الرسالة الذهبية
المعروفة بـ ( طب الإمام الرضا عليه السلام )
تحقيق محمد مهدي نجف
تقديم
لما كان المتعارف عند تحقيق المخطوط التعريف بالمؤلف والكتاب تعريفاً يتناسب وحجم المخطوط كماً وكيفاً ، ليكون تقديماً بين يدي القاريء الكريم ، فحري بنا أن تكون مقدمتنا هذه مختصرة .
ماذا أقول ، وما عسى الكاتب أن يكتب ، والبيان أن يحيط في تعريف ولي من أولياء الله ، ووصي من أوصيائه ، وامام من أئمته في أرضه ، سليل النبوة ، ومعدن الرسالة ، وينبوع العلم ، ثامن الأئمة ، الامام الرضا علي بن الامام الكاظم موسى بن الامام الصادق جعفر بن الامام الباقر محمد بن الامام السجاد زين العابدين علي بن الامام الشهيد بكربلاء الحسين بن الامام علي بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة والسلام .
هيهات هيهات ، ضلت العقول ، وتاهت الاحلام ، وحارت الالباب ، وحصرت الخطباء ، وكلت الشعراء ، وعجزت الادباء ، وعييت البلغاء ، في وصف شأنه ، وأقرت بالعجز والتقصير . فذكره قبس من نور الله يهدي المستنير به نحو السبيل الاقوم ، وقدسية لاتضارعها قدسية ، وعصمة متوارثة : امام بعد امام .
فهو علم الهدى ، والمثل الاعلى في العلم والورع والتقى ، والحلم والاخلاق ، كرس حياته الطاهرة لاعلاء كلمة الاسلام ، وتاريخه حافل بجلائل الأعمال . انطلقت أعماله عن عقيدة وايمان ، استهدفت اصلاح أمة جده خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى منقذاً لعباده من الظلمات الى النور .
وقد أجاد الحسن بن هانئ المعروف بأبي نؤاس حين عوتب على الامساك عن مديحه حيث قال :
قيل لي أنت أوحد الناس طراً | |
في فنون من الكلام النبيه | |
لك من جوهر الكلام بديع | |
يثمر الدر في يدي مجتنيه | |
فعلام تركت مدح ابن موسى | |
والخصال التي تجمعن فيه | |
قلت لا أهتدي لمدح امام | |
كان جبريل خادماً لأبيه(1) |
____________
(1) أنظر كشف الغمة 3|111 ، مرآة الزمان 9|22| أ .
ولادته ووفاته :
ولد عليه السلام في مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، سنة ثلاث وخمسين ومائة من الهجرة النبوية (1) . وقال الشيخ المفيد قدس سره : كان مولده عليه السلام سنة ثمان وأربعين ومائة (2) .
وتوفي مسموماً بطوس ، في قرية يقال لها سناباذ ، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي ، في القبة التي دفن فيها الرشيد ، الى جانبه مما يلي القبلة ، وذلك في أول سنة (203) هـ (3) . وقد تم عمره الشريف تسعاً وأربعين عاماً وستة أشهر ، أو خمساً وخمسين عاماً على ما ذكره الشيخ المفيد . وكانت مدة امامته عليه السلام وقيامه بعد أبيه عشرين عاماً .
ولما كانت شخصية الامام الرضا عليه السلام متشعبة الجوانب أسمى من أن يحيط بها بيان ، تركت الخوض في خضمها لاصحاب الموسوعات التاريخية من ذوي الاختصاص .
من خلال الاحداث :
من الضروري أن نجد العلاقة بين امامنا الرضا عليه السلام ، الذي عاش جل حياته بيثرب ، وبين عبد الله بن هارون الرشيد الخليفة العباسي المعروف بالمأمون من خلال الاحداث .
____________
(1) عيون أخبار الرضا : 18 .
(2) ارشاد المفيد : 341 .
