أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الانفاق في سبيل الله
 
 


تعال معي نتصفح الكتاب

البريد الإلكتروني طباعة
كتاب الإنفاق في سبيل الله من ص1 ـ 26

    عز الدّين بحر العلوم

 

الإنفاق

في سبيل الله


دار الزهراء

‏للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت ـ لبنان

 


( 4 )

 

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبعت الطبعة الأولى في بغداد
1408 هـ ـ 1988 م
طبعت الطبعة الثانية في بيروت
1409 هـ ـ 1989 م


( 5 )

 

      بسم الله الرحمن الرحيم

      والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين




( 6 )



( 7 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

        من القرآن الكريم :



( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع علِيم ) .

سورة البقرة : الآية 261

( والذين يكنزون الذهب و الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهروهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) .

سورة التوبة الآية 34 ـ 35











( 8 )

 

    من السنة الشريفة :


من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة .
ولأن أعول أهل بيت من المسلمين وأشبع جوعّهم وأكسوا عورتهم وأكف وجوههم عن الناس أحب إلي من أن أجح حجة وجحة وجحة ...






( 9 )

 

تعال معي نتصفح الكتاب ...



مشكلة الفقر ، والفقير لا تقل خطورة عن بقية المشاكل التي تهدد كيان المجتمع و تنخر فيه ، ولذلك تصدى الاسلإِم لها ، فأولاها اهتماماً خاصاً ، فوضع لها حلولاً دقيقة ليجنب الافراد ويلات الفقر ، فإن البطون أذا جاعت ، و الحاجة أذا الحت فقد يخرج الإنسان عن طوره ، ويصبح كالوحش الكاسر لا تقف أمامه أي عقبة من العقبات .

لقد تناول المشرع الإسلامي هذه المسأله فرسم لها الخطوط العريضة واعتمد فيها على الأسس الرصينة ليخفف بذلك الضغط عن الطبقات الضعيفة بأن جعل لهم حقأ في أموال الأغنياء .. ويتمثل هذا الحق بجعل الضرائب الإلزامية و النفقات التطوعية كما سنجد ذلك بنحو من التفصيل في بحوث هذا الكتاب مستمداً من القرآن الكريم و من السنة الشريفة .

وبتطبيق هذا القانون لم يبق فقير يعاني ما يخلفه الفقر من مصاعب وحرمان .

وموضوع بحثنا ليس هو الفقير المتوسل الذي يتخذ التكفف حرفة ومكسباً يكيف به حياته اليومية يلاحق الناس بيد ممدودة من


( 10 )


شارع إلى آخر ، ومن زقاق إلى زقاق .

ليس هذا الإنسان موضوع بحثنا لأنه إنسان لايستحق أن يبحث عن مشكلته ، بل موضوع بحثنا هو الفقير العاجز عن العمل ، أو القادر الذي لم تساعده الضروف على حصول عمل يؤمن له معاشه ، أو من يعول به . هذا الإنسان العاجز هو الذي يشكل خطراً على المجتمع لو ترك على هذا الحال ، ولم تؤخذ مشمكلته بعين الاعتبار ... ذلك لأن مثل هذا الإنسان قد لا يطيق صبراً ليواجه هذا النوع من الحرمان ، فيضطر بالأخير إلى إرتكاب الجرائم ليحصل من وراء ذلك على المال ، ولقمة اللعيش ، ولسنا بحاجة لذكر الكثير من المشاهد التي تمثل الفقر ، والتي تكون السبب في اشاعة الفوضى ، والجريمه من فتى عاطل ، وقد غُلقت في وجهه الأبواب ، أو كبير أقعدته الأيام أو أم فقدت كفيلها بعد أن ترك لها رعيلاً من الصغار .

أو فتاة تحافظ على عفافها ، ولكنها تواجه من لا يرحمها إلا بتقديم أعز ما لديها هديه رخيصه إليه .

وقد تستقبل أرصفة الشوارع صنوفاً ألفوا إليها يفترشونها أذا داهنهم الليل يلقون بين منعطفاتها أجساداً أنهكها التسول تاركين لعيونهم أن يداعبها الكرى وطائف يطوف عليهم يناغيهم بصوت ألفوا نغماته في مثل هذا الوقت من الليل وهو يقول ..

