أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الطفل بين الوراثة والتربية ـ القسم الأول
 
 


المحاضرة الحادية عشرة : الوجدان الأخلاقي

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الاول ص 277 ـ ص 300


المحاضرة الحادية عشرة الوجدان الأخلاقي

قال الله تعالى في كتابه الكريم : « لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة » (1).

فطرية الوجدان الأخلاقي :


وجدنا في المحاضرة السابقة كيف ينكر ( فرويد ) إستناد الوجدان الأخلاقي إلى الفطرة . فلقد صرح بأن الوجدان الأخلاقي عبارة عن مجموعة النواهي الاجتماعية والغرائز المكبوتة في مختلف مراحل الحياة تعارف المجتمع على تسميتها بالوجدان.
لكن طائفة كبيرة من العلماء في الماضي والحاضر ترى أن للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً ، وأنه داخل في بنيان الانسان وكيانه . ولما لم تكن عقول العلماء وأفكارهم مصونة من الخطأ والانحراف ، ولأجل الوصول إلى مقياس صحيح يمكن بواسطته معرفة صحة أقوال شخص عالم أو خطئها يجب أن نعرض نظرياته العلمية على آيات القرآن الكريم والنصوص الصحيحة الواردة عن المعصومين عليهم السلام . فإن كان فيها مخالفة صريحة لتلك الأسس الاسلامية الثابتة فيجب أن نقول ـ بلا ريب ـ أن ذلك العالم انحرف عن جادة الحق ، وأن تفكيره كان خاطئاً.
ولأجل أن يتضح موضوع الوجدان الأخلاقي للمستمعين الكرام لا بد من الابتداء بذكر الآيات الواردة في المقام ، ثم التعرض للنظريات الحديثة لمقايستها معها ، وذلك للوصول إلى معرفة صحتها أو سقمها.
____________
(1) سورة القيامة |1ـ2.


( 278 )


الاسلام والوجدان الأخلاقي :


يرى الاسلام أن الوجدان الأخلاقي ( أي القوة المدركة الباطنية التي تميز الخير من الشر ) جزء من البناء التام للانسان ، وفطرته . على أنه وإن لم يرد تسمية تلك القوة الفطرية باسم الوجدان الأخلاقي ، في القرآن والأحاديث لكن قد ورد التصريح بها بعبارات أخرى :
1 ـ قوله تعالى « لا أقسم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة » وبصدد تفسير معنى النفس اللوامة ، ينقل صاحب تفسير البرهان هذا الحديث عن علي بن إبراهيم « ... نفس آدم التي عصت خالقها » (1).
فالانسان حين يرتكب ذنباً يسمع نداء اللوم والعتاب من باطنه ، ذلك النداء يقض مضجعه ، إن علماء النفس يسمون هذه القوة التي تلوم الانسان بالوجدان الأخلاقي (*). والقرآن يسميها بالنفس اللوامة . إن استعمال كلمة ( النفس ) هنا يشير إلى أن القوة اللائمة هي روح الانسان نفسه وجزء من هيكله . والحديث أيضاً يؤكد على أن هذه القوة النفسية كانت موجودة عند الانسان الأول ( آدم ) أيضاً.
2 ـ قوله تعالى : « ونفسٍ وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها » (2) ولقد ورد عن الصادق ( ع ) في تفسير هذه الآية قوله : « بين لها ما تأتي وما تترك » (3).
يستفاد من استعمال كلمة الالهام بالنسبة إلى خلق النفس الانسانية أن القوة المدركة للخير والشر هي من الافاضات الالهية وجزء من خلقة الانسان وهيكله.
____________
(1) تفسير البرهان ص 1160.
(*) جرى علماء النفس على تسمية هذه القوة بالضمير الباطن ، والنفس العليا ... الخ.
(2) سورة الشمس |7ـ 8.
(3) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1|163.


( 279 )


3 ـ قوله تعالى : « وهديناه النجدين » (1).
4 ـ « عن حمزة بن محمد عن أبي عبدالله ( ع ) قال : سألته عن قول الله عز وجل : وهديناه النجدين قال : نجد الخير والشر » (2) . يستفاد من ذكر الله تعالى للهداية إلى الخير والشر عند بيان تكوين الانسان وبعد ذكر نعمة العين واللسان والشفة ، أن إدراك الخير والشر أمر فطري في الانسان ويكون جزءاً من بنائه . حيث يقول : « ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ».
نستنتج من هذه النصوص ونصوص أخرى في الباب ، أن الاسلام يعتبر إدراك الخير والشر فطرياً عند الانسان ، لكن يجب أن نعلم أنه لا يتسنى للانسان إدراك جميع أوجه الخير والشر بصورة فطرية ، وإلا فأي ضرورة في إرسال الأنبياء ؟ ذلك أن الجانب الفطري من هذه الادراكات منحصر في المسلمات الأولية للخير والشر أو الفضائل والرذائل ، ويبقى جانب من هذه الادراكات يحتاج فيها الانسان إلى التعليم والاقتباس.
وبعبارة أوضح نقول : هناك طائفة من الأفعال تكون ضرورية لسعادة الانسان وطائفة أخرى مضرة بسعادته وكماله فنسمي الطائفة الأولى ( خيراً ) والطائفة الثانية ( شراً ).

الوجدان الفطري والتربوي :


يستطيع الانسان أن يصل إلى معرفة الخير والشر من طريقين : الفطرة والتربية . فهناك طائفة من الأمور الخيرة والشريرة تدركها جميع الأمم والشعوب في العالم ، ولا تحتاج في فهمها إلى معلم ، بل إنها من الأمور الفطرية عندهم . ويمكن تسمية هذا القسم باسم ( الوجدان الأخلاقي الفطري ).
وهناك طائفة من الخيرات والشرور ، لا يدركها الانسان بفطرته بل إن الأنبياء ـ القائمين على تربية البشرية ـ هم الذين علمونا حسنها أو قبحها ، وقد
____________
(1) سورة البلد |10.
(2) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1|163.


