بلاغة
الإمام علي بن الحسين عليهما السلام
خطب ـ رسائل ـ كلمات
تأليف
الشيخ جعفر عباس الحائري
الشيخ جعفر عباس الحائري جعفر الشيخ عباس الحائري
السلام عليك أبا عبدالله ، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك عليكم مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ورحمة الله وبركاته . ياليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيما .
أخي في الله ، وفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي اوليائه عليهم الصلوة والسلام ووليي فيهم .
السلام عليكم وعلى من والاكم ورحمة الله وبركاته.
لكم الشكر ، وحسن الذكر ، وعظيم الأجر ، بما اوليتم الامة من سفركم الجليل ـ طرفة من بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام ـ .
ولعمري ان مؤلفكم هذا لنعمة اسديتموها الى الامتين ( الإسلامية باجناسها ، والعربية من سائر اديانها ) فحق عليهما ان تنشر ارياط الحمد على ما اسديتم ، وتخلعا حلل الثناء على ما اوليتم .
ولله هديتكم المشكورة ، وما اولاها بقول القائل : « ان الهدية على مقدار مهديها » .
فللأثنين على جميلك الزاهر هذا ثناء الزهر على القطر ، شكراً لا ينقطع مدى الدهر .
والسلام عليكم اولاً وآخراً ، ورحمة الله وبركاته .
20 ربيع الاول 1375 عبدالحسين شرف الدين الموسوي
الى رضيع لبان الرسالة ، ووراث علم الأنبياء
الى المرتشف من منهل الوحي الإلهي المقدس
الى من أوتي جوامع الكلم ، ومقود البلاغة
الى من تجسم فيه المثل الأعلى للخلافة الإلهية ، والانسانية الكاملة
الى من أطاح صروح الظلم والذل والطغيان بخطبه الدامية
إليك يا سيد الساجدين ، وزين العابدين الإمام الرابع علي بن الحسين عليه السلام .
أهدي بضاعتي المزجاة التي أودعتها في ثمار جهودك وبنات افكارك « حين لفظت بها للملأ قبل قرون ، وهي اليوم تعود اليك »
ورجائي من فضلك العميم ان تتقبلها بأحسن الرضا والقبول لتكون ذريعتي ليوم فاقتي « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » .
وبعد : فهذه نتف من عقود ذهبية ، وطرف من جواهر الكلم الطيب ، وحقائق ناصعة مأثورة عن مولانا وإمامنا زين العابدين ، وسيد الساجدين ، علي بن الحسين صلوات الله عليه . جمعت شتاتها ، وألفت بين متفرقاتها ؛ من شتى المصادر المعتمد عليها عند الفريقين ولم آل جهداً في تنسيق شذورها ؛ وتنضيد عقودها؛ فجاءت كما شاءت لها الحقيقة ألقاً في جبهة الدهر ؛ وعبقاً بين أعطاف الزمن. وكلها جواهر فردة من علية الحكم النواصع ؛ فمن دونها وشي الربيع في ازهاره ؛ والروض المندى وفائح نواره.
واني اراني مقدما لحملة لغة الضاد اسمى هدية ؛ يوم قدمت لها
مما لفظه الوحي الالهي ، ونطق به لسان العلم الربوبي ؛ من خطب وكتب وكلمات يقصر عنها الادراك البشري . ويدق خفاه عن فهم الذكي.
فليتهنأوا بارتشاف العلم ، وغذاء الفضائل ، وليتلذوا بالنمير العذب من صفو الكمال الراقي ، وليأخذوا ما لذ لهم وطاب ـ وكله الطيب الشهي ـ من جملها وفصولها . وكلما وصفناها به دون ما يحق لها ، فانها صادرة من منبثق أنوار النبوة والرسالة ، ومعدن علم الامامة والوصاية ، صاحب الصحيفة البيضاء ، المتلوة منذ الحقب والاعوام الطوال ، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها . تطفح عليها البلاغة والبراعة ، وتطفو حقيقة العبودية والانسانية الكاملة .
وقد احتوت مضامين درية لاتجارى ولا تبارى . صلى ا لله عليه من تضرع بها ، ووصل بين حلقاتها الذهبية . ما دامت للفصاحة صولة وللبلاغة دولة .
ولم اقصد في ذلك كله الا وجهه الكريم . والله من وراء القصد وعليه اتوكل واليه أنيب . إنه خير موفق ومعين .
