البناء !!.. ( وفي الارض آيات للموقنين وفي انفسكم أفلا تبصرون ؟؟ ) .
قديماً يقول المثل رب صديق في الأمس عدو في المستقبل وهكذا يحدث مع الخلايا الدبقية التي تمثل الصديق الحميم الذي يخالط الجملة العصبية حيث وجد ان تسرطن الدماغ يتم في هذه الخلايا الدبقية وهكذا تسلم هذه الخلايا الدماغ إلى مقصلة الاعدام ، وأما خلايا القشر الدماغي بالذات فلا تتسرطن وهو أمر يدعو إلى التأمل أيضاً .
فكرة عن مخطط الدماغ الكهربي :
كان أول من فكر بموضوع تخطيط الدماغ الكهربائي طبيب ألماني اسمه هنز بيرجر حيث لاحظ هذا الرجل ان خلايا الدماغ ترسل اشارات كهربائية كما ترسل الاشارات من الموانىء إلى السفن التي تعبد عن الساحل أو كإشارات اللاسلكي ، وهذه الاشارات إذا أمكن إلتقاطها وتكبيرها إلى مليون مرة يمكن فهمها ونقلها الى آلة ترسم هذه الاشارات بشكل خطوط وموجات ، وقد نجح في هذا ولكن مدرسة التحليل النفسي التي نادى بها فرويد في أوربا في تلك الأيام كانت قد نالت إعجاب الأطباء والجمهور فلم يلاق إلا السخرية والضحك عليه حتى لقّب باسم حصان كان يلعب في السيرك ، وكان هو بالمقابل غير حريص على كسب الناس والتودد اليهم ( والحق يقال ان قيمة الباحث لا تأتي من مقدرة الباحث في كسب الناس والتأثير عليهم بل إلى صحة المعلومات التي أدلى بها وهذا المصير كان لكثير من العلماء ... )
يوضع في العادة منافذ ومستقبلات للاشارات الكهربية على الجمجمة من الخارج وتتصل هذه المستقبلات بأسلاك تنقل التيارات الكهربية الضعيفة إلى جهاز يضخم هذه التيارات مليون مرة ويسجلها على قطعة من الورق بشكل خطوط أشبه ما تكون بامضاءات بيد مرتعشة غير
واضحة ، ولقد لاحظ الأطباء ان هذه المنافذ لا تؤدي المطلوب وهي أشبه يأخذ رأي أمة من 16 شخص أو معرفة تيارات المحيط الهادي بوضع 16 دليل عائم لأن كل منفذ يأخذ التيارات من ملايين الخلايا العصبية ولذا فان التقاط الاشارات الكهربية ومعرفة وضع الخلايا العصبية بشكل جيد يحتاج إلى أكثر من مليون منفذ أو مستقبل للكهرباء ، وبالطبع فان هذا الشيء غير ممكن من الناحية الواقعية ، ولقد ابتكر الدكتور جون ليلي من جامعة بنسلفانيا جهاز فيه 400 مستقبل كهربائي كما أن الدكتور انتونين ريموند من المركز الأهلي للبحث العامي في باريس يصمم جهازاً فيه 20 مستقبل لقشرة المخ بأملها ويستقبل الاشارات بثانية واحدة ، وعلى العموم فان الأجهزة الموجودة بين أيدي الأطباء اليوم يعرف منها الكثير والى المستقبل قد يمكن اكتشاف أشياء مثيرة وهامة من هذه الأجهزة أو بتطويرها .
لقد وجد ان الخلايا العصبية في الدماغ حينما تكون بحالة استراحة وشرود ترسل 10 نبضات في الثانية الواحدة وهي بنظم خاص يعرف بنظم ألفا ونفس هذا النوع له أقسام منها قسم يسمى بموجات ألفا M م وقسم P ويقول جون فايفر ان الشخصين اللذين يحملان هذين الطرازين من موجات الدماغ فيما إذا اجتمعا فلا ننتظر منهما إلا عدم التوافق ويدخلان في مناقشات حادة مريرة ، ومن النظرة الأولى لا يحدث ارتياح أو انسجام بينهما !!
ثم ان هذه الموجات التي ترسم على الورق تتسطح فجأة فما إذا ركّز الانسان تفكيره أو أثير بانفعال أو سمع ضجة كبيرة أو قام بحساب معقد ، وإذا بقي النظم كما هو دل غالباً على حالة مرضية .
