10 ـ التكامل في المجتمع الإسلامي

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب قضايا المجتمع والاسرة ص 26 ـ ص 66


وأما الاسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الاعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شيء مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الانسان إلا وللشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه .
نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على كملة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بصورة عميقة في السنة الاسلامية ، والسيرة العملية التي تندب اليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطباقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل أمة قوية وضعيفة .
وأما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (1) .
وقال تعالى : ( خلق لكم ما في الارض جميعاً ) (2) .
وقال تعالى : ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ) (3) .
ومن عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين ، وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الاسلام بقوله تعالى : ( لا إكراه في
____________
(1) سورة الاعراف ، الآية : 32 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 29 .
(3) سورة الجاثية ، الآية : 13 .

( 42 )

الدين ) (1) وما يشابهه من الآيات الكريمة .
وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة ، والذي نضيف اليها هاهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الاسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد ؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح ؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه .
وبعبارة اخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملاً اختيارياً للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير ، وإنما الذي يقبل الحظر والإباحة هو الإلتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة ، والعمل المخالفين لها ؛ فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ، ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتكِ الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد ( التوحيد والنبوة والمعاد ) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ( أهل الكتاب ) فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدفاً لأصل الدين ؛ نعم هاهنا حرية اخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث .


ـ 10 ـ
التكامل في المجتمع الاسلامي

ربما أمكن أن يقال : هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 256 .
( 43 )

السعيدة ، والمجتمع الاسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقيق القوى المتضادة في الشيء وتفاعلها حتى تولد بالكسر والانكسار مولوداً جديداً خالياً من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الاسلام يرفع الأضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي .
أقول : وهو من إشكالات المادية الجدلية ( ماترباليسم ديالكتيك ) وفيه خلط عجيب فإن العقائد والمعارف الانسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما ، وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك .
ونوع آخر لا يقبل التحوّل وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدأ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاءً قاطعاً واقفاً غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي ، فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراء كثيرة كلية ثابتة في حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا : إن الانسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الانسان ، وإن الانسان


( 44 )

يجب أن يعيش في حال الاجتماع ( التجمع ) وقولنا : إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الانسان جزء من العالم ، وإن الانسان جزء من العالم الأرضي وان الانسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف المجتمعات وركودها ، ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلهاً واحداً شرع للناس شرعاً جامعاً لطرق السعادة من طريق النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم ، وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الاسلام مجتمعه وتحفظ عليها كل التحفظ ، ومن المعلوم أنه مما لا يوجب باصطكاك ثبوته ونفيه وانتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مراراً وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطاً وخسة .
والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوماً فيوماً في طريق الاستفادة من مزايا الطبيعة ، وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائماً والاسلام لا يمنع من ذلك شيئاً .
وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكي والديموقراطية والشيوعية ، ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الانساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكامل فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الانسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكناً


( 45 )
واتساعاً في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائداً على ذلك ؟ ومجرد وجوب التحول على الانسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحوّل مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة .
فإن قلت : لا مناص من عروض التحوّل في جميع ما ذكرت ، أنه مستغن عنه كالاعتقادات والأخلاق الكلية ونحوها فأنها جميعاً تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية والمحيطات المختلفة ، ومرور الأزمنة ، فلا يجوز أن ينكر أن الانسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم ، وكذا الانسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الاستوائية والقطبية ، والنقاط المعتدلة ، وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم ، وفقير وغني ، ونحو ذلك فالأفكار والآراء تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الأعصار بلا شك كائنة ما كانت .
قلت : الإشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الانسانية ، ولازمها كون الحق والباطل والخير والشر أموراً نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدأ والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيراً للإنسان ، وكون العدل خيراً ( حكماً كلياً لا من حيث انطباقه على المورد ) تكون أحكاماً نسبية متغيرة بتغير الأزمنة والأوضاع ، والأحوال ، وقد بيّنا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها .
وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية .
وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت ( أي كانت كلية ـ مطلقة ـ ثابتة ) أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ، ولو لم تكن كلية مطلقة ، بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال ،


( 46 )

وبعبارة اخرى لو صح أن « كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوماً » وجب أن يتغير هذا الرأي نفسه ـ أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبداً ـ فانهم ذلك .