(3) تاريخ اليعقوبي : 3|193 ، مرآة الزمان : 9|22 أ .
لقد عاصر الامام عليه السلام ستة من خلفاء بني العباس ، وهم : والمنصور ، والمهدي ، والهادي ، والرشيد ، والامين ، والمأمون . وكانت البلاد الاسلامية آنذاك تتمخض عن ثورات علوية متتالية ، فكلما قضى على واحدة منها قامت الاخرى .
وكان المأمون يعيش خضم تلكم الاحداث السياسية ، الا أنه بدهائه وسعة حيلته ، رأى أن يجنح للاكثرية الساحقة في البلاد ، وتسخيرها لاغراضه .
فاشخص عميد البيت العلوي الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام من مدينة جده صلى الله عليه وآله الى مرو عاصمة ملكه ، لما رأى من فضله البارع ، وعلمه النافع ، وورعه الباطن والظاهر ، وتخليه عن الدنيا وأهلها وميله للاخرة وايثاره لها ، وبعد ان أيقن أن الناس عليه متفقة ، عقد له ولاية العهد من بعده ، فأطفأ بذلك غضب العلويين .
كان اشخاصه عليه السلام على يد رجاء بن أبي الضحاك ، وأمره المأمون أن يترك طريق الكوفة وقم ، ويأخذ به طريق البصرة والأهواز وفارس حتى يوافى مرو (1) .
ولما وصل الامام عليه السلام الى نيسابور وهو راكب بغلته الشهباء ، فاذا بمحمد بن رافع وأحمد بن الحرث ويحيى بن يحيى واسحاق بن راهويه وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته لطلب الحديث منه ، والرواية عنه ، والتبرك به ، فأجابهم لذلك ، ثم سار متوجهاً الى مرو ، فتلقاه المأمون بنفسه وأعظمه (2) .
ثم جرت بين الامام عليه السلام والمأمون خطابات كثيرة في أمر الخلافة والولاية ، حتى اضطر الامام لقبول ولاية العهد . فكتب المأمون نص الولاية
____________
(1) عيون أخبار الرضا : 2|149 .
(2) مرآة الزمان : 9|15 أ .
بيده ، نذكر منها قوله ... واني لم أزل منذ أن أفضت الي الخلافة أنظر من أقلده أمرها ، وأجتهد من أوليه عهدها ، فلم أجد في العالم من يصلح لها ، وينهض بأعبائها الا أبا الحسن علي بن موسى الرضا ... الخ (1) .
كما أمر المأمون الولاة والقضاة والقواد وولد العباس ببيعة الامام عليه السلام ، فبويع «ع» لليلتين خلتا من شهر رمضان ، في السنة الاولى بعد المأتين من الهجرة ، وأمر المأمون الناس بلبس الخضرة شعاراً للعلويين بدل السواد ، وكتب بذلك الى الافاق ، واخذت البيعة فيها للامام عليه السلام ، ودعي له على المنابر ، وضربت الدنانير والدراهم باسمه (2) .
حتى اذا هدأت البلاد ، وتغلب المأمون على الثائرين والمناوئين لسلطانه في كل مكان استطاع أن يصنع بولي عهده ما كان يخفيه .
وقد تكللت فترة ولاية العهد هذه بمناظرات ومحاججات كثيرة في مختلف العلوم والفنون مع جهابذة العلم والمعرفة آنذاك ، وكانت تعقد تلك المناظرات بأمر وحضور المأمون ، فأفحم الامام عليه السلام كل من ناظره وحاججه . فظهر للناس فضله وعلمه ، وأحقيته بالخلافة .
تاريخ الرسالة الذهبية :
في حدود تتبعي واستقرائي لبعض المصادر التاريخية المتوفرة لم أعثر على تاريخ اصدار هذه الرسالة ، لكن يمكن تحديد الفترة الزمنية التي أرسلت فيها ـ كما رواها ابن جمهور في سندها الاتي ـ أنها كانت بعد اشخاصه عليه السلام من المدينة المنورة ، أي بين سنة (201 ـ 203) هـ .
