الوفاء بها ) (1).
3 ـ تعدّد الزوجات :
:
من المسائل التي يختلف فيها المنهج الاُسري في الإسلام عن المنهج المادي أن الأول يقرّ ـ من حيث المبدأ ـ تعدد الزوجات ضمن شروط معينة ، بينما الثاني لا يقرّ ذلك ويشنّع أشدّ التشنيع على التشريع الإسلامي ، ويرى بأنه يتعارض مع كرامة المرأة وإنسانيتها. وقد ذهب بعض قادة الغرب بعيداً في حملة النقد ، فقد اعتبر اللورد « كرومر » المعتمد البريطاني في مصر : ( أنّ السبب في تأخّر المسلمين هو تعدّد الزوجات ) (2).
وقد ردّد أعلام العلمانية في بلداننا هذه المزاعم الباطلة دون تمحيص أو تحقيق ، فمثلاً يرى كمال أتاتورك : ( أن حق الرجل في الزواج من أكثر من واحدة شرّ اجتماعي ) وألغاه بجرّة قلم دون أي وازع ديني (3).
علماً بأن تعدد الزوجات كان هو النظام السائد إلى ما قبل الإسلام ، فالفرس والرومان وغيرهم كانوا يعدّدون الزوجات ، ولم يعرف أن أُمّة في القديم منعت التعدد إلاّ مصر ، ولكنها كانت تتحلل من القيد المانع بجعل من تجيء بعد الزوجة الاُولى في منزلة دونها (4).
وفي الحضارة الصينية والفارسية يجوز تعدد الزوجات ولكن الزوجة الثانية وما بعدها تعتبر زوجة من الدرجة الثانية ، أي الخادمة ، لا تتمتع بالحقوق التي
____________
1) المرأة في الإسلام | د. علي عبدالواحد وافي : 118.
2) تنظيم الاُسرة وتنظيم النسل | أبو زهرة : 11.
3) حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة | حسين أحمد الأمين : 75.
4) اُنظر : تنظيم الاُسرة | أبو زهرة : 60.
تتمتع بها الزوجة الاُولى (1).
أما الإسلام فقد سلك مسلكاً وسطاً ، فلم يمنع التعدد السائد ، ولم يسمح به إلى عدد غير محدَّد ، قد يُلحق الضرر بالتزامات الرجل الاُسرية.
وعليه فحلّل له الاقتران على نحو الدوام بأربعة نساء كحدّ أعلى ، وفرض عليه نفقتهنّ ومعاملتهنّ بالعدل والإحسان ، ولم يسمح له بالنظرة الدونية للزوجة الثانية وما بعدها.
ويبرز الطابع الواقعي في المنهج الإسلامي أنه قد فرض عليه العدل في النفقة ولم يكلّفه ما لا يطيق بالعدل في المودّة.
وقد سأل أبو جعفر الأحول أبا عبدالله الصادق عليه السلام عن الفرق بين قوله تعالى : ( ..فانكحوا ما طابَ لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع فإنّ خفتم ألاّ تعدِلوا فواحدة... ) (2) ، وقوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم.. ) (3).
فقال عليه السلام : « أما قوله : ( فإنّ خفتم ألا تعدلُوا فواحدة.. ) فإنّما عنى في النفقة ، وقوله : ( ولن تستطيعوا.. ) فإنّما هي في المودّة ، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين أمرأتين في المودّة » (4).
الأمر الآخر هنا أنّ السُنّة الشريفة تحذّر الزوج من العواقب الاُخروية المترتّبة على الإخلال بالعدالة ، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « من كانت له
____________
1) المرأة في التصور الإسلامي | محسن عطوي : 24.
2) سورة النساء : 4 | 3.
3) سورة النساء : 4 | 129.
4) تفسير القمي : 143.
امرأتان فلم يعدل بينهما في القسم من نفسه وماله ، جاء يوم القيامة مغلولاً مائلاً شقّه حتى يدخل النار » (1).
والعدالة لا تقتصر على الجانب الماديّ ، بل تمتدّ لتشمل الجانب الجنسي أيضاً ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : في الرجل يكون عنده امرأة فيتزوّج أخرى ، كم يجعل للتي يدخل بها ؟ قال : « ثلاثة أيام ثم يقسم » (2).
