أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية بلاغة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام 29 ـ كلامه عليه السلام كلم به عبد الملك بن مروان
 
 


29 ـ كلامه عليه السلام كلم به عبد الملك بن مروان

البريد الإلكتروني طباعة

( ومن كلام له عليه السلام )
( كلم به عبد الملك بن مروان )

حين دخل عليه فاستعظم ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين عليه السلام فقال : يا أبا محمد لقد بين عليك الاجتهاد ، ولقد سبق لك من الله الحسنى ، وأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله قريب النسب ، وكيد السبب ، وانك لذو فضل عظيم على اهل بيتك وذوى عصرك ، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا من مضى من سلفك وأقبل يثني عليه ويطريه.
فقال على بن الحسين عليه السلام كما وصفته وذكرته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه فأين شكره على ما أنعم ، يا أمير المؤمنين كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقف في الصلاة حتى يرم قدماه ، ويظمأ في الصيام حتى يعصب(1) فوه ، فقيل له يا رسول الله : ألم نغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيقول صلى الله عليه وآله : أفلا أكون عبداً شاكراً ، الحمد لله على ما أولى وأبلى ، وله الحمد
____________
(1) العصب : جفاف الريق في الحلق.


( 52 )


في الآخرة والأولى ، والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على صدري أن أقوم لله جل جلاله لم يشكر(1) عشر العشير من نعمه واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون ، ولا يبلغ حد نعمة منها على جميع حمد الحامدين ، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ، ولا سر ، ولا علانية ولولا أن لاهلي علي حقا ولسائر الناس من خاصهم وعامهم علي حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى اوديها اليهم ، لرميت بطرفي إلى السماء وقلبي إلى الله ثم أردهما حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين.
وبكى عليه السلام وبكى عبد الملك وقال : شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها ، وبين من طلب الدنيا من أين جائته وماله في الآخرة من خلاق(2)
. قوله عليه السلام : أو يراني الله ـ بمعنى : ( إلى ان ) أو (إلا ان) أي لا والله لا اترك الاجتهاد الى أن يراني الله على تلك الحال.
____________
(1) لم اشكر خ ل.
(2) البحار ج11 ص 130 ومستدرك الوسائل ج1 ص 14 ومعالم العبر كلاهما للشيخ النوري ره.


( 53 )


( ومن كلام له عليه السلام )

« في تفسير قوله تعالى : الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناءا(1)»
كان يقول معنى هذه الآية : انه سبحانه جعل الارض ملائمة لطباعكم موافقة لاجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة الريح فتصدعكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم ، وقبور موتاكم ، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسك عليها ابدانكم وبنيانكم وجعل فيها كثيراً من منافعكم ، وجعل السماء سقفا محفوظاً من فوقكم ، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم وانزل من السماء ماء من علا ليبلغ قلل جبالكم ، وتلالكم(2) وهضابكم(3)
____________
(1) سورة البقرة الاية 22.
(2) التلال جمع تل من التراب معروف وهو الرابية.
(3) جمع الهضبة الجبل المنبسط على الارض.


( 54 )


واوهادكم(1) ثم مزقه رذاذاً ووبلا(2) لاهطلا(3) فيفسد أرضكم وأشجاركم وزرعكم وثماركم وأخرج من الارض رزقا لكم فلا تجعلوا مع الله انداداً وأشباهاً ، وأمثالا وأصناماً لا تعقل ولاتبصر ولا تسمع ، وأنتم تعلمون انها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعم بها عليكم ربكم تعالت الأوه ونعمائه(4).

( ومن كلام له عليه السلام )
( لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري يعظه )

لما دخل عليه عليه السلام وهو كئيب حزين فقال زين العابدين عليه السلام : ما بالك مغموما ؟ قال يا ابن رسول الله : غموم وهموم تتوالى على لما امتحنت به من جهة حساد نعمي والطامعين في وممن ارجوه وممن أحسنت اليه فيخلف ظني.
فقال له علي بن الحسين عليه السلام : أحفظ عليك لسانك ، تملك به اخوانك ، قال الزهري : يا ابن رسول الله اني احسن
____________
(1) الاوهاد جمع الوهد الارض المنخفضة.
(2) الرذاذ المطر الضعيف وبلت السماء مطرت الوبل.
(3) الهطل المطر انزل متتابعاً متفرقا عظيم القطر.
(4) عيون أخبار الرضا « عليه السلام » ص 78 ط طهران للصدوق.


