من الرحم الى النور
الكتّيب الذي بين يديك ينقلك إلى عالم واسع ، بالرغم من حجمه الصغير ، هو عالم قلب طفلك وعقله . هدف مسيرتنا داخل هذا العالم هو اكتشاف كنوزه وطاقاته الرائعة بغية مساعدتك على إنماء وتطوير ثرواته النفسية والذهنية . ستكتشفين أن عاطفة الأم ووعيها لا بديل لهما بالنسبة إلى نمو الطفل وبناء الشخصية الإنسانية التي ستلازمه وتتحكم بمصيره طوال حياته . أنت متشوّقة إلى الانطلاق في رحلة الاكتشافات ونحن مثلك ، فلنبدأ باللحظات الحاسمة ، لحظات انتقاله من حال الجنين إلى حال الوليد . عاش الجنين في الدفء ، في حرارة مستقرة ، بعيداً عن أي ضجيج وأي ضوء . كان يحيا في الماء حيث الجاذبية معدومة ، تماماً مثل ملاّح كوني . كان في مأمن من الصدمات . يتغذى دون أن يبذل أي مجهود أو يقوم بأدنى حركة . كان يتلقّى ويتناول كل شيء من أمّه . وها هو يشعر ذات يوم بأنه يُدفع إلى الأمام ، يجرّ ويجبر على شق طريق له عبر ممر عظمي ضيق . ويجد صعوبة في تمرير رأسه فيرهق نفسه خلال ساعات كي يستطيع الخروج . هكذا يجد نفسه مدفوعاً بقوة توازي |
العشرين كيلو غراماً ، ومرمياً في عالم بارد ( 20 درجة مئوية عوضاً عن 37 ) . إضطرّ أن يتنفس بلحظة واحدة : يندفع الهواء إلى رئتيه الحديثتي العهد ، فاتحاً بعنف ألف حويصلة رئوية كما تتفتّح المظلة . يصرخ الطفل من الألم . بعدها يفحص بدقة ، يقاس وزنه ، أو يرجّح باليد ، يغسل ، يكسى ، قبل أن يخلد أخيراً إلى النوم ، مرهقاً من شدة التعب . يقظته ، لحسن الحظ ، تجلب له فرحاً عظيماً . سوف تأخذينه بين ذراعيك وتطعمينه . معاً ستجدان التوازن . إنه فرح بك وأنت سعيدة به . على مدى الحياة سيكون بين طفلك وبينك نوع من التفاهم الضمني . لكن لا نستبقنّ الأمور . في هذه اللحظة أنت لا تعلمين كيف تحتضنين طفلك ولا كيف تمسكينه . تتساءلين عمّا إذا كان حقاً سريع العطب . تريدين أن تعلمي ماذا يرى ، ماذا يسمع وما هي مشاعره . تابعي القراءة وسوف نراقبه معاً . أولاً نراقبه أثناء نومه . في الأسابيع الأولى يقسّم الوليد حياته بين الغذاء والنوم . لكن نومه مميّز جداً . ترينه منطوياً على ذاته مثلما كان في أحشائك . يهدأ للحظة ثم يقطّب وجهه . يفتح عيناً ثم يفتح الثانية . يحرّك شفتيه ، يعطس . تارة يتنفس بسرعة ، وطوراً |
ببطء وتارة أخرى بخفة ، بحيث نظن أنه لا يتنفس أبداً . يقال إنه يجرّب تنفّسه بإيقاعات مختلفة محاولاً إيجاد الطريقة الأصحّ . بعد لحظات من الهدوء النسبي ، يرتجف فجأة . يبدأ بالصراخ ، تنتفض ذراعاه ورجلاه بحركات فوضوية ، غير متناسقة ، يبدو كأنه يتألم . لكن ، إذا قرصنا ذراعه يتبيّن لنا أنه لا يشعر بشيء . نقول إنه اضطراب بسبب حلم مزعج . ثم يعود إلى نوم عجيب كهرة صغيرة . يتحرّك ، لا ينام بعمق وبالوقت نفسه لا يصحو بالفعل ، ويبقى على هذه الحال حتى يبدأ بالبكاء محرّكاً شفتيه بيأس . بكاؤه هذا لن يتوقّف إلاّ عندما يرضع . بعد حين يحدث تغيير شامل . الطفل الصغير الذي بدا لنا منذ برهة غير واع ، وغير قادر على القيام بحركة مفيدة ، يبدو الآن حاضراً ، مشغولاً ومتنبها ؛ عند اقترابه من ثدي أمه أو من المصاصة يرتجف بحماسة . وما