أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية بلاغة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام 42 ـ كلامه عليه السلام ايضاً لما كان يناجي ربه عز وجل
 
 


42 ـ كلامه عليه السلام ايضاً لما كان يناجي ربه عز وجل

البريد الإلكتروني طباعة

كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدى ما لنا بعد الممات مصادر


وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ، ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها ، وقوارع فجائعها ، وكثرة عذابه في مصابه وفي طلبها وما يكاد من اسقام وأوصابها.

أما قد ترى في كل يوم وليلة * يـروح عـلينا صرفها ويباكـر
تعاونهـا أفـاتها وهمومهـا * وكم قـد نـرى يبقى لها المتغاور
فلا هـو مغـبوط بدنيا أمن * ولا هو عن تطلابها النفس قاصر


كم قد غرت الدنيا من مخلد اليها ، وصرعت من مكب عليها فلم تشفه من عثرته ، ولم تنفذه من صرعته، ولم تشفه من المه ، ولم تبره من سمقمه ، ولم تخلصه من وصمه :

بلى أوردته بعد عز ومنعة * موارد سـوء ما لهن مصادر
فلمـا رأى أن لانجاة وانه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر
تندم اذا لم تغن عنه ندامة * عليـه وأبكتـه الذنوب الكبائر


بكى على ما أسلف من خطاياه ، وتحسر على ما خلف من دنياه واستغفر حيث ما لا ينفعه الاستغفار ، ولا ينجيه الاعتذار عند هول المنية ، ونزول البلية:


( 77 )


أحـاطت بـه أحزانه وهمومه * وابلس لمـا أعجزته المعـاذر
فليس له من كربة الموت فارج * وليس لـه ممـا يحاذر ناصر
وقـد حشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللهات(1) والحناجر


هنالك خف عواده، واسلمه أهله وأولاده ، وأرتفعت الرنة والعويل ، ويئسوا من برء العليل ، فغمضوا بأيديهم عينيه ، ومدوا عند خروج روحه رجليه ، وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق :

فـكم موجع يبكي عليه تفجعا * ومستنجد صبرا وما هو صابر
ومسترجع داع له الله مخلصاً * يعـدد مـنه كل ما هـو ذاكر
وكم شامـت مستبشر بوفاته * وعما قليـل للذي صار صائر


فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها امائه، واعول لفقده جيرانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لابرازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدي ، ولا الحبيب المبدي :

وظل أحـب القوم كان بقربه * يحـث على تجهيزه ويبادر
وشمر من قد أحضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حائر
وكفن في ثوبين وأجتمعت له * مشـيعة خـوانه والعشائر


____________
(1) اللهات : اللحمة المشرفة على الحلق في اقصى سقف الفم والجمع لهوات.


( 78 )


فلو رأيت الاصغر من أولاده ، وقد غلب الحزن فؤاده ، فغشى من الجزع عليه ، وخضبت الدموع عينيه ، وهو يندب أباه ويقول : يا ويلاه واحرباه :

لعاينت من قبح المنية منظراً * يـهال لـمرأه ويرتاع ناظر
اكابـر أولاد يهيج اكتئابهم * اذا ماتناساه البنون الاصاغر
وربـه نسوان عليه جوازع * مدامعها فوق الخدود غوازر


ثم خرج من سعة قصره الى ضيق قبره ، فلما أستقر في اللحد وهيء عليه في اللبن ، أحتوشته أعماله ، وأحاطت به خطاياه وضاق ذرعا بما رأه ، ثم حثوا بايديهم عليه التراب ، واكثروا البكاء عليه والانتحاب ، ثم وقفوا ساعة عليه ، وأيسوا من النظر اليه ، وتركوه رهناً بما كسب وطلب :

فـولو عليـه مـعولين وكلهم * لمثل الـذي لاقى أخوه محاذر
كشـاء رتـاع(1) امنين بدالها * بمديته(2) بادي الذراعين حاسر
فريعت ولم ترتع قليلا واجفلت * فلمـا نأى عنها الذي هو جازر


عادت الى مرعاها ، ونسيت في اختها دهاها ، أفبأفعال الانعام أقتدينا ، أم على عادتها جرينا ، عد الى ذكر المنقول الى
____________
(1) الرتاع الذي يتتبع بابله المراتع المخصبة.
(2) المدية الشفرة العظيمة ج مدى.


