نكران جميل
الانتظار حالة غير مريحة ومزعجة إلى حد ما ، ما دامت في البداية ، أما إذا حدث ما أطالها أكثر فإن من حقها أن تبعث في نفس الانسان بعض الشعور باليأس ، واليأس ما هو تأثيره بالنسبة للانسان ؟ أنه ملقط حساس يفتش بين جنبات الروح عن بذور الراحة ليقتلعها ويستقصي ما تعمر به النفس من آثار السعادة فيجتثّها .
كانت وداد تعيش حالة الانتظار هذه بالنسبة لصديقتها هدى ، فهي قد وعدتها بزيارة قالت عنها أنها تود لو تكون خاصة فحددت لها ساعة بعد الغروب ، ولكن أين هي يا ترى والساعة تكاد تشير إلى التاسعة مساء ؟
كانت بعض مشاعر القلق تتسرب نحوها بين حين وحين فتتكفل تلك المشاعر باقصاء أحاسيس العتب التي بدأت تراود نفسها لطويل الانتظار فتعود لتقول لعلها معذورة أو لعلها مجبورة ، فما سبق أن أبطأت عنها من قبل . وحاولت أن تقطع فترة الانتظار في مطالعة كتاب ولكن أفكارها كانت تحرم بعيداً
عما تقرأ . هناك حول هدى والسبب الذي دعاها إلى التخلف عن الحضور ، وحدثت نفسها قائلة : ليتني كنت أتمكن أن أتصل بها ولو عن طريق التلفون ولكن ...
وعند حوالي الساعة التاسعة والنصف دق جرس الهاتف فهرعت نحوه في لهفة وكأنها عرفت أنه يحمل إليها أخباراً عن هدى ، وفعلاً فقد عرفت منه أن هدى في خير وما كان تأخرها إلا لأمر قالت عنه أنه ضروري ! وقد أجلت الزيارة إلى صباح غد .
وفي صباح اليوم الثاني لم تطل مع وداد فترة الانتظار فقد وافتها هدى في بداية الساعات الأولى من النهار فاستقبلتها بحفاوة وحرارة ، ولكن لم يفتها أن تلاحظ آثار الشحوب التي رسمت معالمها على ذلك الوجه الذي طالما تميّز باشراقته من قبل . وعندما جلستا تتحدثان افتقدت وداد من صاحبتها تلك النغمة التفاؤلية التي كانت تميزّ صوتها وتساعده على كسب استماع الآخرين .
كان صوتها حزيناً وكلماتها افتقدت آثار الحرارة وانطبعت بطابع البرودة ، وكانت تحاول أن تعطي للسكوت زمناً أكثر مما تعطيه للكلام ، فشعرت وداد بلذعة الأسى وهي تجد صديقتها على هذا الصمت الهادىء الحزين ، وهدى لم تكن بالنسبة إليها صديقة فقط ، فلطالما كانت لها مناراً في ليل داج ومشعلاً من نور في ظلام رهيب ، ولطالما هدهدت روحها
بمفاهيم وسقت جدب أفكارها بالحكمة والموعظة الحسنة ولهذا فهي بالنسبة إليها تعني الشيء الكثير . وهنا شعرت وداد أن عليها محاولة جر هدى إلى التحدث عما تعانيه ، فقالت وقد جهدت أن تبدو لهجتها طبيعية : والآن ألا تحدثينني عما أخرك عني مساء أمس يا أختاه ثم أنك كنت قد أعطيت لذلك موعداً ولم يكن من عادتك خلف الوعد ؛ فصدرت عن هدى شبه آهة ثم قالت : لقد أصبحت غير قادرة على إنجاز الوعد في بعض الأحيان . وشعرت وداد أنها تتمكن أن تنفذ من هذه الثغرة إلى معرفة ما تعيشه هدى من آلام نفسية فتابعت تقول : ولكن هذه حالة غير خاصة بك يا هدى فقد يضطر الانسان إلى خلف الوعد في بعض الحالات ولأجل بعض الضرورات . قالت هدى : ولكن تتابع الضرورات في حياة الانسان تجعله .. قالت هذا ثم سكتت وأطرقت وكأنها لم تعرف كيف تكمل جملتها . ولاحظت وداد أن هناك قطرة من دمع سقطت على يد هدى التي كانت مستقرة في حجرها ، فهالها الأمر ! فلم تكن هدى تملك ذلك المدمع المعطاء الذي يذرف قطراته لكل مناسبة ولم تكن دموعها لتعتصر إلا لأمر عظيم ، فاندفعت تقول في شبه حشرجة : آه أتبكين يا أختاه وما عهدتك باكية قبل اليوم ؟ ما أثمن هذه الدمعة التي ذرفتها عيناك فلماذا لا تحتفظي بها لتذرف في سبيل الله ؟ فانتفضت هدى وكأن هذه الجملة الأخيرة قد أصابت لديها وتراً حساساً ورفعت رأسها وهي تقول : أو تظنين أن ألمي ودموعي ليست
