم الاعتناء من هذه الناحية شيء مشكل.

البيان الثالث:- ما ذكره السيد الخوئي[2] وحاصله التمسك بدعوى الانصراف ، فان موثقة زرارة قالت ( حرم الله ... ان يختلا خلاه أو يعضد شجره ) والمفهوم من هذا أن يذهب الشخص وهو قاصد ومتعمد ويقطع النبات أو الشجر ، أما ما يحصل من قطع أثناء المشي فالحديث منصرف عنه.

 وهو تمسك بفكرة القصور في المقتضي ، أي أنه يريد أن يقول ان مقتضي التحريم - وهو موثقة زرارة - قاصر عن شمول ما يحصل من قطع بسبب المشي فنتمسك بالبراءة.

وفيه:- ان دعوى الانصراف ليست بعيدة ، ولكن هذا وجيه لو كنا نحن وموثقة زرارة من دون أن نمتلك صحيحة حريز فان صحيحة حريز لم يرد فيها التعبير بفقرة ( يختلا خلاه ويعضد شجره ) حتى نقول ظاهر العضد والمنصرف منه هو ما كان عن قصد وتعمد ، وإنما الذي فيها هو ( كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين ).

 إذن المناسب بمقتضى سعة هذه الصحيحة الشمول لمثل ما يحصل بالمشي . إذن جميع هذه الوجوه الثلاثة قابلة للمناقشة.

ولعل الأجدر أن يقال:- ان القطع بالمشي لو كان محرماً فحيث أنه قضية يغفل عنها الناس عادةً فتحتاج الى تنبيهٍ أكثر وبيانٍ أوضح بحيث يردع عن خصوص هذه الحالة ويقال ( لا يجوز أن تسلكوا طريقاً يوجد فيه نبات خوفاً من حصول القطع عند المشي ) وحيث أن مثل هذا البيان ليس بثابتٍ فيمكن أن يحصل القطع للفقيه بأن هذا النحو ليس مشمولاً للتحريم . وهذه طريقة ظريفة قد أشرنا إليها أكثر من مرة يمكن التمسك بها لإثبات الحكم الشرعي.

النقطة الثالثة:- يجوز ترك الدواب تسرح وتقطع وتأكل في حرم مكة.

 وقد تمسك السيد الخوئي (قده) لذلك بفكرة القصور في المقتضي ، ببيان أن الوارد في موثقة زرارة هو ( العضد ) وعنوان ( يختلا خلاه ) وهذا منصرف عن ما يحصل من قطع بسبب الحيوان وإنما هو مختص بما إذا تصدى الإنسان للقطع.

 وما أفاده وجيه لو كنا نحن وهذه الموثقة ولكن ذكرنا قبل قليل أنا نمتلك صحيحة حريز وهي لم يؤخذ فيها عنوان العضد واختلاء الخلا حتى يقال ان هذا قاصر عن شمول ما يحصل من الدواب.

 والأجدر هو التمسك بصحيحة حريز الأخرى التي قالت ( يخلى عن البعير في الحرم يأكل ما شاء) بل يمكن التمسك بصحيحة محمد بن حمران.

[1] المعتمد 4 265 .

[2] المعتمد .