( 79 )


دار البلاء ، واعتبر بموضعه تحت الثرى ، المدفوع الى هول ماترى :

ثوى مفردا في لحده وتوزعت * مـواريثه أولاده والاصاهر
وأحـنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها و شاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها * ويا أمناً من أن تدور الدوائر


كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر اليها لا محالة ، أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك الى مماتك ، أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك أم كيف تهنأ بالشهوات وهي مطية الافات :

ولـم تتزود للـرحيـل وقـد دنـا * وأنت على حال وشيك مسافر
فيـالهف نفسي كـم أسـوف توبتي * وعمري فان والردى لي ناظر
وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت * يجازي عليه عادل الحكم قادر


فكم ترى باخرتك دنياك ، وتركب غيك وهواك ، أراك الضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين ، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا نزل القرآن ، أما تذكر ما أمامك من وسدة الحساب ، وشر المآب ، أما تذكر حال من جمع وثمر ، ورفع البناء وزخرف


( 80 )


وعمر، أما صار جمعهم بواراً ، ومساكنهم قبوراً :

تخرب ما تبقـى وتعمـر فـانيا * ولا ذاك موفوراً ولاذاك عامر
وهل لك أن وافـاك حتفك بغتـة * ولم تكتسب خيراً لك الله عاذر
أترضى بان تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافـر


فبك يا الهنا نستجير يا عليم يا خبير ، من نؤمل لفكاك رقابنا غيرك ، ومن نرجو لذنوبنا سواك ، وأنت المتفضل المنان القائم الديان ،العائد علينا بالاحسان بعد الاسائة منا والعصيان ، يا ذا العزة والسلطان ، والعوه والبرهان وأجرنا من عذابك الاليم، واجعلنا من سكان دار النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين(1).

( ومن كلام له عليه السلام )
( أيضاً كان يناجي ربه تعالى)


ويقول : قل لمن قل عزائه ، وطال بكاؤه ، ودام عناؤه ،
____________
(1) البداية والنهاية ج9 ص 109 للابي الفداء رواه عن الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبدالله المقري عن سفيان بن عينيه عن الزهري ، ورواه الشيخ ابراهيم الكفعمي في البلد الامين وذكر سنده العلامة الحلي في اجازته الكبيرة لبني زهرة المذكورة في البحار ج26 ص 21 وايضا رواه ابن شهراشوب في المناقب ج2 ص 253 ط طهران.


( 81 )


وبان صبره وتقسم فكره ، والتبس عليه أمره من فقد الاولاد ، ومفارقة الأباء والاجداد ، والامتعاظ بشماتة الحساد. (الم تر كيف فعل ربك بعاد أرم ذات العماد) :

تعـز فـكل للـمنية ذائق * وكل ابن أنثى للحياة مفارق
فعمر الفتى للحادثات دريئة * تـناهبه ساعـاتها والدقائق
كذا نتفانا واحد بـعد واحد * وتطرقنا بالحادثات الطوارق


فحسن الاعمال ، وجمل الافعال ، وقصر الامال الطوال ، فما عن سبيل المنية مذهب ، ولا عن الحمام مهرب ، ولا الى قصد النجاة مطلب ، فيا أيها الانسان المتسخط على الزمان ، والدهر الخوان ، مالك والخلود إلى دار الاحزان ، والسكون إلى دار الهوان ، وقد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرحمن : ( كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ) :

وفيم وحتى م الشكاية والردى * جموح(1) لاجال البرية لاحق
فكل ابن انثى هالك وابن هالك * لمن ضمنتها غربها والمشارق
فلا بد من أدراك ما هو كائن * ولا بد من اتيان ما هو سابق


فالشباب للهرم ، والصحة والسقم ، والوجود والعدم ، وكل حي لأشك مخترم بذلك جرى القلم على صفحة اللوح في القدم ،
____________
(1) جمح الرجال اذا ركب هواه.


( 82 )


فما هذا التلهف والندم ، وقد خلت من قبلكم الامم :

أترجو نجاة من حياة سقيمة * وسهم المنايا للخليقـة راشق(1)
سرورك موصول بفقدان لذة * ومن دون ما تهواه تأتي العوائق
وحبك للدنيا غرور وبـاطل * وفي ضمنها للراغبين البوائق(2)


أفي الحياة طمع ، أم إلى الخلود نزع، أم لما فات مرتجع ، ورحى المنون دائرة ، وأفراسها غائرة ، وسطواتها قاهرة ، فقرب الزاد ليوم المعاد ، ولا تتوط على غير مهاد ، وتعمد للصواب وحقق الجواب ، فلكل أجل كتاب : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) :

فسوف تلاقي حاكما ليس عنده * سوى العدل لا يخفى عليه المنافق
يـميز افعـال العبـاد بلطفه * وتطهر منـه عنـد ذاك الحقائق
فمـن حسنت أفعاله فهو فائز * ومـن قبحت أفعاله فـهو زاهق


أين السلف الماضون ، والاهل والاقربون ، والاولون والاخرون والانبياء والمرسلون ، طحنتهم والله المنون ، وتوالت عليهم السنون وفقدتهم العيون ، وانا اليه صائرون ، فانا لله وأنا اليه راجعون :
____________
(1) رشقه بالسهم رماه.
(2) بأقه عليه الويل اصابه وفاجأه.


( 83 )


اذا كان هذا نهـج مـن كـان قبلنـا * فانا على أثـارهـم نـتـلاحـق
فكـن عالما ان سوف تدرك من مضى * ولو عصمتك الراسيات(1) الشواهق
فمـا هـذه دار المـقامة فـاعلمـن * ولو عمـر الانسان مـاذر شاهـق


أين من شق الانهار ، وغرس الاشجار ، وعمر الديار ألم تمح منهم الاثار ، وتحل بهم دار البوار ،(2) فاخشى الجوار فلك اليوم بالقوم أعتبار فانما الدنيا متاع ، والاخرة دار القرار :

تخرمهم(3) ريب المنون فلم تكن * لتنفعهـم جناتهم والحدائق
ولا حمـلتهم حين ولوا بجمعهم * نجائبهم والصافنات السوابق


____________
(1) الراسيات : الجبال الثوابت الرواسخ . الرواسي والشواهق الجبال المرتفعات.
(2) دار البوار جهنم.
(3) تخرمهم أنفصمهم.


( 84 )



وراحوا عن الاموال صفراً وخلفوا * ديارهم بالرغم منهم وفارق


أين من بنى القصور والدساكر ، وهزم الجيوش والعساكر وجمع الاموال والذخائر ، وحاز الاثام والجوائز ، أين الملوك والفراعنة ، والاكاسرة والغساسنة ، أين العمال والدهاقنة أين ذوو النواحي والرساتيق ، والاعلام والمناجيق والعهود والمواثيق :


كأن لم يكونوا أهل عـز ومنعـة * ولا رفعت أعلامهم والمناجق
ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا * ولا أخذت منهم بعهد موثـق
وصاروا قبوراً دارسات وأصبحت * منازلهم تسفي عليها خوفـق


ما هذه الحيرة ، والسبيل واضح ، والمشير ناصح ، والصواب لائح ، عقلت فاغفلت ، وعرفت فانكرت ، وعلمت فاهملت ، هو الداء الذي عز دواؤه ، والمرض الذي لا يرجى شفاوه ، والامل ا لذي لا يدرك انتهاؤه ، أفامنت الايام ، وطول الاستقام ، ونزول الحمام ، والله يدعو الى دار السلام :


( 85 )


