الخيال

البريد الإلكتروني طباعة
أسرار الطفولة

الخيال


     كل مرحلة من مراحل العمر تعطي الطفل عنصراً جديداً . بعد الثلاث سنوات يطغى الخيال على العناصر الباقية التي سبق وتعرّف عليها كالضحك والعاطفة والذكاء واللغة .
     الخيال هو الذي يفرّق بين الإنسان والحيوان . حتى عمر معيّن يستطيع الحيوان الصغير أن يحلّ المشاكل نفسها التي يحلّها الطفل لكنه يبقى عاجزاً عن التخيّل .
     هذا الخيال متطلّب جداً وتكفي القصص لتغذيته . يطلب الطفل الكثير منها . أحياناً يكتفي بما يسمع وأحياناً أخرى يتطلّب تفاصيل معيّنة خصوصاً إذا كان الطفل صاحب ذوق أو ميل محدد .
     المساء هو الوقت الأنسب لرواية القصص والتي تبقى الوسيلة المثلى لجعل الطفل ينام بهدوء وبلا مشاكل .
     عندما لا يكتفي الطفل بالقصص التي يسمعها : يخترع غيرها . يؤلّف الشخصيات ، يلبسها الثياب ، يطعمها ، ويخبرها قصصاً أو يعاقبها .
     لا يتكلّم الطفل إلاّ مع لعبته . ويتوجّه كذلك إلى الأغراض التي تحيط به . يرتطم بالطاولة فيقول لها : « ايّتها الطاولة الخبيثة . آلمتني كثيراً وسوف أعاقبك » . بالنسبة إلى الطفل كل الاشياء حية . الحجارة والأشجار والغيوم إلخ .....

     الطفل ممثّل ، ونحن ننمي فيه هذه الموهبة عندما نقدّم له مسدساً أو أدوات طبية ، فيتحول بسرعة من مقاتل إلى طبيب أو إلى رائد فضاء أو سائق سيارة سباق أو معلمة مدرسة أو راقصة أو بائعة خضار إلخ .... وعندما يكون الطفل مع أصدقائه الصغار يوزّع الأدوار : « أنت الزعيم وأنا الشرطي ، أنا الأم وأنت الطفل » . في هذا العمر يحاول الطفل دائماً أن يحجز الدور الجيد لنفسه . عندما لا تعود الألعاب ولا القصص كافية لتغذية مخيلة طفلك ، يخترع رفيقاً يتكلّم معه بكثرة . هذا الرفيق إمّا أن يكون الوجه الشرير للطفل الذي يقوم بكل المعاصي والذي يكسّر أغراض البيت ويعصي الأوامر ، أو قد يكون الصديق الوفيّ الذي يشاركه حياته ويخرج معه للنزهة واللعب .

     بعض الأهل يعتقد أن وجود هذا الرقيق الوهمي مضرّ بالطفل . ليس هذا الاعتقاد صحيحاً إذا بقي « الرفيق » رفيق اللعب الذي يُسلّي طفلك . ونعم هو مضرّ إذا استحوذ على كلّ اهتمامه ، وأصبح محور حياته وشغله عن كل ما حوله ، وجعله يترك ألعابه المفضلة . لإبعاد الطفل عن هذا الزميل الوهمي لا تهزأي به بل استبدلي به آخر حقيقياً . ذلك لأن الطفل يخترع هذا الصديق الوهمي في عمر الدخول إلى المدرسة وكأنه يعلن عن حاجته إلى أصدقاء .

( 29 )

 


     تكون الحالة سيّئة عندما يحتاج الطفل بقوة إلى الحلم ، ولا تعطيه ظروف الحياة ما يحتاجه . عندها يكون الرفيق الخيالي مجرّد تهرّب له . في هذه الحالة يحتاج الطفل إلى صديق حقيقي وإلى عائلة حقيقية أي متفهمة .
     هل يعتقد الطفل حقيقة بوجود هذا الرفيق الوهمي ؟ نعم ولا .
     وفي جميع الحالات تبقى صورة هذا الرفيق غير واضحة ومعالمه متغيّرة كثيراً والأدوار التي يأخذها تختلف يوماً عن يوم . مخيّلة الطفل لها حدودها ولا يمكن أن تتغلّب على الواقع الملموس .

