الخالة الضائعة

البريد الإلكتروني طباعة


الخالة الضائعة

 


( 210 )

 


( 211 )

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الناشر

المرأة ـ الجزء الثاني من إنسان الأرض : لها وضعها الخاص ، ونفسيتها الخاصة ، وطريقتها ، وذوقها .
وهي في كل ذلك تمثل الوجه الآخر للحياة . وواضح أن على الانسان أن يعرف « وجهي » الحقيقة حتى يستطيع أن يحكم بصدق ، وينمي الحياة بشكل طبيعي ، ويضمن الاستقرار والبقاء للجنس البشري.
ومن الخطأ أن ننظر إلى جانب واحد من المرأة كأن ننظر إلى هيكلها الذي قد لا يختلف كثيراً عن هيكل الرجل كما أن من الخطأ أن ننظر إلى جانب واحد من جوانب الرجل .
إن الحضارة المادية سقطت في قاع الفساد والفوضى عندما نظرت إلى جانب واحد من المرأة فوقعت بسبب هذه النظرة الضيقة في متاهة التناقض فهي في نفس الوقت الذي تحمل المرأة مسؤولية الأمومة ، والرضاعة ، وما إلى ذلك ، في نفس الوقت حملتها مسؤوليات الرجال ، فأصبح الرجل


( 212 )


يتملّص عن مسؤولياته ، بينما تحملت المرأة ـ بالاضافة إلى مسؤولياتها الطبيعية ـ بعضاً من واجبات الرجل .
أما الاسلام فهو ينظر إلى « كل » المرأة ولذلك يضعها في مكانها الطبيعي ، فلا يحيف بها ، ولا يحملها أكثر من طاقتها .
ولكي نفهم شمولية النظرة الاسلامية إلى المرأة ، فعلينا أن نطالع هذا الكتاب فهو أحسن كتاب يمكن ان يعالج موضوع المرأة ، لأنه صادر من المرأة ذاتها ... فليس الكلام صادراً « بالنيابة » وإنما هو كلام أصيل ...
فمؤلفة الكتاب « بنت الهدى » صاحبة فكر ثاقب ، وفهم موضوعي وقد استهوت جماهير النساء والفتيات بكتاباتها الشيقة .
نرجو من طبع هذا الكتاب الجديد لها أن نكون قد قدمنا خدمة ـ ولو بسيطة للمرأة في هذا العصر .

دار التعارف للمطبوعات


( 213 )

 

الخالة الضائعة


كانت خديجة جالسة تستمع إلى خالتها تتحدث مع أمها بصوت يتهدج من البكاء وهي تقول ، وهكذا ترين كيف ذهبت أتعابي معهم هباء وكيف أنهم تجاهلوا الليالي التي سهرتها والآلام التي تحملتها والتضحيات التي قدمتها ، أما والله لقد بعت آخر حلية لي في سبيل إرسال بشرى إلى الخارج من أجل إكمال دراستها بعد أن لم تقبل هنا في الجامعة وقد رهنت بيتي مرتين من أجل أن يصبح ولدي هشام دكتوراً ملء السمع والبصر أتذكرين كيف أنني بعت فرش بيتي في سبيل أن أحقق رغبة بشرى في شراء جهاز التلفزيون ؟ ولكن الآن ، هل تراهما يذكران شيئا من ذلك ؟ أبداً لقد أقصاني هشام عن بيته لأن زوجته تستقبل من الزائرات طبقة لا يروقها وجودي بينهن ولأنها تريد أن تكون حرة في بيتها تتصرف به كما تشاء دون أن يكون عليها رقيب . وظننت أن لي في بيت بشرى ملجأ ألوذ به أو ليست هي ابنتي الوحيدة التي كنت أدنو اليها بمزيد من الأمل


( 214 )