( 280 )


أصبحت لها على مر العصور جذور عميقة في نفوس الناس ، هذه الطائفة غير فطرية ويمكن تسميتها باسم ( الوجدان الاخلاقي التربوي ).
إن خيانة الأمانة والتزوج بالأم يشتركان في القبح في نظر الوجدان الأخلاقي للناس ، ولكن الفرق بينهما أن قبح الخيانة ناشئ من طريق الادراك الفطري ، أما قبح التزوج بالأم فانه ناشئ من تعليم وتربية الرجال العظماء في العالم . ولهذا فيجب أن نقول : إن الخيانة قبيحة بحكم الوجدان الأخلاقي الفطري ، وأن التزوج بالأم مذموم بحكم الوجدان الأخلاقي التربوي.

نظرية فرويد واتباعه :

« إن الطفل يرغب في الحركة والنشاط بحرية ، ولكن هذه الرغبة تصطدم منذ البداية بمقتضيات الحياة الاجتماعية إنه يرغب في أن يرفع احتياجاته الطبيعية كما يشاء ولكنه يلزم بمراعاة النظام والنظافة ، فلا يترك الطفل في أن يعتدي على رفيقه كما يشاء أو أن أن يعض أمه ، أو يحطم دماه ووسائل لعبه ، وأخيراً فانهم يقفون حجر عثرة أمام إرضاء ميوله الناشئة من الأنانية والاعجاب بالنفس ».
« لما كان كل ميلٍ يتعين بهدف خاص ، فعلى الطفل أخيراً أن ينصرف عن هدفه في هذه الموارد . إن ما يهم لبحوثنا وتحقيقاتنا هو أن نعلم ماذا سيؤدي إليه هذا ( الانصراف ) ؟ ».
« يجب أن نبحث عن أن جميع مظاهر الميول المكبوتة في الوجدان الباطني ، معلولة لعدم ملائمتها مع الظروف الاجتماعية ».
« توجد الرغبات المكبوتة في الشعور الباطني ، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه الميول تحتل جزءاً من الشعور الباطن فقط . فالشعور الباطن يحتوي على عناصر أخرى منها بعض العوامل النفسية الموروثة عند الانسان . وما يتسرب إلى الشعور الباطن

( 281 )
للطفل في مراحل تكامله من طاقات لم تجد لها مجالاً للاستغلال » (1).
« يرى فرويد أن الوجدان الأخلاقي ليس إلا رد فعل . وليس عملاً ذاتياً أو عميقاً يرتبط بالروح الانسانية بل إنه تأمل ساذج في المحرمات الاجتماعية » (2).
« يرى فرويد أنه لا يوجد تصور للخير أو الشر لا في تاريخ البشرية ولا في تاريخ الفرد ، هذه التصورات تتفرع من المحيط الاجتماعي فقط » (3).

من هذه الجمل القصيرة نصل إلى أن ( فرويد ) لا يرى للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً أصلاً . بل يرى أنه كما يوضع اللجام في فم الحصان الشموس للسيطرة عليه ، كذلك يفعل الوجدان الأخلاقي ـ الذي هو حصيلة النواهي الاجتماعية ـ في تهدئة السلوك الاجتماعي والمحافظة على النظام فيه . بينما نجد أن طائفة كبيرة من العلماء في العصر الحديث يخطئون نظريات فرويد ويرون أن الوجدان الأخلاقي يستند إلى اساس فطري عميق في النفس الانسانية ، وله جذور ثابتة في طبيعة الانسان . وإن نداءه الطاهر والسماوي يسمع من الأعماق في جميع مراحل الحياة ، وفي الحالات المختلفة.

« يقل روسو في كتابه ( أميل ) بهذا الصدد : إن الوجدان هو الغريزة التي تتحدى الفناء بقوة السماء . وهو المرشد الباعث على الاطمئنان عند الأفراد البسطاء والمحدودين لكن الأذكياء والأحرار ، وهو الحكم المستقيم في سلوكه والمميز بين الخير والشر » (4).
« إن مشاهدة الأمراض الروحية من جانب ، والقوى الروحية

____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 33.
(2) بيماريهاى روحى وعصبى ص 64.
(3) انديشه هاى فرويد ص 105.
(4) جه ميدانيم ؟ جنايت ص 15.


( 282 )
الطبيعية من جانب آخر ترينا بعض القضايا التي تشهد على الأهمية العظمى للوجدان الأخلاقي في البحوث النفسية ، وفرق ذلك مع ( رد الفعل ) (1).
« ليس الوجدان الأخلاقي في طاقة مفتعلة بل انه أعمق العوامل في الطبيعة الانسانية . ليس في وسع الأفراد إطفاء أو دحر هذا الوجدان بالتظاهر بالأمور المختلفة . ومضافاً إلى ذلك فإن ثبات الوجدان الأخلاقي العجيب حتى في أشد الحالات المرضية ، وفي حالة الجنون والانحطاط الروحي ، وبقاءه بعد خفوت شعاع العقل والذكاء يزيد على أهمية ذلك في الروح الانسانية . يتساءل بعض العلماء : أليس الوجدان الأخلاقي حصيلة التعليم والتربية والدين ؟ ولكن يجب أن نتذكر أنهم قد حصلوا في الأدوار الأولى على آثار واضحة لهذا الوجدان . إن استغفار القبائل البدائية واستيحاشها يدل على قدم الوجدان منذ تلك العصور . وإن إنكار هذه الحقيقة بمثابة أن لا نفهم من الشخصية الانسانية أي شيء » (2).


عدم نضج كلمات فرويد :


ونظراً للتطرف الشديد الملحوظ في كلمات فرويد ، فقد صرح كثير من العلماء المعاصرين ببطلانها ، وأوردوا الأدلة المفصلة في ردها.
فقد استعمل فرويد أسلوب الأساطير بدل البحث العلمي البحث والتحليل الواقعي في موضوع الوجدان الأخلاقي والدين . إنه يبني أصول المذهب والوجدان على قبيلة خيالية إصطنعها في ذهنه ، واستمر بحثه ، ومتى اصطدم بالحواجز تخلى عن البحث.
____________
(1) بيماريهاى روحى وعصبى ص 64.
(2) المصدر السابق ص 67.


( 283 )


إن قسماً من علماء النفس الغربيين الذين سايروا نظريات فرويد تقريباً لم يستطيعوا السكوت على عدم نضح كلماته بصدد المذهب : ـ

« إن الذي يطالع آثار فرويد ويصل إلى هذه النتيجة وهي أنه لم يجب على استفسارات وأسئلة القراء في القضايا المذهبية وما شاكل ذلك . ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن فرويد لم يدع أبداً أنه قدم توضيحاً كافياً في المسائل الدينية » (1).