علاقة الأهل مع خيال الطفل

     أن دور الأم في اطلاق طاقات مخيلة الطفل وانماء هذه المخيلة ، هو مهمّ وحساس جداً . لأنه قد يؤثر سلبياً أو ايجابياً على انسياب الطفل مع الأجواء والشخصيات التي يولّدها خياله . عليك سيدتي ان تتفادي السخرية والضحك من خيال طفلك خاصة ،
عندما يطرح عليك سؤالا ، مثل : « أين يقع كوكب معيّن يسكنه البطل سوبرمان ؟ » من الخطأ إعادة الطفل إلى رشده وواقع الحياة بأن تنفي وجود هذا الكوكب وذاك البطل .
     مثل هذا التصرف يجعلك تقطعين انطلاقة طفلك في لحظة واحدة وتهدمين ما بناه خياله في ساعات ، وربما أيام . وهذا يذيق الطفل مرارة الخيبة ويخفف من ثقته بنفسه ويدفعه إلى تعطيل خياله .
     إذن كيف تتصرفين في مثل هذه الحالة ؟
     أفضل ما تقومين به هو انتهاز فرصة ذكر الطفل للكواكب فتحدثيه عن حقيقة وجود كواكب كثيرة في الفلك . وإذا كان بلغ سنّا تمكنه من استيعاب بعض الحقائق العلمية فبامكانك أن تشرحي له بعض المعلومات حول دوران الكواكب وسرعة الضوء إلى غير ذلك ؟ وإذا كان طفلك يمثل دور طبيب أو شرطي وهو يلعب ، فلا تسخري منه ، بل اعطيه فكرة عن دور هاتين الشخصيتين ، مشاركة اياه في لعبته .

( 30 )

 

الغيرة


     بعد عمر الثلاث سنوات يكون الطفل اكتسب الأسس اللازمة كلّها ولا يعود يحتاج الى تطويرها . اكتسب العاطفة والضحك والذكاء والخيال . تدوم عملية التطوير هذه مدة طويلة ، قد تمتد إلى ما بعد المراهقة . وشيئاً فشيئاً يصبح الطفل أكبر وأقوى وأذكى وأكثر وعياً . وتتسع رقعة معلوماته .
     في المجالات الفكرية والجسدية ، يجري التطوّر بأشكال متفاوتة السرعة ، ولكن دائماً الى الأمام . أما في المجالات الأخرى ، الاجتماعية والعاطفة ، فهناك تفاوت كبير . قد يكون التقدم سريعاً وقد يحصل تقهقر . هناك فترات من الراحة الطويلة وفترات أخرى عصيبة في حياة الطفل . السبب هو كونه يبدأ يتعوّد مشاركة الآخرين إيّاه ، وانصهاره في المجتمع المحيط به ، فلا يعود يعتبر نفسه محور العالم والعائلة .
     بين عمر الثلاث والخمس سنوات هناك معبر صعب على الطفل أن يجتازه . تضطرب حياته العاطفية ذات يوم ويصبح حزيناً وعنيفاً . إنه يكتشف ، ولأول مرة ، طعم الغيرة .
     طفلك سعيد . أنت تشكلين محور حياته وهو كذلك بالنسبة إليك . هذا ما يشعر به . تخصصين وقتك لإطعامه و غسله وأخذه إلى نزهة ولا تتركينه أبداً . إنها سعادته القصوى ، والتي يكتفي بها .

     فجأةً يكتشف الطفل وجود إنسانٍ آخر يحبه ويعجب به هو والده . علاقته به مختلفة عن العلاقة بالأم . هذا شيء طبيعي ، الأب يلبّي حاجات الطفل كما تفعل أمه لكنه أيضاً يشكل مصدراً للسعادة بالنسبة للطفل ، والذي يكتفي بهذه العاطفة المزدوجة .
     بعد فترة يلاحظ الطفل أن أمه تخفّف من إهتمامها به . هو لا يدري أن سبب ذلك كونه تجاوز عمر العناية الخاصة والأطعمة المميزة ، وأنه بلغ مستوى إدراك وتفسير ما يراه وما يحيط به . ينتبه إلى أن أمه تعتني بشخص آخر هو « أبوه » ، التي اعتبرها تحبه وحده ، اكتشف أنها تحبّ سواه . كأنّنا نسمعه يردّد الجمل التالية : « إنها تأخذ بيده كما تمسك يدي تخصّص له وقتاً كان بإمكانها أن تقضيه معي ، تأخذني إلى الفراش باكراً وتغادرني مسرعة لأنه ينتظرها ليخرجا معاً إلى أمكنة مجهولة ... » . عندما يكونان معاً يتكلمان ويتصرفان كانّني غير موجود . إنهما يتجنّبانني . الاكتشاف الكبير هو : « أبي يحب أمي التي تقدم له عاطفتها ويبدو أن هناك رابطاً يربطهما من الصعب إدراك نوعيته وكأنهما يخفيان سرّاً كبيراً » .
     هذا الاكتشاف يقلب حياة طفلك رأساً على عقب خصوصاً إذا كان عاطفياً جداً وحساساً ، وإذا كانت علاقته بوالديه وطيدة جداً .