والرجاء ؟ أو لست أنا التي فتحت لها أبواب الحياة وجعلتها تنطلق متحررة من كل قيد فهل تعلمين كيف كان مقامي عندها ؟ لقد أخذت تعاملني كخادمة أنظف لها بيتها وأربي لها أطفالها بينما تنتقل هي مع زوجتها بين المسارح ودور السينما والنوادي . وأمس تأخرت حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وكان طفلها يبكي بشكل مستمر وقد عجزت عن إسكاته بأي ثمن . وعندما عادت كنت غير مرتاحة ولأول مرة أظهرت لها تبرمي لهذا الوضع وبأن من الواجب عليها أن تعرف بأن مقامي في بيتها هو مقام أم ولست خادمة أو مربية أطفال فهل تعلمين ماذا كان جوابها ؟ آه أن قلبي ليتمزق ألماً حينما أذكره لقد قالت لي وبكل صفاقة أنك تتكلمين وتنسين أن بيتي هو الذي تكفل بإعالتك وإعاشتك ثم لا تنسي أيضاً بأنني كنت ولا أزال حرة وأنني غير مستعدة أن أُقيد نفسي من أجلك أو من أجل طفلي . وهنا لم تتمكن الخالة من الاسترسال في حديثها وأخذت تجهش في بكاء مرٍ حزين . فنهضت خديجة وقدمت إلى خالتها كأساً من ماء بارد وحاولت هي وأمها أن تخففا عنها حتى سكن جأشها إلى حد ما وعند ذلك انبرت خديجة لتقول : إن مما يؤسف له أن تكون تضحياتك التي ذكرتها هي التي حدت به إلى هذا الموقف العصبي يا خالة . أنك كنت تسيرين في طريق خيّل لك أنه من صالح ولديك وصالحك معهما وقد صور لك الوهم أن سعادة ابنتك منوطة بأن تكون حرة فعملت على ذلك وكانت


( 215 )


النتيجة أنها تحررت من كل شيء ، حتى من حقوق الأمومة والبنوة ، ساعدتها أن تتنكر لدينها فخلعت عنها الحجاب وجهلت أن ذلك يؤدي لأن تتنكر لك بالنتيجة ، هيأت لها مجالات اللهو التي تشغلها عن أداء واجبها نحو ربها فشغلها ذلك حتى عنك وعن مراعاة مقامك الذي رفعك الله عز وجل إليه أنت حينما سمحت لها أن تنسى الآية المباركة التي تقول : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) والآية التي تقول : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) والآية التي تقول : ( وَلْيضربن بخمرهن على جيوبهن ) . كان عليك أن تعرفي مسبقاً أن هذا السماح يستدعي نسيانها للآية التي تقول : ( تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما واخفض جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) . إن النتائج يا خالتي كانت متوقعة وغير مستغربة أبداً فشتان بين من يسهر ليلة أمام أفلام الخلاعة والمجون وبين من يسهره يقرأ في كتاب يقول له ، ومن نظر إلى والديه نظرة ماقت فقد عقّهما ـ ويقول أيضاً ـ الجنة تحت أقدام الأمهات أنك يا خالتي بعت آخر حلية من حليّك لترسلي بشرى إلى الخارج لكي تحوز على شهادة ولكن فاتك أن سفرتها تلك لم تكن لتهيأ لها شهادة فقط ولكنها كانت كفيلة باجتثاث آخر غرسة صالحة مما لعلها كانت تختفي بين ثنايا نفسها وتعيدها إليك صورة مجردة عن


( 216 )