وإذا قمنا بدراسة للمخطط الدماغي فاننا سوف نعثر في الحالة الطبيعية
على النظم السوي من نموذج ألفا الذي مر ، وقد تكون الاشارات أقل من 10 في الثانية أو أكثر وكلها تدل على مزاج سوي ، ولقد وجد ان هذا النموذج يكون مضطرباً عند الأطفال ويكون في حدود 4 ـ 7 نبضات في الثانية ومضطرب ، وهي في الحقيقة تعبير جيد عن وضع الأطفال الفكري ولغة الأطفال ، وإذا تقدم في العمر يبدأ نظم الدماغ يتدرج الى الحالة السوية حتى يصل إلى سن 14 سنة أو أكثر حيث يصبح نظم ألفا هو المسيطر على فعالية الخلايا العصبية الكهربي .
وللهم في مخطط الدماغ الكهربي انه استطاع أن يحدد بعض الأمراض المخيفة كما في الصرع حيث يمكن تحديد المرض بالضبط ولو لم يكن المريض في حالة نوبة حيث يظهر على المخطط اضطراب في فعالية الخلايا يتظاهر بارتفاع موجات التخطيط وهو ما يعرف بنموذج الذروة ، كما يمكن بواسطة اليخطيط الكشف عن بعض الأورام المجفونة بدقة في تلافيف الدماغ وهذه تحتاج إلى دراسة خاصة .
وأخيراً أمكن التعرف إلى نقطة هامة في هذا البحث وهو الكشف عن شخصية الانسان من خلال تخطيط الدماغ وظهور مخططات شاذة عند القتلة والمجرمين والأطفال المعتوهين ، وهنا نقف على عتبة عالم جديد حيث نرى البحار النفسية المتلاطمة والأفكار الذهنية التي تمر كالريح فهل يا ترى بالامكان قراءة الأفكار ومعرفة التداخلات النفسية العجيبة المعقدة من خلال هذه الآلات التي تلتقط لنا هذه الاشارات العائمة من بحار تلافيف الدماغ ؟ وهل بالامكان معرفة تكوين الشخصية من خلال هذه الرسوم الواضحة ؟ والحق يقال ان هذه المعلومات قربت لنا الايمان وجعلته قاب قوسين أو أدنى حيث يقول القرآن : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) سورة يس ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم
سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيراً مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) سورة فصلت .
ما هو عمل المخيخ ؟
لعل القارىء لاحظ مقدار الدقة والتعقيد في بناء الجهاز العصبي وكأننا نمشي في بحر متلاطم من المجهول ، وبين الحين والآخر نرى بعض الجزر الطافية من المعلوم وكما قال الدكتور ألكسيس كاريل في كتابه ( الانسان ذلك المجهول ) ان الانسان مجموعة من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة ، والآن ما المخيخ وماذا يعمل ؟ ..
يعتبر المخيخ من جملة الأجزاء السبعة التي تكوّن الجهاز العصبي لمجموعه العام وهي المخ والمخيخ ثم الساقان المخيتان ، والحدبة الحلقية أو جسر فارول ، والبصلة السيسائية ، والنخاع الشوكي .
ويمكن أن نقول باختصار ان المخيخ هو مركز توافق وانسجام حركات البدن وأي خلل فيه يؤدي إلى الاضطراب في تأدية الوظيفة ، ولا يتداخل في الأعمال الذهنية كما نرى لأن تلك الأعمال على ما يبدو هي من اختصاص قشر المخ .
يتألف المخيخ من 20 قسماً ، ومن ستة جسور تصل ما بينه وبين بقية أقسام الجهاز العصبي المركزي حيث يكون الجسران العلويان للعبور من المخيخ إلى خارجه بينما تكون الجسور الأربعة السفلى للمرور من خارج المخيخ إلى داخله وفي هذه الجسور العريضة تزدحم آلاف الآلاف من الألياف العصبية التي تحمل الرسائل القادمة من الجسم تخبر عن حاله كما
يخرج من المخيخ الألياف التي تفهم قشر المخ بما يحدث كما تتفهم مع الساقين المخيتين والحدبة الحلقية والبصلة السيسائية وهكذا يسير توازن البدن وانسجام حركاته على أتم وجه .