ونظراً لأن التحليل النفسي يعرض إلى الأسواق الفكرية في بلادنا كمتاع جديد ، ولا بد من اقتران اسم فرويد معه ، فمن الممكن أن يستغل البعض كلماته ـ عمداً أو جهلاً ـ لالقائها كقواعد مسلم بها وبحوث ثابتة في أذهان الشبان الساذجين والمؤمنين ، وبذلك يتسببون في انحرافهم العلمي والديني ، أو يروجون سوق الدعارة والتحلل والتفسخ ، ويجرون جيلنا الجديد إلى هوة سحيقة لا تحمد عقباها ... فنرى لزاماً أن نناقش بعض كلمات فرويد بصورة علمية ونضعها على طاولة التشريح ، عسى أن تقع مفيدة لشبابنا الأعزاء والمثقفين منهم بالخصوص.

إنكار الوجدان الفطري :


من المغالطات المهمة التي يذهب إليها فرويد ، إنكاره للوجدان الفطري . فالوجدان الفطري في نظره ليس إلا رد فعل . ولو كان فرويد يقسم الأمور الوجدانية عند الانسان إلى طائفتين : إحداهما فطرية ، والأخرى ناتجة من النواهي والمراقبات الاجتماعية فإنا كنا نوافقه على ذلك ولكنه يعتبر جميع الأمور الوجدانية وليدة الرقابات الاجتماعية والميول المكبوتة ويصرح بأنه لا يوجد في الانسان تصورات أولية للخير وللشر ، ويتطرق في كلماته إلى موضوع القتل ويجعل بحثه يحوم حوله.
ولأجل إتضاح الوجدان الأخلاقي الفطري ، وللتمهيد إلى الحديث عن كيفية الادراك الفطري لقتل النفس وطائفة من الصفات الخلقية الأخرى لا بد من ذكر مقدمة :
____________
(1) أنديشه هاى فرويد ص 86.


( 284 )


إن لفوهة البندقية حركتين : إحداهما ناشئة من احتراق المواد الداخلية للطلقة ، والثانية الحركة الطبيعية . ففي الصوره الأولى إذا حركنا زناد البندقية ووجهنا الفوهة إلى أي جانب فإن الطلقة تندفع إلى ذلك الجانب ، وفي الصورة الثانية إذا تركنا فوهة البندقية حرة في الفضاء ودون أي حركة ، فإن الطلقة تندفع إلى جانب واحد وهو جهة الجاذبية الطبيعية للأرض.
فإذا أردنا قياس الحركة الطبيعية للرصاصة فيجب أن نتركها حرة في الفضاء تماماً ، ولانخضعها لتأثير اي عامل مخالف.
إن الوجدان الأخلاقي والميول الباطنية للانسان تشبه الحركة الطبيعية للرصاصة . فإذا أردنا أن نعرف الادراك الخلقي والوجدان الفطري للانسان يجب علينا أن نبحث على إنسان طبيعي مائة في المائة ... الانسان الذي لم يخضع لأي تاثير مخالف . فمثلاً إذا أردنا أن نعرف مدى قبح قتل النفس في الوجدان الفطري عند الانسان ، يجب أن نبحث على إنسان لم تلوث فطرته ولم يتغلب على إدراكه الباطني عارض من العوامل المختلفة . فإن من يرتكب جريمة قتل لوقوعه تحت تأثير الشهوة أو الغضب ، أو أن من يقتل الناس في ساحة الحرب على أساس التعصب وطلباً للشهرة ، أو أن يرتكب جريمة شنيعة حصولاً على المال أو وصولاً إلى الجاه ... هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مجالاً مناسباً للبحث عن الادراك الفطري للوجدان الأخلاقي عند الانسان ، لأن حركة هؤلاء تشبه الرصاصة المندفعة تحت تأثير الاحتراق الداخلي للبارود ، إذاً ان حركتها غير طبيعية.
ولأجل أن يسلب فرويد قبح قتل النفس من إدراك الوجدان الأخلاقي وينسبه إلى ندامة القاتل من عواقب الجريمة الوخيمة ، يفترض قبيلة خيالية في فكره ، ثم يصنع من الشهوة الجنسية بطلاً للأسطورة حيث يقدم على قتل الأب الخيالي . ثم يستند إلى هذه القبيلة الافتراضية ويأتي بسلسلة من النظريات الباطلة التي لا أساس لها من الصحة أصلاً بالنسبة إلى الله والدين والأخلاق والوجدان !!.

« يرى فرويد أن الأب أو رئيس القبيلة كان يحتفظ لنفسه


( 285 )
بالملكية الجنسية لجميع النساء ، أي أنه كان يتصرف في النساء والبنات ، وكان يسلك بشدة وخشونة تجاه أبنائه الذين كان يعتبرهم الرقباء الجنسيين والمزاحمين لقدرته ».
« كان هذا الأسلوب مستمراً مدة من الزمن حتى فقد الأب قوته بالتدريج إلى أن انهزم من الميدان تحت ضربات قاضية وجهها نحوه أحد أو جماعة من أولاده » (1).
« ولم يكن مقدوراً لأحد من الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه ، إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه وكما نعلم فان ردود الفعل الروحية والمعنوية لليأس والفشل أعظم أثراً من ردود فعل الانتصار » (2).
« ولقد أدى قتل الأب في القبيلة الأولى وردوده الروحية الناتجة عنه إلى ظهور الأمر الصادر من النفس فيما بعد والقال : إنك سوف لا تقدم على القتل » (3).
« ربما لو لا لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ولم تظهر نتائجه الوخيمة المؤلمة فما بعد ، فإن أحفاد الانسان الأول كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : ـ إنك سوف لا تقدم على القتل ـ ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (4).

لما كان فرويد قد آلى على نفسه أن ينظر إلى الانسان من زاوية الغريزة الجنسية فقط ، وإغفال بقية الجوانب فيه ، يرى في العامل الجنسي للآباء في هذه الأسطورة المزعومة سبباً لقتل الأب.
____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 71.
(2) المصدر السابق ص 80.
(3) المصدر السابق ص 82.
(4) المصدر السابق ص 88.