الحس والعاطفة ، وهنا أخذت الخالة نَفَساً عميقاً وكأنه حسرة وندم مرير وقالت : آه ما أصدقك فيما تقولين يا خديجة نعم أن الذنب ذنبي منذ البداية ولكنها غلطة تعرفت على نتائجها بعد فوات الأوان ، كنت أُصدق زوجي رحمه الله وأنا أسمعه يوصيني قائلاً : إياك أن تنشئي أولادي نشأة معقدة كنشأة خديجة ومحمد ، كان يهول لي نتائج ذلك بشكل جعلني أتمسك بفكرته حتى بعد موته ولكنني الآن أجد أنني كنت أسير خلف سراب فليس هناك من هو أسعد من أمك بك وبأخيك ، قالت خديجة معقبة على كلام خالتها ، وبزوجة أخي وزوجي أيضاً ، قالت الخالة طبعاً لأن زوجك ابن خالتك يا خديجة ، قالت خديجة لا ولكن لأننا أحسنا الإختيار ووفقنا إلى من يشدنا إلى أمنا أكثر فأكثر ، قالت الخالة في نبرة ندم صادق ليتني كنت قد اخترت لبشرى زوجاً صالحاً يخفف من حدة طيشها الأهوج ولم أدعها تقع في حبائل هذا الزوج المقامر السكير ، فابتسمت خديجة ابتسامة حزينة وتساءلت ، إذن ما الذي غركما منه يا خالة ؟ قالت أنه المال والثراء الذي كان يعيشه يا خديجة ، أن سيادته هي التي أخذت كلمة الموافقة من خديجة والمهر الذي قدمه هو الذي جعلني أسكت على مضض وليس لشخصه أي دخل في الموضوع ، قالت خديجة ما أحلى صراحتك هذه يا خالة ولكن من المؤسف أن تكون قد جاءت متأخرة وعلى كل حال فإن الله تبارك وتعالى سوف


( 217 )


د لن يدعك في حيرة وخاصة بعد أن تعرّفت على مواطن الخطأ في سلوكك الماضي .

***


قضت الخالة أسبوعاً كاملاً في بيت أختها جرت خلاله مع ابنها وابنتها بعض المفاوضات لم تكلّل بالنجاح وكانت النتائج سلبية بشكل عميق جداً ، ولهذا فقد عرضت عليها أختها أن تبقى معها ولكن البيت كان صغيراً ولا يسع لوافد جديد وخصوصاً مع وجود ابنها وزوجته وأطفاله ، ولهذا فقد امتنعت الخالة عن قبول هذا العرض وباتت ليلتها الأخيرة بعد أن علمت أن لا مقام لها في بيت ولديها ، باتت تلك الليلة وهي من أمرها في همّ عظيم لا يعلمه إلا الله ، وعند الصباح وبينما كانت تقرأ ما تحفظ من سور القرآن الكريم دخلت خديجة عليها الغرفة ومعها زوجها محسن وأقبلت الأم بعد ذلك أيضاً ، وبعد تبادل التحية قالت خديجة : لقد جئنا أنا ومحسن في حاجة اليك يا خالة ونحن نرجو أن لا تردينا خائبين . قالت الخالة : إن حاجتكما على العين والرأس يا عزيزيّ ولكن أتراني أتمكن أن أنجز لكما حاجة وأنا على ما عليه من ضيعة ؟ قالت خديجة : ولكنك قادرة على تحقيق ما نطلب ثم أنك لست ضائعة ما دام الله معك يا خالة وما دمنا نحن نحيطك ونحرسك بقولبنا وأرواحنا ، والآن هل تعلمين ماذا نريد منك ؟ أننا نطلب منك الإنتقال إلى بيتنا فنحن


( 218 )


وحدنا هناك وسوف يكون مقامك بيننا كأحسن أم وأعز خالة كما أوصى بذلك الرسول (ص) في قوله لأحد المسلمين : ( ألك أمّ حيّة ؟ قال : لا . قال : أفلك خالة حيّة ؟ قال : نعم . قال : فابررها فأنها بمنزلة الأم ) (1).
فأشرق وجه الخالة ولاح على جبينها بارق من سعادة ولكنها فكرت قليلاً ثم قالت : ولكن ذلك قد يثقل عليكما وقد يحد من حريتكما . وهنا تكلم محسن فقال : أرجوك أن لا تفكري بشيء من هذا يا خالة فأنا قد حرمت حنان الأم منذ الطفولة وافتقدت ذلك الصدر الحنون ولعل الله عز وجل أراد أن يعوضني عن ذلك بوجودك في بيتي وسوف نضع المشتمل الصغير الذي في الحديقة تحت اختيارك ولك حتى أن ترفضي استقبالنا فيه وقد فرشناه لك بشكل نرجو أن يرضيك يا خالتي وسوف تتمكنين أن تستضيفي إليك ابنك أو ابنتك متى شئت أيضاً . وهنا التفتت الخالة إلى أختها وكأنها تستشيرها في الأمر ، فابتسمت أختها مشجعة وقالت : ما أراهما إلا مجدين في كلامهما ورغبتهما وأن من أسباب راحتي أيضاً أن أطمئن على خديجة بقربك منها .