يبقى القول إنّ تحريم التعدد قد يدفع بعض الناس نحو الزنا ، وذلك أن عدد النساء في العالم يزيد على عدد الرجال ، ويزداد الفرق بينهما في العدد كلّما نشبت الحروب وحصدت رقاب عدد من الرجال فيختلّ ـ لامحالة ـ التوازن العددي بين الجنسين ، إذ سيبقى عدد من النساء بدون زواج وبالتالي عرضة للانحدار نحو مستنقع الفساد.
ويبدو أن الحروب لم تكن الدافع الوحيد الذي حمل بعض المفكرين المنصفين على القول بضرورة نظام تعدد الزوجات ، وإنما حملهم على ذلك شيوع ظاهرة اتخاذ الخليلات التي غدت ظاهرة خطيرة تثير القلق في أوساط المجتمع الغربي المعاصر ، بحيث أصبح لكلِّ رجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته في رجولته ورعايته ونفقته !
يقول شوبنهور الفيلسوف الالماني : ( لقد أصاب الشرقيون في تقريرهم لمبدأ تعدد الزوجات ؛ لأنه مبدأ تحتمه وتبرره الإنسانية ، فالعجب أن الاوربيين في الوقت الذي يستنكرون فيه هذا المبدأ يتّبعونه عملياً ، فما أحسب أن بينهم من يُنفّذ مبدأ الزوجة الواحدة على وجهه
____________
1) وسائل الشيعة 15 : 342 كتاب النكاح أبواب القسم والنشوز.
2) وسائل الشيعة 15 : 339 كتاب النكاح أبواب القسم والنشوز.
الصحيح ) (1).
ويقول جوستاف لوبون : ( إنّ تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من عدم تعدد الزوجات الريائي عند الاوربيين ، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين ) (2).
بقي علينا أن نشير إلى أن الفطرة الواقعية تستلزم حلّية التعدّد في حالات عديدة ، فعلى سبيل المثال نجد أن البعض تكون رغبته في النسل شديدة ولكنه رزق بزوجة لا تنجب لعقم أو مرض أو غيره ، أفلا يكون من غير المناسب حرمانه من رغبته المشروعة في الزواج ثانية من امرأة تحقّق له حلمه المنشود ؟!
وعليه نرى أنّ نظام تعدد الزوجات ينطوي على حلول حكيمة للعديد من المشكلات التي تعترض نظام الاُسرة ، وفيه تتجلى واقعية المنهج الإسلامي ، وصوابيته في حلّ المشكلة الجنسية من خلال الشرعية.
أما المنهج المادي فإنّه يحلّها من خلال الإباحية ، وهكذا نجد أن فرويد : ( يدعو إلى إشباع الرغبة الجنسية ، وذلك لأنّ الإنسان صاحب الطاقة الجنسية القوية ، والذي لا تسمح له النصرانية إلاّ بزوجة واحدة ، فأما أن يرفض قيود المدنية ، ويتحرر منها باشباع رغباته الجنسية ، وإما يكون ذا طبيعة ضعيفة لا يستطيع الخروج على هذه القيود فيسقط صاحبها فريسة للمرض النفسي ونهبة للعقد النفسية ) (3).
والمفارقة العجيبة أن فرويد الذي يبرر الإباحية يغفل عن التعدد الذي يحفظ
____________
1) أحكام الاُسرة في الإسلام | محمد مصطفى الشبلي : 241.
2) أحكام الاُسرة في الإسلام : 241.
3) الموسوعة الميسرة : 382.
كرامة الإنسان وحقوقه ويحافظ على إنسانيته.
رابعاً : الشمول والكمال :
لاشكّ بأنّ المنهج الإسلامي أتمّ وأكمل المناهج السماوية فضلاً عن المناهج الوضعية ، لقوله تعالى : (.. اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً.. ) (1).
ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن البشرية لم تعرف في تاريخها كلّه نظاماً للاُسرة بهذه السعة وهذا الشمول ، وقد رأينا في الفصلين السابقين كيف أولى الإسلام عناية فائقة بالاُسرة قبل التكوين وأثنائه ومن بعده ، فبيّن طريقة اختيار الزوجين وكيفية إنشاء عقد الزواج ، وطريق المعاشرة الحسنة ، وأرشد كلاًّ من الزوجين إلى ما له من حقوق وما عليه من واجبات ، ولم ينس أنه قد يثور النزاع بينهما لسبب أو آخر فوضع العلاج المتدرّج المناسب لكلِّ حالة ثم وضع الطريقة المثلى لإنهاء عقد الزواج إذا ما استحكم الخلاف ، وباءت الحياة الزوجية بالفشل.
