معرفة حدود الذنب
ان حد المسائل المهمة حول معرفة الذنب ، معرفة حدود الذنب ، وبعبارة أوضح الحد الفاصل بين الصفات الاخلاقية الحسنة والسيئة التي منشؤها الذنب ، وهو من الدقة حيث نرى ان بعض الافراد على اثر عدم معرفة حدود الذنب والثواب نراهم يخلطون بين الصالح والطالح وخاصة في العقيدة او في العمل او في الاثنين معاً .
وفي النتيجة يرتكبون عملاً طالحاً بقصد القربة باعتباره عملاً صالحاً من حيث لا يشعرون وعلى العكس فالعمل الصالح يتركونه تحت عنوان انه طالح ، ولهذه الاخطاء عملياً آثار ثقافية .
مع ان هذا البحث بحث جديد ومشيع بالشررح والتفصيل الا اننا سنشير هنا الى عدة عناوين بصورة خاطفة لتكون مفتاحاً لتحقيقات اوسع .
يجب الانتباه الى أنّ هذه العناوين لها حدود واسعة ، ولكن نحن نتصور ان حدودها دقيقة ، وعلى اثر عدم معرفة الضوابط نقع في
الخطأ فنكون مضرباً لهذا المثل ( اراد ان يكحلها فعماها ) .
وكنموذج لهذه العناوين يجب الانتباه الى الحد الفاصل بينها :
1 ـ الذلة ـ التواضع .
2 ـ التكبّر ـ العّزة والوقار .
3 ـ حب الدنيا ـ السياسة .
4 ـ البخل ـ القناعة .
5 ـ السكوت ـ السيطرة على اللسان .
6 ـ عدم الخوف ـ الشجاعة .
7 ـ كبت الغرائز ـ العفة .
8 ـ الاسراف ـ السخاء .
9 ـ المساواة ـ العدالة .
10 ـ ترك الدنيا ـ الزهد .
11 ـ الكسل ـ التوكل .
12 ـ التملق ـ المدح اللائق .
13 ـ الرشوة ـ الهدية .
14 ـ قبول الظلم ـ الاستضعاف .
15 ـ الغيبة ـ التشهير .
16 ـ العناد ـ الاستقامة .
17 ـ الحرص ـ السعي .
18 ـ العجز ـ الصبر .
وكثيراً ما يحدث اختلاط هذه العناوين نتيجة عدم معرفة حدودها .
فتحت عنوان القناعة هذه الصفة الطاهرة يبخلون . وبعنوان السخاء يسرفون ، وباسم حفظ العزة والوقار يتكبرون ، وباسم التواضع يذلون انفسهم ، وباسم السيطرة على اللسان يكتمون الحق ويسكتون على الذنوب ، وحول مدح المؤمن هذا العمل الطاهر يتملقون .
وللأسف الشديد فان هذا الخلط كثير جداً في المجتمع .
وكما قلنا فان مثل هذا الخلط كثير جداً في المجتمع .
وكما قلنا فان الخوض في هذا البحث طويل للغاية ، لكننا سنكتفي هنا بذكر احد العناوين التي ذكرناها سابقاً ونشرحها شرحاً وافياً ومفصلاً كنموذج على ذلك لبيان المراد .
137
الزهد وترك الدنيا :
ان صفة الزهد صفة طاهرة في نظر الاسلام على العكس من ( ترك الدنيا ) فانها مذمومة وسيئة .
قال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
« طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين من الآخرة » (1) .
نرى من جانب في الثقافة الاسلامية ان ترك الدنيا وعدم الانشغال بامورها ليست صفة غير حسنة فحسب بل غير لائقة . وفي هذا المورد نكتفي بهذه الرواية :
____________
(1) نهج البلاغة الحكمة 104 .
عثمان بن مظعون هو أحد الصحابة المؤمنين والبارزين والمقربين من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، جائت زوجته يوماً الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاكية زوجها بقولها : « يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان عثمان صائم في النهار قائم في الليل ولم يعتن بحياته وبيته » . فلما سمعها الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بان الغضب على وجهه وذهب الى عثمان فوجده يصلي ، فلما فرغ قال له الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفية السمحة ، أصوم وأصلي والمس أهلي » (1) .