من أجل الله يا وداد ؟ أنها من أجل الله وفي سبيل الله ولهذا فأنني جد حزينة في أيامي هذه يا أختاه . قالت وداد : ولماذا الحزن يا هدى ما دمت واثقة من سيرك في طريق الحق ؟ ألا تتكفل هذه الثقة بأن تهبك السعادة والرضا ؟ أليس أن في شعور الانسان وهو يحث الخطا نحو لقاء نبيه (ص) أبيض الوجه قد حفظ بعده الأمانة وأدى ما عليه من حقوق تجاه دينه ما يبعث في نفسه الغبطة ويملي عليه الفرحة ؟ هذا الانسان الذي يكاد يسمع صوت نبيه يقول : ( أنني اليهم لمشتاق ) . كم سيكون هانئا سعيدا لو سار في طريق يبل به شوق نبيه إليه ؟ قالت هدى : ولكن هذا هو ما يحزنني يا وداد فلقد أصبحت أخشى أن أقف في منتصف الطريق فلا أتمكن أن أمثل بين يدي الرسول (ص) ومعي صحيفة عمل قشيع على صفحة وجهه الكريم إشراقة نور ورضاء . قالت وداد : أو يكون ذلك بتقصير منك يا هدى ؟ فهزت هدى رأسها في تأكيد وقالت : لا ، أبداً ، أنني لا أتعمد التقصير في سبيل ديني ولا أتسبب في إهمال جانب من جوانب العمل لأجله ما وسعني ذلك ولكن قد أكون مجبورة . قالت وداد بلهجة من يعرف الجواب مسبقاً : وهل تجبرين على معصيته ؟ فابتسمت هدى ابتسامة حزينة وقالت : لا ، فلو تضامنت الدنيا ومن فيها لأجل أن تفرض عليّ معصيته لما نجحت . فأجابت وداد ابتسامة هدى بابتسامة مثلها وقالت : إذن ؟ قالت : ولكن تمر بي مواقف أفتقد خلالها إمكانية التوسع في الطاعة وأضطر إلى
بعض الجمود عن السمو نحو الكمال ، فأنا يا أختاه أصبحت أحس بشعور لم أكن لأستشعره من قبل ألا وهو شعور اليأس ! وهنا تساءلت وداد في لهفة : يأس ؟ ولماذا اليأس يا هدى ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فكفكفت هدى دمعة جديدة قبل أن تسقط وقالت ليس يأسي من روح الله يا وداد ولكنه في نفسي فأنا عندما أصادف ممن حولي بوادر جفاء أو ألمس منهم بعض علامات النكران للجميل أوعز ذلك إلى قصور في شخصي أو ضآلة في طبيعة عطائي وأسلوب تعايشي وتعاملي على صعيد الايمان . فأشعر بالأسى يمزق صدري وأقف موقف الحيرة فلا أعود أعرف كيف أتصرف . فلا أنا أعرف مواطن تقصيري فأصلحها وأعتذر ولا أنا أتمكن أن أبريء نفسي واحمل الآخرين المسؤولية فأنصح وأوجه ، كانت وداد تستمع في اهتمام بالغ ولما سكتت هدى بادرتها بالسؤال قائلة : والآن هل حدث شيء جديد ؟ قالت : حدث أو لم يحدث المهم أن هذه الحالات عندما أخذت تلوح على مسرح حياتي بشكل متعاقب أصبحت تهدد روحياتي بالخطر ، قالت وداد : ولكن هناك في حياة المؤمن بعض الخطوط العريضة التي ترسم له طريقه في نوعية العطاء دينياً وأخلاقياً واجتماعياً فما دمت يا أختاه واثقة من أنك لم تنحرفي عن هذه الخطوط فلا يجدر بك أن تتركي لليأس إليك سبيلا . راجعي نفسك وحاسبيها وفتشي بين ثناياها عن مواطن الضعف والخطأ فأن وجدت منهما شيئا فحاولي أن