ومما يسترعي الانتباه أن منهج الإسلام الاُسري لم يقتصر على النواحي التشريعية والاجرائية كما هو الحال في النظم الوضعية التي تعين المادة القانونية وتفرض الجزاء المناسب عند خرقها وعدم الالتزام بها ، بل إنه يتضمن مجموعة كبيرة من التعاليم الوقائية التي تساهم في تدعيم نظام الاُسرة وتحول دون انهياره.
ومن ذلك اختيار الزوج والزوجة وما يتعلق به من تعاليم وقائية رائعة لها
____________
1) سورة المائدة : 5 | 3.
بالغ الأثر في بناء الاُسرة وتشييد مقوماتها ، كقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للشباب : « إيّاكم وخضراء الدمن. قيل : يا رسول الله وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء » (1).
وفي هذا الصدد نصح الإمام الرضا عليه السلام أحد الآباء بقوله : « ... إيّاك أن تزوج شارب الخمر فان زوّجته فكأنّما قدت إلى الزنا » (2).
من جهة ثانية يتصف منهج الإسلام الاُسري بالثبات وعدم التغير وبالصلاحية لكلِّ زمان ومكان ، وبالمقابل إذا نظرنا إلى القوانين الوضعية في أصل نشأتها نجدها على الإطلاق ضيقة بحسب الجماعة التي وضعت من أجلها ثم أخذت تنمو مع الزمن ، فهي عرضة للتغير والتبديل ، ما تغير الزمن وتبدّل ، وهي تختلف باختلاف البيئة أيضاً ، فلكلّ دولةٍ الحق في وضع القانون الملائم لها ، ومن أجل ذلك لا تجد قانون دولة يصلح لدولة اُخرى.
خذ مثالاً على ذلك القانون الفرنسي : فقد قامت الثورة الفرنسية سنة ( 1789م ) لتقرير حقوق الأفراد ، نتائجها أن صدر القانون في سنة ( 1804م ) مقدراً حقوق الفرد باعتباره أهم عنصر في الحياة ، ولا يلاحظ أنه جزء من الجماعة ، فكان قانوناً فردياً ترد للفرد فيه الحرية التامة في استعماله ، وعرفت هذه الحقوق إذ ذاك بالحقوق الطبيعية للأفراد ، ولم يخالفه غيره من القوانين الغربية كثيراً في هذا المبدأ ، ولكن الذي حدث أن الفرد أساء استعمال حقوقه فألحق الأضرار بغيره.
ثم جاءت القوانين بعد ذلك تقيده شيئاً فشيئاً حتى انتهى التقييد إلى ظهور
____________
1) معاني الاخبار : 316.
2) فقه الرضا : 38.
نظرية : ( التعسّف في استعمال الحقوق ) ولمّا وصلوا إليها ظنّوها جديدة ولكنّها كانت مقررة في شريعة الله سبحانه قبل أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن (1).
أما المتتبع للمنهج الإسلامي فإنّه يلاحظ شموله لمصالح الفرد والجماعة التي تشاركه في العيش وخاصة أُسرته أقرب المقربين إليه ، فالتشريع الإسلامي يُوقف كل فرد عند حدّه إذا أساء استعمال حقوقه وألحق الضرر بغيره ، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « .. ألا وإنّ الله عزَّ وجلّ ورسوله بريئان ممّن أضرَّ بامرأة حتى تختلع منه.. » (2).
خامساً : العدل :
من مظاهر سمّو وكمال المنهج الإسلامي ، أنه يجعل العدل والقسط حجر الزاوية في توجّهاته الاجتماعية وخاصّة في مجال الاُسرة ، قال تعالى : ( يا أيُّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط ) (3) ، وقال أيضاً : ( ولايجرِمنَّكُم شنآنُ قومٍ على ألأَ تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أقربُ للتقوى ) (4).