مع الانتباه الى الرواية السابقة يتبين لنا ان الحد الفاصل بين « الزهد » و « ترك الدنيا » دقيق للغاية ، وكثيراً ما نرى في التاريخ الاسلامي افراداً تحت عنوان الزهد تركوا الدنيا والسياسة والامور المادية وسلكوا طريق الرهبانية ، ونتيجة سوء الفهم والمعرفة بالزهد الاسلامي الحقيقي سلكوا تلك الطريق التي نهى عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وبعبارة أوضح ان الزهد معناه عدم ربط القلب وتعلقه بالدنيا ، وليس معناه ترك الدنيا وما فيها . كما فعله ابراهيم الأدهم وابو يزيد البسطامي الذين هم بعيدون كلّ البعد عن الزهد . ولكن الزهد بكل ابعاده قد تمثل في امير المؤمنين ( عليه السلام ) فهو ازهد الزاهدين حيث كان يحضر في المجتمع وله دور مهم في السياسة والزراعة وكل نواحي
____________
(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 74 .
الحياة الذي اتخذ الدنيا وسيلة للآخرة وكان اسداً في النهار تقياً في الليل والذي عرّف الزهد بقوله ( عليه السلام ) : « الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، قال الله سبحانه :
( لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) (1) .
وبهذه المقولة الشريفة للامام علي ( عليه السلام ) علمنا الحد الفاصل بين التعلق بالدنيا ( والذي هو خلاف الزهد ) ، وبين اتخاذ الدنيا كوسيلة للآخرة ، فرق كبير لا يتعارض مع الزهد .
ولعدم معرفة الحد الفاصل بين التعلق بالدنيا والزهد فانّ بعض المتظاهرين بالزهد يتهمون الامام المعصوم بتعلقه بالدنيا ، وكنموذج على هذا نأتي بهذه الرواية :
« عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) انه قال : ان محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت ارى ان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يدع خلقاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي ( عليه السلام ) فاردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه : باي شيء وعظك ؟ قال : خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني ابو جعفر محمد بن علي وكان رجلاً بديناً ... فقلت : سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أرأيت لو جاء اجلك وأنت على هذه الحال ما كنت تصنع ؟ فقال : لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة الله عزّ وجلّ ، اكف بها نفسي وعيالي عنك وعن
____________
(1) نهج البلاغة : الحكمة 439 .
الناس وانما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله ، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن اعظك فوعظتني » (1) .
وفي حديث آخر:
قال أبو بصير : سمعت الامام الصادق ( عليه السلام ) يقول :
« إني لاعمل في بعض ضياعي حتى أعرق ، وإنّ لي من يكفيني ، ليعلم الله عز وجل أني اطلب الرزق الحلال » (2) .
الانتباه الى الاستثناءات :
هناك موضوع آخر مهم جداً لمعرفة الذنب وهو موضوع معرفة ( الاستثناءات ) وكما يقولون : « ما من عام الاّ وقد خصّ » إنّ اقتراف كثير من الذنوب حتى الذنوب الكبيرة جائز في بعض الاحيان وواجب في الاحيان الاخرى . فمثلاً : القسم الكاذب يعد من الذنوب الكبيرة ، فاذا كان فيه نجاة حياة المسلم من يدي الظالم ، فذلك القسم واجب ، او مثلاً : الكذب حرام ، ولكن طبق الاحاديث الواردة يجوز الكذب في ثلاث موارد .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
____________
(1) فروع الكافي ج 5 ص 73 ، 74 .
(2) وسائل الشيعة ج 12 ص 23 .
« كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلاّ في ثلاثة : رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه ، أو رجل أصلح بين اثنين يلقىهذا بغير ما يلقى به هذا ، يريد بذلك الاصلاح بينهما ، أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتمّ لهم » .
الغيبة واستثناءاتها :
إنّ الموضوع الآخر الاكثر اهمية حول معرفة الذنب . هو موضوع معرفة ما يستثنى في جواز غيبة . الغيبة معناها : ذكر عيب المسلم في غيابه . وتعتبر من الذنوب الكبيرة التي نهى الاسلام عنها في كثير من الآيات والروايات . فالغيبة تعني ذكر العيب الخفي في غياب الشخص ، ولكن ذكر العيوب الظاهرة لا تعتبر غيبة . وطبيعي ان اشاعة عيوب المسلم من باب الذم والتشهير به حرام وغير جائز (1) .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
« الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه » (2) .