إن يصير الثدي أو المصاصة في فمه حتى يصبح قادراً على الامتصاص والبلع والتنفس بمهارة مدهشة . هذه العمليات الثلاثة تتعب البالغ في حال قام بها بالوقت نفسه ، ولمدة عشر دقائق أو خمس عشرة . أمّا المخلوق الصغير الذي كان يبدو ضعيفاً ، فيرضع بنشاط ، يتنفس ويتلاشى من التعب . يتوقّف بعض الوقت للاستراحة ، وإذا أرادت أمه سحب ثديها أو الرّضاعة حيث وضع طفلها يده ، فإنه سيبكي إلى أن يسترجع مورد غذائه ، يشرب من جديد حتى يستهلك جميع قواه ، يغمض عينيه مطمئناً ، يغفو وعلى شفتيه ابتسامة الرضا والامتنان . كيف تعلّمنا أن ننظر إلى المولود الجديد ؟ منذ اللحظات الأولى لوجوده ، طفلك سيدتي ليس مخلوقاً عديم الطلبات بل هو مزوّد بحيوية كبيرة . رأيناه حتى الآن يكمل بنجاح تجربته الأولى : الرضاعة . ويستطيع أيضاً التمييز بين الظل والضوء ؛ إن ومضة من |
النور تجعله يحرّك جفونه ؛ إنه يشعر بالارتجاجات ويسمع بعض الأصوات . إذا أسمعنا المولود الجديد ، عندما يبكي ، صوتاً مسجّلاً لدقات قلب أمه سيكفّ عن البكاء على الفور . المولود الجديد حسّاس أيضاً حيال المذاق . تحركاته ليست بالطبع سوى ردات فعل ، ولكنّها جميعها تدلّ على أن طفلك طبيعي ، حاضر أو غير نائم ، كما تدلّ على أنه متيقّظ ونظامي . عندما تضعين طفلك في السرير بعد إرضاعه ، قد تشعرين مثل كل الأمهات ، بصغر حجمه وبضعفه . إطمئني فطفلك لن يتكسّر . جسده متين ومقاوم . لكن الجزء الأكثر عطباً فيه هو جهازه العصبي ، هذا الأخير لا يكتمل إلاّ بعد بلوغ طفلك السنتين . الغيبوبة التي تحصل لطفلك بين الحين والآخر هي البرهان عن ذلك . هو ينتفض أو يرتجف عند اقفال الباب بضربة قوية ، يبرد عندما يكون الطقس بارداً ، وترتفع حرارته في أيام الحر . المهم أن تحافظي على نظافة طفلك وألاّ ترفعيه من سريره سوى عند إرضاعه وتغيير ملابسه . إنّه بحاجة للهدوء . حافظي على السكينة في محيطه . سوف يكون ممتنّاً لك ، ليس الآن بالطبع بل في المستقبل . المشاعر والأحاسيس التي تراود الطفل في أولى لحظات حياته ، لا تمحى بل تحفظ في اللاوعي وفي عقله الباطني ، عقل الطفل غير قادر على استيعاب وتنظيم ومراقبة وفهم كل ما يراه . لذلك هو يخزن الأحداث الممتعة والمزعجة والتجارب السعيدة والحزينة وطلباته المحققة والمرفوضة ... طفلك يحتاج إلى وجودك وحنانك . إن تجربته هذه سعيدة كانت أم مزعجة وعلاقته اليومية بك تتركان أثراً على شخصيته بصورة عامة . عوضاً عن فرض نمط حياتك وقواعدها على طفلك ، تعرّفي عليه عن كثب وراقبي كيف يظهر |
احتياجاته ويتفاعل مع العناية التي تقدّمينها . عندما تتقربين منه أكثر تستجيبين لتوقعاته بصورة أفضل . ولكل طفل شخصيته الخاصة ومتطلباته المميّزة . الأسابيع الأولى من حياة الطفل مهمة لتوثيق الروابط التي تجمعك وإيّاه . ونوعية هذه الروابط تؤثّر تأثيراً بالغاً على مستقبله لأن التوازن النفسي عند البالغين ينشأ منذ نعومة الأظفار ، لكن أساس هذه التوازن تبنيه الأم خلال الأسابيع الأولى من حياة طفلها . ـ لمساعدتك ، نعرض هنا التصرفات التي تجلب اللذة للوليد الجديد : سعادته الكبرى أن يكون معك ، بين ذراعيك . يحب أن يرضع ، أن تهزّي سريره أن تغسليه . وبعد |
