لقاء في المستشفى

البريد الإلكتروني طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم


تقلبت الدكتورة معاد على فراشها وهي تستمع بين اليقظة والمنام إلى رنين جرس الهاتف وكأن جسمها كان يعاني صراعاً بين سلطان النوم ونداء الواجب فاستمر الجرس يرن ويرن بأسلوبه الرتيب ، وبقيت هي تعاني صراعاً بين عالمي اليقظة والمنام ، حتى انتبهت مشاعرها وأحست بمسؤولية اليقظة فاندفعت نحو الهاتف وهي تلاحظ الساعة فتجدها تناهز الواحدة بعد منتصف الليل .
إذن فلا شك أنها حالة مرضية مستعجلة وهكذا كان ، فقد كانوا يستدعونها من الطابق السابع لوجود حالة خطيرة وما كان منها إلا أن أسرعت بلبس قناعها وأبرادها وخرجت مسرعة إلى حيث تجد المريض.
وأمام غرفة العلاج وجدت ممرضة أخبرتها أن المريض امرأة عجوز تشكو من آلام شديدة في صدرها فأسرعت الدكتورة في الدخول حيث استقبلتها فتاة شابة جميلة الوجه ، رشيقة القوام ، قد ارتدت الحجاب الكامل وكأن الدكتورة قد ارتاحت لمنظرها فشدت على يدها مسلمة بحرارة وهي تقول :
ـ خير إن شاء الله .
قالت الفتاة : إنها جدتي يا دكتورة ، وقد انتابتها آلام قاسية منذ ساعات تعرضت خلالها لاغماء طال بضع دقائق .
قالت هذا وسارت مع الدكتورة حيث كانت الجدة ترقد شاحبة الوجه على طاولة الفحص وهي تئن من الألم .
فسارعت الدكتورة باجراء الفحوص اللازمة واستدعت معها من يعينها على ذلك وكانت تعمل بجد واندفاع وكأنها الطبيبة والقريبة في وقت واحد ، وكانت الفتاة تتجول خارج الغرفة تقطع الردهة بخطواتها القلقة جيئة وذهاباً ، حتى اكتملت الفحوص وثبت أنها مصابة بذبحة قلبية وأن عليها البقاء في المستشفى إلى فترة ، عند ذلك تم نقلها إلى غرفة خالية أعطيت بعض المهدئات ، الشيء الذي مكنها من النوم .
وكانت الدكتورة حتى ذلك الوقت مشغولة بتعهد أمر المريضة وتهيئة وسائل الاسعاف المطلوبة لها ، ولهذا فهي لم تتمكن أن تتحدث مع الفتاة بضع كلمات قصار تتعلق بحال المريضة ، ولكنها عندما اطمأنت على راحة المريضة ووثقت من أداء مهمتها بالشكل المطلوب التفتت نحو الفتاة التي كانت


( 89 )


تقف في قلق إلى جوار سرير جدتها وقد تندت أهدابها بالدموع ، فبدت عيناها من خلالها وكأنهما نجمتان تتلألأن من وراء الغيوم . فشعرت أن عليها أن تقول لهذه المسكينة كلمة تبعث في نفسها الأمل ، فحاولت أن تبتسم وهي تقول :
أرجو أن يكون العارض بسيطاً سيما وقد أجريت لها الاسعافات اللازمة منذ البداية .
قالت الفتاة : أنني جد شاكرة لك اهتمامك بأمرها يا دكتورة .
قالت الدكتورة : إن هذا واجب عليّ تجاه كل مريض ، وهنا لاحظت الدكتورة أن لون الفتاة يبدو شاحباً ، فأمسكت بيدها فوجدتها باردة كالثلج فقالت لها بحنو بالغ : أجدك مرهقة جداً فلماذا لا تنامي ولو لبعض الوقت ؟ قالت الفتاة : آه نعم أنني متعبة ولكن جدتي كيف أتركها وحيدة ؟
قالت الطبيبة : أليس لديها بنت سواك لتشاركك السهر ؟
فترددت الفتاة لحظة ثم قالت : كلا ليس لديها بنت سواي وليس لدي أم سواها ، قالت هذا وانحدرت من عينيها قطرات من الدموع زادتها جمالاً على جمال.
فتألمت الدكتورة لحالها وقالت لها وهي تشد على يدها بحنو : سوف أسهر أنا عليها بدلاً عنك.


( 90 )


قالت : كلا إن هذا لا يمكن أن يكون . ان عليك أن تنامي أنت فقد أجهدت نفسك بما فيه الكفاية .
فابتسمت الدكتورة وقالت : أنني اعتدت على هذه الاتعاب ولم أعد أحس بثقلها عليّ ، ثم أنني نمت ساعتين في بداية الليل ولهذا فأنت أحوج مني إلى الرقاد ، ولكن انتظريني حتى أذهب إلى غرفتي وأعود .
قالت هذا وخرجت من الغرفة دون أن تنتظر جواباً من الفتاة ، فأحست الفتاة بعد خروجها أنها كانت أمام انسانة رائعة من حقها أن تعتمد عليها وتركن اليها .
وسرعان ما عادت الدكتورة وهي تحمل بيدها كتاباً ثم قالت للفتاة : حاولي أن تنامي يا عزيزتي وسوف أقضي وقتي مع هذا الكتاب وأرجو أن تطمئني على جدتك لأنني سوف أهتم بأمرها جداً يا...
وسكتت الدكتورة لأنها لم تكن تعرف اسم الفتاة .
فأسرعت الفتاة تقول ورقاء ، إن اسمي ورقاء يا دكتورة.
قالت الدكتورة : وان اسمي معاد يا ورقاء . والآن هيا إلى السرير الثاني فأنت مرهقة جداً ، ولم يسع ورقاء إلا أن تمتثل لأنها كانت تشعر باعياء شديد وسرعان ما استسلمت للنوم .
أفاقت ورقاء من نومها فوجدت أنها نامت أكثر من ساعة


( 91 )


وأن معاداً ما زالت جالسة عند رأس جدتها تقرأ ، والجدة ما زالت مستسلمة لنوم مريح نتيجة تأثير الاوكسيجين عليها ، فقامت عن السرير وتوجهت نحو معاد تحييها بلهفة وتسأل عن جدتها فطمأنتها معاد ثم ألقت الكتاب من يدها ونهضت وهي تقول :
سوف أذهب الآن لكي أستعد لصلاة الفجر ثم أحاول أن أنام بعد ذلك ساعة قبل بداية الدوام وسوف أمر عليك غداً ان شاء الله .
فشكرتها ورقاء وشدت على يدها وهي تقول : لست أدري كيف أشكرك يا دكتورة معاد فقد كنت بالنسبة لي يداً رحيمة ساعدتني على تحمل الصدمة وأنا وحيدة.
قالت معاد : أنك لست وحيدة يا ورقاء ما دام الله معك ، فأنا الاحظ من حجابك أنك فتاة مؤمنة والايمان كفيل بأن يشدك ويسندك خلال جميع أدوار الحياة .
فأعادت ورقاء كلمات الشكر من جديد وودعت الدكتورة حتى باب الغرفة ، ثم عادت لكي تجلس إلى جوار جدتها وحيث كانت تجلس معاد من قبل فلاحظت أن معاد قد نسيت الكتاب الذي كانت تقرأ فيه واسترعى انتباهها اسمه الذي بدا وكأنه غريب عليها أو مستغرب لديها . فقد كان اسم الكتاب هو : ( الطب محراب للإيمان ) .