____________
(1) المصدر السابق .
(2) تاريخ اليعقوبي : 3|189 .
محتوى الرسالة :
لقد اراد المأمون معرفة أصول حفظ صحة المزاج ، وتدبيره بالأغذية والاشربة والادوية مستقاة من منبعها العذب ، فطلب من الامام عليه السلام بيان ذلك ، وكرر الطلب ، فكتب اليه هذه الرسالة ، فلما وصلت الى المأمون أمر بأن تكتب بماء الذهب .
ولعل أهم ما يطوف في ذهن القارئ حول أهمية هذه الرسالة وما تعنيه دلالتها التاريخية انها تمثل مرحلة تاريخية تتعلق بفن الطب وتطوره في العصر الاسلامي الأول ، فهي تكشف للمعنيين بالطب وتاريخ تطوره عبر العصور غزارة علمه عليه السلام ، وسعة اطلاعه .
ومن خلال هذا المنطلق أمكنني تقديم دراسة مسهبة للرسالة الذهبية مقسماً اياها الى عدة فصول .
لقد جاءت هذه الرسالة بمجموعة من النصائح والارشادات الطبية العامة القيمة ، والتي كانت حصيلة تجاربة عليه السلام مضافاً اليها ما سمعه عن آبائه عليهم السلام ، من أقاويل القدماء أيضاً . كما أشار الى ذلك بقوله عليه السلام في مستهل رسالته : « عندي من ذلك ما جربته عرفت صحته بالاختبار ومرور الايام ، مع ما وقفني عليه من مضى من السلف مما لا يسع الانسان جهله ولا يعذر في تركه » .
ففي الفصل الاول : نرى الامام عليه السلام قد سبق علماء الطب في العصر الاسلامي في العديد من الاراء والاكتشافات التي أصبحت الاساس الرئيس في التجارب الطبية ، بل يمكن القول بأنها النواة الأولى لاراء الاطباء فيما بعد .
فكان عليه السلام أول من شبه جسم الانسان بالمملكة الصغيرة المتكاملة ،
فقال : ان هذه الاجسام أسست على مثال الملك . فملك الجسد هو مافي القلب ، والعمال العروق في الاوصال والدماغ ، وبيت الملك قلبه ، وأرضه الجسد ، والاعوان : يداه ورجلاه وعيناه وشفتاه ولسانه وأذناه . وخزائنه : معدته وبطنه وحجابه وصدره .
وليس المهم في هذا الوصف الرائع التشبيه بالملك والمملكة وانما المهم فيه دلالة هذا التشبيه على معرفته عليه السلام بتشريح أعضاء الجسم الرئيسة ، وفسلجة كل عضو منها .
فاستهل عليه السلام بتشبيه القلب وما فيه بمثابة الملك في رعيته ، فكما أن الملك هو الشخص الاول والحاكم الرئيس في تسيير أمور المملكة كذلك جعل القلب وما فيه الاساس في بقاء الحياة الانسانية ، فمتى توقف القلب عن العمل توقفت الحياة في سائر الجسد .
كما مثل عليه السلام المجموعة المتكاملة من الشرايين والاوردة والشعيرات الدموية ، والتي أسماها بالعروق ، ومن جميع الاوصال وما يصير سبباً لوصل مفاصل البدن ، وبها تتم الحركات الارادية واللا ارادية المختلفة ، ومن الدماغ الذي يعتبر المركز الاول للاحساس في الجسم . مثل هذا وذاك بالعمال لادارة شؤون هذه المملكة ، وهم الجنود الامناء الاوفياء لها . فهم يحافظون على المملكة بجميع أجزائها من المؤثرات الخارجية .