الحمّام يحبّ أن يحرّك رجليه بحرية قبل أن تلبسيه ثيابه . عندما يتدلّل ، يجب أن تشاركيه في فرحه . يحبّ صوتك ، وملامسة يدك وضحكتك . يستهويه الهدوء والضوء ـ فهو يتجه نحوه غرائزياً ـ شرط ألاّ يكون هذا الضوء قوياً . ـ أمّا ما يزعج المولود الجديد فهو الآتي : يزعجه أن يكون جائعاً . أن تكون الأغطية فوقه كثيرة أو أن لا يغطّى بشكل كاف . تزعجه الألبسة الضيقة ، وألاّ تبدّل حفّاضاته بانتظام وأن نتركه في مجرى الهواء ممّا يسبّب له الدوخة . الذهاب والمجيء والضجيج داخل غرفته ، والصراخ والراديو والتلفزيون اقفال الأبواب بقوة ودخان السجائر حوله ، هذه كلها تزعجه كثيراً . لا تقولي ابداً إنه خبيث إذا بكى خلال الليل فالمولود الجديد لا يفرّق بين الليل والنهار . |
مرحلة الاكتشافات
يكون الاكتشاف بواسطة العين ثم اليدين ثم القدمين . عندما يأتي المولود الجديد إلى هذا العالم ، يبدو كأنه من سكان كوكب آخر أتى ليكتشف عالمنا . أولاً ، يستريح في نوم عميق ، من الرحلة الطويلة التي أكملها ؛ ثم يتعلّم كيفية استعمال أعضائه الجديدة التي ستمكّنه من العيش في جو البالغين . لذلك هو بحاجة إلى أربعة أسابيع ليتعلّم هذا كلّه . تنفّسه يصبح منتظماً وعميقاً . قلبه يهدأ وحرارته تستقرّ طفلك الآن لم يعد مولوداً جديداً خارجاً من ملجئه المظلم ، بل بدأ يكتشف العالم الذي أصبح جزءاً منه . يكتشف الوليد أولاً بواسطة عينيه ثم يديه وأخيراً رجليه . عيناه تتجهان نحو الحركة . بفضلهما ، يقوم الوليد باكتشافه الأول وهو الضوء . عندما يكون الضوء قوياً ، يغلق عينيه ويبقيهما كذلك ليحتمي وإذا غمرت أشعة الشمس وجهه فغالباً يبكي . لكن إذا وضعنا سريره قرب النافذة فسوف يفتح عينيه كأنه يريد الحصول على أكبر قدر ممكن من الضوء والألوان . الطفل الوليد يحبّ الألوان المشرقة كالأحمر والبرتقالي والأصفر . عندما نحرّك ببطء شيئاً له أحد هذه الألوان ، سيفتح عينيه وتتسارع عملية تنفّسه وسيتوجه |
نظره ورأسه نحو هذا الشيء . لاختبار الضوء والألوان أهمية قصوى وتأثير على ذكاء الطفل ، تماماً مثل الغذاء بالنسبة إلى معدته . بعد ذلك يتوصّل الوليد إلى المزج بين النظر والسمع فيوجه نظره نحو مصدر الصوت . ربما يبدو لك هذا التصرّف طبيعياً ولكنه حدث بالغ الأهمية ، بالنسبة إلى نمو صغيرك . عندما ينحني وجهك فوق وجهه ، يراقبه بفضول . يرى شفتين تتحركان وعينين تنطويان . يحاول القيام بحركات مماثلة . ترتسم ابتسامة على ثغرك وتخرج من فمك صرخة فرح . الوليد يبتسم ، وكذلك أمه . من منهما البادي ، لا أحد يعلم . بالنسبة إلى الأم تلك هي السعادة بعينها . الطفل الذي حملته تسعة أشهر والذي آلمها قبل أن يرى النور ، تعرّف عليها أخيراً . عرف أنها أمه . الابتسامة ليست الهدية الوحيدة التي يقدّمها الوليد لأمه في هذه المرحلة من حياته . سيبدأ بتمضية ليال هادئة لأن بكاءه سيتضاءل تدريجاً بين عمر الشهر والأربعة أشهر . إنه يبكي بمعدل ثلاث ساعات يومياً عندما يبلغ عمره الستة أسابيع ويبكي نصف ساعة في اليوم في سن الثلاثة أشهر . يبكي طفلك لأنه لا يجد طريقة أخرى يعبّر بها عما يزعجه كمثل أن يكون مبللاً ، ثيابه ضيّقة أو هو |
