أنغام الرحيل

البريد الإلكتروني طباعة

كانت قد بدأت تتفشى بيننا شديدة عند بعضنا وخفيفة عند الآخريات ، وبعد الظهر بقليل وصلت بعض طلائع الركب وعصرا وصلت وجبة منه . وبعد أن عرفنا باكتمال الهدي كان علينا ان نقصر ونحل احرامنا . وفعلا فقد قصرنا وبذلك تحللنا من شروط الاحرام عدى الطيب والنساء فإن ذلك لا يصح الا بعد طواف الحج .
ونمنا ليلتنا تلك في منى وذهب مجموعة من الحاج بعد منتصف تلك الليلة نحو مكة المكرمة لاداء طواف الحج ولكن انحراف صحتنا خلال تلك الليلة منعنا عن الالتحاق بهم .. وفي صبيحة اليوم الثاني كان علينا ان نرمي الجمرات الثلاث الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى ... وموقع الجمرات ليس ببعيد عن مخيمنا والطريق الذي يفصل بيننا وبينه واضح المعالم مستقيم الشوارع .
وهذه من اكبر النعم التي من الله بها علينا .. ولهذا فقد توجهنا صباح اليوم الحادي عشر للرمي وحدنا وكان الرمي مزدحما جدا والناظر اليه عن بعد لا يجد سوى رؤوس مرفوعة وأيد ممتدة وحصى تنهال كالمطر على الجمرات ، منظر رهيب يومي بالكثير .. ووصلنا الى مقربة من الجمرة الصغرى فوقفنا ننتظر لحظة مناسبة نتمكن خلالها ان نلج هذه الجموع نعم هذه الجموع التي جاءت تؤكد على الجانب السلبي من العبادة . فهي عندما طافت حول البيت وسعت بين الصفا


( 357 )


والمروة اكدت على طبيعة مسيرتها في الحياة وانها تنطلق من الله لتعود اليه وذلك هو الجانب الايجابي جانب الطاعة الكاملة والانصياع التام للخالق جل وعلى .. وهنا . هنا ، عليها ان تؤكد على الجانب السلبي من العبادة فهناك رسمت عبادتها كلمات الاطاعة .. الانقياد .. وهنا ترسم عبادتها كلمات رفض المعصية ورمي ما يعكر مسيرة الانقياد .. انه الجانب السلبي ، فلا يكفي في مفهوم التوحيد الخالص ان يعبد الانسان ربه ويعبد معه سواه وليس من علامات العبادة الصادقة ان يطيع الانسان خالقه ثم لا يرفض ما يتعارض مع أمر الخالق ولهذا اشتملت اعمال الحج على الجانبين السلبي والايجابي .. ثم هذا الاصرار على الرمي لايام ثلاثة وبحصوات سبع لكل مرة من المرات . ان هذا الاصرار هو بمثابة التأكيد والتشديد على رفض ما هو باطل ومحاربة كل ما يرمز الى الشر من قريب او بعيد . انها عهود ومواثيق تعبر عنها هذه الحصيات . وترمز اليها هذه الجمرات ولا يفوتنا ملاحظة الانسجام بين عدد اشواط الطواف والسعي وبين عدد الحصى لكل رمية وعدد ادوار الرمي . فالعدد في جميع ذلك لا يتعدى السبعة وهذه حكمة نتمكن ان نفهم بها الموازنة التي ينبغي ان يحتفظ بها الانسان في نفسه . نعم الموازنة بين مستوى تقبل المعروف ومستوى رفض المنكر : انه تشريع كامل متجانس النواحي والاطراف ولكن مما يدمي القلب ان نجد اكثر متلقي هذا التشريع غير واعين لحكمته وشموله الواسع .