كربلاء المقدسة
«( الباب الأول )»
في خطب الإمام ما جرى مجراها
( من بليغ كلامه فصيح بيانه )لسلام
الحمد لله الاول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته ابصار الناظرين ، وعجزت عن نعته اوهام(1) الواصفين ، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترع على مشيته اختراعا(2) ثم سلك بهم طريق ارادته ، وبعثهم في سبيل محبته . لا يملكون تأخراً عما قدمهم اليه ، ولا يستطيعون تقدماً الى ما اخرهم عنه ، وجعل لكل روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه ، لا ينقص من زاده ناقص ، ولا يزيد من نقص منهم زائد.
يحمد الله ويثني عليه ثم يذكر النبي ( ص )
____________
(1) الاوهام : جمع وهم ما يقع في القلب من الخاطر ، ويطلق على القوة الوهمية ، وهي من الحواس الباطنة في الانسان محلها آخر التجويف الاوسط من الدماغ من شأنها ادراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد وسخاوته.
قال السيد علي خان في شرح الصحيفة الكاملة : وقد شاع في الاستعمال ودلت عليه مضامين الاخبار : أن المراد بالوهم هنا أدراك المتعلق بالقوة العقلية المتعلقة بالمعقولات والقوة الوهمية المتعلقة بالمحسوسات جميعاً.
(2) الابتداع والاختراع لفظان متحدان في المعاجم العربية يقال ابتدعت الشيء اخترعته واخترعت الشيء ابتدعته.
ثم ضرب له في الحيوة الدنيا اجلا موقوتا ، ونصب له امداً محدوداً يتخطا اليه بأيام عمره ، ويرهقه(1) باعوام دهره حتى اذا بلغ اقصى اثره(2). واستوعب حساب عمره ، قبضه الى ما ندب اليه من موفور ثوابه ، او محذور عقابه : (ليجزي الذين اساؤا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا بالحسنى)(3). عدلاً منه تقدست اسماؤه ، وتظاهرت آلاؤه : « لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ».
والحمد لله الذي لو حبس عن عبادة معرفة حمده على ما ابلاهم من مننه المتتابعه ، وأسبغ عليهم من نعمهم المتظاهرة لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الانسانية الى حد البهيمية فكانوا كما وصف في محكم كتابه : ( ان هم إلا كالانعام بل هم اضل سبيلا)(4).
____________
(1) رهقت الشيء رهقا من باب تعب قربت منه.
(2) الاثر الاجل ومنه الحديث : ( من سره أن يبسط الله في رزقه وينشأ في اثره ـ أي في اجله ـ فليصل رحمه ).
(3) سورة النجم آية 33.
(4) سورة الفرقان آية 41.
والحمد لله على ما عرفنا من نفسه ، وألهمنا(1) من شكره وفتح لنا من أبواب المعرفة بربوبيته ، ودلنا عليه من الاخلاص له في توحيده وجنبنا من الالحاد والشرك في أمره ، حمداً نعمر به فيمن حمده من خلقه ، ونسبق به فيمن سبق الى رضاه وعفوه ، حمداً يضيء لنا به ظلمات البرزخ(2) ، ويسهل علينا به سبيل المبعث ويشرف به منازلنا عند مواقف الاشهاد : (لنجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)(3) : ( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون)(4). حمداً يرتفع منا ا لى اعلى عليين في كتاب مرقوم يشهده المقربون . حمداً تقر به عيوننا إذا برقت(5) ، حمداً نعتق به من أليم
____________
(1) قال في الغريب : يقال لما يقع في النفس من عمل الخير إلهام ولما يقع من الشر وما لا خير فيه وسواس.
(2) البرزخ في اللغة الحاجز بين الشيئين ، واطلق على الحالة التي تكون بين الموت والبعث.
(3) سورة الجاثية آية 21.
(4) سورة الدخان آية 41.
(5) برق البصر برقاً بروقاً ـ تجير فزعاً حتى لا تطرف ، أو دهش فلم يبصر.
(6) الابشار جمع بشر بالتحريك كسبب واسباب وهو جمع بشره وهي ظاهر جلد الانسان.
نار الله الى كريم جوار الله ، حمداً نزاحم به ملائكته المقربين ونضام(1) به انبياؤه المرسلين في دار المقامة(2) التي لا تزول ، ومحل كرامته التي لا تحول.
والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق ، واجرى علينا طيبات الرزق ، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق فكل خليقة منقادة بقدرته ، وصائرة الى طاعتنا بعزته.
