لو وقع منه صلى الله عليه وسلم لكان ذنبا في الصورة لا في المعنى ؛ لأن الذم لا يلحق به من الله تعالى ولا منا شرعا ، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنب من المذمة ، ولم يكن يصدق قوله : ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) فدخل الشرفاء أولاد فاطمة عليهم السلام كلهم [ ومن هو من أهل البيت مثل سلمان الفارسي ] (1) إلى يوم القيامة في حكم هذه الاية من الغفران ، فهم المطهرون باختصاص من الله تعالى ، وعناية بهم لشرف محمد صلى الله عليه وسلم ، وعناية الله سبحانه به ... (2) .
فينبغي لكل مسلم [ مؤمن بالله وبما أنزله ] (1) أن يصدق الله تعالى في قوله : ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) فيعتقد في جميع ما يصدر [ من أهل البيت ] (3) رضي الله عنهم أن الله تعالى قد عفا عنهم فيه .
ولا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة ، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله تعالى بتطهيرهم وإذهاب الرجس لا بعمل عملوه ، ولا بخير قدموه بل سابق عناية وإختصاص إلهي ( ذلك
____________
(1) سقطت من « ق » و « س » والمثبت عن « الفتوحات » .
(2) اختصر المقريزي نص ابن عربي ، فحذف بعض الفقرات .
(3) في « ق » و « س » : « ما يصدر من أولاد فاطمة » والمثبت عن « الفتوحات » .
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) (1) .
وإذا صح الخبر الوارد في سلمان رضي الله عنه ، فله هذه الدرجة ؛ فإنه لو كان سلمان على أمر يشنؤه (2) الله وتلحقه المذمة من الله تعالى بلسان الذنب عليه (3) لكان مضافا إلى أهل البيت من لم يذهب عنه الرجس ، فيكون لأهل البيت من ذلك بقدر ما أضيف إليهم ، وهم المطهرون بالنص ، فسلمان منهم بلا شك .
وإذا كانت مرتبة مخلوق عند الله بهذه المثابة أن يشرف المضاف إليهم بشرفهم ، وشرفهم ليس لأنفسهم ، وإنما الله تعالى هو الذي اجتباهم وكساهم حلل الشرف ؛ فكيف بمن له المجد والشرف التام لنفسه ، فهو المجيد سبحانه وتعالى ، فالمضاف إليه من عباده الذين هم عباده ، وهم الذين لا سلطان ولا ملك لمخلوق عليهم [ في الاخرة ، قال تعالى لأبليس : ( إن عبادي ) فأضافهم إليه : ( ليس لك عليهم سلطان ) وما تجد في القرآن عباداً مضافين إليه سبحانه إلا السعداء خاصة ، وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد ، فما ظنك بالمعصومين
____________
(1) سورة الحديد ، آية : 21 .
(2) يشنوه : يبغضه .
(3) في الفتوحات : « أمر يشنؤه ظاهر الشرع وتلحق المذمة بعامله ... لكان مضافاً ... » .
المحفوظين منهم ] (1) القائمين بحقوق سيدهم ، الواقفين عند مراسمه وحدوده ، فشرفهم أعلى ، وهؤلاء هم أقطاب هذا المقام [ 124 / ب ] ومن هؤلاء الأقطاب ورث سليمان رضي الله عنه شرف مقام هذا البيت فكان ، رضي الله عنه ، من أعلم [ الناس بما لله على عباده من الحقوق ، وما لأنفسهم والخلق عليهم من الحقوق ] (2) وأقواهم على أدائها (3) وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو كان الأيمان بالثريا لناله رجال من فارس ، وأشار إلى سلمان الفارسي ، فسر سلمان [ الذي ] ألحقه بأهل البيت مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من أداء كتابته فهو عتيقه صلى الله عليه وسلم ، ومولى القوم منهم .