وهكذا نجد أنّ الأحكام الشرعية المخصّصة للاُسرة تتميز بالعدل والانسانية ، ومن الشواهد على ذلك : أنّ التشريع القرآني عندما يلزم الأم بارضاع ولدها يلزم والده ـ في مقابل ذلك ـ بأجرها على الرضاعة ، ويراعي التشريع القرآني النواحي الإنسانية أيضاً حيث إنّه أكّد على حقّ الطفل في التمتع
____________
1) التشريع الإسلامي والقانون الوضعي | الدكتور شوكت محمد عليّان : 200.
2) عقاب الاعمال : 249 ـ 262 | جوامع مناهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3) سورة النساء : 4 | 135.
4) سورة المائدة : 5 | 8.
بحنان الأمومة وحق الأمّ في حضانة ولدها ، يقول تعالى : ( والوالدات يُرضعنَ أولادهُنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمَّ الرَّضاعة وعلى الموّلود له رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروف لا تكلَّف نفسٌ إلأَ وسعها لا تُضآرَّ والدة بولدها ولا مولودٌ له بولده.. ) (1).
وولاية الرجل على الاُسرة تحتّم عليه أن يلتزم العدل وإلاّ تعرض للعقوبة الإلهية القاسية.
ومن الشواهد الاُخرى التي تثبت أنّ المنهج الإسلامي يرتكز على قاعدة العدل ، هي التزامه بمبدأ « رفع الحرج » وعدم تكليف الناس ما لا يطيقون.
أما المنهج الاُسري الوضعي فلا يراعي في تشريعه العدل المطلق ، وذلك لأنّ الذين يضعون القوانين هم بشر يؤثرون العاجل على الآجل ولايمكنهم أن ينسلخوا من طباعهم ؛ ولذلك نراهم يميلون بالقوانين إلى الوجه الذي يتفق مع مصالحهم وينسجم مع أهوائهم ، وأحيانا كثيرة يشرعون القوانين الظالمة بسبب جهلهم بالعدل المطلق وقصورهم عن إدراك أبعاده.
فقد لوحظ (أنّ قوانين ـ وضعية ـ كثيرة لا تسوي في العقاب بين الرجل والمرأة عند الخيانة الزوجية ، ومن هذه القوانين القانون الفرنسي والقانون الايطالي والقانون المصري ، فهذه القوانين تحابي كلّها الرّجل في كونها تحدّ من نطاق مسؤوليته الجنائية عند خيانته الزوجية ، وتضيّق الخناق على المرأة في مسؤوليتها عن خيانتها لزوجها ، فقد فرّق القانون في هذه الدول ـ بغير مقتضي ـ بين زنا الزوجة وزنا الزوج ، فعاقب الزوجة الزانية أيّاً كان ارتكابها
____________
1) سورة البقرة : 2 | 233.
للجريمة ، ولم يعاقب الزوج إلاّ إذا ارتكب جريمته بمنزل الزوجة ، أما إذا ارتكبها في أي مكان آخر غير هذا المنزل فلا جريمة عليه ) (1).
ممّا تقدّم تبيّن لنا الفروق الجوهرية بين المنهجين الإسلامي والمادي بخصوص الاُسرة.
وهنا لابدّ من التطرق للآثار الاجتماعية والتربوية والأخلاقية التي تترتّب على المنهجين ، وتنعكس ـ سلباً أو إيجاباً ـ على الفرد أو المجتمع.
أ ـ الآثار الاجتماعية :
إنّ الاُسرة المسلمة تقوم على أسس واضحة من السكينة والمودَّة والرَّحمة ، إذ تشكّل القيم الدينية والقواعد الأخلاقية السور الوقائي لأفرادها ، فالرجل هو قائد دفّة سفينة الاُسرة وله قيمومة عليها ، بينما المرأة تضطلع بوظيفة مزدوجة ، فهي زوجة وأمّ ترضي زوجها وترعى أطفالها ، فهي البيئة الاجتماعية الاُولى التي تساهم في توفير حوائجهم وتربيتهم وتشكيل الهوية الدينية لهم وتغرس فيهم المثل الاخلاقية.