كما شبه الجسد بكامل أعضائه وأجزائه بأرض هذه المملكة . ثم أوضح عليه السلام بتمثيله الرائع فسلجة كل عضو من أعضاء الجسم ، وما يقوم به من الوظائف المهمة ، فاشار الى اليدين ووصفهما بأعوان الملك : يقربان ما يريد ويبعدان ما يرفض . وان الرجلين ينقلانه من مكان لاخر حسب رغبته ، وطوع
ارادته . كما وصف العينين بالسراج ، حيث لا يمكن البصر بدون سراج ، فبهما ينظر القريب والبعيد . أما الاذنان فهما المصدر المهم لاستقبال المعلومات من الخارج ، كما أن اللسان بمعونة الشفتين والاسنان ، هو الاداة المعبرة عن ارادة الملك .
ثم استطرق عليه السلام في تشبيه جوف الانسان وما يحويه من صدر ومعدة وأمعاء وتوابعهما بالخزانة ، فمنها يتزود الانسان بالغذاء والمواد الحيوية الاخرى فما أعظم هذه المملكة الصغيرة المحتوى ، العظيمة التكوين !! فتبارك الله أحسن الخالقين .
وفي نهاية هذا الفصل أوضح عليه السلام تأثير الفرح والحزن وغيرهما من العوارض الخارجية على الوجه ، وبيان مركز كل منهما .
وفي الفصل الثاني جاءت ارشاداته عليه السلام في كيفية تناول الغذاء والشراب من حيث الكيف والكم ، كل ذلك حفاظاً على صحة البدن ، فابدى نصحه في تناول الغذاء : كل حسب طاقته وقدرته ومزاجه ، مع مراعاة الزمان والمكان ، لغرض استمراء الغذاء بصورة صحيحة ، والاستفادة منه على النحو الافضل . لان الاخلال في المأكل والمشرب سواءاً كان بزيادة أم نقصان يكون السبب في العديد من الامراض ، كما في الحديث الشريف : « المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء » .
اما في الفصل الثالث فقد أشار عليه السلام على المأمون بصنع نوع خاص من الشراب ، كثير الفوائد ، سهل الهضم ، لاستعماله بعد طعامه ، وليس المقصود هو شخص المأمون وحده ، بل كل من أراد الحفاظ على صحته .
وقد احتوى هذا الشراب على القيمة الغذائية العالية ، لما فيه من العناصر
المهمة : من سكريات ونشويات وفيتامينات وغيرها من المواد الرئيسة المولدة للطاقة ، مع مراعاة الشروط الصحيحة والاساسية في تحضيره .
ويمكن القول بأن امامنا الرضا عليه السلام قد سبق العلماء في تعريف الماء العذب ، فعرفه بأجمل تعريف ، وأوجز وصف بقوله : « ماء أبيضاً براقاً خفيفاً وهو القابل لما يتعرضه على سرعة من السخونة والبرودة ، وتلك الدلالة على صفاء الماء » .
كما سبقهم ايضاً في معرفة أضرار الغليان على العديد من العناصر الغذائية كاتلاف بعض الفيتامينات ، وطيران بعض العناصر السريعة التبخير في الغذاء والشراب .
وجاء تأكيد الامام عليه السلام في الفصل الرابع على عدم الافراط في استعمال الشراب بعد الطعام مبيناً ما يترتب عليه من أضرار على المعدة ، وبالتالي على سائر الجسد .
ولم يكتف «ع» بذلك بل أكد على تأثير الافراط في تناول بعض المواد الغذائية وأضرارها أيضاً ، فقال : « وكثرة أكل البيض وادمانه يورث الطحال ورياحاً في رأس المعدة ، والامتلاء من البيض المسلوق يورث الربو والابتهار وأكل اللحم النيء يورث الدود في البطن ، وأكل التين يقمل الجسد اذا أدمن عليه » ثم قال : « والاكثار من أكل لحوم الوحش والبقر يورث تيبس العقل ، وتحيير الفهم ، وتلبد الذهن ، وكثرة النسيان » .