إذا نظرنا إلى المخيخ من الخارج نراه وكأنه كومة من خيطان يزن قرابة 143 غرام كما انه يتكون كما في المخ من قشر رمادي ومن مادة بيضاء ولكن قشر المخ كما مر يتكون من ستة طبقات ، أما في المخيخ فيتكون من ثلاث طبقات وفيه نوع خاص من الخلايا ذات شكل اخطبوطي هي خلايا بور كنج ، وإذا نظرنا إلى المخيخ من الداخل فاننا نجد ما يشبه تفرعات الشجرة ، ولقد كان يظن ان مركز الحياة هنا ولذا كانت تسمى شجرة الحياة وداخل التلافيف البيض في الدماغ يظهر ما يشبه الجزر الطافية من المادة الرمادية أي تجمعات الخلايا العصبية ، وهكذا نرى في بحث تلافيف المخيخ ست جزر من المادة الرمادية وبشكل متناظر وهذه الجزر تستقبل السفن من الخارج وهي هنا بصورة الألياف العصبية التي تحمل الرسائل اليها ومنها إلى الخارج ، وهنا نتساءل ماذا يحدث لو اننا قمنا بتخريب بعض المناطق في المخيخ ؟ لقد وجد ان الأقسام العشرين التي ذكرناها في تشريح المخيخ تتوزع فيما بينما الأعمال فالأقسام الأمامية خاصة بالتوازن والأقسام الوسطى خاصة بالمقوية العضلية حيث تصرف الأوامر اللازمة للعضلات المعينة أن تتقلص بما يناسب الحركة ولنتصور مقدار دقة هذا العمل إذا كان مثلاً فتح باب السيارة يحتاج لمجهود يفوق (400) ضعف مجهود إدارة قرص التلفون ، ولنتصور أيضاً مقدار الجهد الذي نصرفه حينما نقلب صفحة من كتاب وبين رفع ثقل يزن خمسين كليوغرام ؟!! كما ان الأقسام المتوسطة تشرف على أوضاع الأعضاء والأعمال الودية في البدن ( ذكرنا هذا البحث سابقاً ) وأما الأقسام الخلفية فهي تختص بتنسيق الأعمال الارادية التامة والجزئية ،
وبعد أن ذكرنا هذا التقسيم البسيط لنتصور مدى الضرر الذي يلحق بالانسان فيما إذا تخربت بعض المراكز وكانت بحجم لا يزيد عن حجم العدسة الصغيرة .
ان مشكلة التوازن مشكلة معقدة ، وحتى الوقوف البسيط العادي يعتبر حركة بهلوانية عجيبة ، فالمخيخ مركز القيادة في التوازن وكأنه القبطان الذي يدير دفة السفينة في بحر متلاطم الأمواج أو كأنه القائد الذي يسير بالطائرة في جو مليء بالزوابع والعواصف والغيوم ، وبدون أن يحدث أي اضطراب هام يقوم المخيخ بادارة دفة العمل بشكل منظم دقيق هادىء متزن ...
وحتى يمكن للانسان أن يتزن اثناء الوقوف ، واثناء التمايل ، واثناء الجلوس ، واثناء المشي ، فان عدة عناصر تشترك في اقرار هذا التوازن وهي العضلات والعظام والمفاصل والأعصاب التي تنقل الحس عبر النخاع الشوكي والدهليز في الاذن الباطنة ( تقسم الاذن إلى ثلاث أقسام خارجية ووسطى وباطنة ) فأما الدهليز ففيه مناطق تسمى بالتيه أي ان الذي يمر فيها يصاب بالتيه وهو يمر في هذه الدهاليز السحرية العجيبة ومن جملة العناصر التي تقر التوازن أقنية تمثل اتجاهات الفراغ أي من الأمام إلى الخلف ، وبشكل أفقي ، وهي الأقنية نصف دائرية الوحشية والخلفية والعلوية ، وهذه الاقنية بواسطة البلغم الداخلي الذي يمر فيها تتعرف على وضع الانسان فيما اذا كان قائماً ، أو قاعداً ، أو نائماً ، أو مائلاً حسب ميلان السائل داخل الأقنية حيث يرتطم ببعض الجسيمات الحسية التي تنتقل عبر العصب الدهليزي إلى المخيخ ، كما تنتقل إلى المخيخ الأخبار الصادرة من وضع العظام والمفاصل والعضلات ويقوم المخيخ بدوره في تنسيق الاعمال وجعلها مترابطة إلى بعضها البعض .