وعليه فان المنهج الإسلامي يمنح الاُسرة دوراً اجتماعياً كبيراً ، بينما نجد أنّ المنهج الغربي قد جعل دور الاُسرة هامشياً ، وقلّص من وظائفها بعد أن جعل بعض المؤسسات ودور الحضانة تحرم الطفل من حق الحضانة والتربية في محيط
____________
1) الزنا : أحكامه ، أسبابه : 165 و 51.
الاُسرة ، وتنافس الاُسرة في الاضطلاع بدورها بشكل تام.
وقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين عاشوا في مؤسسات إيوائية يتلقّون فيها اهتماماً ورعاية محدودين ، ويكون نموهم معوقاً ، كما أن التأثير الخطير لهذه البيئات يمكن أن يقلّ عند عودة هؤلاء الأطفال إلى منازلهم العادية (1).
ولا يخفى بأن الاُسرة خلية اجتماعية مصغّرة يجرّب الطفل فيها اختباراته الاجتماعية وينمو فيها حسّه الاجتماعي تجاه الآخرين ، ومن هنا نجد أن الإسلام يحرص على بقاء وتعزيز دور الاُسرة ، بينما نجد أن تهميش دورها في الغرب قد أفرز مزيداً من الظواهر الشاذة وما رافقها من انحلال وميوعة ، أسفرت عن ظهور حركات العبث واللاجدوائية كالهيبز والبيتلز... وما إلى ذلك.
ثم إنّ الحرية الغير منضبطة في الغرب قد تركت آثاراً سيئة ، وركاما من التراجع الخلقي على مستوى الفرد أو الجماعة. فقد تفشّى الزنا على نطاق واسع ، وانتشرت ظاهرة « الأطفال غير الشرعيين » ، الإجهاض وما إلى ذلك من مظاهر مرضية أخذت تشكّل هاجساً مقلقاً لعلماء الاجتماع الغربيين.
تقول الاحصاءات : ( إنّ ثلث السكان الذين يولدون في إيطاليا أولاد غير شرعيين ، وإنّ عدد حوادث الاجهاض في فرنسا سنوياً مليون حادثة ، والبعض يقول مليونان.
أي أن كلّ « 100 » ولادة يقابلها « 120 » إجهاضاً ، وقد كثرت حوادث الاجهاض في السنوات الأخيرة بسبب العلاقات الجنسية التي لم تعد تخضع إلى أي قيود ) (2).
____________
1) اُنظر : مجلة المجتمع الكويتية ، العدد 1283 ـ 8 شهر رمضان 1418 هـ.
2) دراسات معمقة : 42.
ثم إنّ الاعراض عن الزواج في الغرب ، والاكتفاء بالاتصال الجنسي بدون زواج ، قد خلق مشكلة تهدّد بقاء الاُسرة ، كما أن عمل المرأة خارج البيت وبالتالي استقلالها الاقتصادي عن الرجل قد أضعف من سلطته وقيمومته ، كما ترك عملها خارج المنزل أثراً عكسياً على تربية الأطفال والاهتمام بشؤون البيت ، ونتيجة لذلك فقد هاجم كثير من علماء الغرب عمل المرأة ، حتى أنه ( نشأت في انجلترا جمعية قوية تعمل على مقاومة اتجاه النساء إلى العمل في المصانع والشركات والمصالح الحكومية وإهمالهن البيوت ) (1).
وهكذا نجد انعطافاً اجتماعياً حاداً في أنماط السلوك الغربي نتيجة لاضعاف دور الاُسرة ، يقول بعض الباحثين الاجتماعيين : ( إننا لوعدنا إلى مجتمعنا الذي نعيش فيه فزرنا السجون ودور البغاء ومستشفيات الأمراض العقلية ، ثم دخلنا المدارس وأحصينا الراسبين من الطلاب ، ثم درسنا من نعرفهم من هؤلاء لوجدنا أن معظمهم حُرموا من الاستقرار العائلي ، ولم يجد معظمهم بيتاً هادئاً من أب يحدب عليهم وأُمّ تدرك معنى الشفقة ، وفساد البيت كان السبب في ضياع هذا الجيل الذي لايعرف هدفاً ، ولا يعرف له مستقراً ) (2).