وبعد أن تبين لك منزلة أهل البيت عند الله تعالى ، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يذمهم [ بما يقع منهم ] (4) أصلا فإن الله تعالى طهرهم ؛ فليعلم الذام لهم أن ذلك يرجع إليه ، ولو ظلموه فذلك الظلم في زعمه [ ظلم ] (4) لا في نفس الأمر [ وإن حكم عليه ظاهر الشرع بإدائه ] (4) بل حكم ظلمهم إيانا (5)
____________
(1 )سقطت هذه الفقرة من « ق » و « س » والمثبت عن « الفتوحات الملكية » .
(2) سقطت من « ق » و « س » والمثبت عن « الفتوحات » .
(3) في « ق » : « على آدابها » . والمثبت عن « س » .
(4) زائدة في « الفتوحات » .
(5) في « س » و « ق » : « ينافي نفس الأمر » والمثبت عن « الفتوحات » .
في نفس الأمر يشبه جري المقادير على العبد في ماله [ ونفسه ] بغرق [ أو بحرق وغير ذلك من الأمور المهلكة ] أو يقع في النار فيحترق أو يموت له أحد أحبابه ، أو يصاب هو في نفسه ، وهذا كله مما لا يوافق غرضه [ ولا يجوز له أن يذم قدر الله ولا قضاءه ] ولكن ينبغي أن يقابل ذلك كله بالرضا والتسليم ، وإن نزل عن هذا المقام فبالصبر ، وإن ارتفع [ عن تلك المرتبة ] (1) فبالشكر ؛ فإن في طي ذلك نعمة (2) من الله تعالى ، وليس وراء ما ذكرناه خير ؛ فإنه ما وراءه إلا الضجر والتسخط ، ولذلك ينبغي أن يقابل المسلم جميع ما يطرأ عليه من [ أهل البيت ] (3) رضى الله عنهم في ماله وفي أهله ، وفي عرضه وفي نفسه أن يقابله بالرضى والتسليم والصبر ، ولا يلحق بهم المذمة أصلا ، وإن توجهت عليهم الأحكام الشرعية من إقامة الحدود المشروعة (4) ؛ فذلك لا يقدح في هذا ، وإنما نمتنع من إلحاق الذم بهم وسبهم إذ قد ميزهم الله تعالى عنا بما ليس لنا معهم فيه قدم ، وأما أداء الحقوق المشروعة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقترض من اليهود ، وإذا طالبوه
____________
(1) زائدة في « الفتوحات » .
(2) في « س » : « نقمة » .
(3) في « ق» : « من أولاد فاطمة » والمثبت عن « الفتوحات » .
(4) في « الفتوحة المكية » : « وإن توجهت عليهم الأحكام المقررة شرعاً فذلك لا يقدح .. » .
بحقوقهم أداها على أحسن ما يمكن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » فذلك حق الله تعالى ، ومع هذا لم يذمهم الله تعالى ، وإنما كلامنا في حقوقكم ، وفيما لكم أن تطالبوهم به فلكم ذلك ، وليس لكم ذمهم ولا الكلام في أعراضهم [ 153 / ا ] ، ولا سبهم ، وان نزلتم عن طلب حقوقكم ، وعفوتم عنهم فيما أصابوه منكم ، كان لكم بذلك عند الله [ اليد العظمى والمكانة ] (1) الزلفى ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما سأل منكم إلا المودة في القربى ، ومن لم يقبل سؤال نبيه فيما هو قادر عليه فبأي وجه يلقاه غدا أو يرجو شفاعته ، وهو ما أسعف نبيه فيما سأله من المودة في قرابته ، ثم انه جاء بلفظ المودة وهي الثبوت على المحبة ؛ فإن من ثبت على محبته استصحب المودة في كل حال ، وإذا استصحب المودة في كل حال لم يؤاخذ أهل البيت فيما يطرأ منهم في حقه مما لا يوافق غرضه ... (2) ألا ترى ما قال المحب وما ذكر المودة التي هي أتم :
وقال الاخر :
____________
(1) زائدة في « الفتوحات » .