والحمد لله الذي أغلق عنا باب الحاجة الا اليه ، فكيف نطيق حمدخ أم متى نودي شكره لا متى(3)
والحمد الذي ركب فينا الآت البسط ، وجعل لنا أدوات القبض ، ومتنا بارواح الحيوة ، واثبت فينا جوارح الاعمال ، وغذانا بطيبات الرزق ، وأغنانا بفضله ، واقنانا(4) بمنه ، ثم امرنا ليختبر طاعتنا ؛ ونهانا ليبتلي شكرنا ، فخالفنا عن طريق امره ، وركبنا متون زجره ، فلم يبتدرنا بعقوبته ، ولم يعاجلنا بنقمته بل تأنانا
____________
(1) الضم : الجمع . تقول ضممت الشيء الى الشيء فانضم ، وضامه : أي انجمع اليه ، والمعنى تنضم به الى الأنبياء.
(2) المقامة مصدر بمعنى الاقامة الحقت به التاء أي دار الاقامة التي لا انتقال عنها ابداً.
(3) قد يتوهم انه وقع من العبارة شيء ولكن ليس كذلك والمعنى لا يمكن تأدية شكره متى يمكن ذلك.
(4) القنا بالكسر والقصر مثل الا بمعنى الرضا يقال اقناه الله أي أرضاه.
برحمته تكرما ، وانتظر مراجعتنا برأفته حلما.
والحمد لله الذي دلنا على التوبة التي لم نفدها الا من فضله فلو لم نعتدد من فضله الا بها لقد حسن بلاؤه عندنا ، وجل احسانه الينا ، وجسم فضله علينا فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان قبلنا(1) لقد وضع عنا ما لا طاقة لنا به ولم يكلفنا الا وسعاً ، ولم يجشمنا إلا يسراً ، ولم يدع لاحد منا حجة ولا عذرا ، فالهالك منا من هلك عليه ، والسعيد منا من رغب اليه .
والحمد لله بكل ما حمده به ادنى ملائكته اليه ، واكرم خليقته عليه وأرضى حامديه لديه حمداً يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جميع خلقه ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا ، وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه من جميع الاشياء ، ومكان كل واحدة منها عددها اضعافاً مضاعفة ابداً سرمداً الى يوم القيمة حمداً لا منتهى لحده ولا حساب لعدده ، ولا مبلغ لغايته ولا انقطاع لأمده حمداً يكون وصلة إلى طاعته وعفوه وسبباً إلى رضوانه ، وذريعة إلى مغفرته ، وطريقا إلى
____________
(1) المقصود بنو اسرئيل الذين كانت سنة الله تعالى لهم في التوبة قتل النفس لا الندم فقط ( كما جاء في القرآن الكريم ).
جنته ، وخفيراً(1) من نقمته ، وامنا من غضبه ، وظهيراً على طاعته ، وحاجزاً عن معصيته ، وعونا على تأدية حقه ووظائفه حمدا نسعد به في السعداء من اوليائه ، ونصير به في نظم الشهداء وبسيوف اعدائه انه ولي الحميد.
والحمد لله الذي من علينا بمحمد نبيه صلى الله عليه وآله دون الامم الماضية ، والقرون السالفة بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم ، ولا يفوتها شيء وإن لطف ، فختم بنا على جميع من ذرء(2) وجعلنا شهداء على من جحد ، وكثرنا على من قل.
اللهم فصل على محمد امينك على وحيك ، ونجيبك من خلقك وصفيك من عبادك ، أمام الرحمة ، وقائد الخير ، ومفتاح البركة ، كما نصب لامرك نفسه ، وعرض فيك للمكروه بدنه ، وكاشف في الدعاء اليك حامة(3) ، وحارب في رضاك اسرته ، وقطع في احياء دينك رحمه ، واقصى الادنين على جحودهم ، وقرب الأقصين على استجابتهم لك ، ووالى فيك
____________
(1) ا لخفير هو المجير والمحامي من باب ضرب.
(2) ذرء بالهمزة من باب بفع خلقهم.
(3) حامة الرجل خاصته من اهله وولده.