( 31 )

 


     هذه الألم التي أحبّها كثيراً ليست له وحده . يجب أن يتقاسمها مع غيره . صعوبة جديدة تعترضه لأنه لا يعرف بعد معنى كلمة مشاركة .
     في هذه السن نلاحظ أيضاً أن الطفل الذكر ينجذب أكثر نحو أمه بينما الطفلة تنجذب نحو أبيها ، مما يعقّد الأمور ويخلط بين الرغبة والغيرة . تتحوّل العلاقة المنفصلة بين الأم وطلفها من جهة والأب والطفل من جهة أخرى ، إلى مثلث متناسق الأطراف : الأب ، الأم ، والطفل .

     هذا الاكتشاف كما ذكرنا سابقاً يحوّل طباع الطفل من هادئة إلى عنيفة . ولبعض الوقت سوف يفضل أحد الوالدين على الآخر ، وسوف يطلب منه المزيد من العاطفة . في هذه المرحلة من عمره يصاب الطفل بالكوابيس و يطرأ ضعف على قدرته التعبيرية بالكلام أو يبالغ في التدلّل لمجرد لفت الأنظار إليه . بعد مدة قد تقصر أو تطول يستعيد الطفل الروابط الطبيعية مع أهله
وتنتهي أزمته كما ابتدأت .
     قد تمرّ هذه النوبة ولا تلفت الإنتباه أو قد يمرّ الطفل بمراحل صعبة جداً . في كل حال عقدة أوديب هي عتبة لا بدّ من أن يجتازها الطفل باتجاه إقامة العلاقات الطبيعية مع عائلته ومع زملائه .

     يتعلّم الطفل في هذه المرحلة المضطربة أموراً ثلاثة مهمة :
     ـ المشاركة التي سوف تقوده من مرحلة الغرور إلى مرحلة العلاقة الطبيعية .
     ـ أساس العائلة شخصان متحابان .
     ـ وأخيراً إنه لا يستطيع أن يستغني عن أحد والديه . سوف يعمل جاهداً للتشبه بأحدهما وغالباً ما تتشبّه البنت بأمّها والصبي بوالده .
     هذا المثال يساعد الطفل على إيجاد هويته وعلى أن ينمو بشكل طبيعي .

( 32 )

 

التوائم


     يتطلب الاعتناء بالتوائم مجهوداً مزدوجاً من قبل الأم . لكن ما إن تمرّ المرحلة الصعبة ، أو الأسبوعان الأوّلان وهما المخصصان لتنظيم الأمور اليومية حتى تشعر الأم بسعادة عارمة . « سعادتان في الوقت نفسه . وعائلة كبيرة مرة واحدة . وهذا يعادل التعب والجهد المبذول بل يتخطاه » . هذا القول لأم أنجبت توأمين .
     يحتاج التوأمان إلى عناية خاصة ولا يمكنك سيدتي أن تعامليهما كما تعاملين الولد الوحيد . ستعرفين السبب عندما ندخل وإيّاك عالمهما الخاص بهما وهذا ما سوف نقوم به فيما يلي :
     الولدان التوأمان لا يشعر الواحد منهما بالعزلة أبداً . إنهما إثنان إلى مائدة الطعام وخلال النزهة . عندما يلفظ أحدهما أولى كلماته وعند اكتشافه الألعاب وخلال كل أعماله واكتشافاته هناك من يراقب ويشارك . وهذا ما سوف يؤثّر كثيراً على تصرفات التوأمين وتطور نموّهما . لكي تدركي معنى هذا تصوّري أن هناك من يراقبك ويشاركك في كل ما تفعلينه طوال النهار ويفكر مثلك .
     هذا عالم الإثنين ، يكتشفانه ويبنيانه طوال سنوات عمرهما الأولى يشعران بأنهما قويان معاً . عندما تنادين أحدهما يردّان معاً وعندما يريد أحدهما التكلم عن نفسه يقول : « نحن » .