وفي الآية 13 من سورة الحجرات نقرأ قوله تعالى :
( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ) .
ونذكر هنا روايتين عن المساوي ، التي يخلفها ذلك الذنب
____________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 342 ( باب الكذب الحديث 18 ) .
(2) اصول الكافي ج 2 ( باب الغيبة الحديث 7 ) .
العظيم ، وهو الغيبة :
1ـ قال الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في جوفه » (1) .
2 ـ اوحى الله سبحانه وتعالى الى موسى ( عليه السلام ) .
« من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ، ومن مات مصرّاً عليها فهو اول من يدخل النار » (2) .
مع كل هذه التحذيرات من الغيبة التي هي ذنب كبير وكل هذه النواهي عن ارتكابها ، ولكن في بعض الموارد نرى أنّ الغيبة جائزة بل تصل الى حد الوجوب .
يذكر العالم الكبير والاستاذ المعظم الشيخ مرتضى الانصاري في كتاب المكاسب ما يلي :
اعلم انه كلما كان المرخص في ذكر المساوىء غرض صحيح لا يمكن التوصل اليه الاّ بها جازت ، وعلى هذا فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد منها (3) :
1 ـ اذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق : فان من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق .
2 ـ تظلم المظلوم واظهار ما فعل به الظالم وان كان متستراً به .
____________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 356 .
(2) المحجة البيضاء ج 5 ص 252 .
(3) نقل نصاً في كتاب المكاسب ص 45 ـ 46 .
3 ـ الاستفتاء بان يقول للمفتي : ظلمنتي فلان في حقي فكيف طريقي في الخلاص ؟ هذا اذا كان الاستفتاء موقوفاً على ذكر الظالم بالخصوص والاّ فلا يجوز .
4 ـ قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله فانه اولى من ستر المنكر عليه .
5 ـ قصد منع مادة فساد المغتاب عن الناس كما في المبتدع الذي يخاف من اضلاله الناس .
6 ـ جرح الشهود فانّ الاجماع دل على جوازه ، ولان مصلحة عدم الحكم بشهادة الفساق اولى من الستر على الفاسق .
7 ـ دفع الضرر عن المغتاب .
8 ـ ذكر الشخص بعيبه الذي صار بمنزلة الصفة المميزة التي لا يعرف الا بها كالاعمش والاعرج والاشتر والاحول ونحوها .
9 ـ القدح في مقالة باطلة وان دل على نقصان قائلها اذا توقف حفظ الحق وابطال الباطل عليه .
وجاء في القرآن الكريم الآية 148 من سورة النساء :
( لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول الاّ من ظلم ) .
وعلى هذا الاساس نرى ان بعض الذنوب وعلى قاعدة تفضيل ( الأهم على المهم ) فيها استثناءات ذكرها الفقهاء ويجب معرفة هذه الموارد حتى يميز الانسان العمل الصالح من الطالح . ولا انسى انه في زمان النظام السابق قال احد الاشخاص : « ما دامت الغيبة حراماً فلماذا
تستغيبون الشاه ؟ » إنّ مثل هذه الاعتراضات دليل على عدم معرفة الامور المستثناة من الغيبة .
الانتباه الى جميع القيم :
إنّ احد الامور اللازمة الذكر حول معرفة الذنب . هو غفلتنا في بعض الاحيان عن الذنوب الواقعة تحت تأثير القيم الكبيرة والكثيرة الاهمية . فالمسلم الذي يعرف الذنب يجب عليه ان يكون فطناً في جميع الاحوال ، ولا يدع ايّ منفذ لاقتراف الذنب . وحول هذا الأمر نأتي بهاتين القصتين :
1 ـ قال انس : استشهد غلام منا يوم أحد فمسحت أمه التراب عن وجههت وقالت : هنيئاً لك الجنة يا بني ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وما يدريك ؟ « فلعلّه تكلّم فيما لا يعنيه ، وبخل بما لا ينقصه » (1) .
2 ـ ومثل هذا المطلب في مسألة أم « سعد بن معاذ » (2) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لام سعد : « يا ام سعد مه ، لا تجزمي على ربك فان سعداً قد أصابته ضمّة » .
« نعم انه كان في خلقه مع اهله سوء » .
____________
(1) المحجة البيضاء ج 5 ص 200 .