( 358 )


لو كانت هذه الايدي التي تمتد لترمي هذا النصب الحجري .. لو كانت تمتد دائما وابدا لترمي كل ما يرمز الى معصية الخالق اذن لما كان للشر مقر على الارض . ولكن ..
ووجدنا اخيرا منفذا تغلغلنا خلاله مقتربات نحو الجمرة ومن رحمة الله وعنايته بنا ان تمكنا من الوصول الى أقرب نقطة حيث أدينا واجبنا بسهولة وعدنا بسهولة ايضا . وكذلك كان الحال في رمي الجمرتين فالحمد لله رب العالمين ..
وبقينا ننتظر لكي نعود الى مكة لاداء طواف الحج وبما ان المبيت واجب في منى فكان علينا أحد أمرين .. اما ان نذهب عصراً ونعود قبل منتصف الليل وأما أن ننتظر حلول منتصف الليل ثم نخرج بعد ذلك وقد اخترنا الشق الثاني فنمنا في بداية الليل ساعة او ساعتين ثم استيقظنا بعد منتصف الليل بقليل فجددنا الطهارة وخرجنا بصحبة شقيق المتعهد وخمس من نساء القافلة ورجلين من رجالهن .. واستأجر لنا صاحبنا سيارة اوصلتنا الى باب الحرم المكي ( باب سعود ) كان الطريق خاليا هادئا تنساب السيارة فيه انسيابا مريحا وكنا نشعر بالغبطة كلما اقتربنا من مكة .. فقد كنا على موعد مع ساعات عبادة وعطاء .. ودخلنا الحرم وكان لهيبته اكبر الاثر في نفوسنا وكأننا ندخله للمرة الاولى .. وهذا من خصائص ذلك الحرم الطاهر فهو لا يفقد في نفوس داخليه هيبته وروعته مهما تكررت الزيارات وتلاحقت المشاهدات .


( 359 )


وبدأنا نطوف .. وكان طوافنا هذا اسهل من طوافنا الاول بكثير وذلك لقلة الزحام وهدوء الطواف ولهذا فقد ادينا طوافنا بسهولة لم نكن نتوقعها مطلقا وخرجنا من الطواف لنتجه نحو الصلاة . ووقفنا نصلي في أقرب نقطة من مقام نبي الله ابراهيم وبعد ذلك كان علينا ان نذهب نحو المسعى فاسترحنا قليلا ثم سمينا باسم الله وتوجهنا نحو الصفا والمروة وبدأنا نقطع الاشواط هناك جيئة وذهابا .. وكان صاحبنا يحمل بيده علما اخضرا وهو يسير امامنا لكي لا نضل عنه .. ولكن المجال لم يكن يدعو الى ذلك ولم يكن هناك اي خطر للضلال او لم يكن للضلال اي خطر . وعلى كل حال . فقد سرنا داعيات مرة وساكنات اخرى حتى انهينا اشواطنا السبعة والحمد لله فهل انتهت اعمال الحج بهذا يا ترى . كلا فقد كان علينا ان نطوف طواف النساء . ولولا طواف النساء هو طواف حول الكعبة الشريفة فيه من القرب والخشوع الشيء الكثير لولا هذا لكان غير مرغوب فيه لأن وجوبه يأتي بعد ان يكون الحاج قد صرف من الطاقات اكثرها . ولكن الشعور بالقرب من تلك البقعة المباركة لابد وان يتغلب في نفس الحاج على كل تعب ونصب وطفنا طواف النساء .. وكان الطواف قد ازدحم عن طوافنا الاول نسبيا ولكن وعلى كل حال لم يكن بالشكل المتعب جدا ثم ادينا صلاة الطواف الواجبة وبذلك انهينا جميع اعمال الحج .. عدى رمي الجمرات لليوم الثالث ..


( 360 )