     الأنا يقولها الطفل المنفرد عند بلوغه الثلاث سنوات . أمّا التوائم فلا يتعلمونها قبل بلوغهم الخمس سنوات . ويخلطون بين الأنا والأنت .

     هذه الصعوبة في التفرقة بين الأخوين التوأمين موجودة في ظروف كثيرة . عندما يقف أحد التوائم أمام المرآة لا يعرف أنه هو ، لأنه تعوّد أن يرى صورة شبيهة معه دائماً . وحتى بلوغه سن الخامسة يظنّ أنه يرى أخاه في المرآة أو في الصور .
     في رأي علماء النفس ، هذه الأفعال مهمة جداً بالنسبة إلى مستقبل التوائم . هم منغلقون على عالمهم الخاص . اعتادوا التخاطب بلغة خاصة لا يفهمها المحيطون بهم ويحتفظون ببعض هذه الكلمات ويستعملونها حتى بعد بلوغهم .
     الأخوان التوأمان متقاهمان ، متكاملان ، مكتفيان ولا يقومان يمجهود يماثل الذي يقوم به الأطفال الآخرون في محاولتهم تفهم محيطهم والتعبير عما في نفوسهم . هذا المجهود يترجم عادة بالرغبة في الحديث ، أمّا التوائم فقد لوحظ أنهم يتكلمون في سن متأخرة وإذا لم يتنبّه الأهل ويعالجون الأمر ، يتفاقم التأخير .
     حتى داخل مجتمعهم الصغير الذي يؤلفونه ، ينظم التوائم حياتهم ويوزعون الأدوار مستعملين

( 33 )

 

مزاياها الخاصة . قد يكون الواحد منهما أقوى بينما الآخر أذكى ، الأول ينسّق الإتصالات مع الخارج والثاني ينظم الداخل و يوزع الأدوار في الألعاب أو يستلم النقود ويخطط لإنفاقها . وغالباً ما يتبادلان الأدوار فينفذ أحدهم القصاص بدلاً من أخيه .
     لا يحتاج الولد التوأم إلى الإرتباط بالمجتمع الخارجي كما يحتاج الولد العادي . ذلك لأنه حاصل سلفاً على رفيق يلعب معه و يتحدث إليه . لذلك نجده متحفظاً حتى مع أفراد عائلته ، خجولاً ومتعلّقاً أكثر فأكثر بأخيه .
     لا يشكو الأخوان التوأمان أبداً من هذه العلاقة الوثيقة التي تربطهما قبل بلوغ سن المراهقة . أمّا بعد بلوغ هذا السنة فيثوران ويحاولان التحرّر من هذه القيود . يرفضان إرتداء الملابس نفسها وينزعجان عندما يخلط أحد بينهما .
     على الأهل التحضير لهذا الإنفصال وعدم
مقاومته وإلاّ أصبح صعباً وربّما مستحيلاً ، وعائقاً في سبيل تكوّن شخصية مستقلّة لكل منهما .
     على الأهل أن يختاروا للتوأمين اسمين غير متشابهين وليس كما درجت العادة ( رامي وسامي مثلاً ) عليهم أن يتفادوا إلباسهما ثياباً مماثلة ، وتسريح شعرهما بالطريقة ذاتها ، ولا يجبروهما على النوم في سرير واحد ولا يقدموا اليهما الهدايا نفسها . هذه التصرفات من قبل الأهل تؤدي إلى دفع التوأمين نحو مزيد من العزلة بدلاً من مساعدتهما على تكوين شخصيتين منفصلتين . دلّت التجربة بوضوح على أن التوأمين إذا عاشا منفصلين منذ ولادتهما نظراً لظروف قاهرة وعادا فالتقيا بعد مدّة طويلة نجدهما مختلفين تماماً من ناحية الشخصية والطباع . بينما إذا أجبرنا طفلين في العمر نفسه على العيش المشترك كالتوأمين نجدهما بعد مدّة يتصرفان وكأنهما فعلاً توأمين . هذا يثبت أن العشرة والعادة لهما التاثير الأهم وتأتي عملية الوراثة بالدرجة الثانية .