جائع أو عطش أو أن تكون أغطيته كثيفة أو يكون مصاباً بمغص . أعصابه دقيقة جداً وهو حسّاس تجاه كل شيء . مجموع هذه الأسباب ، أو أحدها ، يمنع الطفل من الخلود إلى نوم عميق . إذا بدا كل شيء على ما يرام ما بين الثلاثة والأربعة أشهر من عمره فيعني هذا أن الطفل توصّل إلى أداء مهمتين أساسيتين بشكل جيد : النوم والأكل . عالم الطفولة يبدو للبالغين غامضاً للغاية . ويكون الغموض أكثر كثافة كلّما عجز الطفل عن التعبير عمّا يخالجه من شعور وعمّا يريده . السؤال الأول الذي نطرحه هو : كيف ومن أي منظار يرى الطفل العالم بين سن الشهر والأربعة أشهر ؟ حياة الطفل شديدة الانتظام : يرضّع ست مرات تغيّر حفّاضاته ست مرات تقريباً ، كذلك حمامه وإخراجه من السرير ، هما منتظمان . في كل مرة يقوم الشخص نفسه الذي يعتني به بالحركات والتصرّفات ذاتها ـ من |
|
|
الاسبوع الاول : | يتجاوب الطفل مع رنين جرس أو صوت قوي |
الاسبوع الثالث : | يبدي الطفل اهتماماً بمصادر النور ويحدق في وجه الناظر اليه . |
نهاية الشهر الاول : | يرفع رأسه ويحدث أصواتاً متطورة أكثر من أصوات البكاء . |
نهاية الشهر الثاني : | تصدر عن الطفل اصوات هي غير أصوات البكاء ويتتبع بنظره الاشياء المتحركة أمام عينيه |
الشهر الثالث : | يبتسم الطفل لمن يبتسم له ويتجاوب بحماسة مع مشهد امه وهي تحضّر الرضاعة . |
الشهر الرابع : | يضحك الطفل بصوت عال ويمسك الاشياء المحيطة به . |
الشهر الخامس : | يشرّع في الصراخ ليلفت الانتباه إليه بدلاً من البكاء . يلتقط العابه ويجلس مستنداً إلى ذراع أمه . |
الشهر السادس : | يميز أبويه تمييزاً صحيحاً ويبتسم للمرأة . |
الشهر السابع : | يجلس من تلقاء ذاته . ينطق بالمقاطع الاولى من الكلمات ويبتسم حين يسمع موسيقى |
الشهر الثامن : | يتدحرج على سريره وينطق ببعض الكلمات « ماما » و« بابا » ، ويزحف . |
|
الأفضل أن يقوم الشخص ذاته في خدمة الطفل لأنه لا يحبّ التغيير ـ وتتكوّن نظرة الطفل إلى الحياة من خلال المشاهد اليومية التي تحيط به . بين عمر الخمسة والستة أشهر يرى الطفل كل ما يدور حوله بشكل صور وألوان مجتمعة وتتحرّك باستمرار . الأشخاص والأشياء بالنسبة إليه لوحات حيّة . الحياة بالنسبة إلى طفل بهذا العمر هي تسلسل لوحات ، العنصر الأساسي فيها هو الأم . هذه اللوحات تصبح عادات وأسس تؤمّن الاطمئنان والاستقرار للطفل . إذا حدث تغيير مفاجىء في سير هذه العادات سيصاب الطفل بحالة ضياع . بناء على ما تقدّم يتوجّب عدم إدخال التغييرات الكثيرة ، والمحافظة قدر الإمكان |
على الروتين في حياة الوليد . مثلاً : ـ عدم تغيّر الأشخاص الذين يهتمون به . ـ تخصيص زاوية للطفل ليكون محاطاً بالإطار ذاته طوال يومه ولمدة غير قصيرة . ـ يجب أن يكون حمّام الطفل وإخراجه من سريره في أوقات محدّدة ومنتظمة ، وأن تتم هذه المهمات من دون استعجال وعلى يد الشخص ذاته إذا أمكن . كلّما كبر طفلك توضّحت ملامح شخصيته ، وبدأ يقدّر الأمور ويبحث عن كل جديد . أمّا في الوقت الحاضر فهو بحاجة إلى الاستقرار . إذا كنت ترضعين طفلك فسوف تدخلين على حياته ، بعد عدة أسابيع ، تغييراً بالغ الأهمية هو الفطام . من أجل تخفيف وقع هذا الحدث أو الصدمة ، يحتاج طفلك إلى وجودك وعاطفتك وحسن تصرّفك . |