نامي فأن لم تشبعي * من يقظة فمن المنام


هذا الحشد من المساكين ماذا نقول لهم لو أقدموا على الجريمه فسرق بعضهم وباع كرامته آخر وتطاول ثالث فقتل نفساً محترمة .


( 11 )


عندها نجد أنفسنا تؤمن شاءت أم أبت بالحديث الذي يقول :

« كاد الفقر أن يكون كفراً ».

ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الصور إذا ما استجاب الموسرون لنداء القرآن ، والسنة فأدوا ما عليهم من الحقوق إلى الفقراء والمستحقين ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، وأنفقوا في سبيل الله ـ وفي هذه الحالة ـ لا يبقى مجال الجريمة ، بل يعود الجميع إلى حضيرة الإسلام ، وهم يطبقون تعاليمه ، وبذلك يؤمنون لمجتمعهم السعادة ، والرفاه ، وبعدها يقف الإسلام في وجه من تسول له نفسه أن يرتكب الجريمة لينزل به العقوبات الصارمه لأن الجريمة في هذه الصورة لاتكون وليدة الحاجة ليعذر في بعض الصور من يرتكبها لو خاف على نفسه من الوقوع في التهلكة ، بل هي وليدة النفوس الشريرة الخبيثة ، ولذلك لا ترحم القوانين السماوية ، والوضعية مثل هؤلاء ، بل تلاحقهم لتستأصل مادة الفساد بأقتلاع جذور الجريمة .
وفي الختام : اضرع إلى الله القدير أن يصلح لنا نفوسنا ، وشؤوننا ويرزقنا كرامة الدنيا والآخرة . وهو الموفق


صفر ـ 1408 النجف الأشرف عز الدين السيد علي بحر العلوم





( 12 )

 


( 13 )

 

ملكية الفرد للمال :



من الأمور المهمة التي تبناها الإسلام كأساس للنظام الإجتماعي في هذه الحياة هي نقطة الاعتدال ، والأخذ بالحد الوسط في كل شيء يخص الفرد من أعمال وشؤون ، وقد ساق القرآن الكريم مثالاً لهذه الصورة فقال سبحانه :

( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) (1)

فلا إسراف ولا تقتير بل أمر وسط بين أمرين ، والآية الكريمة وإن كان موردها الصرف والانفاق ، ولكن آيات القرآن دستور لايخصص المورد فيها الوارد بل الوارد فيها فقرة من فقرات الدستور الإسلامي تؤخذ تلك الفقرة كحكم أو كقاعدة تعم جميع الموارد وفي جميع العصور إلا أن يدل دليل من آيات أخرى ، أو من السنة الكريمة على الاختصاص وعدم الشمول .

واذاَ فالآية الكريمة تشير إلى أن التوازن نقطة أساس لابد من المحافظة عليها وأن الاخلال بها يضر المجتمع ، ويجر عليه الويلات .
____________
(1) سورة الاسراء | آية 29.


( 14 )


ومن هذا المنطق تنظر الشريعة المقدسة إلى حرية الفرد في التملك والصرف ، والأخذ ، والعطاء .

فهي لا تترك الفرد يتمتع بحرية مطلقة في نطاق التملك ، والحصول على الثروة كيف يشاء ، ومن أي طريق كان ليكون هو المالك الوحيد ، ولاحق فيه لغيره يملك ما يشاء، ينفق حسب ما يريد من دون قيد أو شرط .

ولكنها في الوقت نفسه لا تحرمه من حقه الطبيعي فتسلب منه الملكية الفردية ، وتجعل ما يحصل عليه ملكاَ لغيره ، وخاضعاّ للصلطة بحيث يكون الفرد عاملاً لا يملك لنفسه إلا ما يقيم له حياته المعاشية في أبصط أنواعها .

لاهذا ولا ذاك بل حد وسط بين الأمرين .

الإسلام يحترم الفرد ويأخذ بعين الاعتبار ما يحقق له كرامته ولكن في نطاق المجموعة وحدود المجتمع الذي يعيش فيه لأنه كما يلحظ المصلحة الخاصة كذلك يضع في حسابه المصالح العامة ، بل قد تقدم المصالح العامة في بعض الموارد على المصلحة الخاصة لو أقتضت الضرورة لمثل هذا الاجراء ومن ذلك .