تجري لها عملية تنظيف ومسح كامل ولكن بدون يأس فإن الانسان المؤمن يسعى خلال حياته وراء هدف خير . وهذا الهدف لا يتحقق إلا بعد تربية النفس تربية صالحة ولعل هذه الحملة الاصلاحية سوف تضاعف من نضوج عطائك وبلورته أكثر وأكثر لأنه سوف يأتي نتيجة تجارب عديدة وممارسة طويلة فتحقق نتائجه بشكل أكثر سهولة وأقل مؤونة وأوسع نجاحاً . قالت هدى ولكنني فتشت بين ثنايا نفسي فلم أجد ما يؤخذ عليها ومع ذلك فقد عدت لأقول أن نفسي لتخادعني بذلك وهل يتمكن الانسان أن يكتشف عيوبه بنفسه ولهذا ترين أنني لجأت إليك تطبيقاً لقاعدة أن المؤمن مرآة أخيه المؤمن لتكشفي لي عما لعله يعشعش في روحي من أخطاء . قالت وداد : أنت يا هدى وكما عرفتك دائما لست ممن تسمح للأخطاء أن تجد إليها سبيلا ثم أنني ومع متابعتي لحركاتك في المجتمع لم ألاحظ عليك أي نقطة قد تدفعك إلى اليأس . أنك تستمتعين بروحيات مثالية و ... وهنا قطعت هدى كلمات وداد قائلة أرجوك يا وداد أنا لم أقدم إليك لأستمع منك إلى كلمات المديح والإطراء . لا يا عزيزتي أنني أريد النصيحة فقط ، فابتسمت وداد لهذه المقاطعة وقالت : أنني شخصياً لم أجد في سلوكك ما يؤخذ عليه وأنت أيضا وكما قلت قبل قليل لم تجدي ما يمكن أن يدينك . إذن فنصيحتي إليك أن تسيري في دروب الهدى تغرسي في كل تربة بذرة وتزرعي في كل روض زهرة وتنيري على كل
منعطف شمعة وإذا كان هناك من يشك في سلامة البذرة أو لا يستسيغ منظر الزهرة فإن ما ينبت عن البذرة وما يفوح من أريج الزهرة لكفيلان بجذبه إليهما من جديد بعد أن يثبتا وجودهما بشكل لا يقبل الجدل وهذا في الواقع هو الجانب المهم في حياة الانسان المؤمن إذ أنه بطبيعة وجوده عطاء ، والعطاء إذا كان خيراً فهو لا يهدف إلا إلى تحقيق غاية تقربه من رضاء الله ورضوانه ، فما دام يضع هذه الغاية كهدف له في الحياة لا يعود هناك أمر من الأمور يحول بينه وبين الانطلاق حتماً ولو لم يجد إنساناً واحداً يستجيب إليه . ثم أنني لا أكاد اعترف بشيء اسمه ( نكران الجميل ) ما دام الجميل من أجل الله وفي سبيل الله والله تبارك وتعالى لا تضيع عنده الأعمال ولا تشتبه عليه الأقوال وهو يجزي على الحسنة بعشر أمثالها . وهذا الشعور ، شعور الانسان أن أعماله لا تطلب التثمين إلا من الله عز وجل وحده ، هذا الشعور هو الذي يعلمه أن لا يزهد في فعل الخير مهما كانت ردود الفعل التي يجابهها ما دام واثقاً من تحقق الغاية الحقيقية وهي رضاء الله عز وجل : كانت وداد تتكلم وهدى تستمع في هدوء ثم سكتت وداد فترة لتجد آثار كلماتها على هدى فلاحظت علامات التفهم والرضا تلوح واضحة على محياها فشجعها ذلك لكي تسترسل في حديثها فقالت : لا تدعي هذه النظرة القاتمة تلون حياتك وأيامك وأنت ملء الوجود والحياة والمجتمع ، أنت هدى بكمالها وإيمانها وجهادها وصبرها
وعملها فلا تزهدي في نفسك يا أختاه ، أنت محط آمال ومنتجع أحلام فعيشي هذا مع نفسك أيضاً ، أنت يا أختاه شعلة إيمان وانطلاقة عمل وميدان جهاد فلا تجعلي النور ينحسر والعمل يتضاءل والجهاد يلقي السلاح ، أبعدي المنظار القاتم عن عينيك فأنهما خلقتا للتأمل والنظر البعيد والتطلع المشرق . كوني مرتاحة ما دمت واثقة من نفسك ولكن لا تهملي محاسبتها بين حين وحين لكي يمكنك ذلك من التحكم بزمامها والتعرف على واقعها الذي تعيشه ، وهنا سكتت وداد تنتظر الجواب ، وبعد فترة صمت قصيرة انبعث صوت هدى يقول في نبرة رصينة : ما أراك إلا وقد كشفت أمامي واقعاً كانت السحب السوداء تكاد أن تحجبه عني أو تحجبني عنه ! وهو أننا بوجودنا وأعمالنا وتصرفاتنا نتجه إلى نقطة واحدة هي رضاء الله ، فما دمنا لا نجد في أنفسنا ما يشير إلى انحرافنا عن تلك النقطة وذلك الهدف فإن علينا أن نمضي في سيرنا دون أن يعيقنا تصاعد غبار أو تناثر أشواك ولسان حالنا يردد قائلاً :
كل عذاب فيك مستعذب * ما لم يكن سخطك والنار