ولم تقتصر هذه المعطيات السلبية على الاُسرة فحسب ، بل امتدّ نطاقها وانعكس على المجتمع بأسره ؛ لأنّ انحلال وفساد الجيل سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة قد تسبب هزيمة الدولة ، ركعت فرنسا تحت أقدام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية صاح « بيتان » في قومه : ( لم تريدوا أطفالاً وهجرتم حياة الاُسرة ، وانطلقتم وراء الشهوات تطلبونها في كلِّ مكان ، فانظروا إلى أي مصير
____________
1) أحكام الاُسرة في الإسلام | محمد مصطفى شلبي : 130.
2) اُنظر : النظام التربوي في الإسلام | باقر شريف القرشي : 77.
قادتكم الشهوات ) (1).
إضافة لما تقدم فقد نجم عن تفكّك الروابط العائلية في الغرب بروز «ظاهرة الاجرام» وأخذ القانون الجنائي الغربي يتعرّض لنقدٍ لاذعٍ بسبب تفاقم هذه الظاهرة تفاقماً لم تعرفه البشرية من قبل ، فقد أخذت تهدّد الأمن العام وتكلّف ميزانيات الدول الغربية مبالغ طائلة ، والأهم من ذلك حرمان هذه المجتمعات من العناصر الشابة القادرة على العمل والانتاج ، وبدلا من توسيع المعامل أخذت السلطات هناك ببناء أو توسيع السجون وزجّ آلاف الشباب وراء القضبان!
ولا سبيل إلى الانكار بأن بعض الظواهر المنحرفة كتعاطي المخدرات وبعض مظاهر الفساد قد انتشرت في بعض بلداننا الإسلامية نتيجة لابتعادها عن المنهج الإسلامي الصحيح ، وسيرها في ركاب الغرب بدعوى الحداثة والمعاصرة ومسايرة الحضارة.
ب ـ الآثار التربوية :
من المعلوم أن الهدف الأساس للتربية في الإسلام هو تأهيل الإنسان لكي يتمسّك بالقيم الدينية ، ويتحلى بالأخلاق الفاضلة ، وبالتالي يكون مسيطراً على نزواته وأهوائه النفسية من خلال أساليب تربوية عديدة، كالتوجيه ، والموعظة النافعة ، واُسلوب القدوة ، والاُسوة الحسنة ، وأسلوب القصّة ، وما إلى ذلك من أساليب تصل في نهاية المطاف إلى اُسلوب العقوبة.
والملاحظ أنّ المنهج الإسلامي لم يكتفِ بالعقوبة المجرّدة لتقويم الانحراف ، بل
____________
1) الحياة الاجتماعية في التفكير الإسلامي | د. أحمد شبلي : 29.
يبحث عن الحلول العملية الناجعة لتطويق الجريمة ، يروي الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أُتي برجل عبث بذكره ، فضرب يده حتى احمرَّت ثمّ زوّجه من بيت المال » (1).
فلم يكتف الإمام عليه السلام هنا بالعقوبة المجرّدة كاسلوب تربوي نهائي ، بل أردفها بحلّ جذري ، وضع نهاية لهذه المشكلة الجنسية.
وفي نظرة مقارنة نجد أنّ الحضارة المادية تطلق العنان للانحرافات الجنسية إلى درجة الاسفاف والابتذال وبدلاً من إيجاد الحلول العملية لإعادة الاُمور إلى نصابها الصحيح والمحافظة على كيان الاُسرة ، نلاحظ أن الدوائر الغربية قد اتخذت حلولاً تكرّس هذا الانحراف وتضفي عليه الصفة القانونية وترضخ للإمر الواقع.
على أنّ الأكثر إثارة في هذا الصدد أنّ بعض جهات الكنيسة الكاثولوكية وتمشياً مع موجة الفساد التي عصفت بالعلاقات الاُسرية ، طلبت من المدرسين أن يسقطوا كلمتي ( أب و أُمّ ) من حديث الصفّ في المدارس أثناء مناداة الطلبة ، اعترافاً بالعدد المتزايد للعائلات المتألفة من أحد الأبوين فقط بحسب صحيفة « الاندبندت ».
وأضافت الصحيفة أنه بدل ذلك يجب أن يستخدم المدرسون كلمات مثل « الراشدون الذين يعيشون في منزلك أو الناس الذين يعتنون بك » وهذه اللغة جزء من المصطلحات الجديدة التي تستخدمها الكنيسة في أحدث برامجها التربوية للأطفال الذين هم بعمر خمس سنوات.