( 55 )


اليهم بما يبدر من كلامي ، قال علي بن الحسين عليه السلام : هيهات هيهات اياك أن تعجب من فسك بذلك ، وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب انكاره وان كان عندك اعتذاره ، فليس كل من تسمعه شراً يمكنك أن توسعه عذراً ، ثم قال : يا زهري اما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل قربك منهم بمنزلة أخيك ، فاي هؤلاء ان تظلم ، ,اي هؤلاء تحب عليه أن تدعو عليه ، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره ، وان عرض لك ابليس لعنه الله بان لك فضلا على أحد من اهل القبلة ، فانظر أن كان اكبر منك فقل قد سبقني بالايمان ، والعمل الصالح فهو خير مني ، وان كان اصغر منك فقل قد سبقني بالايمان ، والعمل الصالح فهو خير مني ، وان كان اصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وان كان تربك(1) فقل انا على يقين من ذنبي ، وفي شك من أمره ، فما ادع يقيني لشكي ، وان رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك ، فقل هذا اخذوا به ، وان رأيت منهم جفا وانقباضا ، فقل هذا الذنب أحدثته ، فانك اذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر اصدقائك فقل اعدائك وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم ، واعلم ان اكرم الناس على
____________
(1) الترب جمع اتراب من ولد معك في يوم واحد.


( 56 )


الناس من كان خيره عليهم فايضا ، وكان عنهم مستغنيا متعففا ، واكرم الناس من بعده عليهم من كان مستعففاً وان كان اليهم محتاجاً ، فانما أهل الدنيا يتعقبون الأموال ، فمن لم يزدحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم ومن لم يزاحمهم فيها ومكنهم من بعضها كان اعز واكرم(1).

( ومن دعائه عليه السلام )
( حين بلغه توجه مسرف بن عقبة(2)الى المدينة)

رب كم من نعمة انعمت بها علي قل لك عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك صبري فيها ، من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني ، وقل عند بلائه صبري فلم يخذلني ، ياذا المعروف الذي لا ينقطع ابدا وياذا النعماء التي لا تحصى عدداً ، صل على
____________
(1) الاحتجاج ج2 ص 174 للطبرسي وتنبيه الخواطر للورام ص 30 وكيف تكسب الاصدقاء في نظر اهل البيت ص 133 ط مصر.
(2) كان ابن عقبة كما يذكر المؤرخون رجلا فاسقا فاجراً شريراً امره يزيد بن معاوية لعنه الله على الجيش الذي ارسله الى المدينة لنهبها لما امتنعوا من بيعته وقال له ان ظفرت بهم فابحها ثلاثة ايام بما فيها من الرجال والنساء والاطفال والاموال والسلاح فاذا مضت ثلاثة ايام فاكفف ـ


( 57 )


محمد وآل محمد وادفع عني شره ، فاني ادرءك(1) في نحره واستعيذ بك من شره.
فقدم مسرف بن عقبة المدينة ، وكان يقال انه لا يريد غير علي بن الحسين عليه السلام فسلم منه وحباه ووصله(2).
* وكان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية (3) : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) يقول : سبحانه من لم يجعل في أحد من معرفه نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد من معرفة ادراكه اكثر من العلم بانه لا يدركه : فشكر عز وجل معرفة العارفين بالتقصير عن
____________
ـ عنهم ففعل ما امر يزيد بل اسرف في ذلك حتى سمي بمسرف من القتل والنهب وهتك الاعراض حتى ولد في المدينة من تلك الواقعة اربعة الاف مولود لا يعرف له اب وشدوا الخيل الى اساطين مسجد رسول الله ( ص) قال الراوي رأيت الخيل حول قبر النبي (ص) قال سعيد بن المسيب وكان السجاد ( ع ) في تلك الايام على قلق ووجل وهو يأتي قبر رسول الله ( ص ) ويدعو عنده وكنت انا معه .
(1) ادفع.
(2) المناقب ج4 ص 124 لابن شهراشوب والارشاد ص 340 للمفيد.
(3) سورة ابراهيم آية 34.