الآلام النفسيّة
طفلك الصغير الذي كان يبكي بسبب ألم في بطنه ، سوف يكتشف الآن أن باستطاعته ذرف الدموع تعبيراً عن قلقه لأنك ابتعدت عنه قليلاً . يتألم الإنسان بسبب الحب في مختلف الأعمار وهذا ما يحدث لطفلك . كيف يولد شعور بمثل هذا العمق في قلب صغير كهذا ؟ بكل بساطة ، من خلال الأعمال والتصرّفات المتكررة على مرّ الأيام . عندما يجوع الطفل ، تطعمه أمّه . يبلّل نفسه ، تغيّر له حفّاضاته . يبكي فتأخذه بين ذراعيها . حين لا يجد النوم ، تهزّ سريره أو تحتضنه كي ينام . ترتسم على شفتيه ابتسامة فترد عليه بمثلها . يُصدر أصواتاً فتستمع إليه . بعبارة واحدة نقول : من خلال أمه يشبع الطفل جميع رغباته ويحصل على حاجاته كلها . هي التي تؤمّن له متعته . الإنسان يحبّ بالطبع من يؤمّن له السعادة . بعد عدة أسابيع ، يصبح وجه الأم مركز حبّ الطفل المطلق ، الذي تعود على تمييزه من بين الوجوه الأخرى . وأصبح وجود أمّه قربه ضرورة حيوية ، إذا فقدها تعرّض الطفل إلى اضطرابات خطيرة تصيبه على الفور أو في المستقبل . يحتاج الطفل إلى شخص يحبّه كي ينمو بشكل طبيعي فإذا أهمل فسيعاني آلاماً كثيرة . الحبّ بالنسبة إلى الطفل ، ضرورة لا بدّ منها مثل الفيتامينات لجسده . |
والأسابيع الأولى من حياة الوليد هي المرحلة الأكثر دقة لأن أعضاءه تتكوّن خلالها . كذلك هي الأشهر الأولى من حياته ، فخلالها يتعرّف على محيطه . وإذا لم يتلقّ الحبّ الكافي والعناية الدقيقة في هذه المرحلة فيستأخّر نموه . أنت وحدك ، أمّه ، القادرة على إعطائه الحبّ . أنت محور حياته ، ويستمد توازنه كلّه من رعايتك إيّاه . في هذه المرحلة يشرق وجه الطفل بابتسامته الأولى ، يتفوّه بأولى كلماته ويقوم بأول خطوة . هذا يعني أن أسس الحياة والقلب ، والجسد وكلّ تقدّم ، تنمو من خلال الأم . الانفصال عن الأمعندما تكون الأم غائبة وحاجات الطفل العاطفية غير مشبعة ، يعاني الطفل ممّا يسمّى بالنقص العاطفي . وتتفاوت خطورة النتائج والتأثيرات عليه تبعاً لأهمية هذا النقص . لكن لابدّ من التمييز بين مختلف الحالات : هناك أولاً الأطفال المحرومون كلياً من رعاية الأم ، كاليتامى . وهناك الأطفال الذين يتلقون عناية غير كافية من أمهاتهم ، كأن تكون شخصية الأم تفتقر إلى الحنان أو أنها تغيب عن المنزل باستمرار . وهناك أخيراً الأطفال المحاطون بالعاطفة ولكنهم منفصلون عن أمهاتهم لمدة معيّنة بسبب المرض أو الطلاق أو ما شابه . |
الأطفال الذين لم يتلقوا أية عناية من أمهاتهم لن يتعرّفوا أبداً على سعادة الوجود بين يدي إنسان يحبّهم . ستنقصهم دائماً تجربة المبادلة . إنّ نمو هؤلاء الأطفال وتوازنهم مرتبطان بنوعية العاطفة التي يتلقونها من المحيط الذي يستقبلهم . إذا حالفهم الحظ وتبنتهم إحدى العائلات منذ الأشهر الأولى من حياتهم وأحاطتهم بالعاطفة فبإمكانهم النمو بشكل طبيعي . في الحالة الثانية ، إذا تركوا فترة طويلة بمفردهم في السرير وأهملو عاطفياً ، أو اعتنى بهم عدة أشخاص بشكل فوضوي فسينقصهم