( 92 )


وتساءلت مع نفسها في تفكير ساذج قائلة : ما معنى هذا يا ترى ؟
وما هو ارتباط الطب مع الإيمان ؟
أو ليس الطب علماً لدواء الأجسام بينما الدين عبادة للنجاة من النار ؟
إذن فكيف يصبح الطب محراباً للايمان ؟
ودفعها فضولها إلى أن تقلب صفحات هذا الكتاب. وقد اهتمت بشكل أولي بتصميم الغلاف إذ وجدته يحمل صورة ممثلة لدماغ الانسان وقد كتبت تحتها هذه الآية المباركة : ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ).
واستمرت تقلب صفحات الكتاب فتقرأ فيه سطوراً قصاراً تسلمها إلى تفكير طويل ، ولم تترك الكتاب إلا خلال أداء صلاة الفجر أو قضاء حوائج جدتها حيث كانت تعود الى الكتاب لتغرق بين صفحاته بالمطالعة والتفكير.
وأشرق الصبح ودخلت الممرضة المسؤولة لاعطاء دواء المريضة ثم خرجت ، وعندما ارتفع النهار جاء الدكتور المختص وفي صحبته دكتورة فأعاد الفحص وطمأنها بكلمات قصار وخرج ومن ورائه الدكتورة مشكلة بمشيتها التي تتراقص فيها أردافها وأكنافها وخصلات شعرها مع رنين كعب حذائها مشكلة في كل ذلك جوقة موسيقية راقصة.


( 93 )


واستدارت قبل أن تخرج لتؤكد على ورقاء أن لا تدع المريضة تتعرض لأية حركة . وكأن هذه الكلمات القصار مكنت ورقاء من دراسة وجهها عن قرب فوجدته مثل لوحة بالغ النقاش في صبغها وتلوينها ، وسرعان ما خطر لها الفارق بين هذا الوجه الناطق بالتكلف ووجه الدكتورة معاد الناطق بالصفاء والنقاء.
وهنا أحست أنها تنتظر قدوم معاد بلهفة ، فهي تحس بالحاجة إلى أن تسمع منها بعض كلمات التشجيع ثم أنها تريد أن تسألها عن بعض ما جاء في هذا الكتاب فألقت نظرة على ساعتها وحدثت نفسها قائلة :
لماذا تأخرت يا ترى ؟
وعادت تجلس إلى جوار الجدة التي كانت منتبهة ومرتاحة ، فجلست أمامها وهي سعيدة لتحسنها وقالت : لكم أنا سعيدة بتحسنك يا جدتي ليتك تعلمين كم عانيت القلق من أجلك البارحة .
قالت الجدة في كآبة نعم لقد كنت أحس ذلك منك سيما وأنك كنت وحيدة يا عزيزتي.
قالت ورقاء : ولكنني لم أشعر بالوحدة لوجود الدكتورة معاد . فقد كانت لطيفة ورقيقة إلى أبعد حد . تصوري أنها أصرت عليّ أن أنام وجلست هي إلى جوارك لمدة ساعة أو أكثر.


( 94 )


فابتسمت الجدة وقالت : الحمد لله الذي أرسلها لك في ساعة المحنة يا عزيزتي.
وهنا طلبت ورقاء من جدتها أن تخلد للنوم لكي لا تجهد نفسها في الحديث . وعادت لتأخذ الكتاب تقرأ فيه من جديد ، وكانت تنظر إلى الساعة بين حين وحين وهي تنتظر قدوم معاد . حتى حان وقت الظهر فأدت فريضة الصلاة وهي تشعر أنها تفتقد شيئاً . واستغربت هذا الشعور من نفسها وحدثت نفسها قائلة :
ما الذي يدعوني الى هذه اللهفة وما رأيتها إلا ساعات قلائل ؟
وهل هي سوى دكتورة أدت واجبها تجاه مريضة لا أكثر ولا أقل ولعلها سوف لن تعود إلينا ثانية .
وهنا أحست أن نداء من ضميرها كان يلح عليها بعنف قائلا : إن من حقك هذا التلهف والانتظار . لأنها انسانة وجدت لديها الكثير من العطف والحنان ، أنها لم تؤد واجب الطبيبة فقط ولكنها أدت واجب الانسانة الكاملة ولولاها لكنت الآن منهارة وأنت في وحدتك المرة مع جدة مريضة.
وأفاقت ورقاء من أفكارها هذه على طرقات خفيفة على الباب ، فنهضت تستقبل القادم وإذا بالدكتورة معاد تدخل وقد أشرق وجهها بابتسامة رصينة .


( 95 )


فتقدمت ورقاء نحوها لتصافحها بحرارة لم تكن أقل مما أبدته معاد من حرارة ولهفة ثم قالت :
لقد عرفت من الدكتورة عبير تحسن حال الجدة ، وقد كنت مشغولة منذ الصباح إذ أنني مسؤولة عن ردهة التوليد اليوم ولهذا أرجو أن لا تكوني عاتبة عليّ لتأخري عنك .
فارتبكت ورقاء وقالت : ولكن كيف لي أن أعتب عليك يا دكتورة ، ولكنني كنت في حاجة إلى حضورك ولهذا كنت أنتظر .
فاكتسى وجه معاد بطابع الاهتمام إذ حسبت أن المريضة في حاجة إليها فمشت نحو الجدة وهي تقول :
كنت في حاجة اليّ ؟
ماذا ؟
هل تشكو جدتك من شيء ؟
فزاد ارتباك ورقاء وابتسمت في براءة وهي تقول :
كلا أن جدتي بخير والحمد لله ولكني أنا التي كنت في حاجة اليك فهل تسمحين بالجلوس ؟.
فعادت الابتسامة إلى وجه معاد وقالت وهي تجلس : لقد جئت في هذا الوقت لكي أجلس معك إلى فترة يا ورقاء ولكي أرى إذا كنت متعبة أو في حاجة إلى النوم .


( 96 )


قالت ورقاء : كلا أنني لا أشعر بالحاجة إلى النوم بل أنا في حاجة إلى اليقظة الكاملة ولهذا اريد أن أسألك عن شيء قرأته في هذا الكتاب ، ثم أخذت الكتاب بيدها وجلست إلى جوار معاد ، فقالت معاد :
آه لقد نسيت هذا الكتاب هنا ، لعلك قرأت فيه يا ورقاء ؟
قالت ورقاء : نعم وقد أسلمني إلى الكثير من التفكير .
قالت معاد : لماذا ؟
قالت : لأنني لم أكن أحسب أن هناك ربطاً بين الطب والايمان ، فالطب حسبما أعرف عنه : علم يتناول جسم الانسان ، والايمان عبادة لا أكثر ولا أقل .
قالت معاد : ولكن العلم هو الذي يدعو إلى الايمان يا ورقاء ، وكلما اتسعت أمام الانسان معارفه العلمية تصاعد لديه مستوى إيمانه بالخالق . قالت ورقاء : وكيف ؟
قالت معاد : إن كل من يجهل شيئا لا يثمنه يا ورقاء ، فأنت الآن مثلا لو نظرت إلى هذه المدفأة الكهربائية لما تمكنت أن تقدري مدى ما توخاه الصانع من دقة وعناية في تكوينها ، ولما خمنت ما يتطلبه ذلك من معرفة مسبقة وتجارب متعددة خلافاً لمن يعلم شيئا ولو يسيراً عن أدواتها ، وأجهزتها ، وتركيبها المتقن الرقيق .


