الوزن الاجتماعي للمرأة في الإسلام

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب قضايا المجتمع والاسرة ص 111 ـ ص 136



الوزن الاجتماعي للمرأة في الاسلام

فالإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء ، وقد قال تعالى : ( بعضكم من بعض ) (1) فلها أن تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي .
إحداهما : أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع من بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث ، وتمتاز بذلك منن الرجل .
والثانية : أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور ، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها الوظائف الاجتماعية المحولة اليها . فهذا وزنها
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 195 .
( 112 )

الاجتماعي ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع ، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما ، وما يختص به أحدهما في الاسلام ، قال تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً ) (1) .
يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل ، وإن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث ، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها ، فلا ينبغي أن يتمناه متمن ، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الله يؤتيه من يشاء ، واسألوا الله من فضله ، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده : الرجال قوامون على ما سيجيء بيانه .

"30"

ـ مساواة في الأحكام ـ

وأما الأحكام المشتركة والمختصة : فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الإجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك .
وعمدة هذه الموارد : أنها لا تتولى الحكومة والقضاء ، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً ، ولها نصف سهم الرجل في الارث ، وعليها : الحجاب وستر
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 32 .
( 113 )

مواضع الزينة ، وعليها أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها ، وتدرك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل : الأب أو الزوج ، وان عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه ، وأن لها حق تربية الولد وحضانته .
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر ، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها ، وأنها لازمة الارفاق في جميع الأحول .
والمتحصل من جميع ذلك : أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينية ( أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع ) ، وأما في جانب العمل ، فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها ، واما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا ـ المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة ـ للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك ، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ، ونحو ذلك كلها فضلاً لها تتفاضل به ، وفخراً لها تتفاخر به ، وقد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن ، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب .
والسنة النبوية : تؤيد ما ذكرناه ، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيد النساء فاطمة الزهراء عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء ، والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام ، ووصاياهم في أمر النساء ، ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية


( 114 )

المتعلقة بآيات النساء .
وإنما الأساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة ، وقد علم من الكلام في وزنها الإجتماعي ، كيفية هذا البناء ، ونزيده هاهنا إيضاحات فنقول : لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الإجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالآخرة إلى الطبيعة ، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الإجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان ، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة ، أو عن صحته الطبيعية إلى القسم والعاهة .
فالإجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي في النهاية إلى الطبيعة ، وان اختلف القسمان من حيث ان المجتمع الفاسد يصادف في طريق الإنتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الإجتماع الفاضل .
فهذه حقيقة ، وقد أشار اليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون من هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان ، قال تعالى: ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (1) .
وقال تعالى : ( الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) (2) .
وقال تعالى : ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها
____________
(1) سورة طه ، الآية : 50 .
(2) سورة الاعلى ، الآيتان : 2 ـ 3 .

( 115 )

وتقواها ) (1) .
إلى غير ذلك من آيات القدر .
فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة ، والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة ، والفطرة انطباقاً تاماً ، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (2) .
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعية بين الأفراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم ، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الإجتماعي أن يبذل كل مقام إجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع ، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ، ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب ، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر في الشؤون والدرجات ، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لما لهما معاً .
بل الذي يقتضيه العدل الإجتماعي ويفسر به معنى التسوية : ان يعطي كل ذي حق حقه وينزل منزلته ، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً ، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( ولهن
____________
(1) سورة الشمس ، الآيتان : 7 ـ 8 .
(2) سورة الروم ، الآية : 30 .

( 116 )

مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) ( الآية ) ، كما مر بيانه ، فأن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال .
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني ، الفكر والإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والإرادة اعني الاختيار ، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع ، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم ، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم ، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها ، قال تعالى : ( فلا جناح عليكم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف ) (1) .
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اخرى ، فان المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء ، واستوجب ذلك ان جسمها ألطف وأنعم ، كما ان جسم الرجل أخشن وأصلب ، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة ، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية .
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين : أعني التعقل ، العواطف ( الاحساسات )
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 234 .
( 117 )

فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة ، وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ، وجعل نفقتها على الرجل ، وعوض ذلك له بالسهمين في الارث ( وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطي المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم ، والانتقاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن وسنزيده ايضاحاً في الكلام على آيات الارث إن شاء الله تعالى .
ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة اليها .
فإن قلت : ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب تعطلها عن العمل ، فإن ارتفعت الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها ، وكفاية مؤنتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نماءً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل المجتمع ، وقد أيدت التجربة ذلك .
قلت : وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرُ ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر . والذي اُصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام ، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى . ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية : أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين ، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل ، فهذا معاوية ، يقول على


( 118 )

منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله : إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم ، وقد فعلت ، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن دونهم ، ولولا استغاثة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم .


حرية المرأة في المدنية الغربية

لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسر ، واعطائها الاستقلال في الارادة والعمل ، وأن اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام ـ وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية ، وهي متوسطة متخللة ، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها .
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت ( إجماله ) .
والرأي العام عندهم تقريباً : أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل .
ويتوجه عليه : أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة ، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ، ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل .


( 119 )

ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء ، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل المجتمع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إن شاء الله تعالى .


قوانين الإسلام الإجتماعية ، وقوانين العرب

عمل النكاح في أصول الأعمال الاجتماعية ، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي ، وقد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداءً أو أنتهاءً .
وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والإناث ـ لم يوضع هباءً باطلاً ، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث وكذا العكس ، وأن هذا التجهيز لا غاية له إلا انتاج المثل وإبقاء النوع بذلك ، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها ، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع ، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوجة وأحكام الطلاق والعدة والأولاد والارث ونحو ذلك .
وأما القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة ، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك ، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة


( 120 )

متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة ونحو ذلك .
وهذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشاء الله العزيز ، لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً ، فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع ، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من انحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال .
وهذا الداعي إنما يدعو إلى الإجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا ، وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه ، فبناء ـ الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه .
ولو كان الأمر على هذا ، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج في الأحكام الاجتماعية بشيء أصلاً إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون ، وفي ذلك ابطال فضيلة العفة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمراريث كما التزمه الشيوعية ، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الإنسان ، وسنزيده أيضاحاً في محل يناسبه إنشاء الله ، هذا إجمال الكلام في النكاح ، واما الطلاق فهو من مخافر هذه الشريعة الإسلامية ، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل


( 121 )
على المنع عنه ، وإما خصوصيات القيود المأخوذة من تشريعه فسيجيء الكلام فيها إنشاء الله تعالى . وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن .


( 122 )


( 123 )


قيمومة الرجال على النساء

قوله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله ) .
والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء ، وهو زيادة قوة التعقل فيهم ، وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد في الأعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة عاطفية مبنية على الرقة واللطافة ، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما انفقوه في مهورهن ونفقاتهن .
وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله : ( الرجال قوامون على النساء ) غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامة الإجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلاً الذين يتوقف عليهما حياة المجتمع ، وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء ، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل كل ذلك مما


( 124 )

يقوم به الرجال على النساء .
وعلى هذا فقوله : الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام ، وأما قوله بعد : فالصالحات قانتات ( الخ ) الظاهر في الإختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه .
قوله تعالى : ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) المراد بالصلاح معناه اللغوي ، وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس . والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع .
ومقابلتها لقوله : واللاتي تخافون نشوزهن إلى آخره تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات ، وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الأزدواج لا مطلقاً ، وأن قوله : قانتات حافظات ـ الرذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن ـ حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية ، وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية .
وبعبارة اخرى كما ان قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس ، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الارادة الفردية ، وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف ، كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ المرأة في ما تملكه إرادة ولا


( 125 )

تصرف ، ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والإجتماعية ، والدفاع عنها ، والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة اليها ، بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بازاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور ، وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره ، وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال ، وسلطها عليه في ظرف الازدواج والإشتراك في الحياة المنزلية .
فقوله : فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح ، وإذا كن صالحات فهن لا محالة قانتات ، أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ، ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا .
وأما قوله : بما حفظ الله ، فالظاهر أن ما مصدرية ، والباء للآلة والمعنى : إنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة ، وأوجب عليهن الإطاعة وحفظ الغيب لهم .
ويمكن أن يكون الباء للمقابلة ، والمعنى حينئذ : أنه يجب عليهن القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري ، وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة ، والمعنى الأول أظهر .
وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد شيء منها .