وقد استهل الامام «ع» الفصل الخامس في بيان الوقاية من الامراض التي قد تحدث من تغيير الهواء المفاجئ ـ كما يحدث ذلك في الحمام ـ فقال عليه السلام : « واذا أردت دخول الحمام ، وأن لا تجد في رأسك ما يؤذيك فابدأ
عند دخول الحمام بخمس حسوات ماء حار ، فأنك تسلم بأذن الله تعالى من وجع الرأس والشقيقة » .
وجاء تقسيمه لبيوت الحمام بأوجز تقسيم ووصفه بأحسن وصف ، بقوله : « البيت الاول بارد يابس ، والثاني بارد رطب ، والثالث حار رطب ، والرابع حار يابس » .
ثم أشار عليه السلام الى منفعة الحمام للجسد من الناحيتين التشريحية والفسلجية ، فأبدى نصحه في استعمال الادهان والعقاقير قبل وبعد دخول الحمام لترطيب وتلطيف الجسد والاعضاء ، لان للجلد اهمية عظمى في التخلص من عدد لا يستهان به من المواد السامة ، فتنقية الجلد وفتح مسامه وتلطيفه من الامور المهمة للانسان .
وقد جاءت تعليماته نصائحه الطبية القيمة العامة في الفصل السادس حفاظاً على صحة وسلامة الاجهزة الداخلية بصورة عامة ، فنصح بعدم حبس البول والمني ، وعدم اطالة المكث على النساء وقاية للجهاز التناسلي مما قد يعرض عليه بسبب ذلك من اخطار . ثم كرر النصح بالعناية التامة بالفم وملحقاته ، لاهمية موقعه الحساس .
كما نصح بعدم استعمال الماء بين الطعام ، لتأثيره ضعف المعدة بقوله : « ومن أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماء حتى يفرغ ، ومن فعل ذلك رطب بدنه ، وضعفت معدته ، ولم تأخذ العروق قوة الطعام ، فانه يصير في المعدة فجأ اذا صب الماء على الطعام » .
وأوضح كيفية الاستلقاء عند النوم رعاية للجهاز الهضمي .
كما اهتم عليه السلام ايضاً بالجهاز العصبي ، لاهمية ذلك ، فأبدى النصح
لمن اراد الزيادة في قوة الحافظة بأن يأكل الزبيب وغير ذلك ، كما يأتي في محله .
ثم جاءت ارشاداته عليه السلام في الفصل السابع من هذه الرسالة الذهبية للمسافر خاصة ، فأوصى بالاحتراز من بعض الامور التي تضطره طبيعة السفر اليها ، كاختلاف المأكل والمشرب وغيرها .
فنصح بالاحتراز من السير في الحر الشديد وهو ممتلئ الجوف مؤكداً أضراره على الجسم . كما نصح بمزج ماء كل بلد يسافر اليه بماء أو طين بلده الذي ولد فيه موضحاً فوائد ذلك . ثم كرر نصائحه باستعمال المياه العذبة ، وفرق بين المياه العسرة والثقيلة في الاستعمال .
ثم اختص الفصل الثامن بقوى النفس ، وانها تابعة لمزاجات الابدان ، ومزاجات الابدان تابعة لتصرف الهواء ، فاذا برد مرة ، وسخن أخرى تغيرت بسببه الابدان .
فالامام عليه السلام قسم جسم الانسان الى طبائع أربع : « الدم والبلغم والمرة الصفراء والمرة السوداء » . ثم خص الاعضاء الرئيسة بالجسد كل عضو بواحد من هذه الطبائع الاربع ، فقال عليه السلام : « ان الرأس والاذنين والعينين والمنخرين والانف والفم من الدم » مشيراً الى أن الرأس هو محل الاحساس والادراك ، وأنه مركز العروق والشرايين المؤدية الى أجهزة الجسم لغزارة الدم في دورتها فقد وصفها بأنها من الدم .