ولذا فان أي خلل يصيب المخيخ يعطل هذا التوازن ، فعلى مستوى
العين تحدث الرأرأة حيث ترقص العين ولا تستقر اثناء النظر اما إلى الأعلى والأسفل وأما إلى الأيمن والأيسر وأما بشكل فوضوي حسب منطقة الاصابة والسبب في هذا يعود إلى ان المخيخ ينسق حركة عضلات العين ، حيث ينسق حركة العين ستة عضلات وهي العلوية والسفلية والانسية والوحشية والمنحرفة الكبيرة والمنحرفة الصغيرة حيث يؤمّن بواسطة هذه العضلات حركة العين إلى الأعلى والأسفل واليمين واليسار وبشكل منحرف بحيث يمكن بهذه الطريقة تدوير كرة العين ، والمخيخ يهيمن على توازن هذه العضلات بحيث ان انقباض أحدها يستدعي استرخاء الآخر فيما إذا كان المطلوب من حركة العين مثلاً النظر الايمن فالمفروض ان تتقلص العضلة اليمنى وتسترخي اليسرى فتنفتل كرة العين الى الايمن وهكذا بقية الحركات والمخيخ يشرف على عمل العضلات بحيث يجعلها متوافقة متفاهمة مع بعضها البعض فهو صلة الوصل والاداري العام والمنظم الواعي الدقيق !!
فاذا حدث اختلال في هذه المراكز لم يبق قرار لكرة العين فتصاب بالرأرأة حيث تتراقص بشكل يدعو للتأمل والنظر ، وبالاضافة إلى هذا فان أي خلل آخر على مستو آخر من مستويات المخ يحدث اضطراباً وعدم انسجام في عضلات أخرى من البدن ...
وهذا الشيء يعرفه الاطباء جيداً فالمشية تضطرب فاذا أراد أن يمشي فانه يشبه السكران في مشيته حيث يتطوح والسبب في هذا هو ان انسجام حركة العضلات مع التقدير المحكم لنقل الخطوة اضطرب ولذا فانه يمد رجله أكثر أو أقل مما هو مطلوب كما ان اتزانه يضطرب ، ولذا فانه يوسع ساحة استناده فيباعد بين رجليه حتى يستطيع أن يتمكن من الاتزان ويشتد الامر أكثر فأكثر فيما إذا أغمض عينيه لان النظر يخفف من خطأ التقدير ولذا فانه يتزن أكثر ولكنه إذا أغمض عينيه
مال الى السقوط سريعاً ، ولقد جرب تخريب المخيخ في الطيور فوجد ان الطير إذا ألقي في الهواء سقط كالجسم الذي ليس فيه حراك مع انه يبصر ما يحل به ولكنه لا يستطيع أن ينظم حركات جناحيه ، ويصل الامر إلى أن الوقوف بحد ذاته يصبح مشكلة وخاصة اذا أغمض عينيه فانه يميل إلى السقوط ، وتسمى هذه العلامة بعلامة رومبرغ وهي مهمة في تشخيص أمراض المخيخ ، ويصبخ الميل للسقوط أكثر فيما إذا طلب من المريض وضع رجل أمام الاخرى اثناء الوقوف .
ويحدث الرجفان في الاطراف فاذا طلب من المريض أن يضع اصبعه على أنفه تعذر عليه ذلك واضطرب بشدة وأصيب برجفان يزداد كلما ازداد قربه من الهدف ولذا يعرف هذا بالرجقان القصدي . كما انه إذا قلب كفيه سوية اضطرب الامر معه وأخذ يقلب الواحدة ويخطأ في الثانية وهكذا .
وإذا أراد أن يتكلم اُصيب بالرتة وهي تقطع الكلمات وعدم فهم الكلام منه بشكل واضح فهو يتكلم ولكن كلامه مضطرب والسبب في هذا يعود إلى عود انسجام عضلات التصويب حيث ان النطق عند عند الانسان يقوم على الجهاز العصبي أولاً وعضلات التصويت وهي الحبال الصوتية في الحنجرة بالاضافة الى حركة اللسان والشفتين ، فأي اضطراب الانسجام ما بين حركة العضلات في أي منطقة حصل اضطراب التصويت خاصة إذا علمنا ان اللسان فقط يحتوي على 17 عضلة والوجه فيما يزيد على 30 عضلة وكل حرف من الحروف التي يتكلم بها الانسان لها مخارج معينة من الحلق أو الحنجرة أو مقدم اللسان أو من الشفتين فاذا حدث أي خلل بسيط أصبح الانسان عاجزاً عن تفهيم الآخرين عما يريد إلا بصعوبة بالغة وصدق الله : ( ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ) .