لقد شقيت نفـس تتابـع غيهـا * وتصدف(1) عن أرشادها وتـفارق
وتامل ما لا يستـطاع بحملـه * وتـعصيك ان خالفـتها وتشافـق
وتصغى إلى قول الغوى وتنثنى * وتعرض عن تصديق من هو صادق


فيا عاقلا راحلا ، ولبيبا جاهلا ، ومتيقظاً غافلا ، أتفرح بنعيم زائل ، وسرور حائل ، ورفيق خاذل ، فيا أيها المفتون بعمله الغافل عن حلول أجله ، والخائض في بحار زللـه، ما هذا التقصير ، وقد وخطك القتير ، ووافاك النذير والى الله المصير :

طلابك امـراً لا يتم سروره * وجهدك باستصحاب من لا يوافق
وأنت كمن يبنى بناء وغيره * يعاجلـه في هـدمـه ويسابـق
وينسـج امـالا طوالا بعيدة * وتعلـم أن الـدهر للنسج خـارق


ليست الطريقة لمن ليس له الحقيقة ، ولا يرجع الى خليقة الى كم تكدح ولا تقنع ، وتجمع ولا تشبع ، وتوفر لما تجمع وهو لغيرك مودع ، ماذا الرأي العازب(2) ، والرشد الغائب
____________
(1) أي ينصرف ويهمل .
(2) العازب الكلأ البعيد المطلب .


(86 )


والامل الكاذب ، ستنقل الى القصور ، وربات الخدور ، والجذل والسرور الى ضيق القبور ، ومن دار الفنا الى دار الحبور . (كل نفس ذائقة الموت وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور) :


فعالك هذي غرة وجهـالة * وتحسب ياذا الجهل أنك حاذق
تظن بجهل منك أنك راتق(1) * وجهلك بالـعقبى لـدينك فاتق
توخيك من هـذا ادل دلالة * وواضح برهـانـاً بانك مائق


عجباً لغافل عن صلاحه ، مبادراً الى لذاته وأفراحه ، والموت طريده في مسائه وصباحه ، فيا قليل التحصيل ، ويا كثيراً التعطيل ويا ذا الامل الطويل ، (الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل ) بناؤك للخراب ، ومالك للذهاب ، واجلك الى اقتراب :


وانت على الدنيا حريص مكاثر * كانك منـها بالسلامة واثـق
تحدثك الاطماع انـك للبقـاء * خلقت وان الدهر خل موافق
كانك لم تبصر اناساً ترادفت * عليهم باسباب المنون اللواحق


هذه حالة من لا يدوم صروره ، ولا تتم أموره ، ولا يفك اسيره أتفرح بمالك ونفسك ، وولدك وعرسك ، وعن قليل تصير الى رمسك ، وأنت بين طي ونشر ، وغنى وفقر ، ووفا وعذر ، فيا من القليل لا يرضيه ، والكثير لا يغنيه أعمل ما
____________
(1) يقال راتق وفاتق اي مصلح الامر.


(87)


شئت أنك ملاقيه . ( يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وابيه ، وصاحبته وبنيه لكل أمرء منهم يومئذ شأن يغنيه ) :

سيقفر بيـت كـنت فرخا لأهـله * ويهجر مثواك الصديق المصادق
وينساك مـن صافـيته والفـتـه * ويجفوك ذو الود الصحيح الموفق
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة * وميت مولـود وقـال ووامـق


أف لدنيا لا يرقى سليمها ، ولا يصح سقيمها ، ولا يندمل كلومها ، وعودها كاذبة ، وسهامها صائبة ، وامالها خائبة ، لا تقيم على حال ولا تمتع بوصال ، ولا تسر بنوال :

وتلك لمـن يهوى هواها مليكه * تعبده افعـالهـا والطرائق
يسر بها من ليس يعرف غدرها * ويسعى الى تطلابها ويسابق
اذا عدلت جارت على اثر عدلها * فمكر وهذا فعالها والخلايق


فياذا السطوة والقدرة ، والمعجب بالكثرة ما هذا الحيرة والفترة ، لكن فيمن مضى عبرة ، وليودن الغافلون عما اليه تصيرون اذا تحققت الظنون ، وظهر السر المكنون ، وتندمون حين لا تقالون .
(ثم انكم بعد ذلك لميتون) :


( 88 )


سيندم فـعال عـلى سوء فعلـه * ويزداد منه عنـد ذلك التسابق
اذا عاينوا من ذي الجلال اقتداره * وذو قوة من كـان قدما يدافق
هنالك تتلـو كـل نفس كتابهـا * فيطفو ذو عدل ويرسب فاسق


الى كم ذا التشاغل بالتجارة والارباح ، وحتام التغرير بالسلامة في مراكب النياح ، من ذا الذي سالمه الدهر فسلم، ومن ذا الذي تاجر الزمان فغنم ، ومن ذا الذي استرحم الايام فرحم ، اعتمادك على الصحة والسلامة خرق والاغترار بعواقب الامور خلق ، فدونك الامور ، والتيقظ ليوم النشور ، وطول اللبث في صفحات القبور (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) :

فمن صاحب الايام سبعين حجة * ولذاتها لا شك مـنه طـوالـق
فعقبى حـلاوة الـزمان مريرة * وان عـذبت حيناً فحينا خوانق
ومـن طرقته الحادثات بويـلها * فلا بد ان تأتيه فيها الصواعق


فما هذه الطمأنينة وأنت مزعج ، وما هذا الولوج وأنت مخرج جمعك الى تفريق ، ووفرك الى تمزيق ، وسعتك الى ضيق


(89)


فيا أيها المفتون ، والطامع بما لا يكون . (أفحسبتم انما خلقناكم عبثا ، وأنكم الينا لا ترجعون) :

ستندم عند المـوت شـر ندامـة * اذا ضم اعضاك الثرى والمطابق
وعانيت اعلام المنيـه والـردى * ووافاك ما تبيض منـه المفارق
وصرت رهينا في ضريحك مفردا * وباعدك الجار القريب الملاصق


الى متى تواصل بالذنوب ، واوقاتك محدودة ، وافعالك مشهودة ، افتعول على الاعتذار ، وتهمل الاعذار ، والانذار وأنت مقيم على الاصرار . (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار) :

اذا نصب الميزان واشتد غيضها * اذا افتتحت ابوابها والمغالق
وقطـعت الاسباب من كل ظالم * يقيـم على اصراره وينافق


فقدم التوبة ، واغسل الحوبة ،(1) فلا بد ان تبلغ بك النوبة وحسن العمل قبل حلول الاجل ، وانقطاع الامل ، فكل غائب قادم ، وكل غريب غارم ، وكل مفرط نادم ، فاعمل للخلاص قبل القصاص ، والاخذ بالنواص :
____________
(1) الحوبة الاثم :


( 90 )


فانـك مـاخوذ بما قد جنيته * وانـك مطلوب بما أنت سارق
وذنبك ان ابغضته فـمعانق * ومـالك ان احببتـه فمفـارق
فقارب وسدد واتق الله وحده * ولا تستقل الزاد فالموت طارق

(واتقوا الله يوم ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )(1).

( ومن كلام له عليه السلام )
( لزائدة بن قدامة الثقفي)(2)


قال عليه السلام : بلغني يا زائدة انك تزور قبر أبي عبدالله الحسين عليه السلام احياناً فقلت : أن ذلك لكما بلغك ، فقال لي : فلماذا
____________
(1) معالم العبر في استدراك البحار السابع عشر ص 275 ط ايران للشيخ النوري قال : حدث شاكر بن غنيمة بن أبي الفضل عن عبد الجبار الهاشمي قال سمعت هذه الندبة من ابي بشير بن طالب الكندي عن أبي عيينة عن الزهري عنه عليه السلام قال كان الخ . . .
(2) كان من الشيعة الموالين والرواة الموثوقين وذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الامام الباقر ( عليه السلام ) وكلام الامام له : وله مكان عند سلطانك . يعلم أنه كان من الموظفين الكبار في دولة بني امية كما في ـ


( 91 )


تفعل ذلك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل احداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الامة من حقنا . فقلت والله ما أريد بذلك الا الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا، يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه ، فقال : والله ان ذلك لكذلك فقلت والله ان ذلك لكذلك ، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثا.
فقال عليه السلام : أبشر ثم أبشر ثم أبشر ، فلا خبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون ، فانه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل ابي عليه السلام ، وقتل من كان معه من ولده ، واخوته وسائر اهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الاقتاب ، يراد بنا الكوفة . فجعلت أنظر اليهم صرعى ولم يواروا ، فعظم في ذلك صدري ، واشتد لما ارى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي عليه السلام فقالت : مالي اراك تجود بنفسك يا بقية جدي ، وأبي واخوتي ، فقلت : كيف لا أجزع واهلع(1)
____________
ـ تأريخ كربلاء ويقول المامقاني في تنقيح المقال ج2 ص 21 ط النجف ليس في الحديث وصفه بالثقة بالثقفي ولكن الظاهر انه هذا فانه ليس في رواتنا قدامة بن زائدة سواه.
(2) اهلع بمعنى اجزع.


( 92 )


وقد أرى سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي ، واهلي مضرعين بدمائهم ، مرملين بالعري ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر، كانهم أهل بيت من الديلم والخزر.
فقالت: لا يجزعنك ما ترى ، فو الله ان ذلك لعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله الى جدك وأبيك وعمك . الى اخر قولها ـ ثم أخبر الامام عليه السلام لزائدة الحديث الطويل ناقلا عن عمته زينب الكبرى عليها السلام ، تركنا ، لاجل خروجه عن نطاق كتابنا ـ .
قال زائدة قال علي بن الحسين عليهما السلام بعد ان حدثني بهذا الحديث : خذه اليك اما لو ضربت في طلبه اباط الابل(1) حولا لكان قليلا(2).
____________
(1) كناية عن شدة المسير.
(2) كامل الزيارة ص 260 وص 266 وص 58 ط النجف لابن قولويه والبحار ج10 ص 238 وتاريخ كربلاء للدكتور عبد الجواد الكليدار نقلا عنها ص 77 ط بغداد.


( 93 )


( ومن خطبة له عليه السلام )
( في الاحتجاج على أهل الكوفة وفيها بيان غدرهم )

قال حدام بن شريك الأسدي خرج زين العابدين عليه السلام الى الناس، وأمى اليهم أن اسكتوا فسكتوا . وهو قائم فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فانا علي بن الحسين ، المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث(1) أنا ابن من أنتهك حريمه ، وسلب نعيمه ، وأنتهب ماله ، وسبي عياله ، انا ابن من قتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً. أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون انكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، واعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة ، وقاتلتموه وخذلتموه ، فتباً لكم ما قدمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول الله صلى الله عليه وآله اذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي.
قال: فارتفع أصوات الناس بالبكاء والعويل ، وجعل يدعو بعضهم بعضاً ، هلكتم وما تعلمون ، فقال علي بن الحسين
____________
(1) الذحل الثار والترات: جمع ترة وهي أيضاً الثار.


( 94 )


عليه السلام : رحم الله أمرء قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي ، فان لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فقالوا بأجمعهم : نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون ، حافظون لدمائك غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك رحمك الله ، فانا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، بريئون ممن ظلمك وظلمنا.
فقال علي بن الحسين عليه السلام : هيهات هيهات ايتها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون إلى كما أتيتم إلى آبائي من قبل ، كلا ورب الراقصات ، فان الجرح لما يندمل ، من قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ، فلم ينسى ثكل رسول الله ، وثكل أبي ، ووجده بين لهاتي(1) ومرارته بين حناجري ، وغصصه تجري في فراش صدري ، ومسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا ، ثم قال :

لا غروا ان قتل الحسين فشيخه * قد كان خيراً من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا آل كوفان بالذي * أصيب حسين كان ذلك أعـظما
قتيل بشط النهـر نفسي فـداؤه * جـزاء الـذي أرداه نار جهنما


ثم قال : رضينا منكم رأساً برأس ، فلا يوم لنا ، ولا
____________
(1) سبق معنى اللفظ.


( 95 )


يوم علينا(1).

( ومن كلام له عليه السلام )
( كان يقوله في أسر بني أمية له )

أيها الناس ، أن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء ، ألا وأن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى : ( وكان ابوهما صالحا) فاكرمهما ، ونحن والله عترة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله كان يقول في منبره: احفظوني في عترتي واهل بيتي فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله . الا لعنة الله على من آذاني فيهم . حتى قالها ثلاث مرات . ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونحن والله أهل بيت أختار الله لنا الآخرة وزوي(2) عنا الدنيا ولذاتها ولم يمتعنا بلذاتها(3).
____________
(1) الاحتجاج للطبرسي ص 16 ج2 ط نجف واللهوف ص 139 ط ايران لابن طاووس.
(2) زوي الشيء نحاه.
(3) ناسخ التواريخ ج2 من احواله ( ع ) ص 44 ط ايرا والمنتخب للطريحي ج 2 ص 2 ط نجف.


( 96 )


( ومن كلام له عليه السلام )
( في بيان ما جرى عليه وعلى بقية العترة من
المصائب والهوان بعد ما قال له منهال كيف
أصبحت يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله )

فقال عليه السلام : كيف حال من اصبح وقد قتل ابوه ، وقل ناصره ، وينظر الى حرم من حوله أسارى ، قد فقدوا الستر والغطاء ، وقد أعدموا الكافل والحمى ، فما تراني إلا أسيراً ذليلا قد عدمت الناصر والكفيل ، قد كسيت أنا واهل بيتي ثياب الأسى ، وقد حرمت علينا جديد العرى ، فان تسال فها انا كما ترى ، قد شتمت فينا الأعداء ، ونترقب الموت صباحاً ومساءاً ( ثم قال عليه السلام ) : قد أصبحت العرب تفتخر على العجم لأن محمداً صلى الله عليه وآله منهم ، وأصبحت قريش تفتخر على ساير الناس لأن محمداً صلى الله عليه وآله منهم ، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولين مظلومين ، قد حللت بنا الرزايا ، نساق سبايا ، ونجلب هدايا ، كأن حسبنا من أسقط الحسب ، ونسبنا من أرذل النسب ، كأن لم نكن على هام المجد رقينا ، وعلى بساط جليل سعينا ، واصبح الملك ليزيد


( 97 )


لعنه الله وجنوده ، وأصبحت بنو المصطفى صلى الله عليه وآله من ادنى عبيده(1).

( ومن خطبة له عليه السلام )
( ذم بها يزيد بن معاوية حين دخل عليه )

وذلك لما قال له : كيف رأيت يا علي بن الحسين ؟ قال: رأيت ما قضاه الله عز وجل قبل ان يخلق السموات والارض .
فشاور يزيد جلساءه في امره فاشاروا بقتله ، وقالوا له لانتخذ من كلب سوء جروا.
فابتدر ابو محمد الكلام ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال يا يزيد لقد اشار عليك هؤلاء بخلاف ما اشار جلساء فرعون عليه ، حيث شاورهم في موسى وهارون ، فانهم قالوا له ارجه واخاه . وقد اشار هؤلاء عليك بقتلنا ولهذا سبب . ( فقال يزيد وما السبب ؟ ) فقال عليه السلام : ان اولئك كانوا الرشدة ، وهؤلاء لغير رشدك ، ولا يقتل الأنبياء واولادهم إلا اولاد الأدعياء . ( فامسك يزيد مطرقاً )(2).
____________
(1) ناسخ التواريخ ج2 من احواله ( عليه السلام).
(2) اثبات الوصية ص 140 ط نجف لعلي بن الحسين المسعودي والامامي.


( 98 )

( ومن خطبة له عليه السلام )
( في الشام )

وتجمع هذه الخطبة من فضائله ومناقبه ، مالا تجمعها خطبة غيرها ، لما أمر يزيد بمنبر وخطيب ليذكر مساوي الحسين وابيه علي عليهما السلام فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، واكثر الوقيعة في علي والحسين عليهما السلام واطنب في تقريظ معاوية بن يزيد عليهما اللعنة.
فصاح به علي بن الحسين عليه السلام : ويلك أيها الخاطب ، أشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق ، فتبؤا مقعدك من النار ، ثم قال : يا يزيد ائذن لي حتى اصعد هذه الاعواد(1) فاتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجلساء أجر وثواب.
فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد فلعلنا نسمع منه شيئاً ، فقال لهم : ان صعد المنبر هذا لم ينزل
____________
(1) عبر الامام (ع) بالاعواد ولم يقل بالمنبر لان المنبر محل شريف ومكان رفيع ، لا يجلس عليه الا اولياء الله وعباده الصالحين لا امثال معاوية ويزيد لعنهما الله ، ومرتزقيهما المنبوذين.


(99)


الا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا ، فقال له : أنه من اهل بيت قد زقوا العلم زقا ،(1) ولم يزالوا به حتى اذن له بالصعود.
فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة ابكى منها العيون ، واوجل منها القلوب ؛ فقال فيها : أيها الناس ، اعطينا ستاً ، وفضلنا بسبع ، اعطينا : العلم والسماحة ، والفصاحة والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد صلى الله عليه وآله ، ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد الله وأسد رسوله ، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول(2) ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وسيد شباب أهل الجنة ، فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، انا ابن مكة ومنى ،
____________
(1) زق الطير اي وضع الطعام في فمه.
(2) ذكر الفتال الشهيد في روضة الواعظين ان الرسول (ص) سئل ما البتول فانا سمعناك تقول ان مريم بتول ، وان فاطمة بتول فقال : البتول التي لم تر حمرة قط ولم تحض فان الحيض مكروه في بنات الانبياء.


(100)


انا ابن زمزم والصفى ، انا ابن من حمل الزكاة(1) بأطراف الردا انا ابن خير من ائتزر وارتدى ، انا ابن من انتعل واحتفى ، انا ابن خير من طاف وسعى ، انا ابن من حمل على البراق(2) في
____________
(1) في اكثر النسخ : ( حمل الركن باطراف الرداء ) وهو الصحيح ، لتكون اشارة الى ما اشتهر عند المؤرخين من ان الكعبة قد تهدمت بالسيل قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله ، فاجتمعت القبائل لبنائه وعندما ارادوا وضع الحجر في موضعه على الركن ، تنازعوا بينهم فيمن ينصبه منهم ، ويكتسب ذاك الشرف العظيم ، وكاد ان يقع بينهم قتال كبير لكنهم اتفقوا اخيراً على ان يتحاكموا الى اول من يدخل المسجد ذلك الحين ، فدخل محمد صلى الله عليه وآله فقالوا جاء الأمين فتحاكموا اليه، فنزع صلى الله عليه وآله ردائه وبسطه على الأرض ورفع الحجر فوضعه في الرداء ، وامر ان ياخذ كل رئيس قبيلة بطرف من اطراف الرداء ، ويحمله الى قرب البيت فحملوه فتقدم صلى الله وعليه وآله فاخذ الحجر بنفسه ونصبه في موضعه من الكعبة وبذلك اكتسب صلى الله عليه وآله العظمة لنفسه ، والقى التعب والثقل على رؤساء القبائل ، وقطع النزاع ، واخمد الفتنة . ( ملخص من تاريخ اليعقوبي ج1 وتاريخ مكة ج1 ص 103 للازرقي ).
(2) البراق دابة نحو البغل كان يركبه الرسول صلى الله عليه وآله عند العروج الى السماء . كما في ( مجمع البحرين ).