نداء الضمير

البريد الإلكتروني طباعة


نداء الضمير

جلست رواء أمام جهاز ( التلفاز ) تنتظر ابتداء البرامج في شيء من اللهفة ، ولكن عندما ابتدأت البرامج أنكرت من نفسها أشياء كثيرة ، فهي متجهة إلى التلفاز بسمعها وبصرها ولكن فكرها كان شارداً لا يريد أن يتجاوب معها كعادته من قبل ، ونفسها كانت تجدها قلقة تفتقد الدعة والاستقرار. وقلبها يأبى أن يخفق لكل نغمة أو يرتجف لكل إثارة . وتململت في جلستها وكأنها تريد أن تقاوم هذا النفار الذي تعانيه في نفسها .
حدثت نفسها قائلة : لقد كانت تلك كلمات قصار ومع هذا فقد كدرت عليّ صفو سهرتي ، ولكن لا ، فأي شيء يهمني منها . وبشكل لا اختياري أشارت بيدها إشارة وكأنها تبعد عنها شبحاً غير مرغوب فيه ، وحاولت أن تجمع شتات أفكارها من جديد ، ولم تمض فترة حتى أحست رواء أنها لم تعد تتمكن من متابعة البرامج التي أمامها . كانت هناك كلمات تنبعث من قرارة نفسها وتنطلق من عقلها الباطن ، كلمات سمعتها وظنتها عابرة ولكنها الآن تجد أنها قد تركت وراءها أثرا وقد علق في فكرها من معانيها جذور.


( 278 )


كانت تستمع إلى اللحن الذي أمامها وهناك صوت للضمير يهتف بها من الأعماق قائلا : أنه الضياع . أنه الضعف . عندما يسلم الانسان أفكاره وعواطفه إلى لحن يتلاعب بروحياته وأفكاره كما يشاء ، أن الكلمة ينبغي لها أن تهز الآخرين لا أن يهتز متكلمها ويركع لها ويسجد ، لها أن تهز الآخرين لا أن يهتز متكلمها ويركع لها ويسجد ، أن الكلمة الناجحة هي التي ترتفع بصاحبها لا أن يرفع لها قائلها رجليه أو يهز لروعتها منكبيه .
وخامرها السخط على هذا النداء الذي انبعث ليشوش عليها أفكارها . أنكرت على نفسها هذا الشرود . قالت في سرها أنها كلمات فردوس هذه التي لا تزال ترن في أذني وتلح عليّ في إصرار ، فما لي ولفردوس ، وما هي إلا انسانة عابرة في حياتي . ولكن هذه الألحان ، وهذه الرقصات هي ما درجت عليه منذ الطفولة .
وغيرت مكانها وكأنها تحاول بذلك أن تبدأ نشاطاً جديداً ، وتقربت من الجهاز أكثر فأكثر . وحاولت أن تزكز ، فما راعها إلا دموعها تنهمر لأن المقطع كان حزيناً ، فرفعت يدها لتكفكف بها قطرات الدمع وإذا بها تستمع إلى نداء الضمير وهو يقول لها من جديد : يا له من ضعف . يا له من انقياد كامل . قبل دقائق كنت أضحك لأسباب وهمية . كان الطرب يكاد أن يطير بي على جناحيه ، والآن ما الذي تعنيه هذه الدموع ؟ أية حقيقية قد أطلقتها ولماذا ؟ لا لشيء لأسباب وهمية أيضاً . فهل تراني أصبحت أعيش في عالم الخيال ؟ أو هل أن ما أحسه هو حالة ( الماخولية ) أنه نوع من المرض يصور لصاحبه أحداثاً لم تقع ، فتجده يضحك تارة ويبكي أخرى وهو سادر في عالمه الخاص ؟.


( 279 )


وراجعت نفسها من أين انبعث هذا النداء ؟ ولم تكن روحها لتطلقه من قبل . آه أنه صدى لكلمات فردوس عندما كانت تتحدث ، ولكن أتراها لم تكن قد سمعت حديثاً من قبل هذا الحديث ؟ فما الذي جعلها تعيش كلماته دون باقي الكلمات ؟ لأنه كان صادقاً مخلصاً هادئاً محبباً . ولكن ها هي الأغنية تكاد تنتهي وهي منصرفة إلى متابعة صراع نفسها الرهيب إذن فلتحاول أن تنفي عن فكرها كلمات فردوس بشكل نهائي قبل أن يفوت الأوان . وتقربت من الجهاز أكثر في تصميم وإصرار ، وهنا شعرت أن كلمة واحدة بقيت تلح على فكرها في تأكيد : حرام . حرام . نعم أنه حرام . لقد قالت فردوس أنه حرام والحرام يعني العصيان والعصيان يعني العقاب . والعقاب ماذا يعني يا ترى ؟ النار . نعم النار . وتمثلت لها النار بلهيبها وزفيرها ، وتذكرت ما قالته فردوس ، لقد قالت : أن الانسان يوقد لنفسها النار في حياته ( وقودها الناس والحجارة ) إذن فهي مع استماعها لكل لحن تشعل لها أواراً جديداً من نار في انتظار ذهابها إلى هناك . وهي لا تعلم متى سوف تذهب ، لعلها بعد دقيقة أو بعد سنة أو لعلها بعد عشرات من السنين ، ولكنها النار على كل حال من الأحوال . تذكرت يوم احترق أصبعها من لهيب المدفأة . لكم آلمها ذلك مع وجود العديد من وسائل العلاج . ولكن هناك ما هي وسائل العلاج يا ترى ؟ لقد قالت فردوس أن الماء عند أهل النار من غسلين . آه أنها النار . وهنا وقفت وهي تتمتم قائلة : النار . النار . النار .
وانسحبت إلى غرفتها في صمت ، وسمعت وراءها ضحكات


( 280 )


السخرية والاستهزاء ، فرددت تقول : العار ولا النار . ولكنها سمعت نداء ضميرها يرد عليها في رفق قائلاً : ولكن أي عار هو هذا ؟ أنه الوعي الحقيقي والتأمين للمستقبل . أن العار هو يفرط الانسان بنعيم دائم من أجل لذة وقتية وهمية . إن ذلك يعني النظر القصير والفكر المحدود والضعف أمام الشهوات . نعم أن ذلك هو العار ؛ هكذا قالت فردوس أمس وهكذا سوف تقول هي بعد اليوم .