التَّمحيصُ
للشيخ الثقة الجليل أبي علي محمد بن همام الاسكافي
من أصحاب سفراء الامام الحجة « عج »
المتوفى سنة 336 هـ ق
تحقيق ونشر
مدرسة الامام المهدي عليه السلام
قم المقدسة
تبارك ... الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا 1 .
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين 2 .
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات 3 .
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ...
ليعلم الله من يخافه بالغيب 4 ...
وليعلم الذين نافقوا 5 ...
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 6 .
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء 7 ...
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .
ولقد فتنا الذين من قبلهم ،
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 8 .
وتلك الايام نداولها بين الناس ،
وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ...
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
وليبتلي الله ما في صدوركم ،
وليمحّص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور 9 .
____________
( 1 ) الملك 67 : 1 ، 2
( 2 ) الصابرين : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا الله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون . البقرة 155 ـ 157 .
( 3 ) البقرة 2 : 153 ، 155
( 4 ) المائدة 5 : 94
( 5 ) آل عمران 3 : 167
( 6 ) آل عمران 3 : 142
( 7 ) البقرة 2 : 214
( 8 ) العنكبوت 29 : 2 ، 3
( 9 ) آل عمران 3 : 140 ، 141 ، 154
الحمد لله الذي جعل البلايا تمييزا للطيبين عن الخبيثين 1 ، ونكالاً للظالمين ، وجعل تقلبات الاحوال ، اختبارا لطويات الرجال ، فمن دار فناء وزوال ، قد ملئت بالهموم والغموم ، وعجت بالمحن والآلام ، إلى ارتحال وانتقال ، « وتلك الايام نداولها بين الناس »2 ، فالشقي من غرته ولم يعتبر بمن سكنها قبله من الماضين ، كانوا أطول أعمارا ، وأبقى آثار ، وأبعد آمالا ، والسعيد من اعتبر بها ، واستفاد من تجاربها ، فصغرت في عينه وهانت عليه ، وأحب مجاورة الجليل في داره ، وسكنى الفردوس في جواره ،
وصلى الله على أشد الناس ابتلاء ، وأكثرهم صبرا على إيذاء ، وأوفرهم شكرا على ما جرى به القضاء ، محمد وآله الاوصياء الاصفياء ، الحجج على العباد ، والهادين للرشاد ، والعدة للمعاد « اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة » 3 ،
واللعنة الدائمة على أعدائهم الاخسرين « الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا »4 ، وفي الآخرة « تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون »5 .
عبر تاريخ الانسانية الطويل ، ومنذ فجر النبوات ، بدأ الصراع المرير ، بين الحق وجيوش الاباطيل ، بين الخير وقوى الشر والضلال ، بين النور وجحافل الظلام ، فعاش الانسان طوال آلاف السنين ، تحت سياط الجلادين ، وفي دياجير السجون ، قد اثقلت كواهل المساكين والمستضعفين ، بالحروب والويلات ، والخراب والدمار ، فابيدت امم وشعوب ، واستعبدت أجيال تلو أجيال ، فضجت الارض تستصرخ بارئها بما تئن من جراح ، وتستغيث من مباضع الحراب والسيوف والرماح ، ولولا بوارق أمل و ومضات ، تشع بين الحين والحين من هدي السماء عبر الرسالات ، وإمداد التابعين بالصبر والايمان وسيل الشحنات ، لما كان للحياة مذاق فتطاق ، ولا للعيش طعم واشتياق .
فأصحاب الشرائع كانوا دوما محاربين ، وأتباعهم مضطهدين مسحوقين ، إلا
____________
( 1 ) إشارة للآية الشريفة « ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب » آل عمران 3 / 179 .
( 2 ) آل عمران 3 / 140
( 3 ) البقرة 2 / 157
( 4 ) الكهف 18 / 104
( 5 ) المؤمنون 23 / 104
أنهم لما يصابون من مصائب صابرون ، وبما يرميهم الاعداء من نوائب قانعون ، بل فرحون بما آتاهم الله من فضله وهم يستبشرون ، وللجنة يشتاقون ، لما تكشفت في قلوبهم حقائق الايمان ، وتجلت لهم بدائع آيات الرحمن ، وما أعدلهم من الخيرات في الجنان ،
فالدنيا للمؤمنين ليست بدار بقاء ومقام ، إنما دار تمحيص وامتحان « أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين » 1 .