***


مضت الشهور والخالة تنعم في راحة لم يسبق لها أن
____________
(1) باب 58 من أبواب أحكام الأولاد ( الوسائل ).


( 219 )


مرت بها من قبل ولم تستشعر في لحظة أنها غريبة عن أهل الدار ، وكانت خديجة تستدعيها عند استقبال زائراتها وتستصحبها معها في بعض الزيارات ، الشيء الذي جعلها تكتسب بعض المعلومات الدينية التي زادت من نقمتها على انحراف ولديها وعقوقهما ، وكانت تقارن بين سعادة خديجة الزوجية والتعاطف الروحي الموجود بينها وبين زوجها وبين القلق الذي تعيشه بشرى مع زوجها والمخاصمات العديدة التي كانت تنشأ بينهما نتيجة الشك والغيرة وحب الذات والرغبة في الاستقلال ، وكانت تعترف بعد كل مقارنة أن هذا الخط الذي كانت تعده خطأ معقداً غير صالح للحياة ، هذا الخط هو الذي يمتلك إمكانية الاستمرار ويتخلص من هفوات التعرج والتعقيد ، ولم يكن يسعها إلا أن تدعو الله أن يبارك هذين الزوجين المؤمنين ويهدي أبناءها لما فيه الخير والصلاح ... وفي صباح أحد الأيام وفي ساعة مبكرة جداً دق جرس الباب بعنف فسارعت خديجة لتفحته وإذا بها تجد بشرى وهي تحمل طفلها على ساعدها وقد أحاطت بعينيها هالة زرقاء وشاعت على وجهها مسحة من شحوب ، فابتدرتها بالسلام ورحبت بها قائلة أهلاً وسهلاً تفضلي . فدخلت بشرى وهي تلتفت قائلة أين أمي ؟ أين هي أمي ؟ قالت خديجة : إنها في بيتها هنا تفضلي إليها. ثم قادتها إلى جناح خالتها ، وهناك كانت الخالة جالسة على سريرها وأمامها على المنضدة كوب من الحليب ، ففوجئت بقدوم ابنتها وتحركت في


( 220 )


نفسها عواطف الأمومة فخيّل لها أن الشوق أو الندم هو الذي دفع ابنتها إلى الحضور ، ونهضت نحوها في لهفة ومدّت نحوها يدها تريد أن تضمها بها إلى صدرها لتطفىء في فؤادها هذا الأوار الملتهب من الحنين والحرمان ، ولكن بشرى جلست على كرسي هناك دون أن ترمي بنفسها على صدر هذه الأم المسكينة وقالت وكأنها لم تفارق أمها إلا صباح الأمس : لقد طردني من بيته أخيراً وكأنني سلعة رخيصة يحاول أن يستبدل بها غيرها ، فشاعت على وجه الأم صفرة قاتمة وقالت في لهفة : طردك من بيته ولكن كيف ومتى ؟ قالت : أنك تعلمين كم هو سافل ماجن يا أماه ، وقد أصبح في الأشهر الأخيرة قلما يعود إلى البيت قبل الساعات الأخيرة من الليل ، وما عاد في ليلة إلا ورائحة الخمرة تفوح من ثيابه فيرتمي على الفراش وهو كأنقاض رجل ، وأنا ومع كل هذا صابرة وكلما حاولت أن أشير إلى الموضوع كان يبادرني قائلاً : ألم نتفق مسبقاً أننا ينبغي أن نكون أحراراً وأن لا نعيش القيود التي تفرضها الأفكار الرجعية على طبيعة العلاقة الزوجية ؟ ولم يكن يسعني أمام هذا الكلام إلا أن أسكت وأحاول إقناع نفسي وتعويضها عن هذا الحرمان بما لديّ من حرية مماثلة لحريته ، ولكن الأمر تفاقم أكثر وأصبح يبتز أموالي وراتبي ويحرمني حق التصرف في شؤون بيتي وأخيراً طردني أمس وفي ساعة متأخرة من الليل وقال أنه لم يعد يطيق قيود الزوجية . وقد جلست في حديقة البيت حتى أشرق الصباح وها أنا جئت