اي شعور من الشكر والامتنان لله الواحد القهار يشعره الحاج عندما ينتهي من نطق آخر كلمة في تشهده من الصلاة ؟ لقد أحسست بالضعة والعجز الكامل عن التمكن من شكر الله على هذه النعمة فسجدنا سجدة الشكر .. ولكن شكرنا لله يحتاج الى شكر .. وذهب صاحبنا بعد الصلاة ليأتي لنا بكوز من ماء زمزم فيا لعذوبة ذلك الماء المالح !! عذوبة معنوية تنسي الشارب مرارته الحسية .
وكنا نحس بمزيد الحاجة الى الماء فشربنا حتى ارتوينا وغسلنا وجوهنا ثم حمدنا الله من جديد .. ولا يسعني هنا الا ان اسجل كلمة شكر لصاحبنا شقيق المتعهد ذلك فقد عاملنا معاملة جيدة ووفر لنا في تلك الساعات جميع ما تمكن عليه من أسباب الراحة فأسأل الله تعالى ان يجزيه عنا خير الجزاء .. وللقارئ ان يتصور مدى حاجتنا في ذلك الوقت الى الراحة وهي لاتتم الا بالعودة نحو منى والطريق كان مهددا بالازدحام كلما قرب انتهاء الليل ولكن كان علينا ان ننتظر فإن احد الحجاج الذي صحبنا في منى كان قد انفصل عنا بالطواف والسعي هو وزوجته وكان علينا ان ننتظره لكي نعود معا .. هكذا قال صاحبنا المتعهد .. وحفاظا على آداب المصاحبة فقد خضعنا للامر الواقع وجلسنا ننتظر . وطالت المدة دون ان يتفضل صاحبنا فيمر علينا مرور الكرام حتى يئس متعهدنا من عودته واعتقد انه قد عاد بزوجته الى منى فخرجنا نسحب اقدامنا في الارض سحبا لشدة التعب والسهر


( 361 )


وهيأ لنا صاحبنا سيارة نقلتنا الى مدخل منى حيث تعذر عليها ان تستمر لكثرة الزحام فنزلنا لنمشي ذلك الطريق الطويل ونحن متعبات مرهقات نعسانات مريضات .. ولكن .. واخيرا وصلنا الى الخيمة والشمس لم تشرق بعد فحمدنا الله على السلامة .. ووجدنا حاجتنا ( زوجة الحاج الفاضل ) تغط في نومة عميقة ثم استيقظت لكي تقول ( لماذا تأخرتم ؟ ) !!
وكنا في حاجة ماسة الى النوم فنمنا قريرات العين لتمكننا من اداء الواجب بالشكل الصحيح .. واستيقظنا بعد ساعتين لتناول افطارنا وكنا قد استعدنا بعض قوانا والحمد لله .

***


كان علينا ان نرمي الجمرات لليوم الثالث وبينما كنا نتحدث عن احسن وقت نتمكن فيه من الذهاب اذ بمجموعة من السيدات يدخلن الخيمة عائدات من الجمرات وكل واحدة منهن تنادي بالويل والثبور للازدحام المرير وصعوبة الوصول اليه ، فهذه تقول كدت اختنق ـ وتلك تقول ـ انه موت محقق ـ واخرى تقول ـ انه الهلاك بعينه .. تهويل ومبالغة غير مستحبة أبدا .. وتلفت حولي فوجدت الوجوه وقد علتها مسحة من القلق .. وكأن اخواتي خيل اليهن ان هناك تطورا جديدا قد حدث في نطاق رمي الجمرات .. وان صعوبة المرمى قد تصاعدت الى مستوى الموت والهلاك فاردت ان احسم فترة الانتظار المشوبة بالقلق


( 362 )


ولهذا اقترحت عليهن الذهاب نحو الجمرات .. فجددنا الطهارة لأن من مستحبات الرمي هو أن يكون الرامي حافظا للطهارة ثم توجهنا نحن الخمسة نحو المرمى .. كانت مهمتنا في ذلك اليوم هي أسهل منها في اليومين الماضيين فلم نلحظ من قريب أو بعيد أثر من آثار الهلاك أو الموت أو الاختناق وخرجنا من محوطة الجمرة الكبرى صخبات ضاحكات لأننا بذلك كنا قد أنهينا جميع اعمال الحج .. نعم انهيناها بالاصالة ولم نضطر الى وكالة وانهيناها باطمئنان ولم نتعرض فيها لشك او نسيان .. انتهينا منها واعيات ولم ننصرف عنها جاهلات .. وأخيرا انتهينا منها راغبات في العودة غير برمات لشيء أو ساخطات على أمر من الامور .. ولهذا كنا نضحك .. ولهذا أيضا كنا نحس بالغبطة والسعادة .. فالحمد لله على ما انعم واسدى . وعدنا الى الخيمة وهناك كانت الخيمة اشبه ما تكون بسوق خيري.
اذ ان مشتريات الايام الثلاث كانت قد انتثرت بين جوانبها ومشتريات تلك الساعات الاخيرة كانت مكدسة تنتظر الشد .. وعلى كل حال فما ان انتهينا من الصلاة والغذاء حتى نادى المنادي بنا ان هيا نحو السيارات للعودة الى مكة .. وسارت بنا السيارة ونحن نودع في ابصارنا وافكارنا هذه المعالم الحبيبة .. فكم هو من الصعوبة بمكان ان ينظر الانسان الى ما يحب نظرة وداع قد لا يكون من ورائه لقاء .. هذا الشعور هو اقسى ما يحسه المفارق فيود لو تزود معه