( 97 )


وهنا لاحظت معاد شبح ابتسامة يلوح على وجه ورقاء وهي تحاول أن تخفيها تأدباً أمام الكلمات ، فسكتت لحظة ثم خطر لها خاطر فسألت ورقاء قائلة :
هل أنت طالبة يا ورقاء ؟
قالت ورقاء : نعم أنني ما زلت في السنة الأخير من الجامعة .
قالت ورقاء هذا ولم تذكر اسم الكلية التي تدرس فيها فأردفت معاد تقول :
إنك في كلية الهندسة فرع المكانيك اليس كذلك ؟
فاستغربت ورقاء وقالت : نعم ، ولكن من أين عرفت هذا ؟
قالت : من شبح الابتسامة التي لاحت على شفتيك عند حديثي معك عن المدفأة ، فقد عرفت أن المثل لم يكن لينطبق عليك بالذات لأنك تعرفين عن صنعها بعض الشيء ولكنك لم تحاولي أن تردي عليّ ، وهذا يدل على منتهى الذوق منك وحسن الاستماع .
قالت ورقاء : ولكن مثلك كان مطابقاً لعين الحقيقة يا معاد سواء انطبق عليّ أو لم ينطبق . ولهذا أرجو أن تستمري بالحديث.


( 98 )


قالت معاد : نعم ، ولكن العلم بالشيء ولو علماً إجمالياً من حقه أن يضاعف تثمين ذلك الشيء نجد أن العلم على مختلف صوره وأشكاله يقرب أفكاره العلماء إلى الايمان بالله ، وبما أن على الطب من أهم العلوم وأدقها فأنه بالنسبة للعالم المنصف أوضح طريق للايمان .
قالت ورقاء : هل تسمحين لي بمزيد من التوضيح فأنا لا أعرف عن ديني سوى بعض التزاماته التقليدية ، مثل الصوم ، الصلاة ، والحجاب ، وطالما تعرضت للعديد من المواقف الحرجة بسبب ذلك إذ أن حجابي يوحي بأنني أعرف عن الدين الشيء الكثير ...
قالت الدكتورة : أنني أرحب بكل سؤال يا ورقاء .
قالت ورقاء : حتى ولو كان سطحيا يا دكتورة ؟
قالت معاد : أنني مستعدة للجواب عن كل سؤال مهما كان ولكنني أرجو أن تتركي كلمة الدكتورة جانباً ما دام حديثنا حديثاً أخوياً تجمعنا فيه كلمة الايمان . ناديني بمعاد وهذا يكفي ، ثم هاتي ما لديك بعد ذلك .
فابتسمت ورقاء وقالت : أريد أن أعرف لماذا اختار المؤلف رسم الدماغ بالذات لكي يجعله على الغلاف ؟
قالت معاد : لأن الدماغ يا ورقاء هو أهم جزء من أجزاء جسم الانسان ، وهو بمثابة الحاكم العامل في مختلف أجزاء


( 99 )


الجسم وأعصابه وخلاياه ، وجسم الانسان بجميع ما فيه من خلايا عصبية خاضع في طاعة الدماغ ، والدماغ ، هذا الدماغ الصغير يحتوي على ألف مليون خلية عصبية !.
وهنا رددت ورقاء قائلة في تعجب : ألف مليون خلية عصبية ؟!.
قالت معاد : نعم ، ولكل من هذه الخلايا وظيفة خاصة وعمل محدد لا تتجاوزه ولا تتعداه ، ولكنها في الوقت نفسه مترابطة في العمل ، تستند كل خلية منها إلى الخلية الأخرى لكي تساعدها في النجاح ، وإذا تعطل أي منها كان لعطله أسوأ النتائج.
وهنا سكتت معاد .
قالت ورقاء : الحقيقة أنني لم أكن أحسب أن دماغ الانسان على هذا المستوى من الدقة .
قالت معاد : أن أحد العلماء وهو ( جودسون هريك ) قال عن الدماغ خلال محاضرة ألقاها في معهد التاريخ بنيويورك عام ( 1957 ) قال : « لو أننا جمعنا كل أجهزة العالم من التليفون ، والتلغراف ، والرادار ، والتلفزيون ثم حاولنا أن نصغر هذه الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة حتى استطعنا وبمجهود جبار أن نوصلها إلى حجم مثل حجم الدماغ فانها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ »..


( 100 )


وهنا قالت ورقاء : لطيف أن يحمل الانسان في رأسه هذا الجهاز المتقن الدقيق ، ولكن أليس من المؤسف أننا لا نعرف عن حقيقة أجسامنا شيئاً يا معاد ؟
قالت معاد : ان الحديث عن جسم الانسان طويل جداً يا ورقاء.
قالت ورقاء : وكيف ذلك يا معاد ؟ ألا يمكنك أن تعطيني بعض الأمثلة ؟
قالت معاد : مثلاً هل تعلمين أن أعصاب الانسان متصلة مع جسم الانسان بصورة كاملة ، ولكن هذا الاتصال على شكلين :
فهناك أعصاب تسمى بالاعصاب الارادية ، وهي التي تسيطر على مجموعة مخصوصة من العضلات التي في الجسم وتسمى بالعضلات المخططة والتي منها عضلات اليد ، والرجل ، واللسان ، وهي العضلات التي لا يمكن لها أن تعمل بدون ارادة .
وهناك أيضاً نوع ثان من العضلات ليس للارادة أي دخل فيها وإنما هي محكومة لجملة عصبية خاصة ومن تلك العضلات أجهزة الهضم . ، والتنفس ، وعمل القلب ، وهنا يبدو جانب من جوانب حكمة الخالق في التصميم ، فلو كانت جميع الأجهزة خاضعة لعمل الارادة لما أمكن للانسان أن


( 101 )


يغفل عنها لحظة حتى وفي حال النوم وإلا لتوقف القلب عن الحركة وتعطل جهاز الهضم ، والتنفس عن العمل ، وكذلك الحال بالنسبة للعضلات المخططة التي تخضع في عملها للأعصاب الارادية ، فهي لو لم تكن خاضعة للارادة ومنشدة إليها ، ولو لم تكن غير قادرة على العمل بدونها لاستمرت بعملها كما استمرت العضلات الغير خاضعة للارادة .
قالت ورقاء : وماذا كان يحدث إذن ؟
قالت معاد : لاستمر الانسان يمشي ويمشي ويتكلم ما دام حياً وما دام قلبه ينبض بالحياة .
وكانت ورقاء تستمع في اهتمام بالغ ، وحينما سكتت بادرت تستزيدها قائلة أن حديثك شيق جداً يا معاد .
قالت معاد : يمكنك أن تقرأي هذا الكتاب لتعرفي الكثير عن أسرار جسمك يا ورقاء .
فسكتت ورقاء برهة ثم قالت في خجل : ولكنني لا أرغب في المطالعة يا معاد ، أنني أحب أن أسمع من أن أقرأ .
قالت معاد : ولكن السماع وحده لا يكفي ولا يغني يا ورقاء فما لم يعتمد الانسان على ذهنه في فهم ما يريد لما تفهم ما يكفيه . فالانسان الذي يسمع أكثر مما يقرأ يصبح اتكالياً في فهمه للأمور ، لأنه يستقبل الحقائق مشروحة وموضحة ولا يكلف نفسه مشقة مطالعتها واستيعابها شرحاً وتوضيحاً وما


( 102 )


دام الفهم معتمداً على الآخرين كانت المعلومات محدودة لأن السماع مهما كان لا يبلغ إلى مستوى القراءة في الكم والكيف.
وهنا تململت الجدة على فراشها فقامتا إليها معاً . وانحنت عليها معاد تسأل عن راحتها فابتسمت الجدة وشكرتهاعلى موقفها منها في الليلة الماضية وقالت لها :
أنني دعوت لك كثيراً لموقفك البارحة مع ورقاء وسوف أدعو لك ما دمت حية .
قالت معاد : أنني أشكرك جداً وأرجو لك العمر الطويل .
قالت الجدة : ولكن ما هو اسمك يا ابنتي ؟
قالت معاد : ان اسمي معاد .
فسكتت الجدة لحظة ثم قالت : لقد سبق أن سمعت بمثل هذا الاسم من قبل ولكن ما هو اسم أبوك يا معاد ؟
وهناك لاحظت ورقاء أن معاداً قد تجاهلت السؤال حيث قالت : أنني سوف أزورك في كل يوم يا خالة وأرجو أن تتقدم صحتك بسرعة بفضل الله وبفضل عناية ورقاء .
فضحكت ورقاء وهي تقول : وبفضل الدكتورة معاد أيضاً . ثم عادتا للجلوس ، وكانت ورقاء تود لو استأنفت


( 103 )


معاد حديثها ولكن خشيت أن تطلب منها ذلك فتثقل عليها فيه ، ولهذا مرت عليهما فترة سكوت تتخلله بعض الكلمات وعندما أرادت معاد أن تذهب طلبت منها ورقاء أن تترك الكتاب عندها لتقرأ فيه .