ـ 11 ـ
هل الاسلام قادر على إسعاد البشرية ؟

ربما يقال : هب أن الاسلام لتعرضه لجميع شؤون الانسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذلك العصر إلى سعادتهم الحقيقية ، وجميع أمانيهم في الحياة لكن الزمن استطاع أن يغير طرق الحياة الانسانية ، فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرناً المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية ، فقد بلغ الانسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغاً من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم ؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الاخرى ؟
والجواب : أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها ، وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة اخرى يحتاج الانسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ، ولباس يلبسه ، ودار يقطن فيه ويسكنه ، ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى آخر ومجتمع يعيش بين أفراده ، وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك ، وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الانسان إنساناً ذا هذه الفطرة والبنية ، وما دام حياته هذه الحياة الانسانية والانسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء .


( 47 )

وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الانسان بها حوائجه المادية ، ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها .
فقد كان الانسان الأولي مثلاً يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج ، وهو اليوم يهيىء منها ببراعته وابتداعه ألوفاً من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته ، وألوان يستلذ منها بصره ، وطعوم يستطيبها ذوقه ، وكيفيات يتنعم بها لمسه ، وأوضاع وأحوال اخرى يصعب إحصاؤها ، وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث ان الجميع غذاء يتغذى به الانسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته . وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الانسان أولاً لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقاً ، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الاسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظاً من غير تغير وانحراف ، وأما مع المخالفة فالسنة الاسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم ، والعصر الحديث .
وأما الاحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زماناً وزماناً وتتغير سريعاً بالطبع كالأحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والمؤسسات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم على أمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى : ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على


( 48 )

الله ) (1) كل ذلك من الأمور العامة .
وهذه أحكام وقواعد جزئية تتغير بتغير المصالح والاسباب التي لا تزال يحدث منها شيء ويزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر .


ـ 12 ـ
من الذي يتقلّد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ؟

كانت ولاية أمر المجتمع الاسلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وافتراض طاعته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم .
قال تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (2) .
وقال تعالى : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) (3) .
وقال تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) (4) .
وقال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (5) .
إلى غير ذلك من الآيات الكبيرة التي يتضمن كل منها بعض شؤون ولايته العامة في المجتمع الاسلامي أو جميعها .
والوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ويمتلىء منه نظراً ثم يعود إلى مجموع ما نزل من الآيات في الأخلاق والقوانين المشرعة في الأحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 159 .
(2) سورة التغابن ، الآية : 12 .
(3) سورة النساء ، الآية : 105 .
(4) سورة الأحزاب ، الآية : 6 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 31 .

( 49 )

المرابطات والمعاشرات فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي والبيان الوافي ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام البتة .
وهاهنا نقطة اخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها ، وهو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، كقوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة ) (1) .
وقوله : ( وانفقوا في سبيل الله ) (2) .
وقوله : ( كتب عليكم الصيام ) (3) .
وقوله : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (4) .
وقوله : ( وجاهدوا في سبيله ) (5) .
وقوله : ( وجاهدوا في الله حق جهاد ) (6) .
وقوله : ( الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما ) (7) .
وقوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (8) .
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 77 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 195 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 183 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 104 .
(5) سورة المائدة ، الآية : 35 .
(6) سورة الحج ، الآية : 78 .
(7) سورة النور ، الآية : 2 .
(8) سورة المائدة ، الآية : 38 .

( 50 )

وقوله : ( ولكم في القصاص حياة ) (1) .
وقوله : ( وأقيموا الشهادة لله ) (2) .
وقوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) (3) .
وقوله : ( إن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (4) .
وقوله : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .
ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر ، ولم يرد إقامته إلا منهم ، فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم والنبي ومن دونه في ذلك سواء .
قال تعالى : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (6) .
فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذي لأجزاء المجتمع الاسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعاً كما راعاه تكويناً وأنه تعالى لا يضيعه ، وقال تعالى : ( إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 179 .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 2 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 103 .
(4) سورة الشورى ، الآية : 13 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 144 .
(6) سورة آل عمران ، الآية : 195 .