1 ـ لو أسر الكفار بعض المسلمين : وجعلوهم في الصف الأول ، وفي الخط الأمامي من المعركة ليكونوا عقبة في طريق زحف المسلمين ، فإن الشارع المقدس يأمر المسلمين بالتقدم ، ولو أقتضى ذلك قتل هؤلاء المسلمين الأسارى وحينئذ فلهؤلاء الجنة ، ولورثتهم الدية تستحصل من بيت المال .

2 ـ الاحتكار : وهو حبس السلعة والامتناع عن بيعها لأنتظار


( 15 )


زيادة القيمة مع حاجة المسلمين إليها وعدم وجود الباذل لها .

وهذا العمل حرام من حيث المبدأ ، ويجبر المحتكر على البيع من دون أن يعين له السعر .

نعم إذا كان السعر الذي إختاره مجحفاً بالعامة أجبر على الأقل (1).
ولسنا في صدد تعين ما يختص به هذا الحكم من الأجناس ، والحاجيات ، فهل هو كل ما يحتاج إليه المسلمون من السلع أم أنها مختصة بالحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت لا غير ، ويستحب في الباقي ؟ فلذلك مورده الخاص من كتب الفقه .

بل المهم هو بيان أن ألاحتكار ، ولو في بعض الحاجيات من موارد تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .

3 ـ حق المارة : ويتمثل ذلك في الأثمار المتدلية في بعض البساتين على الطريق فإن لم يكون مرورها عليها لابنحو القصد إليها أن يتناول في ذالك الثمر بشروط تتعرض لها مصادر الفقه .

وهناك كثير من هذا الموارد لاحظ الشارع المقدس فيها المصلحة العامة فقدمها على المصلحة الخاصة .

ومن هذا القبيل ما نحن فيه ، وبالنسبة إلى ما يحصل عليه الفرد من الثروة والتصرف فيه فإن الإسلام يبيح له ذلك ليعمل طاقاته في سبيل الإنتاج ، ولكن لاينافي هذا أن يضع له مقاييس خاصة لابد من رعايتها حفاظاً منه على التوازن وعقبة في طريق التضخم
____________
(1) منهاج الصالحين للسيد الخوئي ـ ج 2 | 14 ـ 15 الطبعة الثامنة .


( 16 )


الذي ينشأ من جراء هذه الحرية بدون قيد أو شرط ، ولئلا ينعم بعضهم على حساب الآخرين أو يتخم بعضهم ، ويجوع آخرون .

وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) :

« ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير » (1).
ومن هذا العرض نخلص إلى أن الفرد في حياته المعاشيه حر ومقيد .

حر : في التملك والتصرف في قبال الأنظمة والتي تسلبه الحرية ، وتجعله أداة لغيره .

ومقيد : بالنسبة إلى بعض أسباب التملك ، أو بالقيود التي توضع عليه بعد التملك رعاية للمصالح التي تقتضيها طبيعة المعايشة في المجتمع الاسلامي .
وقد نواجه ونحن نقول بهذه الأزدواجية من التملك والتصرف المقيدين باشكال يقول فيه بعضهم :
ان جعل المقاييس من قبل الشارع المقدس ضابطاً لحفظ التوازن ينافي ما تقرره القاعدة المشهورة ، التي يتفق عليها كلهم من أن الناس مسلطون على أموالهم ، إذ من الواضح أن تقييد الحرية المذكورة في التملك والصرف معناه الحد من هذه السلطة التي أقرها الشارع ، التي بها يتمكن الفرد من التصرف بما عليه كيف يشاء !.

والجواب عن ذلك : ان الانسان قد يتصور انه عندما يحصل على شيء ، أو يستولي
____________
(1) وسائل الشيعة 6 | 3 .


( 17 )


عليه بأحد الطرق المشروعة أنه هو المالك الحقيقي لذلك الشيء ، وليس لأحد أن يتدخل فيما يعود لحرية التصرف فيه ، وهذا لحدٍ ما صحيح وأن القاعدة المشهورة من الناس مسلطون على أموالهم أيضاً معترف بها ، ولكن علينا أن نعرف قبل كل شيء أن هذه السلطة ، وهذه الملكية هما بالنسبة إلى ما يعود إلى الناس فيما بينهم ، وأما بالنسبة إلى الفرد مع خالقه فالقضية تأخذ طابعاً آخر وشكلاً جديد .
ذلك لأن الملكية الحقيقية إنما هي لله وحده من غير شريك ، وأن السلطة الكبرى له من غير منازع ، وإنما للأنسان من الملكية ما هو محدود له من قبل الله سبحانه .
وعندما يرزق الله أحداً مقداراً من المال فقد يتخيل الأنسان أن ما حصل له كله ملك له . إلا أن ذلك خيال محض وتصور فارغ بل هو يملك المقدار المخصص له لاغير .
وعلى سبيل المثال لو حصل الإنسان على مقدار عشرة دنانير ، وقلنا ان للفقراء اثنين من هذه العشرة حقاً شرعياً فمعنى ذلك أنه من أول الأمر كان قد ملك ثمانية لاأكثر اما ملكه لتمام العشرة فهو ملك صوري ، وإنما الحقيقي هو الثمانية لاغير .