مناطق حيوية في أعماق الدغل المخي :
بعد أن أخذنا فكرة بسيطة عن عمل المخ والمخيخ فهل انتهت القصة الآن ؟! لم تنته بعد ، فهناك بعض المناطق ذات الحيوية المهمة في أدغال المخ الداخلية بين الملايين من الألياف العصبية الصادرة والواردة ، وكنا قد ذكرنا من جملة هذه المناطق الحدبة الحلفية ، والساق المخية ، والبصلة السيسائية ، والأعصاب القحفية ، والغدة النخامية ، ونويات مبعثرة في أعماق المخ تسمى بالدماغ المتوسط ، فلنحاول الآن أن نلقي نظرة سريعة على هذه العناصر وعلى عملها ..
فما هو المركز الذي تحتله مثلاً الحدبة الحلقية ؟!! أو ما يقال له النواة المذنبة (1) ؟! لقد وجد أن هناك بعض المناطق التي تغطس في عق الدماغ أو ما تسمى بالدماغ المتوسط وفيها يشاهد السرير البصري الذي تحدثنا عنه وتشكلات عصبية أخرى مثل النواة العدسية والنواة المذنبة وهذه التشكلات لها ارتباطات بالدماغ أي قشر المخ من جهة كما أن لها ارتباطات بالجذع المخي أو ما يسمى بالمخ المستطيل .
إن منطقة الجذع المخي أو المخ المستطيل فيها مراكز على درجة كبيرة من الأهمية ، فإذا ألقينا نظرة على البصلة السيسائية وهي القسم السفلي من الجذع الدماغي ـ وتبلغ من الوزن عدة غرامات ـ فإننا نجد فيها مراكزاً يسمى عقدة الحياة لأننا لو أدخلنا إبرة في نقرة إنسان ما أسفل العظم القحفي تماماً إلى مسافة عدة سنتمترات ، فإن الموت المفاجىء هو
____________
(1) يوجد في الدماغ عدة تشكلات مهمة تتكون من اجتماع ملايين الخلايا العصبية ، ومن جملتها بعض الجزر ذات اللون الرمادي في أعماق الدماغ حيث تمر الالياف البيض ، هذه العناصر لها اشكال مثل العدسة فسميت بالنواة العدسية أو الفاصلة ( الضمة ) فسميت بالنواة المذنبة .
الذي ينتظرنا لأن مركز التنفس هو الذي يرقد هنا ، ومركز التنفس هذا هو الذي ينظم الحركات التنفسية ويعدّلها ويبطؤها أو يسرعها ، ونحن في الحالة الطبيعية لا نشعر بتنفسنا لأن يحدث بدون إرادة منا ولكن إذا ركزنا انتباهنا عليه فإن بالإمكان تسريعه أو إبطاؤه . والسبب في هذا يعود إلى الأوامر الجديدة التي ترسل من الدماغ إلى هذا المركز الذي يقف كالجندي المخلص يقوم بحراسته على أتم وجه ويبدل من حراسته كما يأتيه الأمر من قشر المخ ويتلقاه بكل سرور ، وفوراً يقوم بتعديل عمله على وفق ما جاءته الأوامر من الأعلى .
لقد وجد أن هناك تشكلات معقدة ، وارتباطات تبلغ درجة مخيفة من الدقة ، ففي جذع الدماغ حيث يحصل ارتباط الجزر الرمادية بألياف عصبية قصيرة ، وحيث تنشأ من مجموع هذه الشبكات القصيرة من الالياف أعقد الارتباطات ، وبين المكان والآخر من هذه التعقيدات نرى بعض الجزر الرمادية وكأنها الأحجار الصغيرة في الشبكات الكثيفة من أعشاب قاع البحر أو قاع النهر حينما تحجز في داخلها ...