(2) عبارة « الفتوحات » : « فإنه من ثبت وده في أمر استصحبه في كل حال ، وإذا استصحبه المودة في كل حال لم يؤاخذ أهل البيت بما يطرأ منهم في حقه مما له أن يطالبهم به ، فيتركه ترك محبة وايثاراً لنفسه لا عليها » .
وكانت الكلاب [ السود ] (1) تناوشه ، وهو يتحبب إليها ، فهذا فعل المحب في حب من لا تسعده (2) محبته عند الله تعالى ولا تورثه القربة (3) عند الله تعالى ، فهل هذا إلا من صدق الحب ، وثبوت الود في النفس ؛ فلو أحببت الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحببت أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورأيت كل ما يصدر منهم في حقك [ مما لا يوافق طبعك ولا غرضك ] أنه جمال محض تتنعم [ بوقوعه منهم ] (4) ، وتعلم أن لك عناية عند الله تعالى حيث ذكرك من يحبه وهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو ذكروك بذم وسب ، فتقول : الحمد لله الذي أجراني على ألسنتهم ، وتزيد الله تعالى شكرا على هذه النعمة ؛ فإنهم ذكروك بألسنة طاهرة قد طهرها الله تعالى بطهارة لم يبلغها علمك .
وإذا رأيناك على ضد هذه الحالة مع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنت محتاج إليه ، وله عليك المنة حيث هداك به ، فكيف أثق أنا بودك إذ تزعم أنك شديد
____________
(1) زائدة في « الفتوحات » .
(2) في « س » : لا تسعفه .
(3) في « ق » : « القربى » والمثبت عن « الفتوحات » و « س » .
(4) زائدة في « الفتوحات » .
الحب فيّ والرعاية لجانبي ، وما ذاك على الحقيقة إلا من نقص إيمانك ، ومن مكر الله تعالى ، وإستدراجه بك حيث لا تعلم ، وصورة المكر فيه أن تقول [ 135 / ب ] وتعتقد أنك في ذلك ذاب عن دين الله تعالى وشرعه ، وإني ما طلبت إلا ما أباح الله تعالى لي طلبه ، ويندرج الذم في ذلك الطلب المشروع ، والبغض والمقت ، وأنت لا تشعر .
والدواء الشافي من هذا الداء العضال أنك لا ترى [ لنفسك معهم حقا ] (1) بل تنزل عن حقك لئلا يندرج فيه ما ذكرت لك ، وما أنت من حكام المسلمين حتى تقيم فيهم حدود الله تعالى ، فلو كشف لك عن منازلهم في الاخرة عند الله تعالى لوددت أن تكون [ مولى من مواليهم ] (2) والله يلهمنا رشد أنفسنا .
قال جامع هذه النبذة : ويؤيد مقالة الشيخ محي الدين هذه ما خرجه الحاكم في مستدركه من حديث معاوية بن هشام قال : حدثنا عمر بن غياث (3) عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار » .
____________
(1) في « ق » : « لا ترى نفسك صاحب حق » والمثبت عن « الفتوحات » .
(2) في « ق » و « س » : « أن تكون عبداً من عبيدهم » .
(3) في « ق » و « س » : « عمرو بن عتاب » والمثبت عن « المستدرك » 3 ـ 152 ، و « ميزان الاعتدال » : 3 / 216 .
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه (1) .
وذكر الفقيه الحافظ محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري في كتاب « ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى » من حديث عمران بن حصين ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي ، فأعطانا ذلك » أخرجه الملا في سيرته (2) .
ومن حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله لفاطمة رضي الله عنها : يا فاطمة تدرين لم سميت فاطمة ؟؟ قال علي رضي الله عنه : لم سميت ؟ قال : ( إن الله عزوجل ، قد فطمها وذريتها من النار يوم القيامة ) (3) .
أخرجه الحافظ الدمشقي .
وقد رواه الأمام علي بن موسى الرضا بسنده ولفظه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله فطم ابنتي فاطمة
____________
(1) انظر « المستدرك » : 3 / 152 كتاب معرفة الصحابة ، مناقب فاطمة رضي الله عنها .