***


استمرت معاد تزور المريضة في كل يوم الشيء الذي شد أواصر العلاقة بينها وبين ورقاء ، سيما وأن ورقاء كانت تستفيد منها فكرياً فيضاعف ذلك من إعجابها وحبها لمعاد ، ولكن فجأة مر يوم ويومان دون أن تزور معاد غرفة المريضة جدة ورقاء ، وفي اليوم الثالث عندما مرت عليهم الدكتورة عبير سألتها ورقاء هل أن الدكتورة معاد مجازة منذ يومين ؟
قالت : كلا ولكنها مريضة !
فندت عن ورقاء آهة تألم وقالت :
مريضة ؟ ولكن أين هي في البيت أم في المستشفى ؟
قالت : أنها في المستشفى ثم انصرفت لكي لا تفسح الطريق لسؤال جديد .
وبقيت ورقاء في قلق حائرة فهي تود أن تذهب إلى معاد ولكنها لا تعرف كيف ؟ وهل يمكن لها ذلك ؟


( 104 )


وبعد ساعة دخلت الممرضة المسؤولة فسألتها عن معاد فقالت : أنها مريضة منذ يومين .
قالت وهل يمكن عيادتها في غرفتها ؟
قالت الممرضة : أنها ليست في غرفتها.
قالت ورقاء : أين هي إذن ؟
قالت أنها نقلت إلى الغرفة المقابلة لغرفتكم من الجهة الثانية.
فردت ورقاء في فزع قائلة : آه أنها مريضة جداً إذاً !!
فردت الممرضة : أنها مصابة بانفلونزا حادة ولهذا ومن أجل صحتها ووقاية لقسم الطبيبات من العدوى رجح الطبيب نقلها إلى غرفة العلاج .
فأطرقت ورقاء تفكر في مرض معاد بألم ثم قالت :
ليتني اتمكن أن أذهب لعيادتها .
قالت الممرضة : وماذا يمنعك من الذهاب ؟
قالت : جدتي كيف أتركها وأذهب ؟.
قالت الممرضة : ان جدتك بخير وسوف أمر عليها أنا خلال فترة غيابك عنها .
قالت ورقاء : ولكن متى يمكنك الحضور ؟


( 105 )


قالت : بعد الثانية عشر ظهراً .
فشكرتها ورقاء وبقيت تنتظر ساعات بعد الظهر على لهفة وقلق حتى حان الوقت فتوجهت نحو غرفة معاد وطرقت الباب بهدوء خشية أن تكون المريضة نائمة ، وفوجئت أن وجدت شاباً يفتح لها الباب ، فارتبكت وحاولت أن تتراجع ولكن مظهر الشاب الوقور بعث في نفسها شيئاً من الثقة فسلمت ثم قالت : كيف حال الدكتورة معاد ؟
فأفسح الشاب لها الطريق قائلا : تفضلي اليها فهي مستيقظة .
فدخلت ورقاء تمشي بخطوات مرتبكة ولاحظت أن الشاب خرج من الغرفة وأغلق الباب وراءه فقالت في نفسها : لا شك أنه الطبيب ، ثم مشت إلى حيث ترقد معاد على السرير ، فانحنت نحوها تحييها بعطف وتسأل عن صحتها بلهفة ، فوجدت الحمى لديها مرتفعة وسمعت أنيناً خافتاً يصدر عنها ، الشيء الذي آلمها جداً فنادتها بصوت خافت قائلة :
دكتورة معاد ! دكتورة معاد ! كيف أنت يا أختاه ؟ فحاولت معاد أن تبتسم وأجابت بصوت واهن :
أرجو أن أكون بخير ، كيف هي جدتك يا ورقاء ؟
قالت : أنها بخير تسلم عليك وتدعو لك بالصحة .


( 106 )


ثم جلست ورقاء إلى جوار المريضة ولاحظت أن معاداً مستغرقة في بحران من الحمى ، وأن غدائر شعرها مبعثرة على الوسادة مع حمرة قانية تصبغ وجهها الجميل الذي كانت تراه بدون حجاب لأول مرة ، فودت لو تمكنت من مساعدتها بأي ثمن .
ومضت الدقائق طويلة ومتعبة وهي جالسة إلى جوار المريضة يعز عليها أن تذهب وتتركها وحيدة ، ومن ناحية ثانية كانت تحس بالقلق من أجل جدتها المريضة ولا تتمكن أن تتأخر عنها أكثر من هذا.
ثم فتحت معاد عينها ورأت ورقاء ما زالت إلى جوارها فقالت لها بصوت متقطع : لماذا أنت ما زلت هنا يا ورقاء ؟ عليك أن تعودي إلى جدتك المريضة يا عزيزتي .
قالت ورقاء : ولكن كيف أتركك وحدك يا معاد ؟
قالت معاد : أنني لست وحدي يا ورقاء نادي لي أخي إذا خرجت .
قالت ورقاء : وأين أجد أخاك يا معاد ؟
قالت أحسبه في غرفة الاستعلامات ، فظهرت الحيرة على ورقاء وقالت :
ولكن ما هو اسمه ؟ أقصد كيف أتمكن أن أعرفه فأستدعيه ؟


( 107 )


فابتسمت معاد رغم حالها وقالت : ان اسمه سناد وهو الذي فتح لك الباب .
قالت ورقاء : آه لقد حسبت أنه الطبيب.
قالت معاد : صحيح أنه الطبيب كما خمنت ولكنه أخي في الوقت نفسه ولولا ذلك لما كنت أمامه هكذا.
قالت هذا وأشارت إلى خصلات شعرها المبعثرة .
قالت ورقاء : لقد حسبته طبيباً غريباً حين رأيته قد خرج ولم يعد.
قالت معاد : لقد خشي أن يضايقك بوجوده ولهذا خرج .
وهنا قامت ورقاء وقبلت معاد متمنية لها الشفاء وخرجت من الغرفة متوجهة إلى غرفة الاستعلامات ، وكانت تشعر بالحراجة لهذه المهمة ولكنها وجدته أمام الغرقة وقد لاحظ انصرافها دون أن تقول له شيئاً وبذلك تخلصت مما كانت تستشعره من إحراج وذهبت إلى جدتها مسرعة فوجدتها ما زالت نائمة فجلست إلى جوارها تقرأ ولم تطل مع الجدة سنة النوم إذ فتحت عينها ونظرت إلى ورقاء فسألتها ورقاء عن راحتها فردت قائلة بارتياح :
أنني بخير ولكن كيف وجدت الدكتورة معاد ؟


( 108 )