( 58 )


معرفته ، وجعل بالتقصير شكراً ، كما جعل علم العالمين انهم لا يدركونه ايماناً ، علماً منه انه قد وسع العباد فلا يجاوزون ذلك(2).

( ومن كلام له عليه السلام )
( في فضائل عترة النبي صلى الله عليه وآله)

قال عليه السلام : ان محمداً صلى الله عليه وآله كان أمين الله في أرضه ، فلما انقبض محمد صلى الله عليه وآله كنا أهل البيت امناء الله في أرضه ، عندنا علم البلايا والمنايا ، وأنساب العرب ، ومولد الاسلام ، وانا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الايمان ، وبحقيقة النفاق ، وان شيعتنا لمكتوبون معروفون باسمائهم واسماء آبائهم ، أخذ الله الميثاق علينا وعليهم ، يردون موردنا ، ويدخلون مداخلنا ، ليس على ملة ابراهيم الخليل الله غيرنا وغيرهم ، انا يوم ا لقيامه آخذون بحجزة نبينا ، ونبينا آخذ بحجزة ربه ، وان الحجزة النور ، وشيعتنا آخذون بحجزنا ، من فارقنا هلك ، ومن تبعنا نجى ، والجاحد لولايتنا كافر ، ومتبعنا وتابع أولياءنا مؤمن ، لا يحبنا كافر ، ولا يبغضنا مؤمن ، من مات وهو محبنا كان حقا على الله أن يبعثه معنا ، نحن نور لمن تبعنا ، ونور لمن اقتد بنا
____________
(2) بحار الانوار ج17 وتحف العقول ص 68 لابن شعبة.


( 59 )


من رغب(1) عنا ليس منا ، ومن لم يكن معنا فليس من الاسلام في شيء ، بنا فتح الله الدين ، وبنا يختمه ، وبنا أطعمكم عشب الارض ، وبنا أنزل عليكم مطر السماء ، وبنا أمنكم الله من الغرق في بحركم ، ومن الخسف في بركم ، وبنا نفعكم الله في حياتكم ، وفي قبوركم ، وفي محشركم ، وعند الصراط ، وعند الميزان ، وعند دخول الجنان ، ان مثلنا في كتاب الله كمثل المشكاة ، والمشكاة في القنديل ، فنحن المشكاة فيها المصباح والمصباح هو محمد صلى الله عليه وآله المصباح في زجاجة ، نحن الزجاجة ، كأنها كوكب يوقد من شجرة مباركة زيتونة ، لا شرقية ولا غربية ، لا منكرة ولادعية ، يكاد زيتها نور يضيء ، ولو لم تمسسه نار نور ، القرآن نور على نور (يهدي الله لنوره من يشاء والله على كل شيء قدير) على ان يهدي ، من أحب لولايتنا حقاً على الله أن يبعث ولينا ، مشرقا وجهه ، نيرا برهانه ، عظيما عند الله حجته ، ويجيء عدونا يمالقيامة مسودا وجهه ، مدحضة عند الله حجته ، وحق على الله أن يجعل ولينا رفيق النبيين ، والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن اولئك رفيقا ، حق على الله أن يجعل عدونا رفيقا للشياطين والكافرين ، وبئس اولئك رفيقا ولشهيدنا فضل على الشهداء غيرنا
____________
(1) بمعنى اعرض.


( 60 )


بعشر درجات ، ولشهيد شعيتنا على شهيد غيرنا سبع درجات ، فنحن النجباء ، ونحن افراط(1) الأنبياء وابناء الأوصياء ، ونحن خلفاء الأرض ، ونحن اولى الناس بالله ، ونحن المخصوصون في كتاب الله ، ونحن اولى الناس بدين الله ، ونحن الذين شرع الله لنا دينه ، فقال الله : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذين أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى) فقد علمنا وبلغنا واستودعنا علمهم ، ونحن ورثة الأنبياء ، ونحن ذرية أولى العلم ، ان اقيموا الدين بآل محمد صلى الله عليه وآله ولا تتفرقوا فيه ، وكونوا على جملتكم كبر على المشركين بولاية علي بن أبي طالب ما تدعوهم اليه من ولاية علي ان الله يا محمد يجتني اليه من يشاء ، ويهدي اليه من ينيب من يجيبك إلى ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام(2).