(2) بحار الانوار ط القديمة ج 6 ص 696 ـ قاموس الرجال ج 4 ص 341 .
القسم الرابع
العوامل التي تمنع وتسيطر على الذنب ،
والتعامل مع المذنب
العوامل التي تمنع الذنب :
كما ان للعربة موقّفاً يوقفها عند الانزلاق والمخاطر كذلك في الانسان غرائز وطموحات تحتاج الى سيطرة عليها .
وللسيطرة على الانسان من اقتراف الذنوب هناك خطوط كلية نلخصها بما يلي :
1 ـ التفكير في الامور المختلفة .
2 ـ الايمان والاعتقاد بالله سبحانه بانه حاضر في كل مكان وذكره الدائم .
3 ـ معرفة النفس والانتباه الى شخصية الانسان .
4 ـ الايمان بالمعاد ويوم القيامة .
5 ـ مسألة عرض الاعمال على الائمة ( عليهم السلام ) .
6 ـ ذكر الموت والشعور بقربه .
7 ـ الخوف من الله سبحانه ومن عاقبة الذنب .
8 ـ تأثير العبادة في الامتناع عن الذنب .
1 ـ التفكير مرأة صافية :
التفكير في عواقب الذنب يدعو الى التوبة .
التفكير في فناء الدنيا يدعو الى الزهد .
التفكير في نعم الله سبحانه يدعو الى حب الله سبحانه .
التفكير في الحوادث ذات العبر يدعو الى التواضع .
التفكير في الموت يدعو الى السيطرة على الاهواء النفسية .
التفكير في احوال الكبار يدعو الى الرشاد .
التفكير في عواقب الامور يدعو الى الحصانة من الذنب .
التفكير في عذاب الله سبحانه يدعو الى الخوف من الله سبحانه .
التفكير في الضعف يدعو الى التوكل .
التفكير في وسوسة الشيطان يدعو الى العصمة والارادة القوية .
التفكير في التاريخ يدعو الى عبرة المعتبر .
التفكير في الخلق وما صنع الله سبحانه يدعو الى الايمان بالله سبحانه .
التفكير في آيات واحكام الله سبحانه يدعو الى التسليم في مقابل الاوامر الالهية .
التفكير في المفاسد الاخلاقية يدعو الى تهذيب النفس .
التفكير في مصائب الآخرين يدعو الى الاستقامة .
التفكير في رحمة الوالدين يدعو الى الاحسان اليهم .
ومن خصائص التفكير هي :
انّ التفكير عبادة لا رياء فيها ، لان التفكير لا يرى حتى يكون فيه رياء ... والتفكير عبادة لا يحتاج الى وسيلة ( كل شيء كالصلاة والحج و ... يحتاج الى وسيلة مثل المال والملابس والوسائل النقلية ... ولكن التفكير لا يحتاج الى وسيلةٍ ) .
وعلى كل حال فالتفكير الصحيح سواء كان بصورة مستقيمة او غير مستقيمة له تاثير بالغ في الامتناع من الذنب . كالمرآة التي تعكس القبيح والحسن وكما قال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : « الفكر مراة صافية » (1) .
وقال الامام علي ( عليه السلام ) ايضاً :
« ما زلّ من أحسن الفكر » (2) .
____________
(1) نهج البلاغة حكمة 5 .
(2) ميزان الحكمة ج 7 ص 538 نقل من غرر الحكم .
2 ـ الايمان بالله سبحانه وتعالى والاعتقاد بحضوره في كل مكان :
الايمان بالله جل وعلا وذكره في كل حال والاعتقاد باننا في قبضة الله سبحانه هو من أحد العوامل التي تمنع اقتراف الذنب والتي ترسخ العقيدة وتقضي على طغيان الغرائز الحيوانية في الانسان . وما من شيء اشدّ اثراً من ذلك الايمان الذي يقلع جذور الذنب . فالمؤسسات الاصلاحية ومراكز الشرطة والجيش لا تستطيع اصلاح الفرد والمجتمع ما دامت فاقدة للايمان والقضايا المعنوية . فالاعتقاد بان الله سبحانه يرانا وهو معنا في كل مكان يعطي الانسان قوة يقف بها صامداً امام الذنب . أما المؤسسات الاصلاحية ومراكز الشرطة والجيش فأقصى ما تمتلك من القوة والافراد ليست قادرة على الوقوف امام الذنوب الخفية ، ولا يمكنها السيطرة على الذنوب التي تقترف في الخلوة ولكن الايمان الداخلي للانسان يستطيع ان يضمن السلامة من اقتراف الذنوب الظاهرية والباطنية ... وعلى هذا الاساس نرى تأكيد الروايات والآيات القرآنية على الايمان كعامل رادع ومانع للذنب .