نرى أن هذه التشكلات المعقدة تكمن فيها مراكز عجيبة في تنظيم الجسم وكأن المنطقة السفلية من الجماغ بندول الساعة الرقاس ، لأن تنظيم الإفرازات للغدد الموجودة في الجسم يكمن في هذه المناطق ، كما يكمن فيها تنظيم سرعة التنفس ، وضربات القلب وتعديلها وتوقيتها والمراكز المحركة للأوعية الدموية في الجسم كله التي ترفع توتر الدم أو تنقصه حسب حاجة البدن وما يواجهه من ظروف ، كما تكمن فيها مراكز البلع ، والمضغ ، والتصويت ، وتنظيم السكر في البدن ، وافراز العرق ، واللعاب ، ومركز النوم واليقظة ، وكذا تنظيم المشي ، ودورات الحيض ، وتنظيم حرارة البدن ، والتأثير على غدد التناسلية ، وبناء وهدم المواد في الجسم باشكالها الثلاثة وهي البروتينات والسكريات
والشحوم ، وكذلك المد والجزر في سوائل البدن ، وأصبغة الجسم كل ذلك ، بما يوافق الحرارة المحيطة بالبدن وحسب المناطق الموجودة فيه ، ان كل ما مر يتعلق بهذه المنطقة الحيوية الحساسة لتنظيم الجسم وجعله في حالة متوازنة على أحسن وجه ، ولقد وجد مؤخراً أن العواطف تتعلق أيضاً بهذه المنطقة وعند إجراء بعض العمليات الجراحية على بعض المناطق تحسنت بعض الأعراض المرضية ...
الافراز الغدي :
إن تنظيم الإفرازات الغدية في الجسم يمثل إحدى عجائب التكوين الجسمي ، حيث إن إحدى هذه المراكز ، وهي الغدة النخامية التي تناولناها بالذكر سابقاً والتي لا تتجاوز في وزنها نصف الغرام تفرز تسعة هورمونات أو عشرة وبواسطة هذه الهورمونات التسعة يمكن السيطرة على العملية التناسلية عند الإنسان ، وكذا مفرزات الغدة الدرقية ومفرزات قشر غدة الكظر (1) ، وإفراز لبن الثدي عند المرأة ، والعظام والمفاصل والعضلات في حالة النمو ، وتسمى هذه الهورمونات باللغة الأجنبية كما يلي : T.S.H ـ ACTH ـ I.C.S.H ـ F.S.H ـ L.T.H ـ GH ـ M.S.H. A.D.H. ، والاكسيتوسين ، وسنبحث موضوع الغدد الصم في بحث مستقل بذاته ، ولكن الشيء الذي نشير إليه الآن هو أن تنظيم هذه الإفرازات الداخلية بهذه الدقة والتي تؤثر بترقيق يبلغ الواحد من المليون يدعو إلى الدهشة والاستغراب فعلاً ،
____________
(1) غدة الكظر تشبه القبعة ذات الثلاث أطراف وهي ترقد فوق الكلية في كل جانب وتتألف من قشر ولب ، والقشر بدوره مقسوم إلى ثلاث مناطق ومن هذه المناطق يفرز ما يزيد على الثلاثين هورموناً ولها عشرات التأثيرات ، وأما اللب فيفرز مادة الادرنالين التي تقبض الأوعية وترفع التوتر الدموي .
حيث تؤثر المراكز التي ذكرناها على الغدة النخامية ، والتي تقوم هي بدورها بتنشيط كل هذه المراكز على العمل فهي تقنع المبيض بقذف البيضة ، كما تحض الخصية عند الذكر على إفراز الحيوانات المنوية وهي التي « تتفاهم » مع العضلات والمفاصل والعظام على أن يتم النمو بمقدار محدد من جهة ومتناسق مع بعضه من جهة أخرى ويؤدي الغرض تماماً ، وهي التي تتشاور مع الرحم في ساعة الخلاص حتى تبعث رسلها لكي يقنعوا الرحم أن يتقلص ويفرغ محتواه من الجني ، وهي التي تبعث وفودها إلى الكلية لامتصاص السوائل المطروحة في تلك المحافظ التي يزيد عددها على المليون في الكلية الواحدة ، والتي تطرح (200) ليتر يومياً من السوائل ويمتص منه (198) ليتراً أي أنه لولا هذا التنظيم الدقيق لمات الإنسان من الجفاف في يوم واحد أو حتى أقل ، أي في مدى ساعات . ولولا هذا التنظيم الدقيق لما استطاع النسل البشري أن يتابع طريقه أبداً ، ومن بين كل هذه المتاهات المحيرة تبرز يد الارادة الحكيمة العاقلة المدبرة ، توجه الأمور ، وتحكم الاتصالات ، وتسير الأحداث ، حتى يصل إلى أحسن خلق وابدع وجود ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون . يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون ، ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) سورة الروم .