يوماً بعد يوم المحرّك الضروري لإيقاظ فطنتهم ووجود العاطفة المستمر والضروري لبناء شخصيتهم . سيكون هؤلاء ضعفاء في جميع المجالات ، وغالباً يعانون من تأخّر في نموّهم العام . ردات فعل الطفل على النقص العاطفي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطول مدة هذا النقص ؛ أي إن حدة الاضطراب تختلف فيما لو دام النقص عدة أيّام أو عدة أسابيع أو عدة أشهر . بين الثمانية والخمسة عشر يوماً ، يعبّر الطفل عن حزنه ، حسب مزاجه ، قد يعبّر بعنف فيصرخ ويبكي . أو بالعكس من دون أي ضجيج فيلتزم الصمت ، ويصبح جامداً ، ينظر في الفراغ غير مبال بما يحيط به ، لا ينام جيداً ، ولا يأكل جيداً ، ويفقد من وزنه . إذا استمرّت حالة النقص العاطفي عدة أسابيع ستظهر اضطرابات أشدّ خطورة . إضطرابات هضمية ( كالإسهال أو الإمساك ، اللذين يستعصيان على كل علاج ، والقيء وإلخ ... ) . وقد يصاب الطفل بزكام خفيف ولكنه لا ينتهي . أو يتعرّض لإصابات أكثر خطورة كذات الرئة . وكأن النقص في الحب يجعل الجسد ضعيفاً وأشدّ تعرضاً للإصابة بالأمراض والميكروبات . في بعض الأحيان ، بعد أن يتعلّم الطفل المشي يتوقف فجأة ، أو بعدما كان نظيفاً يعود ويبلّل ثيابه . بعض الأطفال يفقدون الشهية تماماً والبعض |
الآخر ، بالعكس ، يرتمي على الطعام ويلتهمه : في هذه الحالة يحاول الطفل التعويض من الحب بالطعام . إذا استمرّ إهمال الطفل أكثر من أربعة أشهر ، ستتفاقم الاضطرابات وتترك آثاراً لا تمحى فيعاني الطفل طوال حياته ، من توتر في الأعصاب ، ويصبح غير قادر على التأقلم مع أي تغيير مهما كان صغيراً . أمّا إذا حرم الطفل من الحبّ خلال السنة الأولى من حياته فالاضطرابات ستصيب أعصابه وعضلاته أو شخصيته ، وأحياناً تعيق نموّه . طفل كهذا قد يرفض أن يمشي أو يتأخر كثيراً ليقوم بالخطوة الأولى . وآخر قد يرفض أن يتكلّم أو يتفوّه بلغة الأطفال وقتاً طويلاً . في أحوال أشدّ خطورة يقوم الطفل بتصرّفات غير طبيعية ويصبح غير مبال تجاه كل الأمور . الانفصال عن الأم لفترة معيّنةنعرض هنا وضع الأطفال المحاطين بأمهاتهم بشكل طبيعي لكنهم يجدون أنفسهم منفصلين عنها وقتاً معيّناً . حتى ولو أحيط هؤلاء الأطفال بالحب الكافي فإنهم سيعانون من جرّاء الانفصال . الاضطرابات التي تصيبهم هي نفسها التي سبق ذكرها ولكن بوطأة أخف بكثير ، كما أنها تتلاشى إذا اهتم بهؤلاء الأولاد أحد يحبّهم ويعتني بهم جيداً كجدتهم مثلاً .تبقى حساسية الطفل مرهفة تجاه الانفصال عن أمه حتى عمر الثلاث سنوات . لكنه أكثر تعرّضاً لتأثير الانفصال السلبي حتى عمر السنتين . في الواقع أن حاجات الطفل العاطفية هي رئيسة وضرورية حتى بلوغ الطفل هذا السن وبديهي كم هو صعب إفهامه الأسباب الحقيقية للانفصال والتي لو كان بإمكانه استيعابها ، لشفي من بعض اضطراباته . بعد عمر الثلاث سنوات تتفاعل الاضطرابات الناتجة عن غياب الأم بحسب طبع الطفل ولكنها أقل خطورة ، لأن شخصية الطفل قد بنيت قبل هذه السن . |
الطفل أقل عرضة للمتاعب بعد الخمس أو الست سنوات وهو بالتالي يستطيع تحمّل الانفصال عن أمه بقدر ما كانت العلاقة العاطفية وطيدة بينهما قبل الانفصال .