(2) ورد في « مجمع الزوائد » حديث يقاربه ونصه : « عن ابن عباس قال : ان الله غير معذبك ولا ولدك » رواه الطبراني ورجاله ثقات . انظر : 9 / 202 .
(3) الثابت في كتب السيرة أن فاطمة رضي الله عنها ولدت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين وستة أشهر . انظر « مجمع الزوائد » : باب في فضل فاطمة رضي الله عنها : 9 / 211 .
وولدها (1) ومن أحبهم من النار » .
وخرج الأمام أحمد من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أبغض أهل البيت فهو منافق »
وروى أبو الفرج الأصبهاني (2) من طريق عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يحي بن سعيد ، عن سعيد بن أبان القرشي قال : دخل عبد الله بن حسن [ 136 / 1 ] على عمر بن عبد العزيز ، وهو حديث السن له وفرة ، فرفع مجلسه وأقبل عليه ، وقضى حوائجه ثم أخذ عكنة (3) من عكنه فغمزها حتى أوجعه (4) وقال : اذكرها عندك للشفاعة . فلما خرج لامه قومه ، وقالوا : فعلت هذا بغلام حدث ؟! فقال : إن الثقة حدثني حتى كأني أسمعه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها » (5) وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بإبنها . قالوا : فما معنى غمزك بطنه ، وقولك ما قلت ؟ . قال : إنه ليس أحد من بني هاشم إلا وله شفاعة ، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا .
____________
(1) في « س » : وولداها .
(2) انظر كتاب « الأغاني » : « أخبار الخليفة عمر بن عبد العزيز » : 8 / 307 ط بيروت ـ دار الفكر .
(3) العكنة : جمعها أعكان وهي الأطواء في البطن من السمنة .
(4) في « ق » : « على لوجعه » والمثبت عن « س » و « الأغاني » .
(5) مسند أحمد : 4 / 323 .
* * وقال تعالى ( والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) (1) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله ابن عباس ، ومجاهد ، وطلحة ، والحسن ، وقتادة ، وأهل مكة : ( واتبعتهم ) ـ بالتاء ـ ( ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) على الأفراد (2) .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، وابن مسعود بخلاف عنه ، وأبو عمرو بخلاف عنه ، وشيبة والجحدري ، وعيسى : ( واتبعتهم ) بالتاء ( ذريتهم ) ألحقنا بهم ( ذرياتهم ) على إفراد في الأولى وجمع في الثانية (3) .
وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة ، وقرأ ابن عامر ، وابن عباس ، وعكرمة وسعيد بن جبير ، والضحاك
____________
(1) سورة الطور ، آية : 21 .
(2) انظر تفسير « البحر المحيط » : 8 / 149 والطبري 27 / 26 .
(3) انظر تفسير القرطبي : 17 / 66 .
( واتبعتهم ) بالتاء ( ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم ) جمعا في الموضعين .
وقرأ أبو عمرو ، والأعرج ، وأبو رجاء ، والشعبي ، وإبن جبير ، والضحاك : ( وأتبعناهم ) بالنون ( ذرياتهم ) ( بهم ) جمعا في الموضعين ، فكون الذرية جمعا في نفسه حسن الأفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي إنتشارا وكثرة حسن جمع الذرية في قراءة من قرأ : ( ذرياتهم ) ( والذين آمنوا ) مبتدأ و ( أتبعناهم ) خبره ، و ( واتبعتهم ) فعل متعد إلى مفعول و ( أتبعناهم ) معدى بالهمزة إلى مفعولين ، والذريات التي كانت فاعلة صارت مفعولا ثانيا ، وهكذا في جميع موارد هذا الفعل حيث وردت كقوله تعالى : ( لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : « وأتبعه ستا من شوال » (2) [ 136 / ب ] . وقوله : « وأتبع السيئة الحسنة تمحها » وقوله : « وأتبع أهل القليب لعنة » (3) في جميع هذه ، أخر الذي كان فاعلا ، ولم يقدم على قياس قوله تعالى : ( ولنسكننكم الأرض ) (4) ، وقوله : ( وأورثنا القوم الذين كانوا
____________
(1) سورة البقرة ، آية 262 .