( ومن كلام له عليه السلام )
( في اختلاف المذاهب بعد النبي صلى الله عليه وآله )

قال عليه السلام : قد انتحلت طوائف من هذه الأمة بعد مفارقتها
____________
(1) الفرط : العلم المستقيم يهتدي به والجمع افرط وافراط.
(2) بحار الانوار وناسخ التواريخ ج2 من احواله ( عليه السلام ) ص 249.


(61)


ائمة الدين ، وشجرة النبوة ، اخلاص الديانة ، واخذوا أنفسهم في مخايل الرهبانية ، وتعالوا في العلوم ، ووصفوا الاسلام بأحسن صفاتهم ، وتحلوا باحسن السنة ، حتى إذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقة ، وامتحنوا بمحن الصادقين ، رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى ، وعلم النجاة ، يتفسحون تحت اوراق البزل ولا يحرزوا السبق الرزايا وان جرت ولا يبلغ الغايات إلا سبوقها وذهب آخرون إلى التقصير في امرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم ، اتهموا بمأثور الخبر مما استحسنوا ، يقتحمون في اعمال الشبهات ودياجير الظلمات ، بعير قبس نور من الكتاب ، ولا اثرة علم من مظان العلم بتحذير مثبطين ، زعموا انهم على الرشد من غيهم ، والى من يفزع خلف هذه الأمه ، قد درست أعلام الملة والدين الأمة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا والله تعالى يقول : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائتهم البينات) فمن الموثوق به على ابلاغ الحجة ، وتأويل الحكمة ، إلا اهل الكتاب ، وابناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة ، هل تعرفوهم أو تحدونهم الا من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم


( 62 )


تطهيراً ، ويراهم من الآفات واقترن مودتهم بالكتاب :

هم العروة الوثقى وهم معدن التقى * وخـير جـبال العالمـين وثيـقها(1)


أقول : من أخبار نبي الاسلام صلى الله عليه وآله الغيبية الذي نطق به هذا الكلام رواه جميع علماء السنة والشيعة : ( ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة وان منهم فرقة ناجية) وان الامام في هذه الكلمات يشرح الاختلاف وما كان له من اثار سيئة ونتائج وخيمة وبين ان الطريق الوحيد للتخلص منه هو الاخذ بتعاليم اهل البيت عليهم السلام والتمسك بحبالهم ( واهل البيت ادري بما في البيت ) وكما أمر النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وجدهم المعظم بالاقتداء بهم واقترنهم بالكتاب الكريم في ذلك الحديث المشهور المتواتر.

( ومن وصية له عليه السلام(2) )
( وصى بها ابنه محمد بن علي الباقر عليه السلام )

وذلك لما مرض علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه ، فجمع أولاده محمداً عليه السلام ، وعبدالله وعمر ، وزيد ، والحسين ، وأوصى الى ابنه محمد بن علي الباقر عليه السلام وكناه الباقر وجعل امرهم اليه وكان فيما وعظه في وصيته ان قال : ـ
____________
(1) ناسخ التواريخ المجلد الاول من احواله ( عليه السلام ).


( 63 )


يا بني ان العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل ترجمان العلم ، واعلم ان العلم ابقى ، واللسان اكثر هذراً ، واعلم يا بني ان اصلاح الدنيا بخذافيرها في كلمتين : بهما اصلاح شان المعايش ، ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثاه تغافل لان الانسان لا يتغافل إلا عن شيء قد عرفه ففطن له(1).
اعلم ان الساعات تذهب عمرك ، وانك لا تنال نعمة الا بفراق اخرى ، فاياك والامل الطويل ، فكم من مؤمل املا لا يبلغه ، ولجامع مال لا يأكله ، ومانع ما سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه ، اصابه حراماً ، وورثه احتمل اصره ، وباء بوزره .
(ذلك هو الخسران المبين)(2).