قالت ورقاء بألم : إنها مريضة جداً يا جدتي .
قالت الجدة : شفاها الله وعافاها ، ولكن من كان معها .
قالت ورقاء : يبدو أن أخاها طبيب وكان إلى جوارها حين ذهبت ولكنه خرج عند دخولي .
فقالت الجدة : من هذا يبدو أنه انسان مهذب.
وفي صبيحة اليوم الثاني ذهبت ورقاء إلى عيادة معاد من جديد فوجدتها أحسن حالاً مما كانت عليه وقد رحبت بها وشكرت لها زيارتها الماضية فقالت ورقاء :
لقد عز عليّ جداً أن أراك في تلك الحالة سيما عندما تحسست جبينك فوجدته يلتهب من الحرارة ، فقد أحسست بأنني أشاركك الألم ولكن بشكل روحي.
فابتسمت معاد وقالت : يبدو أن أعصاب الحس لديك مرهفة جداً يا ورقاء ؟
فضحكت ورقاء وقالت : أنه أمر طبيعي وبسيط ولا يحتاج إلى مزيد في الحساسية .
قالت معاد : صحيح أنه أمر طبيعي ولكنه ليس بالأمر البسيط كما تتصورين ، فأن عملية الاحساس وسرعتها أمر يسبقه العديد من العمليات داخل الجسم .
فاستغربت ورقاء وقالت : العديد من العمليات وكيف ؟


( 109 )


قالت معاد : هل تريدين أن أشرح لك ذلك بالتفصيل أم باختصار ؟
قالت ورقاء : كما تحبين يا معاد .
قالت معاد : تنتشر على مستوى سطح الجلد شبكة هائلة يا ورقاء ومهمتها هي نقل الأخبار التي تصلها من مختلف طرق الحس ، وتنتهي جميع هذه الألياف العصبية التي تتشكل منها الشبكة تنتهي بجسيمات خاصة ينفرد كل منها بنقل حس معين محدد ، فهناك مثلاً جسيمات تنقل الحر ، وجسيمات تنقل البرد ، وأخرى تحس الألم ، وهكذا نجد أن كل جسيمة من هذه الجسيمات تنفرد بمهمة خاصة لا تؤديها سواها.
قالت ورقاء : وما هو عدد هذه الجسيمات يا معاد ؟
قالت معاد : أنها تتصاعد أعداد هذه الجسيمات في سطح الجلد إلى أعداد هائلة .
قالت ورقاء : فما هو عدد أجهزة إحساس الألم مثلاً ؟
قالت معاد : هناك ( 3 ـ 5 ) ملايين جهاز حساس للألم و ( 300000 ) جهاز حساس للحر و ( 500000 ) جهاز حساس للمس والضغط .
قالت ورقاء : وما هي هذه الأجهزة يا معاد ؟


( 110 )


ـ قالت معاد : مهمتها هي نقل التنبيهات عن طريق الأعصاب الحسية حتى توصلها إلى المنطقة الخلفية من النخاع الشوكي حيث تبلغ الأخبار إلى الخلايا . وعند ذلك تقوم الخلايا بالاتصال بالمنطقة الأمامية من النخاع الشوكي حيث ترقد هناك مفاتيح السيطرة على العضلات ، ولهذا تجدين أن اليد إذا لامست الحرارة ترتد عنها بسرعة تبلغ جزء من مائة من الثانية ، هذه الساعة الهائلة التي تمر بنا أو نمر بها دون أن نعلم أي تخطيط هائل جبار سبق هذه العملية البسيطة ودون أن نستشعر الصغار أمام عظمة الخالق المبدع المدبر.
كانت معاد تتحدث وورقاء تستمع إليها بانجذاب وقد جلست على الكرسي الذي أمامها مصغية بكل انتباه . وودت لو أن معاداً بقيت تتكلم أكثر وعندما سكتت أرادت أن تطلب منها الاستمرار ولكنها خشيت أن ترهق صحتها فبقيت ساكتة تنظر إليها في اعجاب واكبار ثم قالت : إن حديثك شيق يا معاد فأنني محرومة ممن يزودني بالمعلومات الدينية سيما عن إثبات وجود الخالق فليس لدي من يعينني على مجابهة الشبه والتشكيكات مع كثرة ما يواجهني منها في مختلف المناسبات ، وليتني كنت مثلك لكي أفهم ما تفهمين وأعرف من أمر ديني وخالقي ما تعرفين ، لقد كنت أتمنى أن أدخل الكلية الطبية ولكن درجاتي لم تساعدني على ذلك .
فابتسمت معاد وقالت : إن معرفتي لا تستند إلى الكلية


( 111 )


الطبية فلو لم أكن أعرف لما استفدت شيئا مما قرأت هنا.
قالت ورقاء : إذن فأنت كنت تعرفين المزيد عن دينك قبل أن تدخلي الكلية ؟
قالت : نعم ، لأن أخي كان يوجهني ويدفعني إلى القراءة والمطالعة منذ الطفولة ، وقد ساعدني على تفهم الكثير مما كان يعسر عليّ ، ولم تعلم ورقاء لماذا خطر لها أن تسأل قائلة :
أي إخواتك هذا الذي تعهدك بالتربية والتوجيه ؟
فابتسمت معاد وقالت : ليس لي إلا أخ واحد وهو الذي ما زال يتعهدني بكل شيء ، حتى بالتمريض إذا مرضت ، انه كل شيء بالنسبة لي .
قالت ورقاء : أدامه الله لك وأدامك له يا أختاه .
قالت معاد : تصوري أنه عطل عيادته من أجلي خلال أيام شدة حماي !
وهنا قالت ورقاء : إذن فهو ليس معك هنا في نفس المستشفى ؟
قالت : كلا فهو قد أكمل ما عليه وفتح له عيادة خاصة ، عند هذا لاحظت ورقاء أن مدة غيابها عن جدتها قد طالت أكثر مما ينبغي فنهضت لكي تودع معاداً وهي تقول : يعز عليّ أن أتركك وحيدة ولكن عليّ أن أذهب من أجل جدتي.


( 112 )


قالت معاد : لا عليك يا عزيزتي فإن سناداً يأتي بعد قليل إن شاء الله .
قالت ورقاء : وسوف أزورك غداً أيضاً .
قالت معاد : سوف أعود صباح غد إلى غرفتي فتفضلي إلى هناك.
قالت ورقاء : ولكنني سوف أتعبك بالأسئلة يا معاد .
قالت معاد : إن تعبك راحة يا ورقاء ، فتعالي إليّ متى أحببت وستجديني سعيدة بزيارتك يا أختاه.
فضحكت ورقاء وقالت : إذن فأستودعك الله إلى لقاء غد إن شاء الله .

***


( 113 )


وفي عصر اليوم الثاني ذهبت ورقاء إلى عيادة معاد في غرفتها الخاصة بقسم الطبيبات ، فاستقبلتها معاد مرحبة .
فقالت ورقاء : كيف أنت اليوم يا معاد ومتى سوف تمارسين أعمالك لكي تعودي إلينا من جديد ؟
فقالت معاد : أنني اليوم بخير ولكنني أشعر بشيء من الألم في منطقة الطحال وأخشى أن يكون ذلك من تأثير الأنفلونزا ولهذا فأنا أنتظر نتيجة التحليل .
قالت ورقاء : أرجو أن يكون الطحال سالماً . ثم أنني أتصور أن آلام الطحال ليست مهمة جداً.
فابتسمت معاد وقالت : ولكن الطحال منطقة مهمة جداً في جهاز جسم الإنسان لأن الله عز وجل لم يخلق عضواً من أعضاء جسم الانسان دون أن يكون له أكبر الأثر في سلامة الجسم.
قالت ورقاء : فما هو أثر الطحال يا ترى ؟ وما هي مهمتة التي جعله الله تبارك وتعالى أميناً على ادائها ؟
قالت معاد : أنه مقبرة سيارة مع الجسم تستقبل جثث الكريات الحمر عندما ينتهي عمرها الذي لا يطول عادة أكثر من شهرين واللطيف في عملية الدفن هذه أن ذرة الحديد التي تنقل الكريات حين موتها إلى الطحال تدفنها هناك ثم تعود خاليه .