فكلما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل ، ألم يأت عن الرسول صلى الله عليه وآله : « ما اوذي أحد مثل ما اوذيت » 2 وورد عن الصادق عليه السلام : « إن أشد الناس بلاء الانبياء ثم الذين يلونهم ثم الامثل فالامثل » 3 من الاوصياء والاولياء ، الذين نزلت أنفسهم منهم في البلاء ، كما نزلت في الرخاء ، فهم بالغنى غير فرحين ، وبالفقر غير مغتمين .
ثم إن البلاء على أنواع وأحوال :
فمرة يكون للعقاب والنكال لما اقترفه المرء من الموبقات ، فيبتلى بالامراض والعاهات ، أو تلف الأهل والاولاد ، وجار سوء وتنغيص اللذات ، أو تسلط سلطان فيفرق الاحباب ويشتت الجماعات ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إن الله يبتلي عباده عند الاعمال السيئة بنقص الثمرات ، وحبس البركات ، وإغلاق خزائن الخيرات ... » 4 مشيرا إلى ما ورد في الذكر الحكيم : « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات ... » 5 أو في قوله سبحانه : « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات ... » 6 وهذا ديدن الدنيا ، فكم جمحت بطالبها وأردت راكبها ، وخانت الواثق بها ، وازعجت المطمئن إليها ، فلا تدوم أحوالها ، ولا يسلم نزالها ، فجمعها إلى انصداع ، ووصلها إلى انقطاع .
ومرة يكون البلاء تمحيصا للذنوب ورفعا للدرجات « وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين » 7 وقد قال الامام علي عليه السلام : « الحمد لله الذي جعل تمحيص
____________
( 1 ) العنكبوت 29 / 2 ، 3
( 2 ) كنز العمال ح 5818
( 3 ) الكافي 2 / 252 ح 1 ، البحار 67 / 200 ح 3
( 4 ) نهج البلاغة ص 199 ط 144 ، تفسير نور الثقلين 1 / 120 ح 448
( 5 ) البقرة 2 / 155
( 6 ) الاعراف 7 / 130
ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم ، لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها " 1 .
وقال أيضا : « ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا إلى فضله » 2 .
ولهذا استخلص الجليل سبحانه المؤمنين للآخرة ، واختار لهم الجزيل مما لديه من النعيم المقيم ، الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، لصبرهم على البلاء ، ورضاهم بالقضاء ، وشكرهم النعماء ، إذا أن الصبر أول درجات الايمان ، فإذا ترقى العبد في إيمانه بلغ منزلة الرضا بالقضاء ، وإذا ازداد في سلم الايمان علوا وسموا وصعودا ، أصبح شاكرا لربه على البلاء ،
فالاولياء الصالحون لن يكونوا مؤمنين إلا كما وصفهم الامام الكاظم عليه السلام مخاطبا : « حتى تعدوا البلاء نعمة ، والرخاء مصيبة ، وذلك أن الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء » 3 ،
وهذه منزلة من خبر الدنيا وعرف أحوالها ، فعلم أنها سوق ، ربح فيها قوم يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة ، وخسر آخرون ممن كانوا « يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون » 4 ف « لما الدنيا والآخرة إلا ككفتي ميزان ، فأيهما رجح ذهب بالآخر » 5 أو كما جاء عن الهداة عليهم السلام « إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها ، وهما بمنزلة المشرق والمغرب . . . كلما قرب من واحد بعد عن الآخر » 6 فلا يستقيم حبهما في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد .
ولهذا كان الامام الباقر عليه السلام يدعو بهذا الدعاء : « ولا تجعل الدنيا علي سجنا ، ولا تجعل فراقها علي حزنا » 7 .