وليس في هذا أي جور على الفرد فإن من أعطاه المال قيده بهذا النحو من العطاء اعطاه مقداراً خاصاَ والزائد ليس له ، وغير مسلط عليه .
ان المال كله هبة من الله ، وهو مال الله حتى بعد حصول العبد عليه ، وفي هذا الصدد تقول الآية الكريمة :


( 18 )


(وآتوهم من مال الله الَّذي آتاكم ) (1) .
فهو من مال الله ، ولذ أمر بأعطائه منه ، ولو لم يكن ماله لما أمر باعطائه إذ لا معنى لأن يأمر الله بإعطاء ما ليس له ، بل الحقيقة باقية حتى بعد وصوله إلى الأفراد .
ويقول سبحانه في آية أخرى :
( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (2) .
وإذا كانت معاملة الله لعبده على المال معاملة الاستخلاف فهو اذاً أمين على ذلك فلماذا يتضايق الأنسان من الضوابط التي يجعلها المالك الحقيقي على ما إستخلف عليه .
ولمذا نقتصر في الملكية على هذا التقييد بل المال ، ومن وصل إليه ، والأرض والسماوات وما فيها كل ذلك مملوك لله .

( لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شيءٍ قدير ) (1) .
فكل شيء في هذا الوجود بسمائه ، وأرضه ، وما فيها ، وما بينهما مملوك له ملكية مطلقة وغير محدودة بحدود ، ولا مقيدة بقيود .
وبعد هذا العرض فلا منافاة بين القول بتسلط الفرد على ماله ، وبين القيود والضوابط التي يجعلها الله على الأموال تملكاً وتصرفاً .

( مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء
____________
(1) سورة النور | آية : 33 .
(2) سورة الحديد | آية : 7 .
(3) سورة المائدة | آية : 120 .


( 19 )


وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) (1) .

التكافل الإِجتماعي :


التكافل الإجتماعي ، عنوان يراد منه التحام الافراد فيما بينهم في اطار من الود والرحمة يشد بعضهم بعضاً ، كما يقول الحديث الشريف : « المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضة بعضاً » .
وللتكافل مظاهر متعددة :

فالجهاد في سبيل الله ـ ينضم الأفراد بعضهم إلى بعض ليقفوا في بوجه العدوا من التكافل .
والمهندس ، والطبيب ، وكل ذي فن وحرفة يقوم بعمله من التكافل ، وتقديم الخدمات الخاصة ، والعامة من التكافل .
ورعاية اليتيم أيضاً من التكافل .
وافراد الأسرة كل يقوم بواجبه الأسروي من التكافل .
واسداء النصح ، والكلمة الطيبة يقدمها الإنسان الى غيره من التكافل .
ومد يد العون إلى الفقراء ، والضعفاء من التكافل .
وبتعير شامل القيام بما يعود إلى المجتمع على نطاق الأفراد ، والمجموعة ككل من التكافل .
____________
(1) سورة آل عمران | آية : 26 .


( 20 )