(2) انظر مسند الإمام أحمد : 5 / 419 .
(3) انظر مسند الإمام أحمد : 1 / 413 ، والقليب : البتر .
(4) سورة ابراهيم ، آية : 14 .
يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ) (1) ونحو ذلك .
والظاهر أنه يجوز العكس في الموضعين بأن يقول : « أتبعت الذرية أباهم » و « أسكنت الأرض إياكم » ولعل اختيار العكس للبدأة بالأهم ، وإنما عرف هذا بالقرينة ، ولو قلت : « أتبعت زيدا وعمرا ، وأورثت سالما غانما احتمل » ، والحمل على ما ورد من نظائرها يقتضي أن عمرا تابع ، وسالما وارث .
وقوله : ( بإيمان ) متعلق « بأتبعنا » .
وقال الزمخشري ( 2) : [ متعلق ] (3) « بألحقنا » وهل هو إيمان الذرية فيراد بهم الكبار البالغون ، أو إيمان الاباء فيراد بهم الصغار ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه يراد بهم الصغار ، وعلى هذا فالتنكير في الأيمان يراد به التعظيم تنبيها على أنه إيمان خالص عظيم المنزلة ، وعلى الأول يكون التنكير للتقليل ، كأنه قال : شيء من الأيمان لا يوصلهم لدرجة الاباء أتبعناهم آباءهم .
وهل التبع في الدخول أو في رفع الدرجة ؟
____________
(1) سورة الأعراف . آية : 137 .
(2) انظر كتاب « الكشاف » : 4 / 327 .
(3) ساقطة من « ق » والمثبت من « س » .
قال أبو علي الفارسي : إن حملت الذرية على الصغار كان قوله : « بإيمان » في موضع نصب على الحال من المفعول أي اتبعتهم بإيمان من الاباء ذريتهم . يعني على قراءة الجمهور ، وكلا القولين مروى عن ابن عباس رضي الله عنه .
وقال الواحدي : والوجه أن تحمل الذرية على الصغير والكبير ؛ لأن الكبير يتبع الأب بإيمان [ نفسه والصغير يتبع الأب بإيمان ](1) الأب ، والذرية تقع على الصغير والكبير .
وقد اختلف الناس في معنى الاية على ثلاثة أقوال :
* أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن جبير ، والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الأيمان ، فيكونون مؤمنين كآبائهم ، وإ ن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالاباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الاباء كرامة للاباء .
وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا الحديث تفسير الاية ، وهو ما رواه جبارة [ 137 / ا ] بن المغلس ، حدثنا قيس عن (2) عمرو بن مرة عن (3) سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال
____________
(1) سقطت من « س » .
(2) في « س » : عن ابن عمرو بن مرة .
(3) في « س » عن بان عرمو بن مرة بن سعيد . والمثبت عن « ق » وابن كثير .
رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، ثم قرأ ( والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) قال : ما أنقصنا الاباء بما أعطيناه البنين (1) .
قال ابن عطية : وكذلك وردت أحاديث تقتضي أن الله تعالى رحم الاباء رعيا للأبناء الصالحين .
* ثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا والضحاك : معنى هذه الاية أن الله تعالى ألحق الأبناء الصغار بأحكام الاباء المؤمنين ، يعني الموارثة والدفن في قبور المسلمين ، وفي أحكام الاخرة ، وفي الجنة . ومعنى هذا القول أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم ، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الاباء ؛ لأن الولد يحكم له بالأسلام تبعا لوالديه ، فيكون معنى الاية على هذا : واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ، أي إن بلغت أن آمنت ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الأيمان .