فكان الائمة الميامين سلام الله عليهم أجمعين ، دائما يرشدونا ـ بهديهم وسنتهم وأقوالهم وأفعالهم ـ لواضح الطريق لئلا نزل بأوزار المسير ، فنسقط في رمضاء الهجير
____________
( 1 ) البحار 67 / 232 ح 48
( 2 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 / 157
( 3 ) البحار 67 / 237 ، ج 82 / 145 ح 30 وفيه ( أفضل من الغفلة )
( 4 ) الروم 30 / 7
( 5 ) البحار 73 / 92 ح 69
( 6 ) البحار 73 / 129 ح 133
( 7 ) البحار 97 / 379
أو لهب السعير ، ويحذرونا صولة الدهر ، وفحش تقلّب الليالي والايام ، فلا نركن إليها أبدا ، ولا تغتر منها بمحالات الاحلام والآمال ، ولا نخدع بزور الاماني الطوال ،
ثم إنهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أناروا القلوب ، وشرحوا الصدور ، وأوضحوا بأن من لم يبتل فهو عند الله مبغوض ، فقد جاء عنهم عليهم السلام « إذا رأيت ربك يوالي عليك البلاء فاشكره ، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره » 1 ،
والله سبحانه يتعاهد عباده المؤمنين بالبلاء ، كما يتعاهد المسافر عياله بأنواع الهدايا والطرف ـ كما جاء في الخبر ـ 2 ، ولولا أن يرتاب بعض ضعاف النفوس لجعل الله « لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون » 3 ولهذا خص الآخرة خالصة للمؤمنين « قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة » 4 ، وأما الدنيا فهم فيها مبتلون ، ليسمع دعاء أحبائه حين يمسون وحين يصبحون ، وفي خلواتهم ـ مع حبيبهم ـ يتناجون ، وبالاسحار هم يستغفرون ،
ولذا جعل سبحانه الفقر ـ مثلا ـ بمنزلة الشهادة ، كما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام : « ولا يعطيه من عباده إلا من أحب » 5 ثم « إن الرجل منهم ليشفع لمثل ربيعة ومضر » 6 لما صبروا وشكروا ، لما زرعوا للآخرة من الباقيات الصالحات فحصدوا ما بذروا « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا . . » 7 .
وفي الخبر 8 أن النبي صلى الله عليه وآله رأى فاطمة الزهراء عليها السلام « وعليها كساء من أجلة الابل ، وهي تطحن بيديها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقالت : يا رسول الله ، الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائه ، فأنزل الله سبحانه : " ولسوف يعطيك ربك فترضى » 9 .
فمن جعلت الدنيا سجنه ، كانت الآخرة جنته ، ولهذا ورد في الخبر أن آخر من يدخل الجنة من الانبياء سليمان ، لما اعطي في الدنيا من النعيم والملك العظيم 10 ، بينما
____________
( 1 ) غرر الحكم ص 140 س 15 ، البحار 67 / 199
( 2 ) الكافي 2 / 258 ح 28 ، البحار 67 / 221 ح 28
( 3 ) الزخرف 43 / 33 وبدايتها « ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن . . . »
( 4 ) الاعراف 7 / 32
( 5 ) يأتي ص 47 ح 64
( 6 ) يأتي ص 47 ح 68
( 7 ) البقرة 2 / 214
( 8 ) مناقب ابن شهراشوب 3 / 120 ، نور الثقلين 5 / 594 ح 10
( 9 ) الضحى 93 / 5
( 10 ) يأتي ص 49 ح 80
جاء في الحديث عن المبتلين : « إذا نشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، لم ينصب لاهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان » 1 « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » 2 .
فالصبر مطية النجاة ، وقد ذهب الصابرون المتقون بعاجل الدنيا وآجل الآخرة « تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا » 3 ، والعكس صحيح كما جاء في حديث أمير المؤمنين عليه السلام : « ان جعلت دينك تبعا لدنياك ، أهلكت دينك ودنياك وكنت في الآخرة من الخاسرين » 4 ، فما قدمت فلا تجازى إلا به ، وما أخرت فللوارثين ، ولا تخرج من دنياك إلا صفر اليدين ، قد أثقلت ظهرك بالاوزار الثقال ، التي تنوء بها كالجبال .
وكتاب التمحيص هذا يكشف لك آفاقا روحية جديدة ، تزيدك إيمانا واطمئنانا ، بأن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وقد استقى مؤلفه أخباره من عين صافية ، لا شوب فيها ولا لاغية ، إنما هي من معين الرسول صلى الله عليه وآله ، ومنهل أبناء فاطمة البتول عليهم السلام ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فأقوالهم كقلائد العقيان ، على جيد الزمان ، بل كأقراط الحسان ، تقلدتها القيان ، فتبصرنا لآليهم حقيقة الوجود ، وما يمنح الموجود ، وما أعد الله للمؤمنين الصابرين في دار الخلود ،
فطوبى لمن نال من الله الرضوان ، وهرب من لهيب النيران ، بالصبر والقناعة وإطاعة الديان ،
وطوبى لمن لبى دعوة ربه ، واستيقن بلقاء محمد وحزبه ، فطابت نفسه وقرت عينه بهذا الاطمئنان ،
« يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي » 5 .