( 34 )

 

نصائح تربويّة


     سيدتي أنت الأقرب إلى ابنكِ وأنتِ الوحيدة التي تعرفينه جيداً فلا تأخذي بالآراء التي تدعوك إلى استشارة عالم أو طبيب نفسي أو حتى باحث إجتماعي ، كلما شككت بأن هناك إشكالاً يعترض حياة طفلك . مسؤوليتك هي إزالة الغموض والسعي نحو حلّ كل مشاكله . لا تدعي أحداً يحلّ مكانك في هذه المسؤولية . أنت قادرة على ذلك إذا واجهت الأمور بواقعية ولم تدعي العاطفة تتدخل . أنظري في الأمر نظرة المشاهد الغريب وليس نظرة أم واعترفي على الأقل بينك وبين نفسك بأن طفلك إنسان عادي بعيد عن الكمال ويمرّ بمشاكل أنتِ قادرة على حلّها إذا لم تتجاهليها .

التسرّع

     أنت مستعجلة تريدين أن يتطوّر طفلك بسرعة هائلة في كل الميادين تقارنينه دائماً بابن الجيران . تريدين أن يمشي إبنك قبله . أن يتكلم في عمر أصغر ، أن يكبر قبله وأن يكون عاقلاً في عمر اللهو . لم هذا السباق مع الوقت ؟ كل طفل له إيقاعه الخاص . منهم من تبرز أسنانه عند بلوغه الأشهر الستة ومنهم من لا تبرز قبل التسعة أشهر . هناك من يمشي لدى بلوغه التسعة أشهر وآخر لا يترك يد أمّه قبل بلوغه الأربعة عشر شهراً . المراهقة تبدأ عند البعض في عمر التسع سنوات وعند آخرين لا تبدأ قبل الخامسة عشرة .

     يجب مراعاة إيقاع كل طفل وإلاّ واجهت مشاكل تربوية مستعصية . وفي كل الأحوال ما أهمية أن يسير طفلك سابقاً سواه بثلاثة أشهر ، أو أن يتعلم القراءة قبل سنة من العمر المحدّد ؟ ما تأثير ذلك كله على مستقبله ؟ لا شيء . هل تدركين معنى مسؤوليتك عن سرقة الطفولة من عمر طفلك وإخراجه من عالمه الصغير قبل أوانه ؟ . وكل هذا فقط لأنك تودّين الإستعجال ؟ دعي طفلك يتابع إيقاع حياته الطبيعي ، دعيه يكون طفلاً ولا تستعجلي تطوّره .
     عندما تطلبين من الطفل النجاح المبكّر تدفعينه بيديك نحو الفشل وتجعلينه عصبيّا طوال حياته . مجتمعنا المعاصر يحتاج إلى كل هؤلاء الأطباء النفسيين لسبب واضح : ليعالجوا متوتري الأعصاب الذين يفرزهم المجتمع باتباعه مثل هذه الأساليب التربوية التي تعظّم روح المنافسه .

عدم التفهّم

     إذا انتبهت جيداً تتذكرين أنك لا تتكلمين كثيراً مع طفلك بل تتحدثين أمامه أو بحضوره وتبرّرين ذلك بأنه لا يزال صغيراً لا يفهم . طفلك يفهم كل كلمة تتفوّهين بها وفي مرحلة مبكرة أكثر بكثير ممّا تتصوّرين . الاستيعاب غير مرتبط بالقدرة على التعبير والتوضيح بل يسبقها بكثير . كما في حالة تعلّمنا اللغات الأجنبية ،

( 35 )

 

نستطيع فهم لغة أجنبية قبل أن نتقن التحدّث بهذه اللغة .

العنف

     في بعض مراحل تطوّره يصبح طفلك عنيفاً . في عمر السنتين كلمة « لا » تغريه ويستعملها باستمرار . عند بلوغه الثلاث سنوات يضرب الأرض بقدمه ليعلن العصيان . ردة الفعل هذه لا تدلّ على طباع شريرة بقدر ما هي إشارة إلى أن الطفل يجتاز مرحلة جديدة مهمة من تطوّره ، هي دليل على شخصية جديدة تبصر النور و تحاول أن تفرض وجودها على الأهل .
     يظهر العنف عادة بشكل نوبات تدلّ على صعوبة التأقلم مع أجواء جديدة أو ترك عادات قديمة متأصلة .
     عندما تنتهي النوبة ويعبر الطفل العتبة الصعبة يعود كل شيء إلى طبيعته ويعود الطفل إلى توازنه . العنف في هذه الحالة دليل على صحة جيدة .