( 286 )


لقد قام فرويد بذكر مجموعة من المغالطات وسلسلة من الكلمات الباطلة على أساس هذه القبيلة الوهمية والقتل الخيالي ، ولا يهمنا التطرق إليها جميعاً في بحثنا هذا ، غير أن محل شاهدنا منها هو موضوع قتل النفس.
تلخص آراء فرويد في هذا الصدد : أنه لما كان ينكر وجود الجذور العميقة للوجدان الأخلاقي في روح الانسان ، ويتجاهل وجود التصور البدائي للخير والشر في أعماقه ، فإنه يفسر قضية قتل الأب بجهل الانسان بقبح قتل النفس فإن أبناء القبيلة كانوا واقعين تحت ضغط جنسي ، وكانوا يريدون الوصول إلى نساء القبيلة ، وكان وجود الأب مانعاً من ذلك . ولأجل تحقيق أغراضهم الجنسية أزاحوا المانع عن طريقهم وقتلوا الأب ثم انتبهوا إلى وجود موانع أخرى في طريقهم وعرفوا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أمانيهم . فندموا على فعلتهم وصدر الأمر الذي مضمونه : « إنك سوف لا تقدم على القتل » ... هذا الأمر انتقل إلى جميع أفراد البشر وتلقى الناس جميعاً موضوع القتل على أساس أنه فعل قبيح . فالحقيقة ـ في نظر فرويد ـ أن جذور قبح قتل النفس في عالم الانسان استمدت من إعلان الأبناء المولعين بالجنس ، الذين قتلوا أباهم ثم ندموا على ما فعلوا.

تحليل أسطورة قتل الأب :


ولنبدأ بتحليل أسطورة القبيلة وقتل الأب وأفعال الأبناء ، ليتضح صحة أقوال فرويد أو سقمها.

.5

الفطرة وراء ستار الشهوة :


لقد أسلفنا في مقدمة البحث أنه لتشخيص الفطرة يجب أن نجعل بحثنا على إنسان حر طليق من جميع الجوانب ، ولم يكن واقعاً تحت ضغط الشهوة أو الغضب ، أو حب المال والجاه وما شاكل ذلك.
أما أبناء القبيلة الذين يحترقون في نار الشهوة ، ويقتلون أباهم بصورة جنونية لغرض الوصول إلى النساء فليسلوا أفراداً أحراراً وطبيعيين ، وأن حالتهم النفسية لا يمكن أن تكون مقياساً لتشخيص الفطرة الأخلاقية ، وكما أن النار


( 287 )


تدفع البارود الموجود في الطلقة من فوهة البندقية وترميها بسرعة فائقة إلى اتجاه غير طبيعي ، فكذلك نار الشهوة ـ وهي أكثر دفعاً من البارود ـ حيث دفعت أبناء القبيلة إلى اتجاه مخالف للفطرة الانسانية وأدت بهم إلى قتل الأب . فإذا لم يحس الأبناء حين ارتكابهم للقتل بقبح ذلك ، فلأجل شدة نار الشهوة ، لا لفقدان الفطرة.
لا يقتصر الأمر على العصور القديمة أو القبائل المتوحشة ، وإنما القضية تسير على هذا المنوال حتى في عصرنا المتمدن هذا ، في عالمنا الذي يمر عليه ـ على حد قول فرويد ـ قرون عديدة على إيجاد إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم ، الاستهجان من تلك الجريمة في الضمير الباطن للأفراد . فما أكثر الشبان الذين يرتكبون القتل على أثر الشهوة الجنسية أو إثارة قوة الغضب والانتقام ، ولا يشعرون بأنفسهم ساعة الجريمة ولا يتذكرون إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم.

الندم على القتل :


يقول فرويد : إن ردود الفعل الناتجة من إقدام الأبناء على قتل أبيهم هي التي سببت الندم على جريمتهم . إنه يعترف بالندم بعد القتل ولكنه يرى أن السبب في ذلك هو ردود الفعل الروحية المرتبطة بالشهوة أو الحياء . لم لا يحتمل الأستاذ فرويد أن الندم حصل على أساس ردود الفطرة أي نداء الوجدان الأخلاقي ، الوجدان الذي كان موجوداً في الانسان وسيبقى موجوداً فيه ؟!!.
في حين نجد أن بعض علماء النفس الأوربيين التابعين لمدرسة فرويد قد احتملوا هذا الوجه :

« وعلى أية حال ، فيجب الاعتراف إما بوجود إحساس ووجدان أخلاقيين مشابه لما هو موجود في الأمم المتمدنة أو على فرض فقدان هذا الوجدان ، فإن الروابط النفسية بين




( 288 )
الأب والأولاد كانت شديدة لدرجة كافية لايجاد الضربات الروحية ، والندم المتوصل » (1).


لقد وجدنا أن نار البارود قد وجهت الطلقة في الفضاء إلى جانب غير طبيعي بشدة ، وبمجرد إنتهاء استمرارية الانطلاق تتحرر الطلقة من الضغط وتسلك جهتها الطبيعية وترجع إلى الأرض بسرعة وكذلك الشهوة أو الغضب فانهما يخرجان الانسان عن طوره الطبيعي ويوجهانه إلى حركة غير طبيعية فيرتكب قتلاً أو جناية . وبعد أن تطفئ ثائرة الشهوة أو الغضب ويتحلص الانسان من الضغط الذي كان يعانيه يثوب إلى رشده ويعود إلى طريقه الطبيعي ، فيقوم وجدانه بتوجيه اللوم إليه على اجرائم التي قام بها ويجعله تحت كابوس روحي شديد.
إن التفسير الطبيعي لسبب الندم في أبناء الأسطورة قتل الأب هو نداء الوجدان.

الحالات غير الطبيعية :


يجب أن نعترف سلفاً أن للقبائل البدائية حالات غير طبيعية كثيرة كالقبائل المتحضرة ، وهي يجب أن تستبعد من البحث العلمي . فمثلاً لا يمكن الاستناد في البحث عن الوجدانيات إلى حالة أبناء القبيلة الذين صمموا على قتل أبيهم لثورتهم الجنسية العارمة ، وقتلوه . ولا إلى أفراد القبيلة التي يهاجم بعضهم بعضاً لسبب الجوع وعدم الوصول إلى صيد الحيوانات أو الأعشاب . أو إلى أسرة سرقت صيد أسرة أخرى وأكلته ووقع الخصام بين الأسرتين ، وهجم بعضهم على بعض لعامل الغضب والتأثر ... إلى غير ذلك من الحالات غير الطبيعية.
إننا يجب أن نبحث عن القبيلة الخيالية التي افترضها فرويد في حالة يكون رجالها ونساؤها ، شيبها وشبابها في حالة طبيعية تماماً ، ولم يكن أبسط عامل مهيج في سلوكهم ومزاجهم باعثاً على انحرافهم عن طريق الفطرة
____________
(1) أنديشه هاى فرويد ص 89.