* ثالثها : ذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الاية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل إسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو ما هو في قوله تعالى : ( أنا حملنا ذريتهم في
____________
(1) انظر تفسير الطبري : 27 / 24 .
الفلك المشحون ) (1) .
وقال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنه : إن كان الاباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله [ تعالى الأبناء إلى درجة الاباء ، وإن كان الأبناء أرفع درجة من الاباء رفع الله ] (2) الاباء إلى درجة الأبناء (3) .
وهذا القول إختيار الفراء ، والاباء على هذا القول داخلون في إسم الذرية ، ويجوز ذلك ، كما قيل في قوله تعالى : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) .
قال ابن عطية : وفي هذا نظر .
وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الاية في الكبار من الذرية ، وليس فيها من الصغار شيء .
وقال القاضي منذر بن سعيد البلوطي : هي في الصغار لا في الكبار .
وحكى الأمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري قولا معناه أن الضمير في قوله : ( بهم ) عائد على الذرية ، والضمير الذي بعده [ 137 / ب ] في ( ذرياتهم ) عائد على « الذين آمنوا » ،
____________
(1) سورة يس ، آية : 41 .
(2) ساقطة من : « س » .
(3) انظر تفسير القرطبي : 17 / 67 .
أي اتبعتهم الكبار ، وألحقنا نحن بالكبار الصغار (1) .
قال ابن عطية : وهذا القول مستنكر .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أنه فسر الذين آمنوا : بالمهاجرين والأنصار ، والذرية : بالتابعين .
قال ابن عطية : وأرجح الأقوال في هذه الاية القول الأول بمعنى أن الصغار والكبار المقصرين يلحقون بالآباء ، لأن الايات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة ، فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء ولفظة « ألحقنا » تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .
قال جامعه : خرج الحاكم من حديث عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( ألحقنا بهم ذرياتهم ) قال : إن الله عز وجل يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل ، ثم قرأ : ( والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم ) يقول : وما أنقصناهم (2) .
وروى شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال :
____________
(1) انظر تفسير الطبري : 27 / 25 ، 26 .
(2) انظر « المستدرك » : تفسير سورة الطور : 2 / 468 .
يدخل الرجل الجنة فيقول : أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين ولدي ؟ أين زوجي ؟ ! فيقال له : لم يعملوا مثل عملك . فيقول : كنت أعمل لي ولهم . فيقال لهم : ادخلوا الجنة . ثم قرأ : ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) الاية (1) .
وقال جامعه : فإذا أكرم الله تعالى المؤمن لأيمانه ، فجعل ذريته الذين لم يستحقوا درجته [ معه ] (2) في الجنة لتقصيرهم ، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه تبارك وتعالى من أن يهين ذريته بإدخالهم النار في الاخرة ، وهو عز وجل يقول : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) (3) بل من كمال شرفه صلى الله عليه وسلم ورفيع قدره ، وعظيم منزلته عند الله عز وجل أن يقر الله سبحانه وتعالى عينه بالعفو عن جرائم ذريته ، والتجاوز عن معاصيهم ، ومغفرة ذنوبهم وأن يدخلهم الجنة من غير عذاب جهنم .
____________
(1) سورة الرعد : 23 .
(2) ساقطة من « س » .
(3) سورة آل عمران . آية : 192 .
3
* * وقال تعالى : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ) (1) [ 138 / ا ] قال سفيان عن مسعر عن عبد الملك ، عن (2) ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله : ( وكان أبوهما صالحا ) [ قال : حفظا لصلاح أبيهما ، وما ذكر عنهما صلاحا ] (3) .
قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين (4) .
وكان السابع من آبائهما .
قال جامعه : فإذا صح أن الله سبحانه قد حفظ غلامين لصلاح أبيهما فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف ، وإن طالت الأحقاب .
____________
(1) سورة الكهف ، آية : 82 .
(2) في « س » : بن ميسرة .
(3) سقط من « ق » والمثبت « س » .
(4) انظر « المستدرك » تفسير سورة الكهف : 2 / 369 .