( 51 )

والعاقبة للمتقين ) (1) .
نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية ، قال تعالى : ( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (2) .
فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدينا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حياً .
لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديمقراطية وغيرها فإن بينها وبين الاسلام فروقاً بينة مانعة من التشابه والتماثل .
ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الإنسان وعمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ .
فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه . ويعتذر ـ لو اعتذر ـ أن ذلك من
____________
(1) سورة الأعراف ، الآية : 128 .
(2) سورة الجمعة ، الآية : 2 .

( 52 )

شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ، ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ، ويستدل عليه بسيفه ، وكذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده .
ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهور ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها ، لكن المجتمع الإسلامي مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ، ولا تفاضل ولا تفاخر ، ولا كرامة وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس ، قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) (1) .
وقال تعالى : ( فاستبقوا الخيرات ) (2) .
فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغني والفقير والصغير والكبير في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية
____________
(1) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 148 .

( 53 )

على سائرها السلام والتحية . ومنها أن القوة التنفيذية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق أخر لا تخفى على الباحث المتتبع .
هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم أثنا عشر إماماً على التفصيل المودوع في كتب الكلام .
ولكن على أي حال أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال ، والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة الإمامة دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير والتولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (1) .

ـ 13 ـ
العقيدة جنسية المجتمع الإسلامي

ألغى الإسلام أصل الانشعاب من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الأرضي ، وهذان أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب
____________
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
( 54 )

وغيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الانساني شعوياً وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله .
ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطناً يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم .
وهذا وإن كان أمراً ساقهم إلى تلك الحوائج الطبيعية التي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد ، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتته وتآلفها وتقويها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح ، وهذا أمر مشهور من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصراً ثم ... ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً .
والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الاخرى فيصير واحداً منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى فتنعزل الأنسانية عن التوحيد والتجمع وتبتلى من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الأحاد الحديثة ( أعني الأحاد الاجتماعية ) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار ، وغير ذلك ، والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم .
وهذا هو السبب في أن الغى الإسلام هذه الإنشعابت والتشتتات والفروق . وبنى المجتمع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك ، حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث ، فإن المدار


( 55 )

فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلاً .
ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل امره في حال من الأحوال ، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين واعلاء كلمته ، وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ، ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والاشارة في الأعمال المفروضة عليه .
ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلاً يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال ، وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف . ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص .
قال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) (1) .
وقوله : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) (2) .
وقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (3) .
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون ) (4) .
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 106 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 28 .
(3) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 102 .

( 56 )


ـ 14 ـ
البعد الاجتماعي للإسلام

يدل على ذلك قوله تعالى : ( وصابروا ورابطوا لعلكم تفلحون ) ، على ما مر بيانه وآيات اُخر كثيرة .
وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع ، وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه .
فالجهة الأولى من الإختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيماً في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع ، وشرع وجوب الصوم والحج مثلاً للمستطيع غير المعذور ولازمه إجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين : الفطر والأضحى ، والصلاة المشروعة فيهما ، وشرع وجوب الصلوات اليومية عينياً لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ ، وهذا نوع آخر .
والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت وألزم على الاجتماع في أمور اخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة ، غير أن السنة جرت على أدائها جماعة ، وعلى الناس أن يقيموا السنة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة : ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم . وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت .


( 57 )

وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الاسلامي .
وأهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة اخرى ، وهي اجتماعية الاسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الإعمال ( العبادية والمعاملية والسياسية ) ومن الأخلاق الكريمة ومن المعارف الأصلية .
نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الايراد ، وهذا أول التآلف والتآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أن « الحق يجب اتباعه » .
ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى : ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) (1) .
وقال تعالى : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ) (2) . أنظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله : ( لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ) ، وهذا يعطي الحرية التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها . على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر .
____________
(1) سورة الأنفال ، الآية : 42 .
(2) سورة النساء ، الآيتان : 98 ـ 99 .

( 58 )

ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها ، وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم .
إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس وفن الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور إما إلى اختلاف الاخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيراً وافراً في العلوم والمعارف الانسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف وقضاؤه الذهني كادراك الشموس المتعسف ، ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجي الذي يتبع كل ناعق والغوي الذي لا يدري أين يريد ؟ ولا أنى يراد به ، والتربية الدينية تكفي مؤونة هذا الاختلاف فانها موضوعة على نحو يلائم الاصول الدينية في المعارف والعلوم ، وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول ، وهي مكارم الأخلاق .
قال تعالى : ( ... كتاباً اُنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم ) (1) .
وقال تعالى : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) (2) .
وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع
____________
(1) سورة الأحقاف ، الآية : 30 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 16 .