التنفس :
أما كيف يتم التنفس فذلك أيضاً معجزة من المعجزات ؟!! ففي هذه المنطقة التي ذكرناها توجد بقعة خاصة للشهيق ، وبقعة خاصة للزفير ، وقد وجد أن تنبيه إحدى هاتين البقعتين يؤدي إلى تثبيط الأخرى ، ولولا هذا النظام المتناوب لاضطرب حبل الأمور ، ولدام الشهيق فترة أطول أو أقصر . ولكل حالة من هاتين الحالتين نتائجه
البعيدة المدى ، حيث أن بطء التنفس يؤدي إلى تراكم غاز الفحم في الجسم ، وغاز الفحم هذا له تأثير خاص على المراكز التنفسية فهو الذي ينبهها ، وليس الاكسجين ، وهذا أمر يدعو إلى التأمل ، وعندما تصل الأوامر والتنبهات إلى مركز التنفس العام ويكون الوضع فيه شيء من الخلل يعدّله على الفور فإذا زادت كمية الفحم انطلقت الأوامر تخبر أن الجسم في خطر من زيادة غاز الفحم فتتحول الأوامر إلى تلك البالونات الصغيرة جداً والمسماة بالأسناخ الرئوية حيث تمتلىء بشدة بالهواء ويزداد بالتالي ورود الاكسجين ، وهكذا فإن أي زيادة أو نقص في الغازات يعدل فوراً وإلا دخل الإنسان في غيبوبة ثم إلى الموت إذا لم يسعف . إن زيادة غاز الفحم بمقدار 2و0% يجعل حجم الهواء المتنفس مضاعفاً كما ان نقصه 2و0% يوقف التنفس .
وهكذا فإن الإنسان في تنفسه كأنه يعبر شلالات نياجراً على حبل ممتد فوقها ومعه عصا للتوازن وأي ميل إلى الجانبين يرديه إلى الخطر المبين ، وبهذه الكيفية السحرية يتنفس الإنسان يومياً (23000) مرة بمعدل 16 مرة في الدقيقة ولا يستطيع أن يبقى بدون هواء أكثر من دقيقتين ، وتنتفخ اسناخه التي تبلغ 750 مليون سنخ والتي تفرش سطحاً يبلغ مساحته (70) متر مربع في متوسط الحياة (204) مليون مرة مع العلم أنها تنقي الدم بمعدل 5 ليترات في كل دقيقة !! فتباركت اللهم واهب الحياة ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ) . سورة تبارك .
تمتمة القلب وتسبيحه وعلاقته بالتنظيم الحروري :
وأما تنظيم ضربات القلب فهي أيضاً سر من أسرار الخلق والابداع ،
فهو ينبض بمعدل 70 ضربة في الدقيقة الواحدة أي بمعدل يصل إلى (100) ألف مرة يومياً و40 مليون مرة سنوياً ، وما يزيد عن (2000) مليون مرة في متوسط العمر ، ولننظر إلى هذا التسبيح العظيم الذي لا يكف ، ولا يفتر ، في ليل أو نهار ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) ولننظر أيضاً إلى الآية الرائعة في الجسم والتي هي تنظيم الحرارة ، ان هناك ما يشبه ميزان الحرارة داخل الجسم ، فإذا جاءت الأخبار الحسية من الجلد تخبر عن الوسط الخارجي ودرجة حرارته سارعت هذه المناطق الكائنة في الجذع الدماغي وما فوقه إلى جهاز الدوران تستحثه على أن يحمي الحدود الخارجية وتأمره أن يقوم بدور العامل المخلص في هذه الأزمة ويستجيب جهاز الدوران المرن المتاهب وهو يقول إن الأزمات هي التي تكشف الرجال ( وتجدون الناس معادن ) وسرعان ما تحدث تقلصات العروق الدموية ونضح القلب للدم بما يفي حاجة الجلد ، فإذا كان بارداً قل تدفق الدم الذي يحمل الحرارة ليعدل البرودة والعكس بالعكس وعندما يحصل الاتزان تبعث الجسيمات الحسية بشكرها العميق إلى المركز العام المنظم وتدعو له بالخير ودوام البقاء !!..