     أمّا إذا أصبح العنف عادة ولم يحاول الطفل التخلّص منه ، بل تمسّك به ، فهو دليل على اضطرابات عاطفية . في هذه الحالة يكون العنف بمثابة جرس الإنذار الذي ينبّه الأهل وعليهم أن يتفهموا الوضع ويبادروا إلى معالجته بدلاً من أن يؤكدوا أن طفلهم أصبح مزعجاً . عليهم أن يعلموا أنه تعيس وبحاجة الى الاهتمام . وعليك أنت سيّدتي أن تفتّشي عن سبب تعاسته . هل يعاني من قسوة المكلفين برعايته ؟ هل يريد أن يلفت انتباه أم كثيرة الشرود أو أبٍ كثير الانشغال ؟ هل يزعجه شجار مع رفاقه ؟ أو هل يشعر بالغيرة ؟
     لابدّ لك من معرفة السبب قبل أن يصبح العنف طبعاً عند طفلك يخرّب علاقته بمحيطه .

الألعاب

     في الأعياد والمناسبات يأخذ الأهل أولادهم إلى مخازن الألعاب ويتركونهم يختارون ما تشتهيه نفوسهم .

( 36 )

 

هذه الكمية الهائلة من الألعاب التي تعرض على طفلك تذهله ويصعب عليه الاختيار من بينها . الأفضل أن تدعيه يمرّ أمام الواجهات للتفرّج وأن تدوّني ملاحظاته في رأسك وتستعيني بها لتختارين ما يعجبه ويناسبه .
     إعلمي أن اللعبة التي قدّمتها الى طفلك هي له مهما كان ثمنها غالياً . وإذا كنت لا تتحملين منظرها وهي محطّمة فقدّمي اليه لعبة رخيصة الثمن منذ البداية . الفرح الذي تولّده اللعبة في نفس طفلك لا علاقة له بتاتاً بثمنها . إذا كان الطفل يحاول تركيب قطع بعضها داخل البعض الآخر ، وكان لا يتّبع الطريقة الصحيحة أو يتكلّم وحده أو مع اللعبة فراقبيه عن بعد ولا تتدخلي لتصحيح مجرى الأمور أو للمشاركة في الحديث فهو يرغب في أن يكتشف الأمور بنفسه وبلا مساعدة أحد .

المحادثة

     معظم المراهقين يتحسّرون لعدم قدرتهم على التحدّث بصراحة ووضوح مع أهلهم . يتوقون إلى هذا النوع من الحديث الصريح أكثر من توقهم إلى الحرية .
     الحاجة إلى المحادثة والاتّصال ضرورة حيوية وجدت مع الطفل منذ الولادة . الطفل يحتاج الى أن تتكلّمي معه منذ الساعات الأولى لحياته . وتستمر هذه الحاجة في عمر السنتين ، والعشر سنوات والخمس عشرة سنة ... ودائماً . لكل مرحلة أحاديث مختلفة تناسبها ، لكن الحديث الدائم حيوي .
     الاتّصال لا يقتصر فقط على الحديث بل يشمل الحركة والنظرة والابتسامة وقصة تقرأ أو تروى والنزهة وإلخ ...

الحرية

     في عمر السنة يخرج الطفل من سريره ذي القضبان العالية ليكتشف المنزل . بعد أربعة أشهر من ذلك التاريخ يرغب في أن يترك يدك ليركض وحيداً على
قدميه . عند بلوغه عمر السنتين ونصف يتناول السكين وحده رغبة منه بقطع التفاحة . عند بلوغه الرابعة يرغب في الخروج إلى الشارع وحده . في السادسة يرغب بالذهاب وحيداً إلى المدرسة ، وفي الثامنة يذهب لشراء حاجات أمه وحيداً أيضا . في الثانية عشرة يخرج مع أصدقائه لحضور أفلام السينما أو للتنزه ، وفي الرابعة عشرة يود قضاء عطل طويلة بعيداً عن أهله . وفي كل مرة تتساءلين عمّا يجب فعله : هل تتركينه يحقق رغباته أم تطلبين إليه تأجيلها قليلاً ؟
     نصيحة الخبراء هي وجوب تشجيع الطفل على أخذ المبادرات والتعوّد على نمط الحياة كلّما رغب في ذلك ، وبلا تدخّل من قبلك . لكن دورك يبقى دائماً دور المراقب وهو الدور الأهم . راقبي تحرّكاته من بعيد وحاولي ألاّ تدعيه يلاحظ ذلك ولا تتدخّلي إلاّ في الحالات القصوى عندما تشعرين أن هناك خطراً ما يتهدّده .