( ومن وصية له عليه السلام )
( أيضا لابنه محمد الباقر عليه السلام في النهي عن مصاحبة الاحمق )

قال : اياك يا بني ان تصاحب الاحمق ، أو تخالطه ، واهجره
____________
(1) قال الجاحظ : لم يجعل ( عليه السلام ) لغير الفطنة نصيباً من الخير ، ولا حظاً من الصلاح لان الانسان لا يتغافل عن شيء الا وقد عرفه وفطن قال الطائي : ليس الغبي بسيد في قومه ، لكن سيد قومه المتغابي.
(2) كفاية الاثر ص 319 للخزازالقمي.


( 64 )


ولاتحادثه ، فان الاحمق هجنه عبن(1) غائباً كان أو حاضراً ، ان تكلم فضحه حمقه ، وأن سكت قصر فقربه عنه ، وان عمل افسد ، وان استرعى اضاع ، لاعلمه من نفسه يغنيه ، ولا علم غيره ينفعه ، ولا يطيع ناصحه ، ولا يستريح مقارنه ، تود امه لو انها ثكلته ، واطرته فقدته ، وجاره بعد داره ، وجليسه الوحدة من مجالسته ، أن كان اصغر من في المجلس اغنى من فوقه ، وان كان اكبر افسدهم من دونه(2).
أقول : ويجيء في الباب الثالث من هذا الكتاب حديثه مع ابنه عليه السلام : يحذره من ا لمصاحبة باشخاص : منها الاحمق.

( ومن وصية له عليه السلام )
( وصى بها ولده أيضاً بهذا الدعاء )

ان قال لهم : اذا أصابتكم مصيبة أو نزلت بكم فاقة ، فليتوضاء الرجل ويحسن وضوئه ، ويصلي أربع ركعات وبعد الفراغ يقول :
____________
(1) الهجنة القبيح وما يعيبه الانسان ، والعبن بتشديد النون الغليظ الخشن.
(2) ناسخ التواريخ.


( 65 )


يا موضع كل شكوى ، يا سامع كل نجوى ، يا شافي كل بلاء وياعالم كل خفية ويا كاشف ما يشاء ، يا نجي موسى ، ويا مصطفى محمد ، ويا خليل ابراهيم ، ادعوك دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لتكشف ما فيه الا أنت يا أرحم الراحمين لا آله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين.
قال عليه السلام من اصابه البلاء ، ودعاء بهذا الدعاء اصابه الفرج من الله تعالى(1).

( ومن كلام له عليه السلام )
( يذكر فيه أرض كربلاء )

قال عليه السلام : آتخذ الله أرض كربلاء حرماً امنا قبل ان يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً باربعة وعشرين الف عام ، وانه اذا زلزل الله تعالى الارض وسيرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة وافضل مسكن في الجنة لا يسكنها الا النبيون والمرسلون ، ( أو قال أولوا العزم ) وانها لتزهر بين رياض الجنة كما تزهر
____________
(1) تاريخ القرماني ص 11 وكشف الغمة في معرفة الائمة ( عليهم السلام ) لعلي بن عيسى الاربلي.


(66)


الكوكب الدري بين الكواكب لآهل الارض ، يغشى نورها ابصار الجنة ، وهي تنادي أرض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء ، وسيد شباب أهل الجنة(1).
أقول : أن هذا الكلام لدليل على أفضلية كربلاء المقدسة على مكة المشرفة واشرفيتها عليها ، واشار الى هذه المزية السيد مهدي بحر العلوم رحمه الله في منظومته القيمة حيث قال :

ومن حديث كربلاء والكعبة * لكربلاء بان علو الرتبة


( ومن كلام له عليه السلام )
( في الحث على التقوى )

عن أبي الطفيل عامر بن واثلة كان عليه السلام اذا تلا قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال : اللهم ارفعني في اعلا درجات هذه الندبة ، واعني بعزم الارادة ، وهبني حسن المستعتب من نفسي ، وخذني منها حتى تتجرد خواطر الدنيا عن قلبي من برد خشيتي منك ، وارزقني قلبا ولسانا يتجازيان في ذم الدنيا ، وحسن التجافي منها ، حتى لا أقول الاصدقاء ، وأرني مصاديق اجابتك بحسن توفيقك ، حتى اكون في كل حال حيث أردت ،
____________
(1) الخصائص الحسينية ص 165 للشيخ جعفر التستري.