____________
1) وسائل الشيعة 18 : 574 | كتاب الحدود والتعزيرات.
ونقلت الصحيفة عن أحد منظّمي الحملة قوله : ( في الماضي كان هناك أب وأمّ لكلِّ عائلة ، أمّا اليوم فلم نعد بحاجة لهذه الأسماء ) (1).
ونتيجة لحرمان الصبية والفتيان من أجواء العائلة الدافئة ، وبغية الهروب من الواقع أقبلوا على تناول المخدرات والمشروبات الكحولية ، ففي أمريكا بلد الحرية غير المحدودة ( أقبل الصبية الفتيان على احتساء الخمر ، وقال قضاة الأمريكيون : لم يعهد في تاريخ بلادنا هذه الكثرة الكاثرة من الصبيان المقبوض عليهم في حالة سكر ) (2).
وقد ثبت بالتجربة أن قاعدة « القدوة والاُسوة » التي تتمّ داخل الاُسرة هي أساس التربية : ( فالأطفال يأخذون بالتقليد والمحاكاة أكثر ممّا يأخذون بالنصح والارشاد ) (3).
يقول الكسيس كاريل في كتابه : « الإنسان ذلك المجهول » : ( لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبدال تدريب الاُسرة بالمدرسة استبدالاً تاماً ، وكذا ترك الاُمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن ومطامعهن ، إنهن مسؤولات عن اختفاء وحدة الاُسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار ، فيتعلم منهم أموراً كثيرة ؛ لأنّ الطفل يشكّل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبق القوالب الموجودة في محيطه ) (4).
فالمدارس التي تسير وفق المنهج الغربي لم تقدّم للناشئة الغذاء الفكري
____________
1) اُنظر : مجلة المجتمع الكويتية ، العدد 1277 ، 25 رجب 1418 هـ.
2) خصائص الشريعة الإسلامية | د. عمر سليمان : 43.
3) التربية وبناء الاجيال | أنور الجندي : 168.
4) التربية وبناء الأجيال : 171.
السليم ولم تطبعهم على السلوك القويم ، ولم توفّر لهم المناعة النفسية ضدّ الانحراف.
وبعد المدرسة تعمل وسائل الاعلام في الغرب على تشكيل وعي وثقافة الشباب فتشجّعهم على العنف والاجرام والجنس ، فهي تعلّم الحدث ـ ضمناً ـ كيف يسرق مصرفاً أو بيتاً أو كيف يقتل رجلاً ويخفي جريمته ، وكيف يتجسّس على عورات الناس ، وتعلّم الزوج ـ عملياً ـ كيف يخون زوجته وأولاده واُسرته !
ونتيجة لذلك برزت ظاهرة « عصابات الأحداث » التي أخذت تقلق الباحثين والمربين في الغرب ؛ لأن النسبة إجرامها في تصاعد مستمر ، وأسبابها كثيرة ، فإضافة لدور وسائل الاعلام ، لوحظ أن ضعف رقابة الآباء وتفكّك عرى الاُسرة نتيجة الافراط في الطلاق أو الهجر ، وكذلك رفقاء السوء ، إذ يظلّ الحدث دون موجّه ، فيتلقفه الشارع بشروره ، وفي غير هذه الحالات يلعب إدمان الآباء على الخمور والمخدّرات أقبح دور في دفع الأولاد نحو الجريمة.
وهكذا نصل إلى نتيجة يقينية هي أنّ المنهج المادي قد أفرز ظواهر سلبية انعكست على التربية ، ولم تقصر ثمارها المُرّة على الفرد ، بل امتدّت إلى المجتمع ، فهددت أمنه ومستقبل أجياله ، ومزّقت النسيج الاجتماعي الذي يربط أفراده.
جـ ـ الآثار الأخلاقية :
يتّصف المجتمع الإسلامي ـ عموماً ـ بالتماسك الاُسري بالمقارنة مع مثيله الغربي نتيجة للمناعة الذاتية التي يحصل عليها أفراده من خلال تمسّكهم بالاخلاق الحميدة التي تدفع الوالدين إلى الاحترام المتبادل وتحثّ الآباء على إحاطة أولادهم بسياج من الحماية والرعاية ، وبالمقابل تلزم الأولاد على البرِّ
والاحسان إلى الوالدين ، فتصبح الاُسرة ـ والحال هذه ـ متلاحمة كسبيكة صلبة يصعب تفكيكها.