الولد الوحيد

     الولد الوحيد ليس محظوظاً . إنه البكر وفيه كل سيئات الولد البكر ، ولا يخضع للضغوطات التي يفرضها عليه وجود أخ أو أختٍ له ، والتي تساعد على تنفيس كبريائه وتكوين صداقاته وعلاقاته الاجتماعية .
     أن يكون له أخوة وأخوات يعني أن يعيش في عالم الطفولة . أمّا إذا كان وحيداً بين أهله ولو كانوا لا يزالون في عمر الشباب فيعني العيش في عالم الكبار وتحمّل المسؤوليات بصورة مبكرة والعيش في جو أقل فرحاً وسعادة . يبحث الولد الوحيد عن أهله ليلعبوا معه وبما أنهم مشغولون معظم الأوقات ، فسوف يجد نفسه وحيداً في غرفته ويكتشف الوحدة باكراً . وهذه تجربة صعبة .

ــــــــــــــــــــــــــــ عندما تقدمين لطفلك لعبة ، اعتبري انها صارت ملكاً له يتصرّف بها كما يشاء . قد يخطر للطفل أن يفكك لعبة ليرضي فضوله أو لينفس عن موجة عنف تولّدت في نفسه ، عليك أن تقابلي تصرفه هذا بالتسامح والصبر ، حتى ولو كان ثمن اللعبة التي كسرها باهظاً جداً .

( 37 )

 

 


( 38 )

 

سياسة الابتزاز

     « أنا حزينة لأنك ولد مشاكس » . « تريدني أن أصاب بمرض » . « إذا عذّبتني مرة ثانية ، لن أحبّك أبداً » . « إذا أكلت طعامك كله أشتري لك لعبة » .
     ينجرف الأهل بهذه الوسيلة ويستسهلون « الابتزاز » ، دون أن يفكروا بأنهم يزرعون هذه العادة في نفوس أطفالهم . فإمّا أن يصدّق الطفل ما يقولونه ـ وما أصعب أن يشعر الطفل بفقدان حب أهله له ـ أو لا يصدّق ويفقد ثقته بكلامهم وهذا صعب أيضاً .

السلبية

     « لا تلمس ، لا تفعل هذا ، لا تركض ... » إلخ ...
     كثيرون من الأهل يعتمدون على سياسة التربية السلبية لاعتقادهم أن الطفل يرغب دائماً في ما يحرّمه الأهل . ويعمد الأهل إلى فرض إرادتهم عليه ليصححوا مساره . لكن في المدرسة يعلّمه الأستاذ أن ( 1 + 1 ) تساوي 2 ، ولا يقول له إن ( 1 + 1 ) لا تساوي ثلاثة . لماذا نتبع السياسة السلبية في المنزل إذاً ؟

السلطة

     هل السلطة ضرورية بالنسبة إلى الأطفال ؟ يحتاج الطفل الى أن يكون منقاداً ويرشد إلى الطريق الصحيح . يحتاج إلى أهل يدلونه على ما يجب ان يفعله وما يجب أن يتجنّبه .
     ما هي السلطة ؟ السلطة هي معرفة ما هو جيد لمصلحة الطفل جسديّاً ومعنويّاً ، والحسم ، وفرض الإرادة والحزم وعدم الرضوخ للتوسّل .
     حزم الأهل يطمئن الطفل ويريحه ، هذه السلطة لا يقبل بها وحسب بل هو يبحث عنها إذا لم تكن موجودة ، وهي ضرورية لتوازنه النفسي .