فعلى سبيل المثال نستعرض بعض النماذج :
في الآية 14 من سورة العلق نقرأ :
( ألم يعلم بأنّ الله يرى ) .
وفي الآية 14 من سورة الفجر نقرأ :
( إنّ ربّك لبالمرصاد ) .
وفي الآية 19 من سورة المؤمنين نقرأ ايضاً :
( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ) .
وجاءت كلمة ( بصير ) 51 مرة في القرآن الكريم وكلمة ( سميع ) 49 مرة .
إنّ هذه الآيات تبين بوضوح اننا في قبضة وعين الله سبحانه وتعالى ، يرانا في الخلوة والعلن وفي كل عمل نقوم به حتى الخواطر التي تمر على الانسان فانها مرصودة وفي علم الله جلّ وعلا .
ورد في دعاء الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذي يسمى دعاء « يستشير » قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « أسمع السامعين ، أبصر الناظرين » .
قراءة في الروايات :
قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
« اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فان الشاهد هو الحاكم » (1) .
وقال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ايضاً :
« ولا تهتكوا استاركم عند من يعلم أسراركم » (2) .
ويروى أنّ شخصاً جاء الى الامام الحسين ( عليه السلام ) وقال : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انا رجل كثير الذنوب ولا استطيع ترك الذنب فعظني يا ابا عبدالله .
____________
(1) نهج البلاغة : الحكمة 324 .
(2) نهج البلاغة : الخطبة 203 .
فقال له الامام الحسين ( عليه السلام ) :
« افعل خمسة أشياء واذنب ما شئت فأول ذلك : لا تأكل رزق الله واذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله واذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعاً لا يراك الله واذنب ما شئت ، والرابع : اذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ما شئت ، والخامس : اذا ادخلك مالك في النار فلا تدخل في النار واذنب ما شئت » (1) .
وبدون شك فانّ أحد العوامل الذي يهيء الارضية لاقتراف الذنب هو الغفلة والذي يقابله ذكر الله سبحانه وتعالى ، حيث ان الذكر عامل مهم في منع اقتراف الذنب .
قال الامام الباقر ( عليه السلام ) :
« ثلاثة من أشد ما عمل العباد : إنصاف المرء من نفسه ، ومواساة المرء أخاه وذكر الله على كل حال ، وهو ان يذكر الله عزوجل عند المعصية يهمّ بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية وهو قول الله عز وجل :
( إنّ الذّين اتّقوا اذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فاذا هم مبصرون ) (2) .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) حول ذكر الله سبحانه .
____________
(1) بحار الانوار :ج 78 ص 126 ـ منهاج الشهادة ص 311 .
(2) بحار الانوار : ج 93 ص 379 ـ ميزان الحكمة ج 3 ص 425 .
« .... ولكن ذكر الله في كل موطن اذا هجمت على طاعته أو معصيته » (1) .
وهنا نقطة من اللازم ذكرها وهي ان اموراً ذكرت في القرآن الكريم مثل : الشيطان ، الأموال ، الاولاد ، التجارة ، التفريط في التمتع في الدنيا ، وهذه كلها عوامل غفلة وموانع للذكر وعلى هذا الاساس فانّ ذكر الله سبحانه وتعالى يكون مانعاً للذنب متى ما رفعت هذه الحجب ، حجب الغفلة عن الانسان .
3 ـ معرفة النفس والانتباه الى شخصية الانسان :
انّ أحد العوامل التي تمنع الذنب هو معرفة الانسان لمقدار شخصيته لان اكثر الذنوب تاتي من استهانة الانسان بشخصيته .
فعلى سبيل المثال : لو ان طفلاً كسر اناءً صغيراً في البيت فانك تضربه على يده وتوبخه وتقول له : لماذا كسرت الاناء الصغير ؟ ولكن هذا الطفل لو كسر احد الاواني الغذائية ذات القيمة أمام الضيوف ، فانك في منتهى البرود تقول له : ليس هذا مهماً المهم سلامتك . فانك هنا انتبهت الى شخصيته امام الضيوف وهذا الانتباه يجعلك تسيطر على نفسك مستقبلاً .