ومن نماذج الاُسرة الكريمة المتمسكة بمكارم الأخلاق الإسلامية ، أسرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي عاش مع زوجته خديجة خمسة وعشرين عاما ، في تمام الانسجام والصفاء والحبّ المتبادل ، وبعد وفاتها لم ينفكّ يردّد ذكراها الطيبة على لسانه بين نسائه ، فالحبّ الذي يكنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة كان مبعثه نبلها ، وسموّ خلقها ، ووفاؤها ، إلى الإسلام.
وعاش الإمام علي عليه السلام مع زوجته فاطمة عليها السلام في وئام وانسجام ، ونتيجة لما عرف عنهما من نبل وسموّ أخلاقي لم ينقل لنا التاريخ أنّ خلافاً نشب بينهما على الرغم من شظف العيش ومعاناة الفقر المدقع الذي يكتنف حياتهما.
كان واضحاً من هذين النموذجين المشرقين أن السياج الاخلاقي الذي أحاط الاُسرة في النظام الإسلامي كان ومازال يدفعها نحو التماسك في أشد الظروف وأقساها.
أما المنهج المادي الذي يدير ظهره للأخلاق ، فيعرض لنا نماذج بشعة من التردّي والانحطاط على الرغم من الرفاهية وبحبوحة العيش في الغرب.
ولقد أصبحت الاُسرة لا معنى لها في الظروف الاجتماعية الحديثة في الغرب ، بعد أن ضعفت عاطفة الاُمومة ، وانحلّت الرابطة الزوجية ، حتى يمكن القول بأنّ الاُسرة يكاد يختفي رسمها وإن بقي أسمها في سجلاّت القانون.
ففي ظلِّ علاقات اجتماعية متحررة جداً ، فقدت الرابطة الزوجية قدسيتها من جراء موجة «تبادل الزوجات» التي انتشرت في أمريكا واُوربا انتشار النار في الهشيم ، من خلال نوادٍ مخصصة لذلك ،ها الرجل زوجة غيره ،
ويعطيه زوجته ! بدون وازع من دين أو خلق أو ضمير (1).
وهذا التردّي الأخلاقي لا تقتصر آثاره الضارة على الفرد ، بل تطال المجتمع أيضاً.
كتب (جيمس رستون) في صحيفة « نيويورك تايمز » محذّراً مجتمعات الغرب من اطلاق طاقة الجنس ، معتبرا أنّ خطرها قد يكون في نهاية الأمر أكبر من خطر الطاقة الذرية !
فالقوة الجنسية الهائلة لم يعد يحدّها الخوف من الجحيم ، ولا الأمراض السارية وخشية الحمل وما إلى ذلك ، وفي رأيه أن أطناناً من القنابل الجنسية تنفجر كلّ يوم ، وتترتّب عليها آثار تدعو إلى القلق ، قد تجعل الأطفال في الغرب وحوشاً ، بل قد تشوّه مجتمعات بأسرها (2).
وقد دقّ جرس الخطر أكثر من شخصية غربية ، وليس أدلّ على ذلك من تصريح زعيم أقوى دولة في العالم ( جون كندي ) في سنة 1962م : ( بأنّ مستقبل أمريكا في خطر ؛ لأنّ شبابها مائع منحلّ غارق في الشهوات ، لا يقدّر المسؤولية الملقاة على عاتقه ، وإنه من بين كلِّ سبعة شباب يتقدّمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين ؛ لأنّ الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية) (3).
هذه الصيحات كانت قبل ظهور مرض الأيدز الذي أخذ يفترس الناس هناك وينخر الكيان الحضاري ، ولم يكن الطب بعد من إيقافه عند حدّه.
____________
1) اُنظر : المرأة في التصور الإسلامي : 34.
2) الإسلام والجنس | فتحي يكن : 9 ـ 10.
3) الزنا : أحكامه ، أسبابه : 130.
هذه هي نتائج المنهج المادي الذي تنكّر للدين والأخلاق ، الفطرة بتهميشه لدور الاُسرة.
ونستلهمك التوفيق والرشاد