نداء الضمير
جلست رواء أمام جهاز ( التلفاز ) تنتظر ابتداء البرامج في شيء من اللهفة ، ولكن عندما ابتدأت البرامج أنكرت من نفسها أشياء كثيرة ، فهي متجهة إلى التلفاز بسمعها وبصرها ولكن فكرها كان شارداً لا يريد أن يتجاوب معها كعادته من قبل ، ونفسها كانت تجدها قلقة تفتقد الدعة والاستقرار. وقلبها يأبى أن يخفق لكل نغمة أو يرتجف لكل إثارة . وتململت في جلستها وكأنها تريد أن تقاوم هذا النفار الذي تعانيه في نفسها .
حدثت نفسها قائلة : لقد كانت تلك كلمات قصار ومع هذا فقد كدرت عليّ صفو سهرتي ، ولكن لا ، فأي شيء يهمني منها . وبشكل لا اختياري أشارت بيدها إشارة وكأنها تبعد عنها شبحاً غير مرغوب فيه ، وحاولت أن تجمع شتات أفكارها من جديد ، ولم تمض فترة حتى أحست رواء أنها لم تعد تتمكن من متابعة البرامج التي أمامها . كانت هناك كلمات تنبعث من قرارة نفسها وتنطلق من عقلها الباطن ، كلمات سمعتها وظنتها عابرة ولكنها الآن تجد أنها قد تركت وراءها أثرا وقد علق في فكرها من معانيها جذور.
كانت تستمع إلى اللحن الذي أمامها وهناك صوت للضمير يهتف بها من الأعماق قائلا : أنه الضياع . أنه الضعف . عندما يسلم الانسان أفكاره وعواطفه إلى لحن يتلاعب بروحياته وأفكاره كما يشاء ، أن الكلمة ينبغي لها أن تهز الآخرين لا أن يهتز متكلمها ويركع لها ويسجد ، لها أن تهز الآخرين لا أن يهتز متكلمها ويركع لها ويسجد ، أن الكلمة الناجحة هي التي ترتفع بصاحبها لا أن يرفع لها قائلها رجليه أو يهز لروعتها منكبيه .
وخامرها السخط على هذا النداء الذي انبعث ليشوش عليها أفكارها . أنكرت على نفسها هذا الشرود . قالت في سرها أنها كلمات فردوس هذه التي لا تزال ترن في أذني وتلح عليّ في إصرار ، فما لي ولفردوس ، وما هي إلا انسانة عابرة في حياتي . ولكن هذه الألحان ، وهذه الرقصات هي ما درجت عليه منذ الطفولة .
وغيرت مكانها وكأنها تحاول بذلك أن تبدأ نشاطاً جديداً ، وتقربت من الجهاز أكثر فأكثر . وحاولت أن تزكز ، فما راعها إلا دموعها تنهمر لأن المقطع كان حزيناً ، فرفعت يدها لتكفكف بها قطرات الدمع وإذا بها تستمع إلى نداء الضمير وهو يقول لها من جديد : يا له من ضعف . يا له من انقياد كامل . قبل دقائق كنت أضحك لأسباب وهمية . كان الطرب يكاد أن يطير بي على جناحيه ، والآن ما الذي تعنيه هذه الدموع ؟ أية حقيقية قد أطلقتها ولماذا ؟ لا لشيء لأسباب وهمية أيضاً . فهل تراني أصبحت أعيش في عالم الخيال ؟ أو هل أن ما أحسه هو حالة ( الماخولية ) أنه نوع من المرض يصور لصاحبه أحداثاً لم تقع ، فتجده يضحك تارة ويبكي أخرى وهو سادر في عالمه الخاص ؟.
وراجعت نفسها من أين انبعث هذا النداء ؟ ولم تكن روحها لتطلقه من قبل . آه أنه صدى لكلمات فردوس عندما كانت تتحدث ، ولكن أتراها لم تكن قد سمعت حديثاً من قبل هذا الحديث ؟ فما الذي جعلها تعيش كلماته دون باقي الكلمات ؟ لأنه كان صادقاً مخلصاً هادئاً محبباً . ولكن ها هي الأغنية تكاد تنتهي وهي منصرفة إلى متابعة صراع نفسها الرهيب إذن فلتحاول أن تنفي عن فكرها كلمات فردوس بشكل نهائي قبل أن يفوت الأوان . وتقربت من الجهاز أكثر في تصميم وإصرار ، وهنا شعرت أن كلمة واحدة بقيت تلح على فكرها في تأكيد : حرام . حرام . نعم أنه حرام . لقد قالت فردوس أنه حرام والحرام يعني العصيان والعصيان يعني العقاب . والعقاب ماذا يعني يا ترى ؟ النار . نعم النار . وتمثلت لها النار بلهيبها وزفيرها ، وتذكرت ما قالته فردوس ، لقد قالت : أن الانسان يوقد لنفسها النار في حياته ( وقودها الناس والحجارة ) إذن فهي مع استماعها لكل لحن تشعل لها أواراً جديداً من نار في انتظار ذهابها إلى هناك . وهي لا تعلم متى سوف تذهب ، لعلها بعد دقيقة أو بعد سنة أو لعلها بعد عشرات من السنين ، ولكنها النار على كل حال من الأحوال . تذكرت يوم احترق أصبعها من لهيب المدفأة . لكم آلمها ذلك مع وجود العديد من وسائل العلاج . ولكن هناك ما هي وسائل العلاج يا ترى ؟ لقد قالت فردوس أن الماء عند أهل النار من غسلين . آه أنها النار . وهنا وقفت وهي تتمتم قائلة : النار . النار . النار .
وانسحبت إلى غرفتها في صمت ، وسمعت وراءها ضحكات
السخرية والاستهزاء ، فرددت تقول : العار ولا النار . ولكنها سمعت نداء ضميرها يرد عليها في رفق قائلاً : ولكن أي عار هو هذا ؟ أنه الوعي الحقيقي والتأمين للمستقبل . أن العار هو يفرط الانسان بنعيم دائم من أجل لذة وقتية وهمية . إن ذلك يعني النظر القصير والفكر المحدود والضعف أمام الشهوات . نعم أن ذلك هو العار ؛ هكذا قالت فردوس أمس وهكذا سوف تقول هي بعد اليوم .