(67)


فقد قرعت بي باب فضلك فاقة * بحد سنان نال قلبي فتوقها


وحتى متى اصف محن الدنيا ، ومقام الصديقين ، وانتحل عزما من ارادة مقيم بمدرجة الخطايا ، اشتكي ذل ملكة الدنيا ، وسوء احكامها علي ، فقد رأيت وسمعت لو كنت أسمع في اداة فهم أو انظر بنو يقظه.

وكيلا الا قي نكبة وفيجعـة * وكأس مرارت ذعافا اذوقها(1)


وحتى متى تعلل الاماني ، واسكن الغرور ، واعبد نفسي للدنيا على غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها ، وانا أعرض لنكبات الدهر علي ، اتربص اشتمال البقاء ، وقوارع الموت يختلف حكمي في نفسي ، ويعتدل في الدنيا :

وهن المنايا أي واد سلكته * عليها طريقي او على طريقها


وحتى متى تعدل الايام فتختلف ، وأئتمنها فتخون ، لا تحدثها جدة إلا بخلوق جدة ، ولا لجمع شمل الا بتفريق شمل ، حتى كأنها غيري محجبة ضناً ، تغار على الالفة ، وتحسد على أهل النعم :

فقد آذنتني بانقطاع وفرقة * وأومض لي من كل افق بزوقها


____________
(1) زعاف بالزاي والعين المهملة والفاء القتل السريع من قولهم زعفه اذا قتله قتلا سريعاً.


( 68 )


ومن أقطع عذراً من معذ سيراً يسكن إلى معرس غفلة ، بادواء بنوة الدنيا ومرارة العيش ، وطيب نسيم الغرور ، وقد أمرت تلك الحلاوة على القرون الخالية ، وجال دون ذلك النسيم هبوات وحسرات ، وكانت حركات فسكنت ، وذهب كل عالم بما فيه :

فما عيشة إلا تزيد مرارة * ولا ضيقة إلا ويزداد ضيقها


فكيف يرقاء دمع لبيب ، أو يهدأ طرف متوسم ، على سوء أحكام الدنيا ، وما تفجأ به أهلها ، من تصرف الحالات ، وسكون الحركات ، وكيف يسكن اليها من يعرفها وهي تفجع الآباء بالأبناء ، وتلهى الأبناء عن الآباء تعدمهم اشجان قلوبهم ، وتسلبهم قرة عيونهم :

وترمى قساوات القلوب باسهم * وجمـر فراق لا يـبوخ حريقها(1)


وما عسيت أن أصف محن الدنيا وابلغ عن كشف الغطاء ، عما وكل به دور الفلك من علوم الغيوب ، ولست اذكر منها إلا قليلا منه افنته ، أو مغيب ضريح تجافت عنه ، فاعتبره أيها السامع بهلكات الأمم ، وزوال النعم ، وفظاعة ما تسمع وتروى من سوء أثارها في الديار الخالية ، والرسوم الفانية ، والربوع الصموت :
____________
(1) باخ سكن وفتر.


( 69 )


وكمن عاقل أفنت فلم تبك شجوة * ولا بد أن تفنى سريعاً لحوقها


فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ ، وتأمل معاقل الملوك ، ومصانع الجبارين ، وكيف عركتهم الدنيا بكلا كل الفناء ، وجاهرتهم بالمنكرات ، وسحبت عليه اذيال البوار ، وطحنتهم طحن الرحى للحب ، واستودعتهم هوج الرياح ، وتسحب عليهم أذيالها فوق مصارعهم في فلوات الأرض :

فتلك مغانيهم وهذي قبورهم * توارثها اعصارها وقبورها


أيها المجتهد في آثار من مضى من قبلك من الأمم السالفة . توقف ونفهم ، وانظر اليه أي عز ملك ، أو نعيم انس ، أو بشاشة الف ، إلا نغصت أهله قرة أعينهم ، وفرقتهم ايدي المنون ، والحتقهم بتجافيف التراب فاضحوا في فجوات قبورهم يتقلبون ، وفي بطون الهلكات عظاما ورفاتا ، وصلصالا في الارض هامدون :

وآليت لا تبقى الليالي بشاشة * ولا جدة إلا سريعاً خلوقها


وفي مطامع أهل البرزخ ، وخمود تلك الرقدة ، وطول تلك الاقامة طفئت مصابيح النظر ، وأضمحلت غوامض الفكر ، وذم الغفول أهل العقول ، وكمن بقيت متلذذاً في طوامس هوامد تلك الغرفات ، فنوهت باسما الملوك ، وهتفت بالجبارين ، ودعوت الأطباء والحكماء ، وناديت معادن الرسالة والأنبياء ، اتملل تملل


( 70 )


السليم ، وابكى بكاء الحزين ، وانادى ولات حين مناص.

سرى انهم كانوا فبانوا وانني * على جدد قصد سريعا لحوقها


وتذكرت مراتب الفهم ، وغضاضة فطن العقول ، بتذكر قلب جريح ، فصدعت الدنيا عما التذ بنواظر فكرها من سوء الغفلة ، ومن عجب كيف يسكن اليها من يعرفها ، وقد استذهلت عقله بسكونها ، وتزين المعاذير ، وخسأت أبصارهم عن عيب التدبير ، وكلما تراءت الآيات ونشرها من طي الدهر ، عن القرون الخالية الماضية وحالهم وما بهم ، وكيف كانوا ، وما الدنيا وغرور الأيام.

وهل هي إلا لوعة من ورائها * جوى قاتل أو حتف نفس يسوقها


وقد أغرق في ذم الدنيا الأدلاء على طرق النجاة من كل عالم ، فبكت العيون بشجن القلوب فيها دماً ، ثم درست تلك العالم فتنكرت الآثار وجعلت في برهة من محن الدنيا ، وتفرقت ورثة الحكمة وبقيت فرداً كقرون الاعضب(1) وحيداً أقول فلا أجد سميعاً ، وأتوجع فلا أجد مشتكى :

وأن أبكهم أجرص(2) وكيف تجلدي * وفي القلب مني لوعة لا أطيقها


____________
(1) الاعضب : الظبي الذي انكسر أحد قرنية.
(2) اجرض: أهلك.


( 71 )



وحتى متى أذكر حلاوة حلاوة مذاق الدنيا ، وغذوبة مشارب أيامها ، واقتفى آثار المريدين ، وأتنسم أرواح الماضين مع سبقهم الى الغل وتخلفي عنهم في فضالة طرق الدنيا منقطعاً من الاخلاء ، فزادني جليل الخطب لفقدهم جوي ، وخانني الصبر حتى كأنني أول ممتحن أتذكر معارف الدنيا وفراق الأحبة.

فلو رجعت تلك الليالي كعهدها * رأت أهلها في صورة لاتروقها


فمن أخص بمعاتبتي ، ومن أرشد بندبي ، ومن أبكى ومن أدع ، اشجو بهلكة الأموات ، أم بسوء خلف الأحياء ، وكل يبعث حزني ، ويستأثر بعبراتي ، ومن يسعدني فابكي ، وقد سلبت القلوب لبها ، ورق الدمع ، وحق للداء أن يذوب على طول مجانب الأطباء ، وكيف بهم وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ،ووكلوا إلى انفسهم يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات

حيارى وليل القـوم داج نـجومها * طوامس لا تجري بطيء خغوقها(1)


____________
(1) كشف الغمة في معرفة الائمة للاربلي ص 340 وقال : وهذا الفصل من كلامه قد نظمه بعض الشعراء واجاد في قوله :

قد كنت ابكي ما قد فات من زمني * واهل ودي جميع غيره اشتات
واليـوم اذ فرقت بـيني وبـينهم * نوى بكيت على اهل المروات
وما حياة امرء اضحـت مدامـعة * مقسومة بين احيـاء وامـوات

( 72 )


( ومن كلام له عليه السلام )
( وكان لما يحاسب نفسه ويناجي ربه )

ويقول : يا نفس حتى م إلى الدنيا سكونك وإلى عمارتها ركونك أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن وارته الأرض من الأفك(1) ومن فجعت به من أخلانك ونقل الى الثرى من أقرانك :

فهم في بطون الارض بعد ظهورها * محاسنهم فيـها بـوال دواثر
خلت دورهم منهم واقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادير
وخلوا عن الدنـيا ومـا جمعوا لها * وضمتهم نحو التراب الحفاير


كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غيرت الارض ببلائها ، وغيبت في ثراها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم الى الارماس :
____________
(1) الالاف جمع الف مثل كافر كفار ـ الصديق.


( 73 )


وأنـت على الدنـيا مكب منافس * لخطابها فيها حريـض مكـاثر
على خطر تمسى وتصبح لاهيا * أتدري بماذا لو عقات تخـاطر
وان امراً يسعى لدنيـا جاهـدا * ويذهل عن اخراه لا شك خاسر


فحتى م على الدنيا اقبالك ، وبشهواتك اشتعالك ، وقد وخطك(1) الفتير(2) ، ووافاك النذير ، وأنت عما يراد بك ساه ، وبلذه يوفك وقد رأيت انقلاب الشهوات ، وعانيت ما حل بهم المصيبات :

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * من اللهـو واللذات للمرء زاجر
أبعد أقتـراب الاربعيـن تربـص * وشيب قذال منـذ ذلـك ذاعر
كـأنـك معنى بـما هـو صائـر * لنفسك عمداً او عن الرشد حائر


أنظر الى الامم الماضية ، والقرون الفانية ، والملوك العاتية ، كيف أنتفتهم الايام فافناهم الحمام ، فامحت من الدنيا اثارهم ، وبقيت فيها أخبارهم :
____________
(1) وخط الشيب : خالط سواد شعره.
(2) القتير الشيب او اول ما يظهر منه .


( 3 )


واضحوا رميما في التراب واقفرت * مجالس منهم عطلت ومقاصر
وحـلوا بـدار لا تـزاور بينـهم * وانى لسكان القبـور التزاور
فما ان تـرى الا قبورا ثـووا بها * مسطحة تسفى عليها الاعاصر


كم من ذي منعة وسلطان ، وجنود واعوان تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه ، وبنى فيها القصور والدساكر ، وجمع فيها الاموال والذخائر ، وملح السراري والحرائر :

فما صرفـت كف المنية اذ أتت * مبادرة تـهوى اليـه الذخايـر
ولادفعت أهل الخصون التي بنى * وحف بها أنهارها والدساكر(1)
ولا قارعت أهـل المـنية حيلة * ولاطعمت في الذب عنه العساكر


أتاه الله من الله ما لا يرد ، ونزل به من قضائه ما لا يصد ، فتعالى الله الملك الجبار ، المتكبر العزيز القهار ، قاصم الجبارين ، ومبيد المتكبرين الذي ذل لعزه كل سلطان ، وباد بقوته كل ديان :
____________
(1) الدسكرة القرية العظيمة . بيوت يكون فيها الشراب والملاهي . بناء كالقصر تكون حواليه بيوت يجتمع فيها الشطارج دساكر ـ المنجد ـ .


(75)


مـليك عـزيـز لا يـرد قضائه * حكيم عليم نافـذ الامـر قاهر
عني كـل ذي عـز لعزة وجهه * فكم منس عزيز للمهيمن صاغر
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر


فالبدار البدار ، الحذار الحذار من الدنيا ومكايدها وما نصبت لك من مصائدها وتحلت لك من زينتها ، واظهرت لك من بهجتها ، وابرزت لك من شهواتها واخفت عنك من قواتلها وهلكاتها :

وفي دون ما عانيت من فجعاتها * إلى دفعهـا داع وبالزهـد أمر
فجد ولا تغفـل وكـن متيقضاً * فعما قليل يترك الـدار عـامر
فشمر ولا تفتر فعمـرك زائـل * وأنـت الى دار الاقامـة صائر
ولا تـطلب الدنيا فـان نعيمها * وان نلت منها غبة(1) لك ضائر


فهل يحرص عليها لبيب ، أو يسر بها أريب وهو على ثقة من فنائها ، وغير طامع في بقائها ، أم كيف تنام عين من يخشى البيات ، وتسكن نفس من توقع جميع أموره الممات :

ألا لا ولكنـا نغـر نفـوسـنا * وتشغلنا اللـذات عمـا نحاذر
وكيف يلذ العيش من هو موقن * بموقف عدل يوم تبلى السرائر


____________
(1) الغبة بالضم البلغه من العيش .