( 289 )


ولنفرض أنه اتفق خروج جميع أفراد القبيلة في جو لطيف إلى التنزه في قطعة أرض خضراء ، واجتمعوا على ضفاف نهر صغير وبالقرب من حقل واسع وانسجموا في أتم المحبة والوئام ... فالصغار أخذوا يلعبون هنا وهناك ، والشباب مولعون كل بعمله ، فقسم منهم يتأرجحون بين أغضان الأشجار ، والقسم الآخر يرمون بأنفسهم في النهر مفضلين السباحة ، وطائفة تقفز على الأرض وتلعب وبأيدي طائفة أخرى عصي خاصة يقفزون بواسطتها ... وفي هذه الأثناء إذا أهوى أحد الشبان بعصاه المدببة على رأس شاب آخر بلا سبب أصلاً وفي تمام الانتباه والارادة ، وقتله بتلك الضربة . ألا يوجد هذا العمل إستياء في نفوس أفراد القبيلة ؟ ألا يعتبر هذا العمل في أنظارهم قبيحاً ؟ هل إن شج رأس إنسان مع العلم والعمد مساو لكسر حجارة ؟ ألا يلومونه على عمله ؟ ألا يحس في نفسه بالاضطراب والقلق من فعله ؟ . وإذا كان شاب آخر جالساً على الأرض ويقلع الحصى منها بواسطة العصا المدببة التي في يده ، وفجأة اتجه إلى طفل صغير وطرحه أرضاً وأخرج عينيه من حدقتيه ألا يسأله أفراد القبيلة عن سبب اقتلاع عيني الطفل ؟ ألا يعتبرون هذا العمل قبيحاً ؟ ألا يعاقبون المرتكب لتلك الجريمة أو يلومونه على الأقل ؟ هل أن اقتلاع عيني طفل بريء مساو في أنظار أفراد القبيلة مع اقتلاع الحصى من الأرض ؟.
يدعي فرويد أنه يتساوى كسر الحجار وشج رأس الانسان وقتله في نظر أفراد القبيلة من حيث الحسن والقبح . وكذلك يتساوى عندهم إقتلاع الحصى من الأرض واقتلاع العين من الحدقة ... ذلك أن الانسان لا يملك وجداناً أخلاقياً فطرياً ، ولا يدرك الخير والشر بذاته.
إن نظرية فرويد في موضوع نفي الوجدان الأخلاقي تافهة عند علماء النفس إلى درجة أن تلاميذه وأتباع مدرسته لم يستطيعوا السكوت عن سفسطاته.

« وطبيعي أننا يجب أن لا نتلقى جميع نظريات فرويد على أنها صحيحة ومنطبقة مع الواقع تماماً ، فمثلاً لا تخلو نظريته في الوجدان الباطن من عيوب ونواقص » (1).

____________
(1) انديشه هاى فرويد ص 66.


( 290 )


تراجع فرويد عن عقيدته :


وألطف من ذلك أن فرويد نفسه قد غير عقيدته تجاه الوجدان الأخلاقي في أواخر أيام حياته ، واضطر إلى الاقرار بمحكمة الوجدان الباطن.

« يقول فرويد في أحد آثاره الأخيرة باسم ( المؤتمرات الحديثة في التحليل النفسي ) إننا مضطرون للاذعان بوجود محكمة قضائية خاصة في الحياة النفسية ، والتي تلعب دور الانتقاد والامتناع » (1).

يفسر فرويد عامل ارتكاب جريمة القتل في القبيلة الخيالية ـ شأنه في كل قضية ـ بالغريزة الجنسية للأبناء ، في حين وجود عوامل أخرى يمكن أن تكون منشأ للفعاليات والنشاطات المفيدة والمضرة التي تصدر من الانسان.

« إن فرويد لا يتحدث عن المؤسسات الاجتماعية المختلفة أو الظروف والأحوال الاقتصادية للمجتمعات المختلفة بحيث يكون أفق منظاره من الجانب الاجتماعي ضيقاً جداً ».
« إنه يظهر نظرية مبتورة عن الحياة الاجتماعية ، ويعتبر محيط الأسرة مستقلاً عن العوامل الاقتصادية والسياسية ومرتبطاً بعقدة أوديب بصورة منحصرة ».
« وبالنتيجة فان فرويد يغفل أهمية الصراع الطبقي في داخل المجتمع ، في حين أن الصراع الطبقي يقوم بدور مهم بآثاره الايجابية والسلبية التي تترتب عليه » (2).


.5

حادثة القتل الأولى في تاريخ الانسان :


إن أول حادثة للقتل وقعت في تاريخ الانسان ، هي أن أخاً قتل أخاه ،
____________
(1) فرويد وفرويديسم ص 67.
(2) أنديشه هاى فرويد 83.


( 291 )


ولم يكن الدافع إلى ذلك ـ حسب النصوص الاسلامية ـ هو الغريزة الجنسية ، بل خلافة الأب أو حب الرئاسة الممزوح بالغضب !.
يسأل سليمان بن خالد من الامام الصادق ( ع ) عن سبب أول حادثة للقتل في أسرة آدم ، فيجيبه الامام عليه السلام : « يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم : أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب ، فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية » (1).
تقول المدرسة الاسلامية : إن أول حادثة للقتل في تاريخ البشرية قد وقعت بسبب حب الرئاسة وثورة القوة الغضبية . أما المدرسة الفرويدية فانها تصورت أن القتل في القبيلة البدائية الموهومة كان بسبب الغريزة الجنسية والقدر الجامع بين المدرستين أن القتل كان في ظرف غير عادي وحالة غير طبيعية.