( 59 )

المحسنين ) (1) .
وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر .
وإما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الإنسان وخاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الأفهام وتتخلف عن اتباع الحق ! وقد كفى مؤونة هذا أيضاً الإسلام حيث أمر المجتمع باقامة الدعوة الدينية دائماً أولاً ، وكلف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً ، وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثاً : قال تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (2) .
فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فإعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين * وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدينا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ) (3) .
ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو أعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح ، ويذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في
____________
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 69 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 104 .
(3) سورة الأنعام ، الآيات : 68 ـ 70 .

( 60 )

معارفه ، وأخذه بالهزل واللعب واللهو ، وأن منشأ الاغترار بالحياة الدينا ، وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى .
وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلاً صحيحاً كالجربزة والبلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والإرفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الاسلام ، قال تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (1) .
ومن المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحداً إلا مقدار ما يعيه منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم ، وقال تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (2) .
فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع وقد قرر الإسلام لمجتمعه دستوراً اجتماعياً فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) (3) .
فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع
____________
(1) سورة يوسف ، الآية : 108 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 122 .
(3) سورة الانعام ، الآية : 153 .

( 61 )

سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ، ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) (1) .
تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف ، وقد قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) (2) .
وقال أيضاً : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) (3) . وقال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (4) فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاخلاف من البين .
وتدل على : أن الإرجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه ، قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون ) (5) .
وقريب منه قوله تعالى : ( ولو ردره إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يسنبطونه منهم ) (6) .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآيتان : 102 ـ 103 .
(2) سورة النساء ، الآية : 82 .
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 43 .
(4) سورة النحل ، الآية : 43 .
(5) سورة النحل ، الآية : 44 .
(6) سورة النساء ، الآية : 83 .

( 62 )

وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطعيوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) (1) .
فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الاسلام .
ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ، ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكراً واجتهاداً بالاجتماع والمرابطة ، وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي ، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته ، أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً ، قال تعالى : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولوا الألباب ) (2) .
والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر ، وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفضي إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم .
هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية ، وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الانسان عنوة
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 59 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 18 .

( 63 )

وقهراً والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتفكير والهجرة وترك المخالفة فحاشاً ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده ، وإنما هو خصيصة نصرانية ، وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب ـ وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين ـ بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه . ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها ( الاجتماع الفكري وحرية العقيدة ) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها كما فرطنا في جنب الله ( وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتّت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم .


ـ 15 ـ
الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة

والعاقبة للتقوى فإن النوع الأنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقة وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معاً حياة إجتماعية باعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والأخروي وقد عرفت أن هذا هو الإسلام ودين التوحيد . وأما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة ، والغاية التي يعقبها الصنع والايجاد لابد ان تقع يوماً معجلاً أوعلى مهل ، قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ـ يريد أنهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيلياً وإن علمته فطرتهم إجمالاً ، إلى أن قال : ـ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ـ إلى أن


( 64 )

قال : ـ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (1) .
وقال تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) (2) .
وقال تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون ) (3) ، وقال تعالى : ( والعاقبة للتقوى ) (4) . فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة .
ولا تصغ إلى قول من يقول : إن الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع مواردها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني ولن يقبله أبداً ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجاً وحكومته على النوع تامة .
وذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني وكماله الذي هوم بغريزته متوجه اليه شعر به تفصيلاً أو لم يشعر والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها اليها نظام الخلقة ، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلية .
____________
(1) سورة الروم ، الآيات : 30 ـ 41 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 54 .
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 105 .
(4) سورة طه ، الآية : 132 .

( 65 )

على أن شيئاً من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وابراهيم وموسى عيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس وكذا ما أتى به ( برهما ، وبوذا ، وماني ) وغيرهم ، وتلك سنن المدنية المادية كالديمقراطية والكمونيسم وغيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الانسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة .<br وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيُّ ولا نصب ، ولا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية .