وبفقده لها واحساسه الفعلي بالحاجة الماسة لها وعدم الاستغناء عنها ـ يعرف قدرها كما يعرف واقعه وحقيقة امره وهي الاحتياج المطلق الى الغني المطلق وهو الله سبحانه وانه اذا حجب عنه الاءه والطافه يتعرض للضرر الشديد او الموت المحتم وذلك يضطره لان يتنازل عن كبريائه فلا يطغى ويتجاوز حده بسبب استمرار النعمة وعدم التفاته الى مصدرها الحقيقي قال سبحانه :
( كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * ) (1) .
ويدخل في هذا الاطار ابتلاء الله سبحانه للانسان ببعض المصائب والمحن حيث يرجع الى حقيقته ويعترف بواقعه وهو الضعف والافتقار الى خالقه ليتفضل عليه بنعمة السلامة وحفظها له وعدم زوالها عنه وشعور الإنسان بذلك يسبب لجوءه الى الله سبحانه والتضرع له بالدعاء والاطاعة وذلك هو روح العبادة التي خلق من اجلها .
دور الصيام في سلامة البدن من الامراض
ومن الفوائد المترتبة على الصوم سلامة البدن من الاصابة بكثير من الامراض وشفاؤها منها بعد اصابته بها بإعتبار كونه حمية تفرض عليه ليعافى من الامراض الناشئة في الغالب من الاسراف في الطعام والشراب الامر الذي يسبب عجز المعدة عن هضم الطعام بالمقدار المناسب وذلك يؤدي الى بقاء قسم منه بدون هضم وينتج عن هذا اصابته بكثير من الامراض والعوارض الصحية .
وتأتي فريضة الصوم لتعطي هذا العضو الحيوي اجازة وفرصة استراحة فينشط ويتفرغ لهضم تلك الاطعمة المتخلفة فيسلم الجسم من الاصابة بتلك الامراض التي كان متعرضا للاصابة بها لولا الصوم الذي يقوم بدور الوقاية ويفهم ذلك من قول الرسول
____________
(1) سورة العلق ، آية : 6 و 7 .
الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله : « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء » . كما يدل عليه بوضوح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « صوموا تصحوا » هذا هو حاصل الحديث الثاني الذي نشر مع الاول في مجلة الايمان كما مرت الاشارة اليه .
واحب ان اقف من الحديث الاخير الذي ختم به الحديث الثاني وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « صوموا تصحوا » وقفة تأمل وتدبر من اجل استحياء الدروس التربوية والفوائد المعنوية والصحية بالمعنى الاعم للصحة الشامل للكيان الإنسان ي بمجموعه المادي والمعنوي فأقول :
ان المتبادر من كلمة تصحوا الواردة في الحديث النبوي الشريف وان كان هو الصحة المادية الجسمية وسلامة البدن من امراضه المعهودة ولكن اذا دققنا النظر في مضمون هذا الحديث ولاحظنا بعين البصيرة ما يترتب على الصوم من الصحة العامة الشاملة للكيان البشري كله المؤلف من عنصري الجسم والروح ـ ندرك ان المقصود منه هو الصحة الاعم الشاملة للمعنوية والمادية معا ـ وذلك لان الصوم كما يلعب دورا بارزا في تحصين الصحة البدنية ووقايتها من الاصابة بالكثير من العوارض الصحية البدنية ـ ويساهم ايضا في علاجها وازالتها بعد حصولها كما تقدم .
كذلك هو يلعب دورا طليعيا في صحة الجانب المعنوي من الكيان البشري حيث يساهم في سلامة الذهن من البلادة وضعف الفهم والاستيعاب لما يعطى له من الدروس او يطالعه من الكتب والمقالات .
وذلك لان النفس البشرية اذا كانت راغبة في شيء من الاشياء المادية او المعنوية فهي تنطلق مع هواها وتتجاوز حد التوسط والاعتدال غالبا ـ والطعام والشراب من الصق الاشياء المادية بحياة الإنسان ويزيد ميله اليهما والرغبة فيهما اذا كانا من نوعية تقتضي الانجذاب اليهما اكثر ولازم ذلك الزيادة منهما والاسراف فيهما وهذا يؤدي بطبعه الى تصاعد المزيد من الابخرة من المعدة الى الذهن لتغطي مرآته بحجاب منها يغطي صفحتها ويحجب نور الوعي عنها .
وبما ان الإنسان العادي يعيش اسير عاداته وعبد اهوائه ورغباته فينطلق معها الى حيث تريد ولا يتحرر منها ويقف في وجه تيارها الجارف الا اذا حصل له ضغط خارجي ودعم معنوي يساعده على التحرر والتحلل من قيودها وتأتي فريضة الصوم لتكون الوسيلة الوحيدة التي تطلق سراحه من سجن الرغبات وقيد الاهواء وذلك ببركة الايمان الذي يلزم صاحبه بإمتثال امر السماء من اجل التوصل الى الجزاء الاوفى والنفع الاعظم معجلا مضافا الى جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين الصائمين .
ويؤكد ذلك عامل الخوف الذي يضع المؤمن امام مصير مؤلم ويحذره من عاقبة مدمرة معجلا ومحرقة بنار الغضب الإلهي يوم الحشر والمعاد .
فرجاء الثواب العظيم وخوف العقاب الأليم الناتجان عن الايمان بالله واليوم الاخر ـ يساهمان معا في تحرير الإنسان من عبوديته لرغباته ويدفعانه لامتثال امر الله سبحانه بتأدية فريضة الصوم ليحس بالوجدان الفائدة الايجابية التي يجنيها في المجال الذهني بما يحصل عليه من صفاء الذهن وانطلاق الفكر وتحليقه في سماء الوعي وسرعة الاستفادة بعد ان كان يعيش جمود الفكر وبلادة الذهن .
ويطلب منه اذا كان عاقلا راشدا ـ ان يستمر على حالة التوسط والاعتدال في طعامه وشرابه عملا بقوله تعالى :
( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) (1) .
ليكون بذلك معطيا لكل واحد من جسمه وروحه حقه من الرعاية والاهتمام حيث يعطي جسمه ما يحتاج اليه منهما ولا يتناول الزائد عن حاجته ليمهد السبيل امام روحه ونفسه لتنال غذاءها المناسب لها من العلم النافع والمعرفة الصحيحة ـ وقد التفت اولئك الاشخاص الذين حاولوا ان يأتوا
____________
(1) سورة الاعراف ، آية : 31 .
بكلام مشابه لكلام الله سبحانه في كتابه الكريم ببلاغة اسلوبه وسحر بيانه وسمو معانيه ـ الى ما ذكرنا من تأثير قلة الطعام في صفاء الذهن وانطلاق الفكر في ميدان البلاغة والابداع ـ فأخذوا يقللون من الطعام ويقتصرون على المصنوع منه من لباب القمح والعسل المصفى ليحققوا بذلك هدف السبق في ميدان البلاغة ويأتوا بكلام مثل كلام الله تعالى او قريب منه واخيرا عجزوا عن مجاراته ولم يستطيعوا الى الدنو منه سبيلا .
ونقل عن اديسون مكتشف الكهرباء انه كان يقتصر في اكله اكثر ايامه على تناول فنجان حليب ونحوه ليساعده ذلك على ابداعه ونجاحه في اختراعه .
دور الصيام في صحة العقل
وعدم انحرافه عن منهج الفطرة
وهكذا يساهم الصوم الواعي الصادر عن نية صادقة وتعبد واع في صحة العقل وسلامته من الانحراف عن منهج الفطرة السليمة والإنسان ية الكريمة ـ تحت تأثير الغرائز الجامحة والاهواء الطامحة لتخطط وتدبر الوسائل المرضية لتلك الاهواء ولو كانت مسخطة لله سبحانه وموقعة الاخرين في الاضرار الجسيمة والوجه في تأثير الصوم الهادف وتحقيق صحة العقل وسلامة الفكر من مرض الانحراف الفكري الخطير هو انه ـ اي الصوم ـ ينعش الضمير الديني في حياة الإنسان المؤمن ويقوي عنده حس المراقبة والخوف من الله تعالى نتيجة التزامه بتأدية هذه الفريضة وامساكه عن تناول المفطرات التي تمس الحاجة اليها وتزداد رغبته فيها وخصوصا اذا كان النهار طويلا والجو حارا مع تمكنه من تناولها بدون وجود اي مانع من قبل الاخرين اما لعدم الايمان من الاساس او لعدم الالتزام بإمتثال الاحكام الشرعية بسبب ضعف ايمانهم وتحللهم من الاستقامة في خط التقوى .
فمثل هذا المؤمن الرسالي الذي يخالف هواه ويخاف مولاه فيفعل ما يأمره به ولو كان صعبا ويترك ما ينهاه عنه ولو كان شديد التعلق به قوي الرغبة فيه .
أجل : إن مثل هذا المؤمن الواعي لا يقف الصوم عنده على كيانه الظاهري فيمنع جوارحه من ارتكاب ما حرم الله عليه من المفطرات وغيرها
من المحرمات الذاتية المعهودة كما سيأتي تفيصله بل ينفذ صومه باشراقته المتألقة الى داخل نفسه وقلبه وضميره لينير ذلك كله بضوء التقوى والخوف من الله تعالى فلا يبقى في اي واحد منها أثر لظلام النية السيئة والتفكير الشيطاني الذي يخطط للهدم والاضرار بالاخرين لنيل منفعة مادية شخصية ترضي هواه وتشبع رغبة نفسه الامارة بالسوء وبذلك ندرك ان المؤمن الواعي كامل الايمان هو الذي يحقق الكامل من الصيام فيضم الامساك الباطني عن كل نية سيئة وتفكير شيطاني مدمر الى الامساك الظاهري المتمثل بترك المفطرات المعهودة المعدودة مع جميع المحرمات الذاتية علما منه بأن الله سبحانه لم يحرم عليه المفطرات المعلومة في شهر رمضان المبارك واكثرها مباحات في نفسها الا من اجل ان يتمرن ويستفيد من صومه الخاص قوة ارادية تساعده على تحقيق الصوم العام المتمثل بالامساك الكامل عن كل المحرمات في جميع الشهور والاوقات وذلك عبارة اخرى عن التقوى التي اعتبرها الله سبحانه العلة الغائية والسبب الداعي لتشريع الصوم كما تقدم حيث قال تعالى :
( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * ) (1).
في مقام صوم الفكر والعقل عن التخطيط الحرام والتفكير الشيطاني الاثم ـ يأتي فطوره الذي يتناوله بعد انتهاء نهار هذا الصوم المعنوي وهو يتمثل في التفكير في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار وفي الافاق والانفس وفي التدبر في آيات الكتاب الكريم ليحرر فكره وعقله ويطلقهما من اسر الجهل والتقليد الاعمى ويسير على درب الحرية الفكرية الداخلية التي ينال بها الايمان الصادق والعقيدة الصحيحة الراسخة التي تثمر له العبودية الواعية والعبادة الخالصة لوجه الله تعالى .
____________
(1) سورة البقرة ، آية : 183 .
دور الصوم في صحة القلب
وهكذا ينطلق الصوم في رحلة داخلية ليصل الى القلب ويطهره من كل الصفات الذميمة كالحسد والحرص المدمر والنفاق المقيت والرياء المفسد ـ والبغض لاولياء الله والحب لاعدائه ونحو ذلك من الصفات الذميمة والمعاني السقيمة التي هي في واقعها امراض معنوية محطمة تدمر النفس وتنسحب على الجسد ليصاب بالكثير من الامراض الخطيرة ـ واذا كان المثل المشهور يقول :
العقل السليم في الجسم السليم فالعكس صحيح ايضا لان الجسم لا يكون سليما الا اذا حمل في طيه القلب السليم من الحقد والحسد والطمع الجامح ونحو ذلك من الامراض النفسية المدمرة كما هو واضح ـ وقد اثبت الطب الحديث ان هناك امراضا كثيرة وخطيرة تحصل للانسان بسبب الخوف والقلق والحقد الدفين والحسد اللعين وحيث ان الإسلام دين السعادة والسلام فقد دخل الى عمق النفس البشرية وتدخل في احوالها الداخلية ليوجه كل صفة اودعها الله سبحانه في كيان الإنسان لتكون مصدر خير وعطاء ووسيلة تشييد وبناء في طريقها القويم ونهجها السليم فيتحول الحسد من صفة مدمرة للنفس والغير ـ الى رغبة وتسابق في طريق الصلاح والخير الخاص والعام كما يتحول الطمع والحرص على المادة الزائلة الموجب للبعد عن الله تعالى ورحمته ـ الى الطمع في عفو الله ومغفرته ونيل السعادة الخالدة في ظلال الفسيح من جنته .
ويتحول الحب من خطه المنحرف الى الخط القويم وصراطه المستقيم ليصبح حبا لله واوليائه كما يصبح البغض بغضا لعدو الله واوليائه وهذا هو المقصود من قولهم في مقام التعبير عن الحب السليم والبغض المستقيم بأنه الحب في الله والبغض في الله .
وهذه من ابرز صفات المؤمن الواعي الموحد ولذلك ورد مدحه في الشرع الإسلامي مع الامر به والحث عليه في الكتاب الكريم وسنة النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم .
وذلك لان الحب والبغض اذا سارا في الاتجاه السليم كما اراد الله تعالى فهما يساهمان مساهمة فعالة في بناء شخصية الإنسان المؤمن ويجعلان منه كيانا ساميا مثاليا يحب لغيره ما يحبه لنفسه ويفعله ويكره لغيره ما يكرهه لنفسه ويتركه .
وبذلك يصبح مصداقا للمؤمن الرسالي الذي ورد وصفه في الشرع الإسلامي القويم ـ بإن خيره مضمون وشره مأمون وهكذا يضيء الدين بأصوله القويمة وفروعه الحكيمة واخلاقه الحميدة ـ كل جوانب النفس البشرية فلا يبقى فيها شيء من ظلام الباطل وغيهب الانحراف المعنوي وذلك بصومها المعنوي الداخلي وامساكها عن كل المفطرات المعنوية المبطلة لذلك الصوم الباطني ـ وبهذا الصوم الواعي الفاعل يتحقق الصوم والامساك الكامل الذي ينطلق من داخل الذات وجوانبها الى خارج النفس وجوارحها ليصوم كل عضو عما حرم الله سبحانه فعله به .
فتصوم العين عن النظر الى ما حرم الله النظر اليه وتصوم الاذان عما حرم الله الاستماع اليه كالغناء والغيبة المحرمة بدون نهي الناطق بها دفاعا عن الغائب المذكور بها ـ مع التمكن من ذلك بلا ضرر او حرج وكذلك الاستماع الى الموسيقى المحرمة ونحو ذلك من المحرمات السماعية .
وكذلك يصوم اللسان عن كل محرم لساني كالكذب وشهادة الزور
والغيبة المحرمة والنميمة والسخرية والسباب والتنابز بالالقاب ونحو ذلك مما حرم الشارع النطق به مع عدم وجود المبرر الشرعي له .
وتصوم اليد عن القيام بأي عمل محرم بدون عذر ديني والرجل تصوم عن السعي في طريق معصية الله سبحانه وهكذا وفطور هذه الاعضاء الصائمة يتمثل بضد تلك المحرمات مما أمر الله سبحانه من الواجبات والمستحبات والمباحات والمؤمن الواعي لحكمة التشريع يترفع وينزه نفسه حتى عن فعل المكروهات لانها وان كانت جائزة في نفسها الا ان التعود عليها والاسترسال فيها يضعف المناعة النفسية عنده الى درجة يصبح معها قابلا ومستعدا للأنجراف بتيار الهوى والسقوط في مستنقع المعصية ولذلك عبر عن المكروهات بأنها حمى للمحرمات بمعنى انها تمثل السياج الرادع والسور المانع فاذا اقتحم المكلف هذا السور وقع في المحذور وتعرض لسخط الله سبحانه وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة .
ولهذا ورد حول هذا الموضوع : من حام (1) حول الحمى اوشك ان يدخله ـ وعلى ضوء ما تقدم يعرف ان الصوم في الواقع التشريعي ـ يعتبر صونا للكيان الإنسان ي من كل ما يضره ماديا ومعنويا وفرديا واجتماعيا دنيويا واخرويا .
كما انه في الوقت نفسه تجمل بأنبل الصفات واجمل الاخلاق ومن المعلوم ان المؤمن عندما يحقق الصوم بمعناه العام الشامل لكل كيانه الداخلي والخارجي فإنه يصنع منه انسانا رساليا مثاليا يسمو على الملائكة ويستحق الاجلال والتقدير من الخالق والمخلوق ويهيىء شخصه لنوال السعادة الكاملة في الدنيا والاخرة .
وحيث اننا لا نزال نعيش في رحاب الصوم الإسلامي الشامل فإني
____________
(1) هذا نقل للمثل بالمعنى والمضمون لا بالنص .
ارجح العودة الى بعض المحطات الاخلاقية التربوية التي وقفت عندها قليلا وانا اتابع السير في طريق رحلة روحية تستهدف الانتهاء الى المحطة النهائية التي تقف فيها النفس بين يدي الله سبحانه مناجية له بلسان الحب والاخلاص وطالبة منه قبول هذه العبادة الصامتة والتوفيق لتحقيق غايتها المنشودة وهدفها الكبير وهو التقوى التي تمثل الصوم العام والامساك التام عن كل مخالفة شرعية .
والمحطة التي اردت العودة اليها من اجل الوقوف عندها مرة اخرى لغاية التزود من ايحاآتها بالكثير من الدروس والعبر التي تمليها مدرسة شهر الله تعالى المبارك ـ على طلابها الصائمين من اجل ان تعرفهم فلسفة الصيام والغاية الاساسية المقصودة منه .
الحب في الله والبغض في الله
هذه المحطة التي اردت العود اليها هي محطة الحب والبغض في الله وذلك من اجل توضيح المراد من هاتين الصفتين وبيان الفائدة العظيمة المترتبة عليهما في حياة الإنسان المؤمن الذي باع كل كيانه وما يتعلق به لله سبحانه فأصبح لا يحمل في قلبه وهو عرش الله تعالى إلا ما يريد الله منه ان يحمله فيه من العقائد الحقة والصفات النبيلة والميول المعتدلة المنسجمة مع خط الاستقامة والتقوى ـ مع بيان الاسباب والعوامل التي تؤدي الى هاتين الصفتين النافعتين الرافعتين ان كانتا لله وفي الله والمدمرتين ان كانتا للشيطان وفي سبيله .
وذلك من اجل ان نسعى في سبيل ايجادهما والتوصل بهما الى هذه العبادة الباطنية والصلاة الداخلية المتحدة بروحها وجوهرها مع الصوم الداخلي الذي مرت الاشارة اليه .
فأقول : المراد من الحب في الله سبحانه هو ما يكون مصدره ارادة الله سبحانه وتشريعه والميزان الصحيح لذلك هو احراز حب الله سبحانه للشخص في مرتبة سابقة على ادخال حبه في قلوبنا وذلك على ضوء شرعه الهادي الى سواء السبيل ورسوله الباطني الذي اودعه في قلوبنا ونوره الداخلي الذي اوجده في فطرتنا من اجل ان نعرف من يحبه الله سبحانه فنحبه تبعا لمحبة الله له وان كان من ناحية مزاجية قد لا ينسجم حبنا المبدئي له مع ميلنا العاطفي ومثاله الواضح الشخص الذي فرض امتثاله امر الله له باقامة الحد او تنفيذ
حكم القصاص على بعض اقاربنا او اصدقائنا ـ فهذا الإنسان المؤمن الذي احبه الله تعالى لاستقامته في طريق شرعه وامتثاله اوامره ونواهيه يطلب منا ان نقدم هدانا على هوانا ونحبه بالحب المبدئي العقلي تبعا لمحبة الله له محكمينا عقلنا الديني على مزاجنا وميلنا المادي الشخصي .
وعلى ضوء الميزان السليم للحب في الله نستطيع ان نعرف الشخص الذي يستحق ان يبغض في الله ـ فهو الذي ابغضه الله تعالى بسبب انحرافه عن منهج فطرته بالكفر او عن خط الاستقامة في طريق الشرع بالفسق والعصيان بعد الاعتراف بأصول الدين والالتزام بمنهاجه واحكامه فمثل هذا الشخص لا يوجد اي مجال لان يجتمع حب الله واقعا مع الانفتاح عليه والميل اليه كما هو واضح لانهما لا يجتمعان بإعتبار ان حب الله سبحانه نور معنوي مبدئي وحب عدوه ظلام باطني عاطفي وكما لا يلتقي النور والظلام الحسيان في مكان واحد كذلك النور والظلام المعنويان .
وقد صرح الله سبحانه بهذه الحقيقة الموضوعية بقوله تعالى :
( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباهم أو أبنائهم أو أخوانهم أو عشيرتهم أُولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أُولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون * ) (1) .
وقد وضع الإمام علي عليه السلام ميزانا واقعيا لنعرف به الصديق الحقيقي ونميزه عن العدو الواقعي وذلك بقوله : ماحاصله : « اصدقائك ثلاثة واعداؤك ثلاثة ـ اما اصدقاؤك فهم صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك وأعداؤك هم عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك والشخص المبغوض من قبل الله سبحانه داخل في القسم الثاني من الاعداء لان الله سبحانه هو المحبوب الاول
____________
(1) سورة المجادلة ، آية : 22 .
والصديق الاكمل الافضل ـ ان صح التعبير ـ ومن يعصيه ويتمرد عليه بالكفر او المعصية يكون عدوا له ـ فيكون عدواً لنا ومبغوضا من قبلنا لله وفي الله تعالى .
وقد بين الله تعالى ان حبنا له يجب ان يكون بالمستوى الاعلى والدرجة الارقى من حب اي كائن في الحياة ممن تدعونا الطبيعة البشرية لحبهم والميل اليهم بحكم ارتباطنا العرقي او احتياجنا المادي وذلك هو مقتضى الانطلاق من القاعدة النفسية والاخلاقية الايمانية التي اعتبرت ان حب الله سبحانه هو المصدر والاصل لاي حب يتعلق بالمخلوقين والمخلوقات ـ ومن المعلوم بميزان المنطق السليم ان الاصل والنبع يكون اقوى وارفع من الفرع الذي انبثق منه وخصوصا اذا كان هذا الاصل هو اصل الاصول وسبب الاسباب ورب الارباب ـ فلا يجوز ان يجعل الفرع بمستواه من أية جهة وبأي اعتبار فضلا عن ان يقدم عليه ويعتبر افضل واولى منه ـ اي من الاصل ـ وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله :
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره واللهُ لايهدي القوم الفاسقين * ) (1) .
كما بين سبحانه درجة الحب العالية التي بلغها المؤمنون الواعون وارتقوا بها الى المستوى المناسب لعظمة الله تعالى وسعة فضله مقابل الجاهلين الغافلين الذين يتخذون اندادا من دون الله ويحبونهم بدرجة حب الله ـ وذلك بقوله تعالى :
( ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله ) (2) .
____________
(1) سورة التوبة ، آية : 24 .
(2) سور البقرة ، آية : 165 .
واذا نظرنا الى هذه القضية بعين العقل الواعي والبصيرة النافذة ندرك ان الله سبحانه الحكيم الرحيم ـ لم يلزمنا بربط حبنا وبغضنا بحبه وبغضه الا من اجل ان نحكم عقولنا ونسيطر على ميولنا لتسير في خط مرضاة الله سبحانه ونحقق ما اراد الله لنا من المصالح ونتخلص مما احب الله لنا ان ننجو منه من المضار والمفاسد المعنوية والمادية ـ لانه سبحانه هو الحق وكل ما يصدر منه وعنه من تشريع وخلق فهو حق وحكمه ومصلحة وسلامة ـ ومن المعلوم ان الحق في العقيدة والشريعة والسلوك والممارسة هو مصدر ومصنع انسانية الإنسان ومنبع سعادته وفضيلته وقد شاءت حكمة السماء ان تحقق لنا ذلك فأودع فينا الاستعداد الفطري لتنمية وصقل فطرة التدين التي فطر الناس عليها ورسم منهج الشرع العادل الكامل وامرنا بسلوكه من اجل ان ننتهي به الى غاية الكمال والسعادة فقال تعالى :
( وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون * ) (1) .
وقال سبحانه :
( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (2) .
وقال سبحانه :
( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لايحتسب ) (3) .
____________
(1) سورة الانعام ، آية : 153 .
(2) سورة الاعراف ، آية : 96 .
(3) سورة الطلاق ، آية : 2 و 3 .
وجوب خضوع الطبع لحكم الشرع
وبذلك ندرك السر في امر الله لنا بإخضاع طبائعنا وغرائزنا لعقولنا بعد استضاءتها بنور العلم والعرفان وضوء الهدى والايمان بإعتبار ان العقل الفطري رسول باطني فاذا تلقى وحي الهدى الإلهي وسار في نهجه وخضعت الغرائز له ومشت خلفه على درب التوازن والاعتدال يصبح الإنسان بذلك افضل من الملائكة كما اراد الله له ان يكون .
وقد بين الله سبحانه هذه المرتبة السامية التي يستطيع الإنسان ان يصل اليها ويسمو لها بالتقوى والعمل الصالح ـ بأمره الملائكة بالسجود لاول انسان حمل الامانة وسما الى سماء الفضيلة وهو آدم ابو البشر قال سبحانه :
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * ) (1) .