( 126 )


ماذا تعني قيمومة الرجل ؟

تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الإنساني السليم ، وترجيحه إياه على الهوى واتباع الشهوات ، والخضوع لحكم العواطف والإحساسات الحادة وحضه وترغيبه في اتباعه ، وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ، ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً وبكل لسان وبيان .
ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ، ومهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) (1) .
وقوله : ( لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (2) .
وقوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (3) .
لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعاً لحكم العقل . وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الإسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الاعمال والأحوال والأخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه ، وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر والقمار وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والإفتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين .
____________
(1) سورة الفتح ، الآية : 29 .
(2) سورة الروم ، الآية : 21 .
(3) سورةالاعراف ، الآية : 32 .

( 127 )

والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الأمور الكلية والجهات العامة الاجتماعية ـ التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب ـ إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال دون النساء .
وهو كذلك ؛ قال الله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) والسنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك ، وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن .
وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك والسيرة النبوية تمضي كثيراً منها ، والكتب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لاخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن باصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح ، وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا .
اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور ، والحفظ في الغيبة ، ولا يمضي لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك .


( 128 )

بحث روائي
في المجتمع في قوله تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله ) ( الآية ) : أي لا يقل أحدكم : ليت ما اعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسداً ، ولكن يجوز أن يقول : اللهم أعطني مثله ، قال : وهو المروي عن أبي عبدالله عليه السلام (1) .
أقول : وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام مثله (2) .
في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ) ، وفي قوله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) أنهما نزلتا في على عليه السلام (3) .
أقول : والرواية من باب الجري والتطبيق .
وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال : ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قول الله عز وجل : واسألوا الله من فضله (4) .
أقول : ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروى هذا المعنى أيضاً عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السلام (5) ، وروى قريباً منه أيضاً القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه السلام .
____________
(1) تفسير مجمع البيان ج 2 ، ص 40 .
(2) تفسير العياشي ، ج 1 ، ص 239 رواية 115 .
(3) تفسير البرهان ج 1 ، ص 361 ( دار الكتب العلمية ) .
(4) الكافي ج 5 ، ص 80 رواية 2 .
(5) تفسير العياشي ج 1 ، ص 39 ، رواية 116 ورواية 117 .

( 129 )

وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في ذيل قول : ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) (1) .
وفي صحيح الترمذي عن ابي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل (2) .
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج .
وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ) قال : عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث ، ولم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره اليها (3) .
وفيه أيضاً باسناده عن إبراهيم بن محرز قال : سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا عنده قال : فقال رجل لامرأته : أمرك بيدك ، قال : أنى يكون هذا والله يقول : ( الرجال قوّامون على النساء ) ليس هذا بشيء (4) .
وفي الدر المنثور أخرج ابن ابي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تستعدي على زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القصاص ، فأنزل الله : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية فرجعت بغير قصاص
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 212 .
(2) صحيح الترمذي : ج 5 ، ص 528 باب 116 حديث 3571 .
(3) التهذيب ج 9 ، ص 268 رواية 2 باب 4 .
(4) التهذيب ج 8 ، ص 88 رواية 221 باب 36 وفي الحديث تكملة .

( 130 )

أقول : ورواه بطريق اخرى عنه عليه السلام ، وفي بعضها : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أردت أمراً وأراد الله غيره ، ولعل المورد كان من موارد النشوز ، وإلا فذيل الآية : ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ) .
وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث أن ظاهرها أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ، ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه وتشريعه ، وهو ينافي عصمته ، وليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به ، والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعاً أو رفعاً لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لأمته فإن ذلك تخطئة باطلة .
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله : ( قانتات ) يقول مطيعات (1) .
وفي المجمع في قوله تعالى : ( فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) الآية ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : يحول ظهره اليها ، وفي معنى الضرب عن أبي جعفر عليه السلام أنه الضرب بالسواك (2) .
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله : ( فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ) قال : الحكمان يشترطان إن شاءا فرقاً ، وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز ، وإن جمعا فجائز (3) .
أقول : وروي هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق أخر فيه وفي تفسير
____________
(1) تفسير القمي ج 1 ، ص 137 . ( مؤسسة دار الكتاب : قم ) .
(2) تفسير مجمع البيان ج 2 ، ص 44 .
(3) الكافي ج 6 ، ص 146 رواية 3 .