( 114 )


قالت ورقاء : ولكن لماذا تعود هي إذن ؟
قالت معاد : لأن الجسم يستفيد منها في عملية بناء الكريات الحمر الجديدة .
قالت ورقاء : ولكن هل أن ذرة الحديد هذه هي التي تصنع الكريات الحمر ؟
قالت معاد : كلا أنها عنصر يستفاد منه في صنع الكريات ، أما المصنع الرئيسي للكريات الحمر وحتى البيض منها فهو النخاع الموجود في باطن العظام ، وهكذا ترين عظمة هذا المصنع الهائل الذي يسمى بجسم الانسان وكيف أن كل عضو منه ينفرد بمهمة خاصة وعمل معين .
قالت ورقاء : حدثيني عن ذلك يا معاد .
قالت معاد : سوف أعطيك مثلا عن ذلك . وهو أن جهاز الدوران الذي ينقل الغذاء والأوكسجين إلى الأنسجة العطشى له مهمة ثانية في الوقت نفسه وهي إرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء .
قالت ورقاء : إذن فهو يقوم بمهمة المعبد للطرق والمسهل للمواصلات بين الأمعاء ؟
قالت معاد : نعم أنه كذلك ، وهكذا أيضاً جهاز التنفس الذي نعيش معه العمر دون أن نلتفت إلى عظمة خالقه المخطط والموجه له ، فهو يستورد الغازات الضرورية للبدن


( 115 )


مثل الاوكسجين ويطرح غاز الفحم . وهذه عملية تنقية للدم من كل ما لعله يعلق له من أكدار . يستورد ما يحتاجه البدن ، ويصدر ما لا حاجة له به ، أنها الدقة الهائلة في الخلق والرحمة المعطاء في تدبير شؤون الحياة .
قالت ورقاء : أزيديني بالله عليك يا معاد .
قالت معاد : أننا نأكل كل ما يلذ لنا ، ونشرب كل ما يطيب لنا شربه غافلين عما هيأته لنا الرحمة الآلهية من ممون مخلص أمين ينقل إلى الأمعاء النشويات ، والبروتينيات ، والدسم ، والماء والأملاح المعدنية ، والفيتامينات ، وكل هذه هي مما يحتاجه جسم الانسان ، ومن ناحية ثانية لا يغفل هذا الممون الأمين عن إلقاء الفضلات التي لا يحتاجها البدن خارج الحدود .
قالت : ورقاء وما هو هذا الممون يا معاد ؟
قالت معاد : ليس هذا الممون الأمين سوى الجهاز الهضمي لدى الانسان .
وكانت ورقاء تستمع إلى معاد باهتمام بالغ فلما سكتت أردفت قائلة : والكبد ما هي وظيفته إذن ؟
قالت معاد : الكبد هو مركز الجمارك العام في جسم الأنسان .
قالت ورقاء : وكيف ؟


( 116 )


قالت : انه ينقي كل ما يدخل إلى البدن عن الطريق الهضمي فلا يسمح إلا بمرور ما هو مرغوب فيه وصالح للجسم . أنه من خطوط الدفاع المهمة التي خلقها الله تبارك وتعالى للدفاع عن سلامة هذا الجسم القاصر الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً .
وعند ذلك سكتت معاد وكأنها أرادت تبديل مجرى الحديث . فأعطت لورقاء فترة سكوت وتفكر ثم قالت : والآن حدثيني عن صحة جدتك يا ورقاء .
فانتبهت ورقاء من استغراقتها الفكرية وقالت أنها أحسن حالاً والحمد لله . ولهذا تمكنت من تركها وأتيت اليك وقد ألحت عليّ أن أعود إلى الدوام في الأسبوع القادم ولكنني ما زلت مترددة في موضوع الدوام .
قالت معاد : لقد طال انقطاعك عن الدراسة يا ورقاء وأنا أيضاً أرجح عودتك إلى الدوام وسوف أحاول أن أمر أنا عليها خلال غيابك فليس من الصالح تخلفك عن الدراسة أكثر من هذا.
قالت ورقاء : أن جدتي المسكينة وفرت لي جميع أسباب الراحة ، وبذلت لي المزيد من الحب والحنان ولكنني ما زلت أشعر بالوحدة والغربة في أمثال هذه الحالات لأنني البنت الوحيدة لأبنها الوحيد الذي توفى شاباً وكان عمري حين وفاته


( 117 )


سنة واحدة ، أما والدتي فقد كانت قد توفيت عل أثر ولادتي مباشرة .
قالت معاد : إذن فأنت بدون أخت ، وأنا بدون أخت ، فلتكن كل منا أختاً للثانية إذا وافقت على ذلك.
فأشرق وجه ورقاء وقالت في لهفة : أتراك جادة فيما تقولين ؟ هل تقبلين أخوتي يا معاد ؟
قالت معاد : وأكون سعيدة بها فهل توافقين أنت ؟
قالت ورقاء : نعم وكيف لا !.
قالت معاد : إذن فقد اتفقنا يا أختاه والآن أن عندي لك كتاباً حبذا لو قرأتيه .
قالت ورقاء : الحقيقة أنني أصبحت أفكر جدياً بالمطالعة ولكنني لم أجربها لحد الآن .
قالت معاد : إذن جربي مع هذا الكتاب ، ثم أعطتها كتاباً قرأت ورقاء اسمه فوجدته ( التكامل في الاسلام ) ولاحظت أنه الجزء السابع منه ، فأخذته شاكرة ثم ودعت معاد وذهبت إلى جدتها .
ومضت الأيام ، وكانت معاد قد عادت إلى عملها واستمرت تمر على ورقاء في كل يوم وتعنى بجدتها حال ذهابها إلى الكلية وكانت ورقاء قد قرأت كتاب التكامل في الاسلام .


( 118 )


وطلبت الأجزاء الباقية منه ، لأنها شعرت ولأول مرة بالرغبة في استيعاب الكتاب ، فكانت تختلس الوقت بين دوامها وتمريض جدتها لتقرأ من الكتاب بعض المواضيع وهي في كل ذلك تسأل معاد عما يخطر لها حول ما تقرأ . ولهذا أخذت تشعر بأنها أصبحت مشدودة إلى معاد فكرياً ، وروحياً ، وأن من العسير عليها أن تبتعد عنها بعد الآن .
وفي يوم من الأيام كانت ورقاء تجلس أمام معاد تستمع إليها وهي تتحدث عن عظمة الخالق التي تظهر بعض آثارها في دقة خلق الانسان فقالت لها :
هل حقاً يا معاد أن خلايا جسم الانسان تتغير وتبدل ؟
قالت معاد : نعم أن الانسان يتغير بشكل مستمر الاخلاط ، والخلايا ، والكريات ، والشحوم ، والبروتينات ، والماء إلى آخر ما في جسم الانسان من خلايا ، وحتى بالنسبة للخلايا العصبية فأنها تتغير وتتبدل أيضاً ، وعلى العموم فأن الجسم كله يتجدد كل فترة قد تقدر ببضع سنين ولا تزيد بحال على عشر سنين.
وهنا قالت ورقاء مستغربة : حتى الخلايا العصبية تتبدل أيضاً ؟ ولكن كيف أليست الذاكرة ترتبط بالخلايا العصبية ؟ فإذا تبدلت كان معنى ذلك أن الانسان يفقد ذاكرته وكل معلوماته السابقة ؟


( 119 )


قالت معاد : وهذا هو جانب مدهش من جوانب الخلق ونحن عن هذا الطريق نستدل على أن الذاكرة والذهنية الانسانية عموماً ليست ظاهرة مادية ولا يمكن تفسيرها كما يقول الماديون وإنما هي ظاهرة روحية مجردة عن المادة ولا تخضع لقوانينها من التبدل والتغير والتحلل ، وهكذا تلاحظين أن الذاكرة لو كانت مجرد ظاهرة مادية في الخلايا العصبية ومرتبطة بها لنسي الانسان كل شيء بعد مضي فترة من الزمن تبعاً لتغير تلك الخلايا العصبية ، وأصبح عليه أن يتعلم حتى اسمه واسم أبيه من جديد ، في الوقت الذي نجد أن الانسان العادي يجمع في كل يوم من الصور التي يراها فقط مقدار نصف مليون صورة ، تجتمع كلها في مستودعات الذاكرة العظيمة ، ومعنى ذلك أن ما يقرب من عشرة مليارات من الصور تختزن في مستودعات الذاكرة خلال متوسط حياة الانسان العادي ، هذا بالاضافة إلى المسموعات ، وغيرها مما يلمس ويحس .
وكانت ورقاء تستمع بانجذاب وعندما سكتت معاد قالت : إنها أرقام هائلة لا يكاد يتصورها الانسان .
قالت معاد : نعم أنها أرقام هائلة وقد قدر البعض أن ما تخزنه الذاكرة يتسع إلى تسعين مليون مجلد زاخر بالمعلومات ، فردت ورقاء تقول : تسعين مليون مجلد !!
قالت معاد : نعم ولك أن تعرفي بعد هذا دقة الخالق وحكمة الخالق.


( 120 )


قالت ورقاء : ألا يمكن لنا إثبات وجود الخالق للمنكرين عن هذا الطريق يا معاد ؟
أليس في خلق الكون وما فيه حجة بالغة لنا قبالهم يا أختاه ؟
فابتسمت معاد ثم قالت : أنها حجج بالغة يا ورقاء ولكن فيهم من إذا أردنا أن نثبت وجود الله له عن طريق الاستشهاد بخلق الكون وما فيه قال أنه يشك بوجود الكون ولا يعترف به كموجود حقيقي لم يصوره الوهم والخيال !
قالت ورقاء : ومن هم هؤلاء يا معاد ؟
قالت : أنهم المشككون الذين ينكرون وجود كل شيء حتى أنفسهم ، أنهم يتحدثون ويفكرون بشكل يدعو الانسان إلى فقدان الشعور بقيمة ما حوله ولهذا فهو يعيش حياة الوهم والخيال ما دام لا يجد في الكون إلا وهماً وخيالاً .
قالت ورقاء : وما هو موقفنا من هؤلاء يا معاد ؟
قالت : أننا نتمكن أن ندحض شبههم ببساطة .
فتساءلت ورقاء في لهفة : ولكن كيف ؟
قالت معاد : أن المشككين يقولون أن جميع القضايا مشكوك فيها أليس كذلك ؟.
قالت ورقاء : نعم .


( 121 )


قالت معاد : إذن دعينا نعرف ماذا يقولون عن هذه القضية نفسها القائلة أن كل القضايا مشكوك فيها فهل يشكون فيها أو لا يشكون ؟
قالت ورقاء : طبعاً أنهم لا يشكون فيها لأنهم يؤكدونها .
قالت معاد : إذا كانوا لا يشكون فيها فقد اعترفوا إذن بأن بعض القضايا غير مشكوك فيها وهذا يناقض مبدأهم في الشك وإذا كانوا يشكون في هذه القضية أيضاً فهذا تنازل منهم عن مبدئهم ويعتبر تخلياً عن تبني مبدأ الشك .
قالت ورقاء : هذا نقاش رائع فزيديني بالله عليك .
قالت معاد : يمكنك يا أختي أن تسأليهم منذ البدء هل تفترضون أن موقفنا الذي يتحلى باليقين يتعارض مع موقفكم الذي يتسم بالشك في كل شيء أو لا ترون تعارضاً بين الموقفين فإن سلمتم بالتعارض والتناقض بينهما فهذا يعني انكم تسلمون بأن النقيضين لا يمكن أن يجتمعا . وهذه إذن حقيقة لم يرق إليها شككم وبذلك يثبت أن بعض الحقائق يجب التسليم بها ، وإذا لم تسلموا بوجود أي استحالة في أن يكون الموقفان معاً على صواب فلماذا تعارضوننا وتعتبروننا في إيماننا مخطئين ؟
أليست هذه الحجة رائعة يا ورقاء ؟
قالت ورقاء : نعم أنها رائعة ومنطقية تماماً .


( 122 )


قالت معاد : وان هناك بعض الحجج الأخرى لا يسع الوقت لذكرها الآن ولهذا سوف أؤجلها إلى اللقاء القادم إن شاء الله .
قالت ورقاء : انني أقدر ظروفك ومسؤولياتك يا معاد وأرجو ألا يطول انتظاري للقاء الثاني فأنا جد مشوقة إلى تكملة الحديث .
فضحكت معاد وقالت : أنه لن يتعدى ظهر يوم غد إن شاء الله يا ورقاء وقد أتيت لك بكتاب أرجو أن تطالعي فيه خلال هذه الفترة ثم ناولتها الكتاب وذهبت إلى دورتها المعتادة على المرضى.
وفي عصر اليوم الثاني جلست ورقاء تنتظر حضور معاد وأمسكت بيدها كتابا تقرأ فيه فترة ثم تستسلم للتفكير فترة أخرى ، حتى أتت معاد ، فاستقبلتها بحرارة وجلست أمامها تنتظر تكملة الحديث ، ولما وجدت أن معاداً لا تريد أن تتطرق إلى حديث أمس قالت لها : أكملي حديثك عن أفكار المشككين .
فابتسمت معاد وقالت : أراك مهتمة جداً بهذا الموضوع ؟
قالت ورقاء : نعم لأنني قرأت وسمعت الكثير عنه .
قالت معاد : نحن نتمكن أن نقول لهم متسائلين : أنكم آمنتم بمبدأ الشك هذا من خلال برهان أم لا ؟ فإذا قالوا أننا


( 123 )


آمنا به من دون برهان فلن تبقى لادعاءاتهم قيمة ما دامت لا تستند إلى برهان.
قالت ورقاء : وإذا اعترفوا بوجود برهان يدعوهم إلى الايمان بمبدأ الشك ؟
قالت معاد : أما إذا اعترفوا بوجود برهان جرهم إلى الايمان بمبدأ الشك فنعود لنسألهم ، هل أن بين البرهان الذي جركم إلى مبدأ الشك وبين النتيجة التي حصلت من ذلك البرهان صلة أم لا ؟
قالت ورقاء : هبيهم قالوا بعدم وجود صلة بين النتيجة والبرهان .
قالت معاد : أما إذا قالوا بعدم وجود صلة بين البرهان والنتيجة التي هي ( الشك في كل شيء ) فنحن نقول لهم ، إذن فأي قيمة تبقى للأدلة على هذه النتيجة ( نتيجة الشك ) ما دامت لا تمت للبرهان بسبب ؟
قالت ورقاء : هذا إذا لم يعترفوا بوجود صلة بين النتيجة والبرهان أما إذا اعترفوا بوجود صلة فماذا ؟
قالت معاد : أما إذا اعترفوا بوجود صلة بين البرهان ونتيجته التي هي الشك في كل شيء فنحن نقول لهم :
إذن فإن البرهان هو العلة والسبب الذي أدى إلى هذه لنتيجة ! ومعنى هذا أنكم آمنتكم بضرورة وجود علة ومدلول


( 124 )


هذا الاعتراف هو الاعتراف بوجود قانون العلية ( أي قانون السببية ) إذن ، فهناك شيء موجود غير مشكوك فيه إلا وهو قانون العلية .
قالت ورقاء : وإذا حاولوا نفي قانون السببية ؟
قالت معاد : أنهم إذا حالوا نفي السببية اي ( العلية ) فنفيهم هذا منهم على شكلين :
أولا : أن هذا النفي يستند إلى دليل .
ثانياً : أنه لا يستند إلى دليل .
قالت ورقاء : فإن قالوا أنه لا يستند إلى دليل ؟
قالت معاد : نقول لهم : أنه فقد قيمته إذن لافتقاده الدليل مع حاجته إليه .
قالت ورقاء : وإذا قالوا أنه يستند إلى الدليل ؟
قالت معاد : أما إذا قالوا أنه يستند إلى دليل فأن معنى ذلك الاعتراف منهم بقانون العلية . إذ اعترفوا بوجود سبب لهذا البرهان حيث قدموا هذا السبب كدليل لصدق مدعاهم .
وعند هذا سكتت معاد فقالت ورقاء : هل تسمحين لي أن أكتب خلاصة هذا النقاش ؟


( 125 )


قالت معاد : نعم ومن الصالح أن تكتبي لكي لا يذهب عن بالك بعض نقاطه .
فأخذت ورقاء تكتب حتى فرغت من الكتابة ورفعت رأسها نحو معاد وكأنها تستزيدها من الحديث ولكن معاداً قالت :
لقد جئتك في مهمة خاصة يا ورقاء راجية منك مساعدتي عليها .
قالت ورقاء : أنني أرحب بكل مساعدة مني لك .
قالت معاد : أنها تتعلق بزواج أخي سناد فهل أنت مستعدة لمساعدتي يا ورقاء لأنني مهتمة جداً بهذا الموضوع .
قالت ورقاء : إذن ، وما دام الأمر يهمك فأنني سوف أساعدك بكل جهدي يا أختاه ، ولكن كيف ؟ وعن أي طريق ؟.
قالت معاد : إن أخي سناداً عزيز عليّ جدا وهو جدير بكل محبة وإعزاز إذ أنه انسان مؤمن ويجسد في سلوكه جميع معاني الايمان ، ولهذا فهو رائع في كل شيء ، ومحبب إلى كل قلب ، ومريح لكل انسان وأنا منذ مدة أتمنى له أن يحصل على زوجة تسعده وتصبح له قرينة بكل شيء وقد وجدتها أخيراً والحمد لله .
فردت ورقاء قائلة : الحمد لله .


( 126 )


قالت معاد : وقد كنت أريد أن أطمئن إلى اقتناعه بها لكي أصبح واثقة من سعادة الطرفين وترحيبهما بهذه الوصلة . وهنا ردت قائلة بصوت تشوبه اللهفة : وهل اقتنع ؟
قالت معاد : نعم ولم يبق سوى اقتناعها هي وهذا ما أريد مساعدتك عليه .
قالت ورقاء : وكيف ؟
قالت معاد : أن تحاولي إقناعها بصلاحه لها معتمدة بذلك على شهادتي بحقه وأنا ضمينة لك أنك سوف لن تندمي على ذلك أبدا .
وكانت ورقاء تستمع في حيرة وارتباك ثم قالت : ولكن من هي ؟ وأين يمكنني أن أجدها ؟
فابتسمت معاد وقالت : ألا يمكنك أن تحزري من تكون ؟
قالت ورقاء : كلا ...
قالت : خمني يا ورقاء.
قالت ورقاء : لا أتمكن أن أخمن .
قالت معاد : أنك تعرفينها أكثر من كل انسان وهي قريبة إليك وقريبة جداً يا ورقاء فهل عرفت من تكون ؟
فأطرقت ورقاء وقد علت وجهها حمرة الخجل ولم تجب .


( 127 )


قالت معاد : أراك عرفت الآن من هي يا ورقاء . أفلا يحق لي أن أطلب منك المساعدة في أمرها ؟.
ولم تجب ورقاء . فعادت معاد تقول : ما لي أراك ساكتة يا ورقاء ؟ ألا تثقين فيَّ بابداء رأيك يا عزيزتي ؟ ألم نتفق أن نكون اختين ؟ ثقي أن أمرك يهمني كما يهمني أمر سناد . وقد درست هذا الموضوع من ناحيتك كما درسته من ناحيته هو . ولو لم أكن أعرف فيه الصلاح والخير لما عرضته عليك . ولك أن تسألي عن سناد كل من يعرفه لكي يشهد لك بحقه .
هنا رفعت ورقاء رأسها وقالت في خجل : إن شهادتك وحدها كافية يا معاد . ولكنني قد فوجئت ولم أكن أتوقع هذا . ولهذا فأنني سوف أفاوض جدتي في الأمر .
قالت معاد : ولكن المهم أن تكوني أنت مقتنعة فيه يا ورقاء فهل أنت مقتنعة ؟.
فكادت ورقاء أن تقول : نعم ، لأنها كانت تحس بكامل الاقتناع والارتياح ولكنها وجدت أن من الخير لها أن تأخذ فرصة للتفكير أكثر لكي يكون جوابها بعيداً عن الارتجال فقالت :
أعطيني فرصة للتفكير يا معاد .
قالت معاد : طبعاً . فإن من حقك ذلك يا ورقاء . ولكن ما هو مدى هذه الفرصة ؟


( 128 )


قالت : يوم أو يومين .
قالت معاد : لك ذلك يا عزيزتي وأرجو أن يقودك تفكير لما فيه الخير .
فضحكت ورقاء وقالت : هل تعلمين أنني لم أعود نفسي على التفكير في أموري الخاصة من قبل لأن جدتي عودتني أن أتكل عليها بكل شيء .
قالت معاد : إذن جربي تفكيرك المستقل في هذه المرة .
قالت ورقاء : نعم سوف أجرب والتجربة هي طريق كل معرفة كما يقولون .
فابتسمت معاد وقالت : ولكن هذه القاعدة غير صحيحة يا ورقاء .
قالت ورقاء : وكيف ؟؟ أليست التجربة هي الأساس لكل معرفة وتصديق .
قالت معاد : كلا . وليست هذه القاعدة سوى دعوى من ادعاءات الجريبيين الذي لا يريدون أن يؤمنوا بتصديق أي قضية مسبقة بتجربة تؤكدها . متجاهلين أن إيمانهم هذا هو دليل على إمكان الايمان بقضية خالية عن التجربة .
فظهر الاهتمام على ورقاء وقالت : هل لك أن تشرحي


( 129 )


لي ذلك يا أختاه فإن لدينا معيدة في قسم المكانيك ما برحت تؤكد هذه القاعدة بمناسبة وبدون مناسبة .
قالت معاد : سوف أشرح لك ذلك غدا إن شاء الله لان وقتي قد انتهى وعليّ أن أبدأ بتفقد المرضى بعد دقائق .
جلست ورقاء بعد انصراف معاد تستعيد كلماتها فتستشعر الغبطة والسرور ، وحدثت نفسها قائلة :
أتراني سوف أستجيب لمعاد ، فأكون إلى جانب أخيها آخذ عنه كما أخذت هي عنه من قبل ؟
أتراه سوف يأخذ بيدي ليفتح أمامي أبواب المعرفة والهداية كما فتحها أمام معاد ؟ لكم سوف أكون سعيدة لو تم لي ذلك ، وكادت تلوم نفسها على إرجاء اعطاء الموافقة وهي لا تجد ما يحول دونها لأنه وعلى ما يبدو لها متكامل الجوانب .

***


وهكذا بقيت ورقاء تنسخ تصوراتها المشرفة حتى استيقظت الجدة من نومها فنهضت نحوها وقدمت إليها ما كانت تحتاج إليه ثم جلست إلى جانبها تحاول أن تخبرها بما تحدثت به معاد فقالت :
لقد كانت الدكتورة معاد هنا يا جدتي .
قالت الجدة باقتضاب : طبيب ...