ألا بعدين ، وعادى فيك الاقربين ، واذأب نفسه في تبليغ رسالتك واتعبها في الدعاء الى ملتك ، وشغلها بالنصح لاهل دعوتك ، وهاجر الى بلاد الغربة ، ومحل النأي عن موطن رحله ، وموضع رحله ومسقط رأسه ، ومأنس نفسه أرادة منه لاعزاز دينك ، واستنصاراً على اهل الكفر بك حتى استتب(1) له ما حاول في اعدائك ، وأستتم ما دبر في اوليائك ، فنهد(2) اليهم مستفتحاً بعونك ، ومتقوياً على ضعفه بنصرك ، فغزاهم في عقر ديارهم وهجم عليهم في بحبوحة قرارهم ، حتى ظهر أمرك ، وعلت كلمتك ، ولو كره المشركون.
اللهم فارفعه بما كدح فيك الى الدرجة العليا من جنتك حتى لا يساوي في منزلة ، ولا يكافأ في مرتبة ، ولا يوازيه لديك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وعرفه في اهله الطاهرين وأمته المؤمنين من حسن الشفاعة أجل ما وعدته يا نافذ العدة ويا وافي القول ، يا مبدل السيئات باضعافها من الحسنات انك ذو الفضل العظيم(3).
____________
(1) استتب له الامر اي استقام وتم قاله الزمخشري في اساس اللغة وقال ابن الاثير في النهاية في حديث الدعاء حتى استتب له ما حاول في اعدائك اي استقام واستمر.
(2) نهد اي ظهر وبرز من بابي نفع وقتل.
(3) الصحيفة الكاملة السجادية.
( ومن كلام له عليه السلام )
وذلك لما دخل علي بن الحسين عليه السلام مسجد المدينة فرأى قوما يختصمون ، قال عليه السلام لهم : فيما تختصمون ؟ قالوا : في التوحيد قال عليه السلام : اعرضوا عن مقالتكم ، قال بعض القوم : إن الله يعرف بخلق سماواته وارضه ، وهو في كل مكان .
في التوحيد(1)
قال علي بن الحسين عليه السلام : قولوا : نور لا ظلام فيه ، وحياة لا موت فيه ، وصمد لا مدخل فيه ، ثم قال عليه السلام : من كأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، كان نعته لا يشبه نعت شيء فهو ذاك(2).
وفي رواية اخرى لما كان عليه السلام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم اذ سمع قوماً يشبهون الله بخلقه ، ففزع لذلك وارتاع له ونهض حتى اتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فوقف عنده ، ورفع صوته
____________
(1) قال بعض العلماء اعلم ان التوحيد يطلق على معان أحدهما.
(2) بحار الانوار ج2 ص 312 للمجلسي وجامع الاخبار ص 8.
يناجى ربه فقال :
إلهي بدك قدرتك ، والتقدير على غير ما به وصفوك وإني برىء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء الهي ولن يدركوك وظاهر ما بهم من نعمك دليلهم عليك لو عرفوك وفي خلقك يا إلهي مندوحة(1) أن يتناولوك بل سووك بخلقك ومن ثم لم يعرفوك واتخذوا بعض اياتك رباً فبذلك وصفوك ، تعاليت عما به المشبهون نعتوك(2).
____________
نفي التشريك في الالهية اي استحقاق العبادة ، وهي اقصى غاية التذلل والخضوع ولذا لا يستعمل الا في التذلل لله تعالى لأنه هو المولى لاعظم النعم بل جميعها فهو المنتهي لاقصى الخضوع وغايته ، والمخالف في ذلك مشركوا العرب واضرابهم فانهم بعد علمهم بان صانع العالم واحد كانوا يشركون الاصنام في عبادته ثانيها نفي التشريك في صانيعة العالم والمخالف في ذلك الثنوية واضرابهم ثالثها ما يشمل المعنيين المتقدمين وتنزيهه عما لا يليق بذاته وصفاته تعالى من النقص والعجز والجهل والتركيب واحتياج والمكان وغير ذلك من الصفات السلبية وتوصيفه بالصفات الثبوتية الكمالية رابعها ما تشمل تلك المعاني وتنزيهه عما يوجب النقص في افعاله ايضا من الظلم وترك اللطف وغيرها وبالجملة بكل ما يتعلق به سبحانه تعالى ذاتا وصفاتاً وافعالاً اثباتاً ونفياً.
(1) مندوحة الفسحة والوسعة.
(2) بحار الانوار ج2 ص 146 والارشاد ص 240 للمفيد.