وحيث ان الغرائز التي اودعها الله سبحانه في كيان الإنسان من اجل ان يستثمرها ويوظفها لتحقيق الاهداف الطبيعية التي تمس الحاجة اليها ـ مطبوعة على التوثب والجموح بصاحبها والخروج عن حد التوازن والاعتدال ـ امر الله الإنسان المكلف بوضع حد لطموحها وذلك بتحكيم العقل واخضاعها لتدبيره وقيادته الهادية بعد انقياده لهدى السماء بالايمان الصادق والعمل الصالح ـ ومن المعلوم ان اخضاع الطبائع الجامحة لارشادات العقل والدين الناجحة ـ
____________
(1) سورة البقرة ، آية : 34 .
يتطلب جهدا كبيرا ومعاناة شديدة ومن هنا عبر عن هذا الصراع الذي يخوضه الإنسان المكلف في ساحة النفس ـ بالجهاد الاكبر نظرا لصعوبته .
وحيث ان اكثر الغرائز والطبائع المادية ان لم يكن كلها ـ تتغذى وتقوى بالطعام والشراب ـ يكون فصلها عنهما مع سائر المفطرات مساعدا على اضعافها وذبولها كما يذبل النبات بسبب انقطاع الماء عنه ـ وبقدر ما تضعف الغرائز امام سلطان العقل وقيادته ـ يصبح اقوى منها واقدر على اخضاعها وكبح جماحها عن الانطلاق في ميدان الاهواء والرغبات المنحرفة ليسير بها في منهج الاعتدال والتوسط بين الكبت والحرمان والاسراف والطغيان وقد اشار الله سبحانه الى هذا التوسط بقوله :
( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * ) (1) .
ومن المعلوم ان الاعتدال والتوسط هو الطابع العام في التشريع الإسلامي وقد اراد الله سبحانه للانسان تحقيق ذلك في تصرفاته الحياتية بإعتبار ان ذلك فضيلة محمودة وتجاوزه رذيلة مذمومة ويبدأ التوازن في داخل النفس بإلتزام منهج التوحيد بإعتباره وسطا بين الالحاد والاشراك وينطلق الى خارجها في درب العمل والإمتثال وذلك باتصافه بفضيلة الكرم المتوسطة بين رذيلتي البخل والاسراف ، وبفضيلة الشجاعة المتوسطة بين الجبن والتهور وبفضيلة الزهد المتوسطة بين رذيلتي الطمع والحرص الجامح والزهد الخامد الجامد وهكذا وقد اعتبر علماء الاخلاق ان كل فضيلة تكون وسطا بين رذيلتي التفريط والافراط ومن هنا اشتهرت الحكمة القائلة : « خير الامر الوسط » والآية الكريمة التالية وان وردت لطلب التوسط بالبذل والعطاء ولكن يصح ان تعتبر عنوانا عاما ومقياسا شاملا للتوسط في كل التصرفات التي يمارسها لانسان على صعيد هذه الحياة وهي قوله تعالى :
____________
(1) سورة الاعراف ، آية : 31 .
( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً ) (1) .
وبما ذكرنا من ان فصل الجسم وفطامه عن الطعام والشراب مدة من الزمن يؤدي الى ذبول الغرائز البشرية التي تنمو وتقوى بهما وذلك يساعد على سيطرة القوة العقلية عليها وتمكنها من تسييرها في طريق الاعتدال والتوسط تعرف قيمة الصوم ودوره الفعال في تهذيب النفس واستقامة السلوك وتلك هي فلسفة الصيام باختصار وغايته الهادفة التي تصنع من الإنسان الملتزم بخط السماء ايمانا وعملا ـ مسلما رساليا سائرا في درب الفضيلة والكمال ومحققا ما اراد الله له ان يحققه من التقدم والسعادة في الدنيا والآخرة .
أسباب المحبة والصفاء
وبعد التعرض لذكر صفتي الحب والبغض وان ذلك يجب ان يرتبط بالله سبحانه ليظل في اطار الحق والفضيلة فلا يجمح بصاحبه الى طرف الباطل والرذيلة .