( 363 )


باكثر مقدار ممكن من الذكريات .. وطلبنا من الله تبارك وتعالى ان يرزقنا العودة ثانيا .. ثم وصلنا الى مكة حيث آوينا الى غرفتنا في العمارة التي كنا ننزل فيها قبل الخروج الى عرفات .. وغرفتنا تلك صغيرة .. ونحن كنا بمجموعتنا سبعة ، وقد عرض علينا المتعهد منذ البداية ان نتنازل عن اثنتين منا أو ثلاث يلتحقن في غرفة ثانية ولكنني وقد عز عليّ التفريق والتميز وصعب عليّ ان افترق مع من صحبتهن منذ بداية الرحلة رفضت ذلك وآثرت ضيق المكان مع الجماعة على سعته مع الفرقة .. ولهذا فقد كنت قد أخرجت أمتعتي الى الفسحة التي تجمع باقي الغرف لكي أوفر شيئا من المكان .. وكنت قد صادفت منذ ساعة ورودنا مكة قبل سفرنا الى عرفات صادفت بعض المتاعب من قبل اهمال بعض رجال القافلة . اذ كان الواحد منهم يصعد في طلب زوجته او امه او اخته ويدخل الشقة بدون استئذان ولا يهمه ان تكون هناك امرأة مارة او ان يكون هناك بابا من أبواب الغرف مفتوحا ولكنني وجدت ان هذا أمر لا يستحب السكوت عليه فطلبت من المتعهد ان يمنع ذلك وخولته ان يوجه الطلب باسمنا اذا كان يخشى من التأثرات .. ولكنه استجاب للامر برحابة صدر ونادى في طابق الرجال قائلا : لا يصح لرجل ان يجتاز باب شقة النساء في الطابق الثاني .. واستجاب الرجال لذلك والحمد لله فكان واحدهم يقف وراء باب الشقة ثم يطرقها مناديا على من يريد من السيدات كان


( 364 )


هذا هو وضع غرفتنا في مكة .. وكانت الشقة تحتوي على حمام واحد ودورتين للمياه .. وليت هذا الحمام لم يكن موجوداً لأنه اصبح مصدر متاعب للجميع وطالما نجمت بسببه الكثير من الخلافات والنزاعات .. أما ماء الشرب فقد كان مالحاً جدا وظني ان المتعهد كان قد عجز عن توفير ماء للشرب لكثرة ما تستهلك النساء منه لغسيل الملابس والاجسام ولهذا كنا نتجرع مرارة الماء وملوحته بصمت .. ما دامت تلك المرارة بسبب من حلاوة العبادة ... واصبح علينا صباح اليوم الثالث عشر ونحن في مكة ومكة بلدة تضفي على من يؤمها جوا من الانطلاق الروحي والانشراح النفسي فهي بجميع معالمها محببة الى النفس قريبة الى الروح وعلى القرب منها غار حراء .. وهو على قمة جبل عظيم هائل الارتفاع واذا اردنا ان نعين موقعه في ذلك الجبل وجدناه ينحدر عن القمة من الجانب الثاني نازلا من الناحية الثانية لكي نجد فتحة الغار الصغير .. هذا الغار الذي انطلقت من بين جدرانه اقدس رسالة عرفها التاريخ فإن احجاره هي تلك الاحجار التي استقبلت ميلاد شريعتنا الخالدة .. حيث دخل اليها محمد بن عبد الله (ص) لكي يعتزل الناس وينصرف الى عبادة الله الواحد القهار ثم خرج عنها وهو حامل لرسالة السماء ... هذه الساعات التي احتضنت محمدا داخل الغار كانت هي الحد الفاصل بين الظلمات والنور بين الحياة والدمار فما اعظمها من ساعات كانت الارض خلالها قد