( ومن كلام له عليه السلام )
قال : إن الله عز وجل خلق العرش ارباعاً ، لم يخلق قبله إلا ثلاثة أشياء الهواء ، والقلم ، والنور ثم خلقه من أنوار مختلفة فمن ذلك نور أخضر أخضرت منه الخضرة ونور أصفر إصفرت منه الصفرة ، ونور أحمر إحمرت منه الحمرة ، ونور أبيض وهو نور الانوار ، ومنه ضوء النهار(1) ، ثم جعله سبعين الف طبق
يذكر فيه خلق العرش
____________
(1) قال في المعارف العالية ص 33 : كان العلماء في خلال اعصار مرت على هذا الحديث يعدونه من المتشابه الذي لا يعرف تاويله حتى وقفت سنة 1335 على جزء الطبيعيات من النقش في الحجر تأليف فانديك الامريكاني فاذا به يحلل ضوء الشمس الى انوار مختلفة هي النور الاخضر ومنه تبدو الخضرة على الاجسام والنور الاحمر ومنه تبدو الحمرة الخ زاعما أن الذي اكتشف هذه الحقيقة قبل كل احد هو اسحق نيوتن الانجليزي المتوفى سنة 1140 فعرفت تاويل الحديث الى أن يقول : غير ان الدين الاسلامي نطق به على لسان اوليائه وامنائه قبل الف وقرون.
غلظ كل طبق كأول العرش إلى اسفل السافلين ليس من ذلك طبق إلا يسبح بحمد ربه ، ويقدسه باصوات مختلفة ، والسنة غير مشتبهة ، ولو أذن للسان منها فاسمع شيئاً مما تحته لهدم الجبال والمداين والحصون ولخسف البحار ، ولاهلك ما دونه ، له ثمانية أركان ، كل ركن منها من الملائكة ما لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل ، يسبحون الليل والنهار ولو حس شيء فما فوقه ما قام لذلك طرفة عين لهم وبين إحساس الجبروت ، والكبرياء والعظمة ، والقدس ثم العلم ، وليس وراء هذا المقال(1).
( ومن كلام له عليه السلام )
وذلك لما كان يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة في كل جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظ عنه وكتب.
في الزهد والتقوى
والتحذير من سخط الباري ونقمته
____________
(1) التوحيد للشيخ الصدوق والكافي للكليني ورجال الكشي والاختصاص للمفيد والتفسير للقمي والبحار للمجلسي.
كان يقول : بسم الله الرحمن الرحيم إتقوا الله وأعلموا إنكم اليه ترجعون ـ فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امداً بعيداً ويحذركم الله(1) نفسه ـ ويحك إبن ادم الغافل وليس بمغفول عنه ، إن أجلك اسرع شيء اليك ، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكان قد اوفيت أجلك وقد قبض الملك روحك وصرت إلى منزل وحيد ، فرد اليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان منكر ونكير لمسائلتك وشديد امتحانك، الا وإن أول ما يسئلانك : عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي أرسل إليك ، وعن دينك الذي كنت تعبده ، وعن كتابك الذي كنت تتلوه ، وعن إمامك الذي كنت تتولاه ، ثم عن عمرك فيما أفنيته ومالك من أين إكتسبته ، وفيما أتلفته ، وخذ حذرك وأنظر لنفسك وأعد للجواب قبل الامتحان ، والمسائلة والاختبار ، فان تك مؤمنا تقيا عارفاً بدينك متبعاً للصالحين ، مواليا لأولياء الله لقاك الله حجتك ، وأنطق لسانك بالصواب ، فاحسنت الجواب فبشرت بالجنة والرضوان من الله ، والخيرات الحسان ، واستقبلك
____________
(1) اي عقوبته.
الملائكة بالروح والرحيان ، وإن لم يكن كذلك تلجلج(1) لسانك ودحضت(2) حجتك ، وعييت عن الجواب ، وبشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب ، بنزل من حميم ، وتصلية جحيم فاعلم ابن آدم أن وراء هذا أعظم وأفضع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، ذلك ( يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ) ويجمع الله فيه الأولين والآخرين ، ذلك يوم ينفخ فيه الصور ويبعث ما في القبور ، ذلك يوم الازفة(3) اذ القلوب لدى الحناجر كاظمة . ذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا تؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل من أحد فيه معذرة ، ولا لأحد مستقبل توبة ليس إلا الجزاء بالحسنات ، والجزاء بالسيئات ، فمن كان من المؤمنين ، وعمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده فأحذروا أيها الناس من المعاصي والذنوب . فقد نهاكم الله عنها ، وحذركموها في الكتاب الصادق ، والبيان الناطق ولا تأمنوا مكر الله وشدة أخذه ، عندما يدعوكم الشيطان
____________
(1) تلجلج في الكلام تردد ولم يظهر.
(2) دحضت الحجة بطلت.
(3) يوم القيامة .
اللعين ، من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا فان الله يقول(1) : (إن الذين إتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون) فاشعروا قلوبكم خوف الله : وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم اليه من حسن ثوابه . كما قد خوفكم الله من شديد العقاب فانه من خاف شيئاً حذره . ومن حذر شيئاً نكله ، فلا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا ، فتكونوا من الذين مكروا السيئات وقد قال تعالى(2) : ( أفأمن ا لذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو ياتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو ياخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزون * أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤف رحيم) فاحذروا ما حذركم الله ، وأتعظوا بما فعل بالظلمة في كتابه ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما يوعد به القوم الظالمون في الكتاب ، تالله لقد وعظتم بغيركم ، وإن السعيد من وعظ بغيره ولقد أسمعكم الله في ا لكتاب ما فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم من حيث قال : ( وكم قصمنا(3) من قرية كانت
____________
(1) سورة الاعراف الآية 22.
(2) سورة النحل اية 45.
(3) اي حطمناها وهشمناها وذلك عبارة عن الهلاك يقال قصمت الشيء قصماً من باب حزب كسرته حتى يتبين.
ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين ) وقال تعالى : (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) ـ يعني يرهبون ـ وقال سبحانه : (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون فلما أتاهم العذاب قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين) وايم الله ان هذه لعظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم ، ثم رجع إلى القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال : (لئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين)(1) فان قلتم أيها الناس أن الله انما عنى بهذا أهل الشرك ، فكيف ذاك وهو يقول : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل اتينا بها وكفى بنا حاسبين)(2) واعلموا عباد الله أن اهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين(3) وانما يحشرون الى جهنم زمرا(4) وانما ننشر
____________
(1) الايات في سورة الانبياء ايه 11 و12 و13 و47.
(2) سورة الانبياء الاية 48.
(3) الدواوين صحائف الاعمال.
(4) أي جماعات في تفرقة واحداتها زمر وهي الجماعة من الناس.
الدواوين لاهل الاسلام فاتقوا الله عباد الله ، وأعلموا ان الله لم يخير في هذه الدنيا وعاجلها لأحد من اوليائه ، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها ، وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم أيهم أحسن عملا لآخرته ، وأيم الله (لقد ضرب لكم فيها الامثال وصرف الآيات لقوم يعقلون) فكونوا أيها المؤمنون من القوم الذين يعقلون ، ولا قوة إلا بالله ، وأزهدوا فيما زهدكم الله فيه من عاجل الحياة الدنيا ، فان الله يقول وقوله الحق(1) (انما مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى وأذا أخذت الارض زخرفها وأزينت وظن أهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا أو نهار فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون فلا تركنوا الى الدنيا ، فان الله قد قال لمحمد نبيه صلّى الله عليه وآله ولأصحابه : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)(2) ولا تركنوا إلى زهرة الحياة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ، ومنزل استيطان ، فانها
____________
(1) سورة يونس الآية 24.
(2) سورة هود الآية 115.
دار بلغة ومنزل قلعة(1)ودارعمل ، فتزودوا فان خير الزاد الاعمال الصالحة منها قبل أن تخرجوا منها قبل الاذن من الله في خرابها فكان قد اخربها الذي عمرها أول مرة وابتداها . وهو ولي ميراثها ، وأسأل الله لنا ولكم العون على تزود التقوى ، والزهد فيها ، جعلنا الله واياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، والراغبين العاملين لأجل ثواب الآخرة فانما نحن به وله ( وفي البحار ج17 ص 217) وصلى الله على محمد النبي وآله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(2).
( ومن خطبة له عليه السلام )
حمد الله ، واثنى عليه ، وذكر جده فصلى عليه ثم قال : ايها الناس احذركم من الدنيا وما فيها ، فانها دار زوال وانتقال تنتقل باهلها من حال إلى حال وهي قد افنت القرون الخالية
( في التحذير عن الدنيا )
____________
(1) دار بلغة ومنزل قلعة : أي دار عمل يتبلغ فيها من صالح الاعمال ويتزود ، ومنزلة قلعة : أي يتحول عنها من دار الى دار.
(2) الامالي ص 356 للصدوق وتنبيه الخواطر لابن ورام ص 225 والبحار ج17 ص 217 للمجلسي والكافي للكليني.