إن الحياة الإجتماعية ليست بالامكان أن تنتظم بجهود الفرد كفرد بل بجهود الفرد منظماً إلى المجموعة ليصل الجميع إلى هدفهم المنشود .
والتكافل يريده الإسلام ، ويحث عليه لأنه صورة شفافة يعبر عن الرحمة والحنو والعطف والشفقة ، وقد أراد الله ذلك لعباده لأنه سبحانه المنبع الحقيقي للرحمة ، والشفقة والسماحة .
فهو رحيم ، ويحب الرحمة ، ويوصي بالرحمة .
والإنسان هو الصورة المثالية لصنع الله في هذه الأرض الواسعة ، وقد ميزه عن بقية مخلوقاته بالعقل والادراك ، ومنحه من الطاقات الجبارة ما به تظهر عظمته في هذا الكون لذلك أراد الله أن يحذو حذوه لتعبر الصورة عن قدرة المصور ومكانتة ، وقد إختاره ليكون الشاشة الواضحة ليعرض عبرها كل الصفات الخيرة تلك الصفات التي أراد أن يتصف بها العبد .
ومن هنا نقول إن هذه الحياة بما هي مكان يعيش في رحابها هذا الحشد من البشر لابد لها من نظام تكافي ينظم للأفراد حياتهم ومتطلباتهم ، يظللهم شعورهم بالمسؤولية « فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » ، كما يقول أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) .
وعلى ضوء هذا النظام تزدهر الحياة ، وعلى تطبيقه يشق المجتمع طريقه نحو الرقي والرفعة .
ـ وكما قلنا ـ إن التكافل الإجتماعي له مظاهر متنوعة ، ولم يقتصر على مظهر واحد ، بل هو مجموعة صور عديدة قيمة .


( 21 )


ومن بين هذه الصور تنألق صورة الانفاق في سبيل الله ، ومد يد العون إلى الضعفاء والمعوزين ليجد هؤلاء من يحنو عليهم ، ومن ينتشلهم من براثن الفقر ، ويبعد عنهم صوره المرعبة وبذلك تتوازن القوى ، ويتجه كلهم نحو بناء مجتمع مثالي في كل عصر ، ومع كل جيل .
وحديثنا في هذا البحث عن التكافل في الإنفاق لان المال وتوزيعه على شكل يؤمن للغني غناء ، وللفقير حقه هو من القواعد الأساس لعملية التكافل لذلك رتب الإسلام نظاماً للإنفاق لئلا يسرف الإنسان في ذلك ، أو يقتر .
( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) (1) .
وقبل أن نبدأ في البحث عن كيفية هذا النظام ، والحديث عنه نقف لنجيب عما نطالب به من إيضاح حول ما يوجه من الاعتراض عن مشكلة الفقر وابتلاء البعض من الناس بالفقر والعوز مع أن الله سبحانه هو الخالق خلائق ورازقهم هو الذي قدر بينهم معايشهم :
( وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ) (2) .
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) (3) .
( ولقد مكّنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيه معايش ) (4) .
____________
(1) سورة الأسراء | آية : 29 .
(2) سورة هود | آية : 6 .
(3) سورة الزخرف | آية : 32 .
(4) سورة الاعراف | آية : 10 .


( 22 )


وإذا كان الرزق من الله ، وهو الذي يقدر معايش العباد فلماذا لم يمنح الفقير ما يغنيه ليجعل العباد كلهم على حد سواء ، أو لا أقل من أن يكفي الفقير ان لم نقل بالتساوي ؟ وحينئذٍ فيمنحه ما يرفع عنه الاتكال على ما تجود به قريحة الغني وتعود حياته رتيبة تسير على نحو من الكفاف ، وبذلك يستغنى عن قانون فرض الضرائب المالية على الأغنياء الزامياً ، أو تبرعياً ، ولا داعي لهذه الصورة من التكافل بل تبقى للتكافل صوره الأخرى مما يحتاجه لهذه الحياة .
والجواب عن ذلك : إن الله ليس بعاجز عن أن يجعل عباده في مستوى واحد من حيث الغناء والرفاه المالي فقد نوه القرآن الكريم في آيات كثيره من أن الله هو الرازق :
( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ) (1) .
( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ) (2) .

ولكنها المصالح التي تعود إلى البشر ، والتي تقضيها طبيعة الحياة العلمية في واقعها الخارجي هي التي تدعوا لأن يكون هذا التمايز .
ذلك لأن الحاجة أساس العمل والعمل يخلق الانتاج ، وإذا كان الكل في صف واحد فمن يعمل ، وكيف يحصل الانتاج ؟ .

وعلى سبيل المثال : فلوا فرضنا أن بلداً كل أفراده أغنياء ،
____________
(1) سورة سبأ | آية 24 .
(2) سورة فاطر | آية 3 .