( 365 )


تفتحت لتستقبل رسالة السماء ويالها من خطوات تلك التي خطاها محمد بن عبد الله (ص) وهو خارج من هذا الغار ليطل على العالم برسالته مضيئا في معانيها مشاعل نور وواضعا من مفاهيمها سفن نجاة .. نعم انه غار حراء حيث شقت في الجبل المؤدي اليه بعض خطوط ملتوية بين صخور واحجار يتمكن الصاعد ان يجد آثارها كلما صعد وحيث يطل الصاعد اليه على مكة بجميع مبانيها ومعالمها فيقف خاشعا امام تصوره لحقيقته الشامخة .. حقيقة ان يكون الاسلام قد انطلق من بين هذه الاحجار الصلبة الجرداء ليهدد كسرى في ايوانه وهرقل في عزته وسلطانه كما وان الزائر في مكة يمكن ان يزور مقابر قريش حيث رقدت ام المؤمنين خديجة وفاطمة بنت اسد ام الامام امير المؤمنين واجداد النبي واعمامه .. ووقفنا عند قبر خديجة الذي لا يكاد يعرف لولا بعض احجار صغيرة فوقه .. وسرح بنا الفكر الى حيث كانت السيدة خديجة تحتضن الرسالة وتتبناها كما احتضنت صاحب الرسالة وتبنته من قبل .. نعم السيدة خديجة هذه التي يعلمنا تاريخها ان للمرأة لو ارادت ان تكون ركيزه في وجود الامم وبانية من بناتها .
.. ووقفنا على قبرها نتساءل : أين نحن من خديجة ثم لنتساءل أيضا وبعد ان نعرف مدى البون الشاسع الذي يفصلنا عنها نتساءل أترانا مسلمات حقا ؟ وما هي علامات اسلامنا يا ترى ؟ ان الجانب الايجابي وحده لا يكفي لأن يوجد من


( 366 )


الانسان انسانا مسلما حقا لان جميع العبادات المفروضة هي مما ينفع الناس ويحقق لهم المصالح الخاصة والعامة . اما الجانب الذي يحقق للفرد اسلامه ويخوله ان ينتسب الى الاسلام مانحا اياه احقية ذلك الانتساب هو الجانب السلبي من جوانب العبادة .. والجانب السلبي هو ترك ما نهانا الله عنه واجتناب ما أمرنا الله باجتنابه .. فهل نحن مسلمات حقا وكان علينا ان نبقى في مكة مدة ثلاثة ايام ثم نسافر بعدها متوجهين نحو المدينة المنورة ... وفي اليوم المقرر للسفر ذهبنا الى الحرم الشريف لنطوف طواف الوداع .
وكان المطر ينهمر بغزارة فيغسل جدران الكعبة ويضفي على الموقف بشكل عام هيبة جديدة من نوع فريد وكان الوداع قاسيا جدا لولا بصيص الامل في عودة اللقاء وقديما قيل :
« ما أضيق العيش لولا فسحة الامل »

***


وعدنا من البيت الحرام ونحن نلتفت وراءنا لنلقي آخر نظرة على ما نحب وكأننا مع كل لفتة كنا نجدد عهدا جديدا في الولاء ونؤكد وعدا مسبقا في وحدانية العبودية وخلوص الطاعة .. كانت نظراتنا تلك حكاية عن قلوب عاشت سعادة الروح في القرب وها هي تسير نحو مرارة


( 367 )