كما خص البلغم والريح بالصدر ، لاجتماع البلاغم فيه من الدماغ وسائر الاعضاء ، ويكثر الريح فيه بالاستنشاق المستمر .
وخص الشراسيف ـ وهو الجهاز الهضمي وتوابعه ـ بالمرة الصفراء لقربها
من الصفراء أو لانها داخلة في تكوينه .
وأخيراً خص أسفل البطن بالمرة السوداء اشارة الى سواد الطحال . وهو يشمل أيضاً الكلى والمجاري البولية والتناسلية وغيرها .
واهتم عليه السلام في الفصل التاسع براحة الانسان مستضيئاً بقوله تعالى : « قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمداً الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون » (1) ليأخذ المخلوق فيه قسطاً من الراحة في جو هادئ ، وليعوض قواه المفقودة في عمله .
فجاءت نصائحه في كيفية النوم ، حين يستلقي الانسان على فراشه . وبه يكون سكون الحواس الظاهرة ، وبه يستكمل هضم الطعام ، والافعال الطبيعية للبدن .
وكرر عليه السلام في الفصل العاشر اهتمامه بصحة الاسنان ، وأوضح بعض التعليمات الضرورية في الحفاظ عليها من المؤثرات الخارجية ، والنصح بعنايتها والاهتمام برعايتها . فأوصى باستعمال بعض المواد النافعة للاسنان والمجلية لها .
وقد قسم امامنا عليه السلام في الفصل الحادي عشر أحوال الانسان وقواه الجسمانية حسب الفترات الزمنية الى أربعة أقسام : ـ الاولى فترة الصبا ، وتكون في الاعوام الخمسة عشر الاول ، تليها فترة الشباب حتى يبلغ السن الخامسة والثلاثين ، فيكون بعدها سن الشيخوخة حتى يتم الستين من العمر ، تليها فترة الهرم والذبول ويكون الجسم فيها في ادبار وانعكاس ما عاش .
ثم أوضح فوائد الحجامة ، وأوقاتها ، وشروطها الصحية في الفصل الثاني
____________
(1) سورة القصص : 71 .
عشر مشيراً الى مواضع الفصد ، والحجامة في البدن ، مبيناً العوامل المساعدة في تخفيف آلامها ، وطرق عملها ، كما أكد في ختام بيانه في هذا الفصل على بعض الاضرار والاعراض التي قد تحدث من استعمال بعض المضادات أثناء الحجامة أو الفصد ، وكيفية الوقاية منها .
وقد أشار امامنا عليه السلام في الفصل الثالث عشر الى عدم توافق تراكيب بعض المواد كيمياوياً ، مما يعرض البدن لاجتماعها ، في بعض الاحيان الى مخاطر واضرار قد تؤدي نتائجها الى الهلاك .
فقد أشار في بعض فقرات هذا الفصل الى اسباب بعض الامراض التي قد يكون أحد اسبابها التضاد في اختلاطات الامعاء وتعفناتها .
واختتم عليه السلام هذه الرسالة الذهبية بآداب الجماع ، مشيرا الى الشروط الصحية الواجب اتباعها ، والتي قد يؤدي اهمالها الى امراض أو علل غير محمودة ، موضحاً أهمية التوافق والانسجام بين الجنسين ، وضرورة الملاعبة والملاطفة قبل الجماع ، مشيراً الى احدى المراكز الحساسة والمؤثرة في اثارة الغريزة الجنسية عند المرأة ، لكي يحرز كل منهما نصيبه من هذه العملية الحساسة .
كما حذر من مجامعة النساء في فترة الحيض ، مستضيئاً بقوله تعالى : « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن .... ) (1) .
وكانت لمساته الاخيرة في ابداء نصحه بالالتزام بهذه الارشادات والتعليمات والتحذير من اهمالها .
____________
(1) سورة البقرة : 222 .