____________
(1) بحار الانوار : ج 93 ، ص 154 .
شخصية الانسان في نظر القرآن :
ان الانسان في نظر القرآن خليفة الله سبحانه وتعالى في الارض والذي سجدت له الملائكة ، وما من شيء خلقه الله سبحانه إلاّ وسخره له . في الآية 13 من سورة الجاثية نقرأ :
( وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعاً منه ) .
وجاء في الآية 70 من سورة الاسراء ايضاً :
( ولقد كرّمنا بني آدم ) .
وجاء في نهاية هذه الآية : ( وفضّلناهم ) .
ان هذه الآية تبين لنا عظمة شخصية الانسان التي كرّمها الله سبحانه واودع فيها المواهب الالهية ( من المادية والمعنوية ) وجعل الانسان سيداً لكل الموجودات .
وجاء في الآية 38 من سورة التوبة خطاب الله جل وعلا الموجّه للمؤمنين :
( أرضيتم بالحياة الدّنيا ) .
ويعني : ايها الانسان لا تكن دنيوياً فانت اسمى وارفع من ان تبيع نفسك للدنيا . ولنضرب مثالاً آخر :
لو انك تملك سيارة فخمة جديدة فانك لا تستخدمها في الشارع الترابي ، حيث تقول : من المؤسف استخدام هذه السيارة في هكذا طريق كيف وانت خليفة الله سبحانه في الارض واعلى الموجودات شأناً أليس من المؤسف ان ترتكب الذنوب المضلة
والذنوب الماحقة ؟!
وبالحقيقة لو عرفنا انفسنا وامعنا النظر في شخصياتنا لمنعنا ذلك من اقتراف ايّ ذنب ، ولكن لو تصورنا انفسنا بانها منحطة وفارغة ولم نقيمها فسوف نفعل كل فعل منحط .
ونقرأ في الآية 54 من سورة الزخرف :
( فاستخفّ قومه فأطاعوه ) .
ومعناه : ان البرنامج الاستعماري والاستثماري لفرعون الذي وضعه لقومه جعلهم بلا شخصية وأدّى بهم الى الانحطاط والاستخفاف بأنفسهم وجعلهم بالتالي يتبعون فرعون ، فلو كانوا يمتلكون شخصية قوية وثابتة فمن المحال ان يضحوا بانفسهم في سبيل حياة فرعون الملوثة ، ولكن احساسهم بالحقارة صيّرهم عبيداً لغير الله جل وعلا .
معرفة النفس في نظر الروايات :
قال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
1 ـ إنّه ليس لانفسكم ثمن إلاّ الجنة فلا تبيعوها الاّ بها » (1) .
2 ـ « قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد امكنه ان يكون إنساناً » (2) .
____________
(1) نهج البلاغة الحكمة 456 .
(2) الأخلاق للشيخ الفلسفي ج 2 ص 12 .
3 ـ « ما تكبّر إلاّ وضيع » .
4 ـ وقال الامام الصادق ( عليه السلام ) :
« القلب حرم الله فلا تسكنوا حرم الله غير الله » .
5 ـ وقال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
« عجب لمن ينشد ضالته ، وقد أضل نفسه فلا يطلبها » (1) .
6 ـ وقال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) أيضاً :
« قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله » (2) .
7 ـ وقال الامام علي ( عليه السلام ) ايضاً :
« العارف من عرف نفسه فاعتقها ونزهها عن كل ما يبعّدها ويوبقها » (3) .
8 ـ وقال امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) أيضاً :
« ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً » (4) .
إنّ هذه المجموعة من الآيات والروايات ينتج عنها : ان الانسان يمتلك كرامة ذاتية و اكتسابية . فيجب عليه ان يحترم شخصيّته ويصون كرامته حتى يبتعد عن جملة من الذنوب والخطايا ، فاعطاه شخصّية لنفسه وللآخرين ركن من اركان الهداية والتربية .
____________
(1) غرر الحكم ج 4 ص 340 .
(2) غرر الحكم ج 4 ص 507 ـ ميزان الحكمة ج 8 ص 229 .
(3) غرر الحكم ج 2 ص 48 .
(4) نهج البلاغة خطبة 32 .