( 221 )


إليك كما ترين فليس لديّ من يضمني إليه سواك لأن هشام ليس ممن يفتح لي بيته كما تعلمين.
كانت الأم تستمع وشحوب وجهها يتضاعف . ولم يفت خديجة أن تلاحظ ما ران على وجه خالتها من شحوب يحكي عن الألم الذي تعانيه ، وكانت بشرى تنتظر من أمها الجواب ، ولكن الأم لم تكن تريد أن تجيب ، فماذا عساها أن تقول ؟ ألا يكفي هذا البيت الصالح أن احتواها هي لتضيف إليه وافدة جديدة غريبة عنه في كل شيء ، ولهذا فقد آثرت السكوت مع جميع ما كان يمزق قلبها من ألم ، وعرفت خديجة طبيعة الموقف ورأت أن عليها أن تتدخل لتنقذ هذه الخالة من موقفها المحرج الحزين ، فقالت : حسناً صنعت بقدومك إلى أمك يا بشرى ، أنها هنا في شقتها هذه وحيدة وسوف يسعدها أن تكوني معها حتى يختار الله لك ما فيه الصلاح . وكأن هذه الكلمات بعثت في نفس بشرى بعض مشاعر الانسانية فأجابت في خجل وارتباك : لشد ما أنا شاكرة لك موقفك من أمي يا خديجة وها أنت تضيفين إلى أياديك يداً جديدة . فابتسمت خديجة وقالت : دعيك من هذه المجاملات يا بشرى واعلمي أن هذا البيت هو بيت خالتي ولهذا أرجو أن تكوني فيه مرتاحة راحة كاملة . وهنا نهضت الخالة واحتضنت خديجة وطبعت على جبينها قبلة حب وشكر وامتنان وقالت : ما أروعك يا خديجة وما أروع إيمانك الذي أبرزك على هذه الصورة المثالية . واغتنمت خديجة قرب خالتها منها فهمست


( 222 )


في اذنها قائلة : ولكن أرجو أن تطلبي منها الإلتزام بالحجاب ما دامت في بيتنا . قالت الخالة : نعم نعم لقد كنت عازمة أن أقول لها ذلك ثم اتجهت إلى ابنتها فجلست إلى جوارها وهي تقول : هل تعلمين يا بشرى بأنني شعرت خلال هذه الأشهر الأخيرة براحة لم أستشعرها في حياتي من قبل وأنني وجدت في قلبَيْ خديجة ومحسن من الرحمة والحنان ما عوّضني عما افتقدته في قلبيكما أنت وهشام ، فما الذي جعلكما وأنتما ابناي تتنكران لي على هذا الشكل وجعل أولاد أختي يحتضناني بكل رحابة صدر ؟ ليتك عرفت السبب والشيء الذي ميزهما عنكما كل هذا التمييز . قالت الخالة هذا ثم سكتت وكأنها تنتظر من ابنتها الجواب ، فأطرقت بشرى وقد عرفت الجواب ولكنها كانت تصارع نفسها في إبدائه وإخفائه ، وأخيراً رأت أن الواقع يدعوها لأن تعترف حتى ولو كان الاعتراف مراً فرفعت راسها لتقول : انه الايمان يا أماه وهو الذي ارتفع بهما إلى هذه القمة ، وتركنا إياه هو الذي هوى بنا إلى هذا الحضيض ، نعم أنه الايمان فما أشقانا بابتعادنا عنه . قالت الأم : الحمد لله الذي جعلك تعترفين بذلك ولهذا فأن عليك في المرحلة الأولى أن لا تشذّي في مظهرك الخارجي عن تعاليم الايمان المتمثل في هذا البيت . قالت بشرى في استغراب : ما الذي تعنيه يا أماه ؟ قالت : أن تلتزمي بالحجاب وتحاولي تكييف نفسك مع تعاليم الدين ما دمت هنا على الأقل . فأطرقت بشرى نحو الأرض وكأنها تعاني صراعاً