أجل : بعد الوصول بالحديث الى هذه النقطة الحيوية ـ يترجح التعرض بوحي المناسبة ـ الى ذكر الاسباب والعوامل التي تؤدي الى المحبة والصفاء من اجل ان نوجدها ونتوصل بها الى تحصيل المحبة الواعية الرسالية التي تثمر للانسان فردا ومجتمعا الكثير من الخير والمصالح ـ كما يترجح في المقام وفي المقال ذكر الاسباب التي تؤدي الى العداوة والبغضاء وتفشيها بين افراد المجتمع وذلك من اجل اجتنابها والتخلص من افاتها والشرور الكثيرة التي تؤدي اليها فأقول وعلى الله الاعتماد ـ وبه الاستعانة : ان الله سبحانه وهو الرحمن الرحيم قد شاءت حكمته ان يخلق الكون لخدمة الإنسان
____________
(1) سورة الإسراء ، آية : 29 .
والإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما نص على ذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم ولم يخلقه للعبادة الا من اجل ان يتوصل بها الى الكمال والسعادة كما ذكرت ذلك في اكثر من موضع في هذا الكتاب وهي تتحقق بامتثال احكامه بفعل ما امر به وجوبا او استحبابا وترك ما نهى عنه تحريما او كراهة باعتبار ان الله سبحانه لا يأمر بشيء الا لوجود مصلحة فيه كما لا ينهى عن شيء الا لمفسدة تترتب عليه .
والإنسان عندما يلتزم بتطبيق احكام السماء فيفعل الواجبات والمستحبات ويجني فوائدها وبذلك يتجمل بالفضيلة ويترك المحرمات ويسلم من مفاسدها وبذلك يتجرد من الرذيلة فهو بهذا الفعل وذلك الترك يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق الى جنة الخلود قال سبحانه :
( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (1) .
وقال سبحانه :
( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيثُ لا يحتسب ) (2) .
هذه بصورة عامة وبالنسبة الى النقطة الخاصة التي احببت التنبيه عليها وهي بيان اسباب المحبة والتراحم وعوامل البغضاء والتصادم فأقول مشيرا الى اهم اسباب الحالتين المحبة والعداوة والاكثر فاعلية وتأثيرا فيهما من اجل ان نوفر الاولى ونجني فوائدها الكثيرة ونتجنب الثانية ونسلم من مفاسدها الخطيرة : ان الله سبحانه حيث اراد برحمته الواسعة وحكمته البالغة ـ ان يسود الامن والاطمئنان وتبرز ظاهرة التضامن والتعاطف بين افراد المجتمع البشري ـ فقد جعل في شريعته الغراء حقوقا وواجبات بين افراد الاسرة
____________
(1) سورة الاعراف ، آية : 96 .
(2) سورة الطلاق ، آية : 2 و 3 .
المجتمع الصغير وبين افراد المجتمع الكبير ايضا فجعل في اطار الاول حقوقا للابوين على الابناء وللابناء على الابوين ولكل واحد من الزوجين حقوقا على الاخر وفي اطار الثاني اي المجتمع الكبير جعل حقوقا للجار على جاره وللمسلم على اخيه في الإسلام وللانسان على اخيه في الإنسان ية وهكذا توسعت دائرة الحقوق في الإسلام حتى شملت الحيوان حيث جعل الله سبحانه له حقوقا على صاحبه وهذه الحقوق منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب كما بين ذلك مفصلا في الفقه الإسلامي العادل الشامل ومن المعلوم ان الإنسان المسلم اذا امتثل احكام السماء وادى لكل ذي حق حقه وقام بما يجب عليه نحوه فإن ذلك يثمر المحبة والوئام بشكل عفوي فطري لان الإنسان مطبوع على حب من احسن اليه وتأدية الحق لصاحبه نوع من الاحسان الذي يزرع المحبة ويثمر العطف والحنان ويؤدي الى ترتب فائدتين وثمرتين يانعتين احداهما نفس الفائدة المترتبة على تأدية الحق لصاحبه والثانية حصول المحبة لمؤدي الحق في نفس من ادى اليه كما هو الملموس بالوجدان ومن المعلوم ان المحبة نفسها تمثل شجرة ميمونة مباركة لا تثمر إلا الخير والنفع للاخرين مع دفع الاذى عنهم .
واذا انطلقنا من دائرة الحقوق والواجبات باحثين عن اسباب اخرى تغرس المحبة او تقويها في النفوس فإننا نجد اسبابا كثيرة حث الشارع اتباعه على توفيرها من اجل ان يحصلوا بها التحابب والتعاطف واكثر هذه الاسباب مستحبات وقد تصبح واجبة بالعنوان الثانوي .