الشوق في البعد .. حكاية ارواح وجدت راحتها حيث تسير منطلقة نحو مناها السحيق .. نعم لقد كانت تلك النظرات حكاية عسى ان يحققها الله لقلوب املتها في صدق وارواح اوحتها في اخلاص .. وعدنا الى النزل حيث وجدناه صاخبا ثائرا يشوبه جو من التوتر وتنطلق من احدى زواياه ثورة عارمة ونقمة مدمرة فراعنا الموقف وتساءلنا عن السبب ؟ ثم عرفنا ان بعض الحجاج كانوا قد اقترحوا على المتعهد ان يؤخر لهم نقلا خاصا بهم نحو المدينة وذلك عن طريق سيارة صغيرة مستقلة لكي يتجنبوا مضايقات المطار ويبدو ان هناك بعض المعاكسات الغير مقصودة قد حالت بينهم وبين مواصلة السير وتسبب ذلك في ضياع جوازات السفر العائدة اليهم !. وجلسنا ننتظر إنتهاء هذا الموقف المسرحي ولكن اين جلسنا يا ترى ؟ كان الفراش قد تجمع في ساحة الشقة مقدمة لنقله والامتعة قد رميت فوق بعضها استعدادا لتحميلها في السيارة .. فجلسنا على اطراف سجاجيد !! وأمرنا لله الواحد القهار .. بعد ان عرفنا اننا لا يمكن ان نخرج من مكة الا بعد الحصول على الجوازات الضائعة !! وكان لهذا الصخب واللغط أسوأ الاثر في تلوين انطلاقتنا الروحية التي عشناها في عيون مودعة دامعة وقلوب مشفقة خائفة .. فقد بدأ الماء يسري الينا ونحن نجلس وسط ساحة حرب نبالها الكلمات وقذائفها الدعوات .. وكلما حاولنا رد الغيبة اوتلطيف الموقف زاد الطين بلة حتى كاد ان يصيبنا شيء من ذلك الرشاش !!


( 368 )


فسكتنا وأمرنا لله ولكن وضعنا النفسي كان قد تدهور جدا وبدأت اعصابنا تنذر بالارهاق . واخيرا وبعد ساعات طوال سمعنا بنبأ الحصول على الجوازات المفقودة فألف الحمد لله رب العالمين .. وانطلقنا من الشقة خفافا كأننا طيور طال بها السجن في قفص من حديد وذهبنا الى حيث كانت السيارات .. فصعدنا الى اماكننا فيها .. وسارت بنا على اسم الله وبركاته .. وبذلك غادرنا مكة تلك البقعة الحبيبة .. ولكن شتان بين دخولنا اليها ملبيات وبين خروجنا عنها مرهقات متعبات.

***


وقبل أذان الفجر بساعة دعينا الى المضي نحو الطائرة فحمدنا الله على نهاية الانتظار واستقل كل منا مقعده في الطائره النفاثة ( ترايدنت ) وبقينا ننتظر التحليق وكنا نأمل ان نصلي صلاة الفجر في المدينة لان لامدة بين جدة المدينة لا تستغرق اكثر من ثلاثة ارباع الساعة وطال بنا الانتظار والطائرة تأبى ان تقلع عن الارض وعرفنا ان هناك خلل يتطلب الاصلاح .. وبدأ السأم يدب الى نفوسنا ونحن نتابع الساعة خشية ان يتعارض وقت السفر مع وقت الصلاة وكدنا أن نقترح النزول الى أرض المطار لتأدية الصلاة لولا ان مضيف الطائرة أعلن عن عدم التمكن من اصلاح الطائرة وليس علينا الا الهبوط !!!


( 369 )


فنزلنا وعدنا من جديد نفترش امتعتنا وسط آلاف الحجاج وقضينا النهار بطوله هناك وبعد الغروب بقليل دعينا الى ركوب الطائرة فركبناها وقلوبنا وجلة خشية ان لا تكون قد برأت من عارضها بشكل كامل ولكنها وبعد دقائق اقلعت عن ارض مطار جدة .. وبهذا كنا قد توجهنا نحو المدينة المنورة .
ووصلنا الى المدينة المنورة وهي تبعد عن جدة حوالي ال (420) كيلو متر ووقفت امام قبر الرسول (ص) ان من ابرز المشاعر التي يعيشها الانسان وهو ماثل امام القبر الشريف هو شعور الخجل والتقصير !! حينما يجد ان عليه ان يقدم حسابا لقائده الذي يقف امامه .. نعم ان عليه ان يقدم حسابا عن الوديعة التي خلفها لديه وهو القائل ( اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا ) فكيف كان احتضانه لهذه الوديعة وما هو مدى تمسكه بهما ؟ وهل تراه وعى مضمون التمسك وعرف انه التمثل والطاعة والاستجابة كما يدعوان اليه ؟ سعيد ذلك الذي يجد نفسه وقد وفى لرسوله باحتضان مخلفاته والتمسك بهما ، نعم سعيد ذلك الانسان ويالها من سعادة هو يقف في بقعة طاهرة قال عنها الرسول (ص) ( بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ) ولكن لمن تتفق هذه السعادة يا ترى ؟؟ سؤال حبذا لو طرحه على نفسه كل زائر لتلك الرحاب وفي المدينة المنورة ايضا زرنا مراقد الائمة الاطهار الحسن المجتبى والامام


( 370 )


زين العابدين وابي جعفر الباقر والمام جعفر الصادق عليهم افضل الصلاة والسلام وكانت زيارتنا لمراقدهم الشريفة من وراء جدار البقيع حيث ان السلطة هناك لا تسمح للمرأة بالدخول الى تلك البقعة الطاهرة !!
وقد خصصت ساعات محدودة من كل يوم تفتح فيه الابواب لزيارة الرجال فقط .. وفي القرب من المدينة المنورة زرنا مقابر شهداء احد الابرار ومسجد قبا وهو أول مسجد بني في الاسلام ومسجد القبلتين حيث نزل الوحي فيه بتغير القبلة من بيت المقدس نحو الكعبة الشريفة . وغيرها من الاماكن الشريفة وفي صبيحة اليوم الخامس فارقنا المدينة متوجهين نحو العراق وكلنا لسان شكر لله عز وجل على ما وفقنا اليه .

أنغام الرحيل


فرصة العمر واغلى مطلب * تهب الانسان احلى الارب
***
ايها الراحل عـن اوطانه * لاهيا عنهـا وعن اخوانه
لا يبالـي بجوى تجنانـه * قاده الشوق الى ايمـانـه

 


( 371 )

 

سائـرا نحـو النعيم المرتجـى * في رحـاب الله او قبر النبـي
***
فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***
ايها الراحـل سر نحـو النعيم * نحو وادي زمزم نحو الحطيـم

نحو بيت الله والركـن العظيـم * في رحاب الله ذي العفو الكريم
نحو سعي الحق أو نحو الصفا * واذكـر الله بـقـلـب وجـب
***
فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***
ايهـا الراحل قف جنب المقـام * حيث ابراهيـم قد صلى وصام

 


( 372 )

 

ثـم صل في خشوع واحترام * واتجه فيها الـى رب الانـام
واطلـب العفو من الرب الذي * جعل التوبة عتــق المذنـب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***
ايهـا الراحل ان جئت الصفا * فاسع للمروة تبغـي شرفــا
وابتهـل فيهـا بقلب قد هفـا * نحو عفو الله اسمى من عفـا
ثم قصر بعـد سبـع وانثنـى * شـاكـرا لله نيـل الطـلـب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلى الارب
***

 


( 373 )

 

ايها الراحل يهنيـك المسيـر * نحو وادي خيبـر نحو الغدير
نحـو بدر احد نحـو البشيـر * نحو غار في حـراء مستنير
بضياء المرسـل الهادي الذي * شع نورا في بـلاد العـرب
***
فرصة العمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***
ايها الراحـل خذهـا فرصة * لك واغنم في ذراهـا عبـرة
ودع الـروح لتمضـي حرة * في سمـاء الحق تبغي جنـة
عرضها طولا كأرض وسما * وهـي تحيـا بشعور عـذب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***

 


( 374 )

 

ايها الراحـل هـذي عـرفـات * فاغتنمها فرصة قبل الفـوات
واشغلـن ساعتهـا بالدعـوات * واغسـل الذنب بسيل العبرات
جـبـل الرحمـة فيها فأتــه * رحمة الله بقـلـب وجــب
***
فرصـة العمـر واغلى مطلب * تهـب الانسـان احلى الارب
***
ثم عنـد الظهر قفـهـا وقفة * تائـبـا لله فيـهـا تـوبــة
واسكـب الـروح عليها عبرة * تغسل الذنب وتعـطـي جنـة
لا يلقاها سوى قـلـب نقـي * واستقم فيها لوقت المـغـرب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهـب الانسـان احلى الارب
***

 


( 375 )

 

ايها الراحـل ذي مزدلـفـة * نحوها فاطر الدجى في عرفه
يذكـر الله بها من عـرفـة * تائبا عن كـل ما اقتـرفـه
ليـس فيهـا ارض وسـمـا * وظـلام وخشـوع مرهـب
***
فرصـة العمر وأغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الأرب
***
انها ليـلـة سعـد وخشـوع * وابتهـال ودعـاء ودمـوع
ومنـاجـاة الى وقت الطلوع * ما احيلاهـا اراض وربـوع
يستميل القلـب فيهـا راحـة * تزدهي من كل زهر طيـب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***

 


( 376 )

 

ايها الراحل قد نـلـت المنى * اذ توجـهـت الى ارض منى
مسجـد للخيـف يعطيك الهنا * فيه تنسى كـل جهـد وعنـا
ايها الراحل وارم الجـمـرات * في حـصـا معـدودة للطلب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلى الارب
***
وتوجـه بعـدهـا لـلـكعبة * طف وصل وابتهـل لـلتوبة
ثـم فأت للصفـا والمـروة * واشكر الله لهـذي النعـمـة
ثم طـف فيـها طوافا ثانيا * ليس من جهد بها أو نصـب
***
فرصـة العمر واغلى مطلب * تهب الانسـان احلـى الارب
***

 


( 377 )

 

ايها الراحـل يهنـيـك الوصول * في رحاب القدس في قبر الرسول
فيه تسمو نحو باريها العـقـول * تنمـحـي الآلام والـهـم يزول
يهـب الارواح امـنـا ورضـا * وهـو يروي كل قلـب مجـدب
***
فرصـة العـمـر وأغلى مطلب * تهب الانـسـان احلـى الارب
***
ايهـا الراحـل زر تلك الرحاب * وبقيعا مـا به غيـر التــراب
فغدت جـدرانـه تحكي الخراب * وانمحت آثــاره فهي يـبـاب
وبـه أربـعـة يرجـى بـهـم * نيل عفـو الله يـوم الـتـعـب
***
فرصة العـمـر واغلى مطلب * تهب الانسـان احـلـى الارب
***

 


( 378 )

 

لن أنثني


قسما وان ملىء الطريـق * بما يـعـيـق السير قدما
قسمـا وان جهد الزمـان * لكي يثبـط فـي عزمـا
أو حاول الدهر الخـؤون * بأن يريـش اليّ سهـمـا
وتفاعلت شتى الظـروف * تـكـيـل آلامـا وهمـا
فتـراكمت سحب الهموم * بأفق فـكـري فإدلهـمـا
لـن انـثني عمـا أروم * وان غـدت قدمـاي تدمى
كـلا ولن أدع الجـهـاد * فغايتي أعلـى وأسـمـى
***
انا كـنـت أعلم ان درب * الحـق بالاشواك حافـل

 


( 379 )

 

خـال مـن الريحـان ينشر * عطـره بيـن الـجــداول
لكنني اقدمت أقفو السـيـر * فـي خــطــو الاوائـل
فلطالـمـا كـان المجاهـد * مفـردا بـيـن الجـحـافل
ولـطـالمـا نصـر الالـه * جـنـوده وهـم القـلائـل
فـالحـق يخلد في الوجـود * وكـل مـا يعـدوه زائـل
سأظل أشدو باسم اسلامـي * وأنـكـر كـل بـاطــل
***
اسلامـنـا أنت الحبـيـب * وكل صعب فيـك سـهـل
ولاجل دعوتـك العزيــزة * علـقـم الايــام يحلــو
لم يعل شـيء فوق اسمـك * في الدنــا ، فالحق يعلـو
وتطـبــق الدنيـا مبادئك * العـزيــزة وهـي عـدل

 


( 380 )

 

وسينصــر الرحمن جند * الـحـق ما سـاروا وحلوا
السيخلمــن يــن الاله * وكــل ما يعدوه يـبـلـو
وأظــل باسمـك دائمـا * أشدوا فلا ألهو وأسـلــو