____________
( 1 ) مجمع البيان ج 8 / 492 ، البحار 82 / 145 ح 31
( 2 ) الزمر 39 / 10
( 3 ) مريم 19 / 63
( 4 ) غرر الحكم ص 123 س 19 .
( 5 ) الفجر 89 / 27 ـ 30
1 ـ الشيخ إبراهيم القطيفي 1 : الحديث الاول ما رواه الشيخ العالم الفاضل العامل الفقيه النبيه أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني قدس الله روحه في الكتاب المسمى بـ ( التمحيص ) ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : . . الحديث .
2 ـ الشيخ الحر العاملي 2 : الشيخ أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة ، له كتاب « تحف العقول عن آل الرسول » حسن كثير الفوائد مشهور ، وكتاب ( التمحيص ) ذكره صاحب « مجالس المؤمنين » .
3 ـ الشيخ المجلسي 3 : كتاب ( التمحيص ) لبعض قدمائنا ، ويظهر من القرائن الجلية أنه من مؤلفات الشيخ الثقة أبي علي محمد بن همام .
وقال أيضا 4 : كتاب ( التمحيص ) متانته تدل على فضل مؤلفه ، وإن كان مؤلفه أبا علي كما هو الظاهر ففضله وتوثيقه مشهوران .
4 ـ المولى عبد الله صاحب « الرياض » 5 ـ عند ذكره ابن شعبة ـ : الفاضل العالم الفقيه المحدث المعروف صاحب كتاب « تحف العقول عن آل الرسول » ، وكتاب ( التمحيص ) ، وقد اعتمد على كتاب « التمحيص » الاستاذ الاستناد 6 ـ أيده الله في « البحار » ، والمولى الفاضل الكاشاني في « الوافي » ـ ثم يذكر قول المجلسي المذكور آنفا ـ ويقول 7 : وأما قول الاستاذ الاستناد بأن كتاب التمحيص من مؤلفات غيره ، فهو عندي محل تأمل فلاحظ ، لان الشيخ إبراهيم أقرب وأعرف ، مع أن عدم ذكر كتاب التمحيص في جملة مؤلفاته ـ أي محمد بن همام ـ التي أوردها أصحاب الرجال في كتبهم مع قربهم منه يدل على أنه ليس له فتأمل .
____________
( 1 ) الوافية في تعيين الفرقة الناجية / مخطوط ص 91 س 5 .
( 2 ) أمل الآمل ج 2 / 74 رقم 198 .
( 3 ) بحار الانوار ج 1 / 17 .
( 4 ) المصدر السابق ص 34 .
( 5 ) رياض العلماء ج 1 / 244 .
( 6 ) يعبر صاحب « الرياض » في كتبه عن المجلسي : بالاستاذ الاستناد ، وعن المحقق الآغا حسين الخونساري : بالاستاذ المحقق ، وعن المولى محمد باقر السبزواري بالاستاذ الفاضل ، وعن المدقق الشيرواني الميرزا محمد بن حسن : باستاذنا العلامة ، ( هامش الكنى والالقاب ج 2 / 42 ) .
( 7 ) بحار الانوار ج 1 / 245 .
5 ـ السيد الخوانساري 1 قال ـ بعد أن نقل قول المجلسي ـ : أقول : وكان عندنا كتاب ( التمحيص ) وهو فيما يعدل ألف بيت تقريبا ، وقد جمع فيه أحاديث شدة بلاء المؤمن وأنه تمحيص لذنوبه ، وفي مفتتحه على رسم قدماء الاصحاب في إملاءاتهم نسبة التحديث إلى هذا الرجل باسمه ونسبه .
وعندي أيضا أنه من جملة مصنفات نفس الرجل ـ أي محمد بن همام ـ دون غيره فليتفطن .