إنطفاء الوجدان :


إن أنصار الوجدان الفطري يشرحون حالة الانسان النفسية بالصورة التالية : إن الانسان يدرك في الحالة الطبيعية قبح القتل بواسطة الوجدان الأخلاقي والالهام الالهي ، ولا يزاحم حرية الأفراد الآخرين . وعندما تثور إحدى الغرائز ويقع الانسان تحت تأثير عوامل الغضب ، والجنس والجوع ، والحسد ، وحب الذات والمال والجاه ، وما شاكل ذلك ، فإن شعلة الفطرة تنطفئ ، ولا يسمع الانسان نداء الوجدان وحينذاك يرتكب جريمة القتل بصورة جنونية.
هذا الوضع الثابت كان موجوداً في باطن الانسان منذ البداية ، ولا يزال يوجد في جميع نقاط العالم على نفس المنوال . ولقد اعترف المؤمنون بتعاليم الأنبياء وأكثر العلماء في العالم بهذا المنطق الطبيعي الذي يسمع من لسان الفطرة في كل زمان ومكان.
____________
(1) تفسير البرهان ص 282.


( 292 )


أما فرويد وأتباع مدرسته فقد شرحوا قصة القتل من زاوية التحليل النفسي بالنحو الآتي : ـ

« ربما لو لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ، ولم تظهر نتائجها الوخيمة المؤلمة فيما بعد ، فإن أحفاد الانسان الأول كانوا يستمرون في قتلهم بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل . ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (1).

1 ـ لقد استعمل في البداية لفظة ( ربما ) ، وهذا يدل على أن اتباع مدرسة فرويد لا يؤمنون بهذه النظرية مائة في المائة ، بل أنهم يواجهونها على أساس الترديد والشك.
2 ـ يستفاد من هذه العبارة أن أبناء البشر كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض بلا رادع أو مانع ، وإن حادثة قتل الأب الوهمي والندم الناشئ من ذلك ، الذي أدى إلى صدور الاعلان الخيالي كانت السبب في إيقاف جرائم القتل.
إذا كان فرويد وأتباعه يرون أن توسع جرائم القتل قبل صدور الاعلان كان ناشئاً من ثورة غريزة من الغرائز كالذي حدث في قتل الأب ، فيجب أن نقول لهم ، إن الاعلان لم يترك أصغر الأثر في الانسانية لاستمرار جرائم القتل حتى بعد صدوره . ففي حالة السلم يقتل يومياً مئات الأفراد في العالم لسبب الجنس والغضب والحسد ، وأما في حالة الحرب فلا تعد الضحايا !! ..
فإن قالوا : إن أفراد البشر كانوا قبل صدرو ذلك الاعلان يقتل بعضهم بعضاً دون أي ثورة من الغرائز بل وفي الحالات الاعتيادية وجاء الاعلان ليمنع حدوث مثل تلك الجرائم ... فبديهي أنهم خالفوا الواقع في ذلك . ذلك أن الكلاب ، الذئاب ، النمور وكذلك الطيور حين تصطرع فيما بينها فليس إلا بهيجان غريزة الجوع أو الجنس وما شاكل ذلك ، أما في الحالات
____________
(1) أنديشه هاى فرويد ص 88.


( 293 )


الاعتيادية فلا يزاحم بعضها بعضاً . أللهم إلا أن تدعي المدرسة الفرويدية أن الانسان أحط من الكلاب وأشد توحشاً من الذئاب . ونتيجة ذلك إن الذئاب لا تتنافس ولا تتزاحم في الحالات الطبيعية ، أما أفراد الانسان فانهم يقتل بعضهم بعضاً في الحالات الطبيعية وفي مثل هذه العبارات السخيفة فليحكم النقاد والباحثون !.

قبح الخيانة :


لقد سبق أن قلنا : إن الوجدان الأخلاقي يدرك كثيراً من أمهات الفضائل والرذائل ، ولا ينحصر ذلك الادراك بقبح القتل ، الذي حللناه تحليلاً مفصلاً ، وتعرفنا فيه إلى عبارات فرويد ونظرياته وكنموذج آخر نستعرض قبح الخيانة في نظر الوجدان.
لنفرض طفلاً يملك تفاحة ، ويودع تفاحة ، ويودع تفاحته عند آخر ليذهب إلى غسل يديه ويرجع . إنه يتوقع ـ طبيعياً ـ وينتظر ـ فطرياً ـ أن يسترجع أمانته . فإذا جاء ووجد أن الطفل الآخر قد أكل التفاحة فانه يتألم ويلومه ويدينه بفعل قبيح . وأما الطفل الذي أكل التفاحة فانه هو الآخر يحس بالتألم ، ويضطرب ، يصفر وجهه ، يحاول الفرار والابتعاد عن ساحة الخطيئة . وكذلك الأطفال المتفرجون فانهم يعتبرون هذا الفعل خطأ ، ويدركون بأن الذي أكل التفاحة قد ارتكب فعلاً قبيحاً . هذا الاحساس أو الشعور لا يرتبط بالتعليم والتربية وإنما هو إدراك ينبع من أعماق الفطرة وموجود عند جميع الأطفال.
أما فرويد فانه ينكر القبح الفطري للخيانة ، شأنه في سائر الأمور الفطرية الوجدانية ، ويعتقد أن الانسان الأول كان لا يفهم شيئاً من الحسنات السيئات الخلقية . وهنا نجد من المناسب أن نرجع إلى القبيلة الوهمية التي تصورها فرويد لنجعل بحثنا يدور حولها.
إذا كان فرويد يدعي أن أفراد القبيلة كانوا كقطيع من الأغنام لا يدركون معنى الأمانة أصلاً . فمن البديهي أن البحث عن قبح الخيانة يكون لغواً مع هذه الدعوى . إذ يجب أن لا نتحدث عن قبح الخيانة مع الأغنام التي لا تدرك الأمانة كي تدرك عكسها . ولكن المفروض أن فرويد لا يستطيع أن


( 294 )