( 223 )


مريراً بين ما يدعوها إليه العقل وما تستفزها به النزوات والرغبات ، واغتنمت خديجة فترة سكوتها هذه وقالت : ولكن من المظنون يا خالتي أن بشرى قد تعرفت على مساوىء الابتعاد عن الدين بما فيه الكفاية ومن المأمول أيضاً أن تكون قد تحسست بالحاجة إلى تعاليم الاسلام بعد أن شاهدت عن قرب وعن بعد فشل التعاليم الوضعية الأخرى . وهنا رفعت بشرى رأسها ورنت نحو خديجة بنظرة اعتراف واستسلام ثم قالت : نعم أن الحق هو ما تقولين يا خديجة فقد سئمت حياة التكلف والمحاباة والركض وراء كل شارق وغارب وقد تعبت من حياة القلق والتفكك فما أحوجني إلى من يحتضنني ويهبني فكرة صالحة تبعث في روحي الأمان وتذيقني طعم الحرية الحقيقية من غير استعباد لأذواق الناس ورغباتهم ولكن ما الذي سيقوله الناس عني يا ترى ؟ قالت خديجة : لقد حاولت في المدة السابقة أن ترضي الناس عنك فاستعبدت كما ذكرت أنت لأذواقهم ورغباتهم ، فما هو الذي حصلت عليه من نتائج صالحة لذلك يا ترى ؟ يكفيك ما تجرعت من ويلات وآلام حطمت زهرة شبابك وأذوت رواء كيانك وهو في ريعانه ، ها هو إيمانك يدعوك لتعودي إليه وتعيشي مفاهيمه التي من حقها أن تتكفل بإسعادك في الدارين . قالت بشرى في نغمة ألم حزينة : أو يقبلني الايمان بعد كل ما صدر عني من أخطاء ؟ فأردفت خديجة تقول : نعم فإن إيماننا لجد حدب بناء ورؤوف وقد جاء في الحديث : ( أن الله ليحب الشاب


( 224 )


التائب ويكره الشيخ المقيم على المعاصي ) أفلا يسعدك أن تكوني ممن يحبهم الله عز وجل يا بشرى ؟.

***


مرت العديد من الأسابيع وبشرى لا تزال مع أمها وهي تقترب خطوة بعد خطوة من الإيمان ، فقد سحرتها شخصية خديجة فانجذبت إلى مفاهيمها بلهفة الظمآن المتعطش إلى الري ، وقد قدمت لها خديجة العديد من الكتب لتقرأها وكانت تطلب منها المناقشة بعد إكمال كل كتاب بشكل جعل عدة مفاهيم تتركز في ذهن بشرى بشكل ثابت ، وبدأت بوادر التغير الفكري تلوح واضحة على تصرفاتها وميولها ورغباتها مما كان يشيع في نفس خديجة الكثير من شعور الرضاء .
وبعد أن تم انفصال بشرى عن زوجها بشكل نهائي وعن طريق الطلاق استقلت مع أمها وابنها الصغير الذي احتفظت به قبال جميع ما تنازلت عنه من حقوق في بيت صغير مريح ، ومع أنها كانت قد خسرت من المادة الشي الكثير ولكنها أصبحت تعيش حياة ناعمة راضية بعد أن أخذت تقترب من واحة الايمان أكثر فأكثر .