6 ـ الشيخ النوري 2 : ـ ذكر بعد قول المجلسي ـ ، قلت : ولم يشر إلى القرائن ، والذي يظهر منها من الكتاب قوله في أول الكتاب بعد الديباجة « باب سرعة البلاء إلى المؤمنين » : حدثنا 3 أبو علي محمد بن همام ، وقال حدثني عبد الله بن جعفر . . إلخ ، وهذا هو المرسوم في غالب كتب المحدثين من القدماء ، أن الرواة عنهم وتلاميذهم يخبرون عن روايتهم في صدر كتبهم ، فراجع الكافي وكتب الصدوق وغيرها تجدها على ما وصفناه ، وبهذا يظن أن « التمحيص » له .
ولكن الشيخ الجليل النبيل الشيخ إبراهيم القطيفي قال في خاتمة كتاب « الفرقة الناجية » : ـ وذكر نص ما في كتاب « الفرقة الناجية » وأردفه بما في « الرياض » آنف الذكر ، ثم قال ـ : ووافقهما على ذلك الشيخ الجليل في « أمل الآمل » إلا أنه نسبه إلى القاضي في « المجالس » وفيه سهو ظاهر ، فإن القاضي نقل في ترجمة القطيفي ما أخرجه من كتاب « التمحيص » بعبارته ولا يظهر منه اختياره ما اختاره من النسبة .
ثم إني إلى الآن ما تحققت طبقة صاحب « تحف العقول » حتى أستظهر منها ملاءمتها للرواية عن أبي علي محمد بن همام وعدمها ، والقطيفي من العلماء المتبحرين إلا أنه لم يعلم أعرفيته في هذه الامور من العلامة المجلسي « ره » وهو في طبقة المحقق الكركي .
وهذا المقدار من التقدم غير نافع في المقام ، نعم ما ذكره صاحب « الرياض » أخيرا يورث الشك في النسبة إلا أنه يرتفع بملاحظة ما ذكرنا ومع الغض عنه فالكتاب مردد بين العالمين الجليلين الثقتين فلا يضر الترديد في اعتباره والاعتماد عليه .
7 ـ الشيخ الطهراني الرازي 4 : وهو ـ أي ابن شعبة الحراني ـ يروي عن
____________
( 1 ) روضات الجنان ج 6 / 151
( 2 ) مستدرك الوسائل ج 3 / 326
( 3 ) في الاصل : حدثني
( 4 ) الذريعة ج 3 / 400
الشيخ أبي علي محمد بن همام الذي توفي سنة 336 كما في أول كتاب التمحيص 1 ، حتى أن روايته عن ابن همام في أول التمحيص صارت منشأ تخيل بعض في نسبة « التمحيص » إلى ابن همام مع أنه لصاحب تحف العقول .
وقال أيضا 2 ـ بعد أن نقل كلام القطيفي والقاضي والحر العاملي ـ : ( التمحيص ) قد يقال [ إنه ] للشيخ أبي علي محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب المولود سنة 258 والمتوفى سنة 336 مؤلف كتاب « الانوار » .
ـ ثم ينقل قول المجلسي ويرده باستظهار القطيفي والقاضي والحر العاملي بأن نسبة الكتاب لابن شعبة ـ ، ثم يقول :
فالظاهر أنه تأليف ابن شعبة ويروي فيه عن شيخه محمد بن همام ، والله أعلم .
8 ـ السيد حسن الصدر 3 : ابن شعبة الحراني . . . وله كتاب ( التمحيص ) نسبه إليه الشيخ العلامة المتبحر إبراهيم القطيفي . . والمولى عبد الله في « رياض العلماء » ، والشيح محمد بن الحسن الحر العاملي في « أمل الآمل » : . . وقد قيل : إن كتاب ( التمحيص ) يحتمل أن يكون لنفس ابن همام بقرينة ذكره في أول سند أول حديث في الكتاب ، وهي عادات القدماء ، وفيه تأمل بل منع .
ثم قال : وكيف كان فلا ريب في تقدم الشيخ حسن بن شعبة على الشيخ المفيد فهو على كل حال في طبقة ابن همام رضي الله عنهما .
9 ـ السيد محسن الامين 4 ، قال تحت عنوان ( التمحيص ) : وفي روضات الجنات أنه مختصر في ذكر أخبار ابتلاء المؤمن ، وهو له بلا ريب ـ أي لابن شعبة ـ كما صرح به القطيفي في « الوافية » ، وصاحب « الرياض » ، والكفعمي في « مجموع الغرائب » ونقل عنه كثيرا ، وغيرهم ، ولم نجد من توقف في ذلك قبل صاحب « البحار » ، ـ ثم نقل عن « الرياض » قول المجلسي ومعارضته ـ .