الأمان

     الأمان هو أهم احتياجات الطفل . الأمان هو أن تعطيه المأكل والمشرب وتقيه أذى البرد والمرض . هذا الأمان المادي ضروري لكنه ليس كل شيء ، فالطفل يحتاج أيضاً إلى الشعور بالأمان النفسي . أنظري إلى الطفل الرضيع الذي يقفز إلى حضن أمه بطريقة لا شعورية عندما يسمع صوتاً قوياً ، أو ذاك الذي يلتصق بأمه ويشدّ على يدها عندما يلمح ثوب الطبيب الأبيض . إنّه بحاجة إلى وجود الأم ليتشجّع على مواجهة كل جديد . هذا هو الأمان بالنسبة إلى الطفل .

الولد البكر

     نلاحظ أن الأولاد الأبكار يتشابهون . إنهم جديون ، مثاليون ، قلقون دائماً ، يشكّكون بكل شيء . من أسباب ذلك أن الولد البكر لا يتربّى مثل أخوته الأصغر منه . مع الأول نلجأ إلى كافة التجارب التربوية وننفّذ كل النصائح التي سمعناها وقرآناها بحرفيّتها . نخاف على الولد الأول ، نخاف أن يبرد ، أن يسقط ، نلفّه ونحميه جيداً . في الوقت نفسه نجد أنفسنا متحمسين لرؤيته يكبر بسرعة . ما ان يدخل صف الحضانة حتى نبدأ نفكّر بتخصّصه الجامعي . بهذا الاستعجال ومعاملتنا له كأنه أكبر سناً ، نسرق منه مرحلة الطفولة . وتأمّلي موقفه عندما يصله نبأ ، قرب ولادة أخ له ، أو أخت ، سوف تقاسمه محبتك ورعايتك . وما إن يطل الولد الثاني حتى يصبح البكر ، الولد الأكبر ، الذي يتحمل مسؤوليته أخوته وربما أهله . هكذا بسرعة وبسبب المسؤوليات الملقاة على عاتقه ولو بالكلام ، يصبح جدياً وهو لا يزال طفلاً .
     أن تلقّني ابنك البكر مبادئ راقية هو واجبك كمربيّة ، لكن حاولي أن تزوّديه بها مرفقة بكل ما لديك من حنان ومحبة .

( 39 )

 

التربية الصامتة

     من أصعب الأمور وأدقّها الحديث عن وسائل التربية وإعطاء النصائح حول هذا الموضوع . ذلك لأنه واسع جداً ومتنوّع بتنوّع طباع الأطفال . ورغم ذلك نودّ أن نجازف بنصيحة أخيرة :
     لا تردّدي « قل مرحباً ، اضبط أعصابك ، انتبه لنظافة ثيابك ، كن عاقلاً إلخ .... » لأنك بذلك لن تحصلي على لحظة الراحة التي تنشدين وطفلك سوف يبقى في حالة قلق دائمة . بكل بساطة استمعي إليه واستفيدي من وجوده معك وغداً يذهب إلى المدرسة وتشعرين أن منزلك بات فارغاً وسوف تندمين على اللحظات التي مرّت .
     حتى لو حاولت أن تكوني أمّاً مثالية فسوف ترتكبين أخطاءً كثيرة . هذا الأمر غير مهمّ طالما أنك تؤمّنين لطفلك احتياجاته الأساسية : العاطفة والثقة .

     لا تتأثري كثيراً بنوعية كلامك معه . الكلام لا يؤثّر فيه بقدر ما تؤثّر تصرّفاتك في حضوره . إهتمامك ، ذوقك ، الإطار الذي تعيشين ضمنه وتحيطين به طفلك ، ورعايتك له ... تلك هي البذور التي تنزرع في نفسه .
     بكل بساطة تصرّفي أمام الطفل كما تريدينه أن يفعل ، وهكذا توصلين إليه ما تريدينه من مبادئ ومفاهيم . أمّا إذا كانت أفعالك متناقضة مع أقوالك فهو سيتمثّل بالأفعال وحدها . والتربية الجيدة والفعّالة هي التربية الصامتة .
     أخيراً سيدتي ثقي بأنك المرجع الأول والأخير في تقرير الوسائل التربوية المناسبة لطباع طفلك ومزاجه . وأفضل وسيلة تتعرّفين من خلالها على ما يجب فعله في لحظة معينة ، هو احساسك بالمسؤولية وحدسك ومحبتك الهائلة لهذا الطفل ، وباختصار ما اتفق على تسميته بعد أجيال من الاختبارات الحياتية « بغريزة الأمومة . »

( 40 )