يدعي مثل ذلك ، لأنه قال عند التحدث عن أبناء القبيلة الذين قتلوا أباهم :
« ولم يكن مقدوراً لأحد الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه ».
يستفاد من هذه العبارة أن أفراد القبيلة الوهمية كانوا عقلاء مفكرين متعمقين إلى درجة أنهم كانوا يشاهدون الستار الذي يكمن وراء ستار الرياسة ، وكانوا يعلمون أنهم بقبولهم الرياسة سيلاقون نفس المصير المؤلم الذي لاقاه أبوهم من قبل ، وبديهي إن إدراكاً كهذا يكون نتيجة التعقل والتفكير ، ومن الواضح أن القبيلة الخيالية لم تكن تحت سيطرة حكومة الغرائز العمياء الصماء مثل الأغنام ، بل كانوا يدركون معنى الأمانة بكل وضوح.
لنفرض أن إحدى نساء القبيلة خرجت في الصباح إلى الغابة واستطاعت بعد عناء شديد أن تقطف بعض الفواكه لطعامها وطعام أطفالها ، وقد جرحت بالأشواك ... وفي أواخر النهار تحمل الفواكه إلى حيث تسكن القبيلة . وبما أن طفلها يضيع في أثناء الطريق ، فانها تودع الثمار عند أحد أفراد القبيلة الذي كان بالقرب من تلك المنطقة ، وتعود إلى الغابة للبحث عن طفلها . وعندما ترجع تجد أن الشخص الذي أودعت الثمار عنده قد وزعها بين أفراد أسرته وأكلوها جميعاً ... أليس هذا العمل مخالفاً لما كانت تتوقعه المرأة بفطرتها ؟ ألا تحس المرأة أن عملاً قبيحاً قد وقع ؟ . ألا يحق لها أن تصيح وتولول وتضرب الخائن ؟ . وإذا اجتمع أفراد القبيلةواطلعوا على القضية ألا يسألون الخائن عن قبح فعله ؟ ألا يسمحون لتلك المرأة أن تأخذ حقها من الخائن ؟ ألا تدل هذه الردود الروحية على القبح الفطري للخيانة ؟! إن جواب فرويد على هذه الأسئلة كلها بالنفي . إنه يقول : إن الخيانة ليست من الناحية الفطرية فعلاً حسنا أو قبيحاً . ذلك لأن الانسان الأول لم يكن يدرك الحسن والقبح.
أما أتباع الرسالات السماوية ، وكثير من العلماء في الماضي والحاضر فانهم يرون أن قبح الخيانة ـ كسائر الوجدانيات ـ أصيل في بناء الانسان . إن الله تعالى وهب الانسان ثروة فطرية عظيمة لهدايته إلى الحياة السعيدة ، وليصل عن هذا الطريق إلى الكمال الانساني اللائق به ، ولكن الانسان الحر والطليق


( 295 )


من تلويثات الغرائز فقط هو الذي يستطيع أن يسمع نداء الفطرة ، ويدرك الخير والشر.
يقول الامام ( ع ) بهذا الصدد : « إن الله إذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ، ولا منكراً إلا أنكره » (1).

الدعوة على أساس الفطرة :


لقد وجه الأنبياء اهتمامهم إلى الفضائل الأخلاقية التي لها جذور إلهامية وتكوينية في النفس الانسانية ، ولقد دعوا الناس في مناهجهم التشريعية إلى إحياء الفطرة الأخلاقية ، يقول الامام الصادق ( ع ) : « إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة » (2) . وفي حديث آخر : « لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإن ذلك شيء قد اعتاده ، فلو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته » (3).
هذا الحديث يرشدنا إلى البحث عن انسانية الرجل في حياة وجدانه الأخلاقي ، فإن من يطفئ جذوة الفطرة في باطنه وينحرف عن الصراط المستقيم يكون قد انسلخ عن الانسانية ، وإن بدا صلاحه وكان يطيل الركوع والسجود . إن الوجدان الأخلاقي إذا كان حراً ولم تعصف به عواصف الجبن والغضب يدرك الخير والشر بالالهام الالهي ، ويستطيع أن يكتشف طريق سعادته من شقائه : « ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ».

عدالة الوجدان :


إن الوجدان الأخلاقي يعتبر من أهم وأعظم العوامل التنفيذية للوقاية من الجرائم . فإنه الذي يوجه اللوم والتقريع إلى المجرم ، ويوجه نحوه بذلك أشد الضربات . إن الوجدان الأخلاقي أطهر وأقدس محكمة قضائية لمعالجة الجرائم والجنايات . وإن عدالة محكمة الوجدان تضارع عدالة المحكمة الالهية في القيامة ... فكما أن الله تعالى يحكم بين الناس بالحق في ذلك اليوم ، كذلك
____________
(1) إثبات الهداة ج 1|87.
(2) و(3) سفينة البحار ، مادة ( صدق ) ـ ص 18.


( 296 )


الوجدان الأخلاقي ، فانه يحاسب المجرم ويجازيه ، ولهذه المناسبة بينهما فان الله تبارك وتعالى قد قرن النفس اللوامة بيوم القيامة في القرآن الكريم حين قال : « لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ».

« الأخلاق الصحيحة هي التي تستند على أساس احترام الوجدان . وإن الوجدان الأخلاقي يعمل دائماً للارتباط بالدين لأنه سر نشوء الاطمئنان والاعتماد . ولهذا فان الوجدان الأخلاقي يحكم في الأفعال بصورة عادلة وصحيحة بصورة كلية ، وذلك بخلاف العقيدة التي يمكن أن تؤثر فيها الدعايات بسهولة ».
« إن احترام الوجدان الاخلاقي ليس منشأ الحرية والرفاه الاجتماعي فحسب ، بل إنه منشأ الهدوء النفسي أيضاً . والآن حيث لا يمكن الخروج على إطاعة الوجدان الأخلاقي ، فالأجدر أن نتقبل أوامره بكل ارتياح وشوق ونخضع لحكمه وعدالته . هذه الطاعة النفسية توجد سلوكاً حميداً ومفضلاً » (1).
« لا بد من الاهتمام بالتعذيب الناشئ من عدم إرضاء الوجدان الأخلاقي . فالندم ، والغضب ، والتحمس للتبرئة ، والحقد ، هذه كلها من نتائج تعذيب الوجدان الأخلاقي . هذا التعذيب يمكن أن يوجد بعض الأمراض الروحية الخفيفة » (2).


الميثاق الفطري :


لقد ورد التعبير عن الوجدان الأخلاقي في بعض الرويات بالميثاق الالهي . فعندما خلق الله الانسان علمه والشر ، وكأنه عقد معه ميثاقاً
____________
(1) بيماريهاى روحى وعصبي ص 69.
(2) المصدر نفسه ص 70.