والخلاصة : إن العلماء المحققين الكبار اختلفوا في نسبة الكتاب على قسمين :
____________
( 1 ) في أوله هكذا : « حدثني أبو علي محمد بن همام » وهو محل الكلام والبحث ، فكيف يستند إليه ؟ !
( 2 ) الذريعة ج 4 / 431 .
( 3 ) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ص 413 .
( 4 ) أعيان الشيعة ج 22 / 320 .
فمن جعله لابن شعبة :
1 ـ الشيخ القطيفي ( المعاصر للمحق الكركي ) كما مر وأرسله إرسال المسلمات بلا ذكر دليل ، واعتمد الآخرون عليه .
2 ـ القاضي نور الله التستري ، أخذ منه .
3 ـ الشيخ الحر العاملي ، نقل عن « المجالس » للقاضي التستري .
4 ـ الشيخ المولى عبد الله صاحب « الرياض » يؤكد النسبة اعتمادا على القطيفي أيضا .
5 ـ السيد حسن الصدر ، يتبع سابقيه في النسبة لابن شعبة اعتمادا على القطيفي ويمنعه لغيره .
6 ـ السيد محسن الامين ، يجزم بلا ريب أنه لابن شعبة كما صرح به القطيفي وغيره .
وأما من شكك في هذه النسبة ، ورجح القول لابن همام :
1 ـ الشيخ المجلسي .
2 ـ السيد الخونساري ، بل عنده من دون شك أنه من مصنفات ابن همام دون غيره .
3 ـ الميرزا النوري ، وقد مرت ملاحظته على الشيخ الحر العاملي في « أمل الآمل » .
ولو راجعنا أقوال الطائفة الاولى الذين نسبوا « التمحيص » لابن شعبة نرى أدلة بعضهم باختصار كما يلي :
أ ـ قدم زمان القطيفي على زمان المجلسي .
ب ـ أعلميته بهذا الفن من المجلسي وأنه أعرف .
ج ـ عدم ذكر الكتاب ضمن ترجمة ابن همام في كتب الرجال مع قربهم منه .
د ـ شهادة مجموعة من العلماء بذلك .
ولكن لو راجعنا هذه الادلة ودققنا النظر فيها لرأيناها لا ترفع شكا ، ولا تورث يقينا بموجب ما يلي :
أ ـ أما الاول ، ففراغ الشيخ إبراهيم القطيفي من تأليف كتابه « الوافية في الفرقة الناجية » كن سنة 945 هـ 1 ، وكانت وفاة العلامة المجلسي في سنة 1111 هـ كما في مقدمة البحار ، بينما كانت وفاة ابن همام سنة 336 هـ 2 ، و
____________
( 1 ) الذريعة ج 16 / 177 .
( 2 ) رجال النجاشي ص 294 .
ابن شعبة من طبقته كما هو مشهور 1 ، فهذا المقدار من القدم بين القطيفي والمجلسي مع بعدهما كثيرا عن ابن همام وابن شعبة لا ينفع في هذا المقام ولا يورث اطمئناناً ، إن لم يكن هناك دليل آخر .
ب ـ وأما الثاني ، فمع تبحر الشيخ إبراهيم القطيفي وتعمقه ، لم يثبت أنه أعلم وأعرف من المجلسي في هذا المضمار كما ذكره الميرزا النوري .
ج ـ وأما عدم ذكر الكتاب ضمن ترجمته في كتب الرجال 2 ، فمردود بأن أرباب التراجم نفسهم لم يذكروه كذلك من مؤلفات ابن شعبة 3 ، ثم إن عدم ذكر كتاب لشخص ما في كتب التراجم لا يدل على نفيه عنه ، وفي كتب التراجم أمثلة كثيرة على ذلك ، منها ما أحصاه الشيخ فضل الله الزنجاني 4 لاربعة عشر كتابا ورسالة للشيخ المفيد فات عن الشيخين النجاشي والطوسي وحتى ابن شهراشوب ومن تبعهم أن يذكروها في فهارسهم .