( 131 )

العياشي .
وفي تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة تزوجها رجل ، وشرط عليها وعلى أهلها ان تزوج عليها امرأة وهجرها أو أبى عليها سرية فإنها طالق ، فقال : شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه ، وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك ، قال الله في كتابه : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) وقال : ( أحل لكم مما ملكت أيمانكم ) وقال : ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيرا ) (1) .
وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أصحابه فقالت : بأبي أنت وامي إني وافدة النساء إليك ، واعلم نفسي لك الفداء أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي .
إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك ، وإنا معشر النساء محصورات مقسورات ، قواعد بيوتكم ، ومقضى شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابكم ، وربينا لكم أموالكم فما نشارككم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ، ثم قال : هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من
____________
(1) تفسير العياشي ج 1 ، ص 240 رواية ( 121 ) .
( 132 )

هذه ؟ فقالوا : يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليها ثم قال لها : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء : أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ، فأدبرت المرآة وهي تهلل وتكبر استبشاراً (1) .
أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة ، وأهل السنة ومن أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام : جهاد المرأة حسن التبعل (2) .
ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اس ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة ، ورواه أيضاً في الكافي بإسناده عن عبدالله بن كثير عن الصادق عليه السلام عن علي عليه أفضل السلام ، وبإسناده أيضاً عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه السلام في رسالته إلى ابنه : أن المرأة ريحانة ، وليست بقهرمانة (3) .
وما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها » .
وقد كان يتعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ؛ ففي الكافي أيضاً بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيضرب أحدكم المرأة ثم يظل معانقها ؟ ! وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث ، ومن التأمل فيها يظهر رأي الإسلام فيها .
ولنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية فنقول :
____________
(1) السيوطي : الدر المنثور : ج 2 ، ص 153 .
(2) الكافي ج 5 ، ص 9 رواية 1 .
(3) الكافي ج 5 ، ص 510 رواية 3 .

( 133 )

يظهر من التأمل فيه ، وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين ، ومختلف ما قرره الإسلام في حقهن أنهن على احتجابهن واختصاصهن بالأمور المنزلية من شؤون الحياة غالباً لم يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الأمر ، والسعي في حل ما ربما كان يشكل عليهن ، وهذه حرية الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الاسلامية في آخر سورة آل عمران .
ويستفاد منه ومن نظائره أيضاً أولاً أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير امور المنزل الداخلية وتربية الأولاد ، وهذه وإن كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب والتمريض الندبي ـ والظرف ظرف الدين ، والجو جو التقوى وابتغاء مرضاة الله ، وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والترتبية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبة الأولاد والتعلق بالحياة المنزلية ـ كانت تحفظ هذه السنة .
وكان الاشتغال بهذه الشؤون والاعكتاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهن يشغلن عن الورود في مجامع الرجال ، واختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله لهن ، ويشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قروناً كثيرة بعد ذلك حتى نفذ فيهن الارسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت اليهن واليهم هلاك الأخلاق ، وفساد الحياة وهم لا يشعرون ، وسوف يعلمون ، ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء ، واكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكن كذبوا فأخذوا ) .
وثانياً : إن في السنة المفروضة في الاسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد والقضاء والولاية .


( 134 )

وثالثاً : ان الاسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلاً جهاداً للمرأة ، وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا ـ وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد ـ قدر لكن الظرف الاسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانية المرضية عند الله سبحانه ، وهو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل إنسان مسلكه الذي ندب اليه ، وللزومه الطريق الذي خط له ، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانية وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية ، وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوي ، ولا لقاض يتكي على مسند القضاء ، وهما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرض لمهالك ومخاطر تهددهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين . وإن ربك لبالمرصاد ـ فإي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما ، وخط له خطاً وأشار اليه بلزومه وسلوكه .
فهذه المفاخر إنما يحييها ويقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربي اجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض ، واختلاف الشؤون الاجتماعية والأعمال الإنسانية بحسب اختلاف المجتمعات في اجوائها مما لا يسع أحداً إنكاره .
هو ذا الجندي الذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك ، وهو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيداً ، وهو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدا بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين


( 135 )

ما يعتقد بأن الموت فوت وبطلان وليس إلا بغية وهمية ، وكرامة خرافية ، وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات ويعظم قدرهن بذلك الناس تعظيماً لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية ، وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطين من أنفسهن للملأ دهراً طويلاً في المجتمعات الإنسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء ، وأشنع ما يعيرن به ، فليس ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويعظم الحقير ، ويهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الإسلام أموراً نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة ، أو يحقر أموراً نستعظمها ونتافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الأولى .