( 297 )


واخذ منه عهداً تكوينياً في أن يلتزم بالتعاليم الفطرية ، ولا ينحرف عن صراط الفطرة المستقيم.
فالذين يخرجون على الميثاق الفطري ويخالفون أوامر الالهام التكويني والوجدان الأخلاقي يعيشون في هذه الحياة بقلق واضطراب تماماً ويحسون بملامة دائماً ، وأما في القيامة فانهم يبتلون بعذاب الله.
وعلى العكس فإن الذين يوفون للميثاق الفطري حقه ويستمعون لنداء الالهام الالهي المتمثل في أوامر الوجدان الأخلاقي فانهم يعيشون حياة ملؤها الاطمئنان والهدوء ، وينصرفون من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى مع نداء : « يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية ».
يتطرق الامام ( ع ) في ضمن حديث له إلى أوصاف المؤمن الكامل فيقول : « صدق بعهد الله ، وفي بشرطه ، وذلك قوله عز وجل : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الأخرة » (1).
وفي حديث آخر : « وفى الله بالشروط التي اشترطها عليه ، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء ولاصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له ، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (2).

إطاعة الوجدان الأخلاقي :


إن نتيجة اتباع الميثاق الفطري الأخلاقي هو الهدوء النفسي والسكينة والاطمئنان . إن اتباع الوجدان الأخلاقي يورث الفضيلة والتجلي الروحي وإن الانحراف عن الفطرة يسبب الضلال والفساد . ولقد كان الأنبياء يبذلون الجهود العظيمة التي لا تعرف الملل ولا الكلل ليعرفوا الناس بفطرتهم ويزيحوا الأستار المظلمة للغرائز والشهوات عنها وليحيوا الفضائل الانسانية فيهم.
____________
(1) بحار الانوار 15|50.
(2) المصدر نفسه ج 15|51.


( 298 )


« ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ، وذكرهم بأيام الله » (1).
إن أيام الله هي أيام الخلقة والفطرة ، أيام الايمان والفضيلة ، فكان على النبي موسى ( ع ) أن يذكر الناس بتلك الأيام ويعلمهم نعمة الهداية الالهية التي كانت موجودة فيهم منذ اليوم الأول . فأنتم الذين تسعدون إن اتبعتم أوامر الالهام الالهي ، وتشقون وتعذبون إن خالفتم تلك الأوامر.
إن الوجدان الأخلاقي ثروة إنسانية كبيرة لتحقيق السعادة ، فبالامكان وقاية الناس من الجرائم والمخالفات بإحياء الوجدان الأخلاقي فيهم ، وبذلك يمكن هدايتهم إلى الطريق المستقيم.
ولأجل التأكيد على ما نقول ، نسوق الحادثة التاريخية التالية شاهداً على ذلك :
« قال : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيني وبين أمي . فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لم تدع على أمك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أنها حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني . فقال عمر : أين تكون الوالدة ؟ قال : في سقيفة بني فلان . فقال عمر : علي بأم الغلام . فأتوا بها مع أربعة اخوة لها . وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وإن هذا الغلام مدع ظلوم غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط ، لأنها بختام ربها ، فقال عمر : يا غلام ما تقول ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه والله أمي ، حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير والشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني ، فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والذي احتجب بالنور فلا عين تراه ، وحق محمد وما ولد ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو ، وإنه غلام
____________
(1) سورى إبراهيم |5.


( 299 )


يريد أن يفضحني في عشيرتي وأنا جارية من قريش ولم أتزوج قط واني بخاتم ربي . فقال عمر : ألك شهود ؟ فقالت : نعم هؤلاء . فتقدم الأربعون قسامة وشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط . وأنها بخاتم ربها . فقال عمر : خذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري . فأخذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن . فتلقاهم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الطريق فنادى الغلام : يا بن عم رسول الله ، إني غلام مظلوم . فأعاد عليه الكلام الذي تكلم به عمر ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى السجن . فقال علي ( ع ) : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه إلي ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا علي بن ابي طالب أن نرده إليك وسمعناك وأنت تقول : أن لا تعصو لعلي أمراً . فبينا هم كذلك إذ أقبل علي ( ع ) فقال : علي بأم الغلام ، فأتوا بها فقال علي ( ع ) : يا غلام ما تقول ؟ فأعاد الكلام على علي ( ع ) فقال علي لعمر : أتأذن لي أن أقضي بينهم ؟ فقال عمر : سبحان الله وكيف لا وقد سمعت رسول الله ( ص ) يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب ( ع ) ، ثم قال للمرأة : يا هذه المرأة ألك شهود ؟ قالت : نعم . فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى ، فقال علي ( ع ) : لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه . علمينها حبيبي رسول الله ( ص ) ، فقال لها : ألك ولي ؟ قالت : نعم ! هؤلاء إخوتي . فقال لأخوتها : أمري فيكم وفي أختكم جائز ؟ قالوا : نعم يا بن عم محمد ، أمرك فينا وفي أختنا جائز . فقال علي ( ع ) : أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي . يا قنبر : علي بالدراهم . فأتاه قنبر . فصبها في يد الغلام فقال : خذها وصبها في حجر امرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس ـ يعني فقال : خذها وصبها في حجر امرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس ـ يعني الغسل ـ فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة . ثم تلببها ، وقال لها : قومي . فنادت المرأة : النار النار يا بن عم محمد أتريد أن تزوجني من ولدي ؟ هذا والله ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا . فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده هذا والله ولدي ، وفؤادي يتغلى أسفاً على ولدي ، قال ... ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ، ونادى عمر : واعمراه لولا علي لهلك


( 300 )


عمر » (1).

الاستفادة من الوجدان :


إن التزوج بالأم قبيح ومذموم في الضمير الباطن ، وفي الوجدان الأخلاقي التربوي للناس ، ولقد استفاد الامام علي ( ع ) في مقام القضاء ولكشف الواقع من قوة الوجدان ، واكتشف ضمير المرأة ، وحملها على الاعتراف بالواقع الذي حاولت إخفاءه ، وإذا كان الوجدان الأخلاقي التربوي مؤثراً لهذا الدرجة في الوقاية من الانحراف فمن البديهي أن تأثير الوجدان الأخلاقي الفطري الذي هو جزء من الفطرة الانسانية في إصلاح المجتمع أشد وأعمق .
فمن الضروري أن يستفيد القائم على تربية الطفل من الوجدان الفطري له منذ البداية ويحيي الميول الالهامية فيه ويقيم التربية على أساس الفطرة . وطبيعي أن تربية كهذه ستبقى ثابتة على أساس الفضيلة والطهارة.
____________
(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 40|304 ـ 306.

الصفحة 2 من 2