د ـ وأما شهادة العلماء 5 فالمقصود بهم رجال الطائفة الاولى ، فلو راجعناها لوجدناها تنتهي إلى الشيخ القطيفي ، ولم يسبقه غيره بحسب ما اطلعنا عليه من المصادر والمراجع التي بين أيدينا ، ولم يذكر الشيخ القطيفي الدليل الذي تفرد به ، وأما التابعون له : فإما قد نقلوا عنه دون تعليق بسلب أو إيجاب 6 ، وإما اعتمدوا عليه وساروا على خطاه مؤكدين هذه النسبة .
و ربّما اعتمد القطيفي في هذه النسبة على ما ذكر ـ كما هو رأي
____________
( 1 ) لم تتضح طبقة ابن شعبة يقينا عندنا .
( 2 ) وقد أخذ بهذا الرأي بعض المحققين الفضلاء المعاصرين .
( 3 ) المقصود بأرباب التراجم : القدماء كالنجاشي والشيخ والكشي وابن شهر اشوب ، والانكي من ذلك أنه لم يرد لابن شعبة ترجمة قط في هذه المصادر .
( 4 ) مقدمة كتاب « أوائل المقالات » ص ( مد ) الاختصاص ص 19 .
( 5 ) كما ذكره بعض المحققين لتحف العقول .
( 6 ) راجع ملحوظة الميرزا النوري على ما أكده الحر العاملي باختيار القاضي في مجالسه ما اختاره القطيفي من نسبة الكتاب لابن شعبة فيقول : « إلا أنه نسبه إلى القاضي في « المجالس » وفيه سهو ظاهر ، فإن القاضي نقل في ترجمة القطيفي ما أخرجه من كتاب « التمحيص » بعبارته ولا يظهر منه اختياره ما اختاره من النسبة » ، فلاحظ .
المتأخرين ـ في مقدمة كتاب تحف العقول لابن شعبة 1 أنه رواه عن ابن همام بعد ما وجد في كتاب التمحيص أنه قال : حدثني أبو علي محمد بن همام ، حملا لظاهر قوله : حدثني ، على أنه غير ابن همام ، فاعتبر الكتاب أيضا لابن شعبة .
أما الطائفة الثانية التي رجحت الكتاب لابن همام ، أو أكدته له ، كالمجلسي والخوانساري والنوري فقد اعتمدوا في أدلتهم على ما يلي : ـ
1 ـ إن طريقة التأليف عند المشايخ في تلك العصور كانت تنسب الكتاب لنفس المؤلف فيجعل المؤلف نفسه بمنزلة المحدث ، فربما يقع اللبس حينئذ في نسبة الكتاب للمحدث أو لمن أملى عليه من تلامذته الذين ينقلون عنه كما وقع في كتاب « التمحيص » .
وهذه الطريقة تجدها في كثير من كتب الكليني والصدوق والشيخ المفيد وغيرهم .
ولو راجعت كتاب « كامل الزيارات » لابن قولويه لوجدت نفس هذا النسق ، فيقول : أخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي الفقيه 2 ، علما بأن ابن قولويه ومحمد بن همام من عصر واحد ، بل إن ابن همام من مشايخ ابن قولويه 3 .
2 ـ عدم تحقق طبقة صاحب « تحف العقول » لديهم حتى يستظهروا ملاءمتها الرواية عن أبي علي محمد بن همام أو عدمها 4 .
وحقا فقد راجعنا كتب الرجال في تحقيق ما قالوا ولم يتحقق لنا ما نعتمد عليه 5 .
نعم ، إن الشيخ علي بن الحسين بن صادق البحراني ذكر في رسالة في الاخلاق أن الشيخ المفيد نقل عنه 6 ، إلا أنه لم يحدد الكتاب الذي كان فيه النقل ، ومن هذه العبارة استفاد الشيخ الطهراني فعده من مشايخ الشيخ المفيد اعتمادا على رسالة الاخلاق 7 ، وقد راجعنا مشايخ الشيخ
____________
( 1 ) مع أنا لم نجد دليلا لهذه الشهرة في روايته عن ابن همام حتى في كتاب « تحف العقول » ، فتأمل .
( 2 ) كامل الزيارات ص 10
( 3 ) المصدر السابق باب 73 ح 1 في ثواب من زار الحسين عليه السلام في رجب .
( 4 ) راجع ملاحظة الميرزا النوري في المستدرك ج 3 / 326
( 5 ) ولهذا أفردنا باباً فيمن روى عنه ابن همام ومن روى عن ابن همام ، فراجعه .