منهج التحقيق :
لما كان الغرض من تحقيق المخطوط هو اخراج نص صحيح جامع ، مع ارجاع الاقوال والاراء المذكورة فيه الى مصادرها الاولية ، وليس المهم فيه الالتزام بالامور الشكلية التي يلتزم البعض بها ، كالاشارة الى بعض الفروق البسيطة والتي قد تحدث احياناً من تكرار النسخ ، أو من سقطات النساخ ، أو لاختلاف معرفتهم ، أو لبعض تصرفاتهم في الاصول المنقولة عنها والتي لاتضر بالمعنى ، فانه تطويل بلاطائل .
ومن أجل ان يستوفي العمل بعض شروط الابانة والتوضيح نعرّف النسخ التي كانت موضع التحقيق ، والتي احتفظت بها ( مكتبة الامام الحكيم العامة ) في النجف الاشرف ضمن خزانتها الخطية القيمة بما يلي : ـ
1 ـ النسخة الخطية الاولى والتي رمزنا لها بالحرف ( أ ) : فهي أقدم النسخ الخطية التي عثرت عليها لحد الان بعد مطالعة أكثر فهارس المخطوطات المتوفرة . كتبها عبد الرحمن بن عبد الله الكرخي ، وفرغ من نسخها في التاسع عشر من شهر ذي الحجة سنة خمس عشرة وسبعمائة (715) هـ . في ستة اوراق بحجم 5|19×11سم . في كل صفحة 27 سطراً × 9سم . ضمن مجموع تحت رقم (237) .
واعتزازاً بهذه النسخة أحببت ان أضعها كاملة في صدر هذا الكتاب .
2 ـ النسخة الخطية الثانية والتي رمزنا لها بالحرف (ج) : كتبها عبد الواسع ابن حاج محمد حسين مهماندوسي ، وفرغ من نسخها ضحوة يوم الجمعة ، خامس ربيع الثاني ، من شهور السنة السادسة عشرة بعد المائة والالف (1116) من الهجرة ، في12 ورقة ، وبحجم 5|14×9سم في كل صفحة 17 سطراً ×
5|5 سم . ضمن مجموع تحت رقم (16) .
3 ـ النسخة الخطية الثالثة فقد رمزت لها بالحرف ( د ) : مجهولة الناسخ من خطوط القرن الحادي عشر الهجري ، في 14 ورقة ، وبحجم 5|19×13سم في كل صفحة 15 سطراً ×7سم . ضمن مجموع تحت رقم (234) .
4 ـ اما النسخة المطبوعة فهي التي نقلها الشيخ المجلسي المتوفى سنة (1111) هـ . في الجزء الرابع عشر ص554 من كتابه الموسوم ( بحار الأنوار ) والمطبوع في ايران على الحجر سنة 1305 هـ . والتي رمزت لها بالحرف (ب) . وقد جاء في أولها ما نصه : « أقول وجدت بخط الشيخ الاجل الافضل العلامة الكامل في فنون العلوم والادب مروج الملة والدين والمذهب نور الدين علي بن عبد العالي الكركي جزاه الله سبحانه عن الايمان وعن اهله الجزاء السني ما هذا لفظه : الرسالة الذهبية في الطب التي بعث بها الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام الى المأمون العباسي في حفظ المزاج وتدبيره ... » الخ .
ونظراً لوجود الاختلافات الكثيرة بين النسخ ، فقد اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على النسخة الخطية الاولى ، لاهميتها التاريخية ، والتزمت بالاشارة للفروق الجوهرية المهمة ، موضحاً ما ورد فيها من أسماء العقاقير والامراض والعلل ، مستفيداً ذلك من أمهات الكتب الطبية واللغوية المعتبرة .
وفي الختام لا يسعني وأنا أقدم هذا التراث الى القراء الكرام راجياً منهم العذر عما قد يكون فيه من هفوات ، والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يحضى عندهي بالقبول ، وهو ولي التوفيق ، والملهم للصواب .
النجف الاشرف 8 جمادى الاولى 1400 هـ | محمد مهدي نجف |