( 23 )


ويتمتعون بثروات مالية فمن منهم يحضر لينزل إلى الحقل ليحرث ويزرع ، ومن منهم يبني ، ومن منهم يحرك الآلة ، ومن منهم يقوم بما تتطلبه هذه الحياة من أعمال ؟ .
ان الحاجة هي التي تدعوا العامل أن ينشد إلى رب العمل ، ورب العمل إلى العامل ، وهكذا ، ومن جراء ذلك تؤمن متطلبات الحياة ، وما يحتاج إليه الفرد من طعام وكساء وسكن .
على أن هناك نقطة دقيقة كشف عنها القرآن الكريم ، وأوضح أن الله سبحانه ينزل الارزاق حسب موازين مظبوطة وإنه أعلم بعباده ، وكيف أن بعضا منهم لو أغناه ووسع عليه لكفر .
يقول سبحانه :
( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ) (1) .
وختام الآية « إنه بعباده خبير بصير » يعطينا أن التقدير الذي يقدره الله لعباده نابع عن خبرة ، وبصيرة بشؤون العباد إنه يعلم لو وسع على العباد في الرزق على حسب ما يطلبونه ، ويرغبون فيه لبغوا في الأرض ، والبغي في اللغة ، هو « الظلم والجرم والجناية ، والباغي هو الظالم ، والعاصي على الله » (2) .
ولكن « ينزل بقدر ما يشاء » ، وعلى قدر صلاحهم ، وما تقتضيه مصالحهم ، وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرائيل عن الله سبحانه :
____________
(1) سورة الشورى | آية : 27
(1) أقرب الموارد | مادة بغي


( 24 )


« إن من عبادي من لايصلحهُ إلى السقم ، ولو صححته لأفسده ، وإن من عبادي من لايصلحهُ ألا الصحة ، ولو سقمته لأفسده ، وأن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ، وذلك إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم »(1) .
وبعد كل هذا فإن الإحاديث الواردة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأهل البيت ( عليهم السلام ) تتناول هذه المشكلة . وتدفع الأشكال على نحو الجزاء والأجر للفقير على ما قسمه الله له من فقره .
فعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انه قال :
« يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا » .
فيقول :
« وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك عليّ ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيله أخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن اطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك ، والناس يومئذ قد الجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك بيده فيأخذ بيده ويدخله الجنة » (2) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :

« إنه قال : لرجل أما تدخل السوق أما ترى الفاكهة تباع ،
____________
(1) مجمع البيان والدر المنثور للسيوطي في تفسيرهما للآية 23 من سورة الشورى .
(2) المحجة البيضاء 7 | 323 .


( 25 )


والشيء مما تشتهيه : فقال : بلى .
قال ( عليه السلام ) : أما إن لك بكل ما تراه فلا تقدر على شرائه حسنة »(1) .
بهذا النوع من الأجر والتقدير يقابل الفقير ليجبر الله له ما يعانيه في هذه الدنيا من تبعات الفقر .
وهنيئاً له و الله .
يعتذر إليه أو هو شبيه بالمعتذر كما في بعض النسخ ، ويتوالي التكريم من الله سبحانه لعبده الفقير فتعطينا الأحاديث مرة أخرى صوراً متلألئةً تضفي اشعاعاً خاصاً على الفقير يميرة عن بقية الناس .
فقد جاء في بعض الأحاديث ان الله سبحانه أوصى لنبيه اسماعيل قائلاً :
« اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من اجلي .
فقال : اسماعيل من هم ؟
قال : الفقراء الصادقون »(2) .
والفقراء بعد كل هذا صفوة الله من خلقه .
« فعن النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) يقول الله تعالى يوم القيامة :
أين صفوتي من خلقي ؟
____________
(1) المحجة البيضاء 7 | 321 .
(2) المحجة البيضاء 7 | 325.


( 26 )


فتقول الملائكة ، ومن هم يا ربنا ؟
فيقول : فقراء المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري أدخلوهم الجنة فيدخلوهم ويأكلون ويشربون ، والناس في الحساب يترددون » (1) .
وفي مورد آخر يقارن الله بين الفقراء والأغنياء فيجعل الكفة تميل لصالح الفقراء ، جاء ذلك عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
« ان الله يقول يحزن عبدي المؤمن ان قترت عليه ، وذلك أقرب له مني ، ويفرح عبدي المؤمن ان وسعتعيله ، وذلك أبعد له مني »(2) .
ومرة أخرى نعود لصلب الموضوع في البحث لنتكلم عن الانفاق بقسميه الإلزامي والتبرعي .
____________
(1) المحجه البيضاء 7 | 325 .
(2) المحجه البيضاء 7 | 326.