مزاج الطفلمنذ أول أيام حياته يتمتع الطفل بمزاج معينّ . بعض الأطفال يبدون أقوياء ، قليلي المطالب ويتحملون جيداً بعد أمهم عنهم خلال النهار . بعضهم الآخر عصبي المزاج ، كثير الحركة وهو بحاجة إلى انتظام أكثر في حياته ، أي في مواعيد الطعام . أيّ تأثير غير متوقع يؤدي إلى توتر أعصاب هؤلاء الأطفال ، والبعض الآخر أيضاً سريع العطب وأي تغيير في عاداته يؤثر سلباً على صحته . هذه الحالات التي ذكرنا ليست سوى أمثلة تفسّر كيف أن كل طفل يتعامل مع النقص العاطفي بطريقة مختلفة عن طرق سائر الأطفال .إذا عدت واجتمعت بطفلك بعد مدة طويلة من الانفصال عنه لا تتوقعي أن يتجاوب معك ، بل إنه سيكون مرتبكاً حتى إنه قد يدير وجهه إلى الناحية الأخرى عندما يراك . لا تحاولي الدخول إلى حياته بيوم واحد فطفلك قد تعوّد وجهاً آخر وهو بحاجة إلى الوقت كي يألفك من جديد . واحفظي جيداً التالي : لا تدخلي تغييراً مفاجئاً على حياة طفلك وإذا اضطررت الى أن تتركيه بعهدة أحد فيجب أن تؤمني لطفلك الجو الذي يشعره بالأمان . إذا كنت تعملين خارج البيتكيف سيتحمل طفلك غيابك خلال ساعات طويلة من النهار وهو في أمسّ الحاجة إليك ؟ سيتحمّل ذلك جيداً ، إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة .عليك أن تقدّمي لطفلك ما ينتظره منك عندما تعودين إلى المنزل في المساء : أن تكوني فرحة بلقائه . هذا ليس سهلاً بالطبع فأنت متعبة بلا شك ، لكن |
النتيجة تستحق المجهود الذي ستقومين به . إذا نجحت لقاءاتكما المسائية فقد قمت بجزء كبير من مهمتك . ثم حاولي أن تستغلي جميع الفرص لتمضي وقتك معه . خصصي له معظم الوقت الذي تقضينه في المنزل . الوقت الذي يمضيه معك يعوّض عن غيابك في أثناء النهار . وهذا أفضل بكثير من أي هدية تقدمينها له . بعض الأمهات العاملات يتجه نحو تدليل الأطفال بواسطة شراء الألعاب ليعوضن عن النقص العاطفي ، وهذا خطأ . يجب أخيراً أن تكوني موجودة عند حصول تغيير مهم في حياة طفلك مثلاً عندما يأكل بالملعقة أوّل مرة ، أو عندما يتناول أي طعام غير الحليب أول مرة . الطفل يدرك بسرعة أن أمّه تعمل لعائلتها وله بشكل خاص ، وعندما يبلغ عمراً يسمح له أن يعي ذلك فإنه سيكون فخوراً بك . إعلمي في النهاية أن أهم شيء بالنسبة إلى الطفل ومن أجل توازنه ، ليس عدد الساعات التي تمضيها أمه معه ، بل نوعية العاطفة التي تقدّمها اليه . ____________ ردّات فعل الطفل على النقص العاطفي تختلف باختلاف طباع كل طفل ومزاجه الخاص . قد تكون ردات الفعل هذه من نوع الصراخ والبكاء تعبيراً عن الحزن ، وقد تكون صامتة فيبدو الطفل جامداً يحدق في الفراغ . أو هو قد يلجأ إلى تسلية نفسه والتخفيف من قلقه بامتصاص احد أصابع يده . |