النطق والبيان :
وأما تنظيم عملية التصويب والنطق فإنها أعجوبة بحد ذاتها لولا أنها تحصل في كل لحظة لكل من ينطق من أبناء البشر فينسون بالألف والعادة هذه المعجزة .
ولنتملى في هذه الآية العجيبة قليلاً .. أولاً : كيف يتم التفكير والإدراك والتخيل وتركيب الكلمات والجمل والأفكار وربط كل هذا بعضه إلى بعض بحيث يخرج الكلام منسجماً متوازناً يهدف إلى معنى ، إن هذا يقف الطب حتى الآن عن الإجابة عليه ، ثم كيف يستخدم
الإنسان الأسماء حتى يتفاهم مغ غيره على الشيء الذي يريده أيضاً معجزة من المعجزات ، ثم كيف يتنقل هذا الأمر من عالم الماديات المحسوسة إلى عالم الروح والفكر حيث يتم التعبير بالأشياء المجردة ، الحق يقال إننا درسنا عمومات الطب من أوله حتى آخره ، ومع ذلك لم نستطع حتى الآن أن نفقه هذه الاسرار ، كما ان الاطباء الذين يبحثون هذه القضايا يقفون مشدوهين امام هذه الظواهر الفذة العجيبة المحيرة ( الرحمن . علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان . ) سورة الرحمن ، إن النطق في مستواه الفكري قبل البحث عن كيفية حدوث التصويت بعد ظاهرة غير مفهومة في عرف العلم ، وحقاً إن الإنسان محير بتركيبه ... ثم لنتأمل على المستوى المادي ، إن الحبال الصوتية بفضل تقلصها وارتخائها بالاضافة إلى عضلات اللسان ، وغضاريف الحنجرة ، وعضلات الوجه ، وإطباق الشفتين ، ثم الأجواف المحفورة في الجمجمة هي التي تعطي الصوت رنينه الخاص لكل إنسان بحيث يكون لكل إنسان صوته المميز الخاص ( فورب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم تنطقون ) سورة الذاريات .
وأما الأعصاب فهي تلعب الدور المهم في اعطاء الأوامر الى العضلات المناسبة بحيث تتناسق هذه العضلات مع بعضها البعض فيرتخي قسم حين حين ينقبض قسم آخر فلا يطغى عمل على عمل ولا يفسد عمل عضلات عمل عضلات أخرى ، فإذا انطلق الهواء من الرئتين فإن الحبال الصوتية هي التي تعترضه أولاً حتى يخرج الحرف الحلقي المناسب وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين ثم ينطلق الى الفم حتى يخرج من أحد زوايا اللسان أو من مقدمه أو من إطباق الشفتين ، هذا بالنسبة لمخرج الحرف الواحد ولنتأمل طويلاً كيف يجب أن ينطلق الهواء وبسرعة هائلة حتى يقذف من مكانه المناسب فيخرج الحرف المناسب ثم يتبعه صوت آخر ليتحول الى مكان آخر حتى يعبر عن حرف آخر
وهكذا حتى تكتمل كلمة واحدة تعني شيئاً معيناً ، وتتابع الحروف عجيب لأن الحرف الأول من الكلمة قد يكون مخرجه من الشفة بينما يكون الحرف الثاني الذي يليه مباشرة من الحلق والثالث من جانب اللسان ، فإذا اكتملت الكلمة الواحدة تتابعت كلمات اُخر وتتابعت الجمل فإذا معنى جميل يدركه الذهن ( وما أدراك الذهن ؟!! ) ، ويجب أن نلاحظ أن العضلات والغضاريف والحبال الصوتية مزدوجة وهناك تناسق عجيب ما بين الشطرين فإذا حصل خلل ما في المخيخ مثلاً الذي يقوم على تناسق عضلات التصويت حدث المرض المعروف بالرتة وهو تقطع الكلمات وعدم فهم ما يقدله المريض تماماً الا بصعوبة ، ولنعلم أن هذه العمليه المتكررة يشرف عليها ثلاثة أعصاب رئيسية وألياف عصبية وفروع عصبية صغيرة لا تحصى ، بالاضافة الى سبع عشر عضلة في اللسان وما يزيد على (20) عضلة في الوجه ، فأي ابداع وأي عظمة هذه ..
شرطي المرور المتواضع :
ثم لنقف عند شرطي المرور المتواضع المسمى بلسان المزمار والذي يقف عند تقاطع الطرق القادمة من الانف والفم والتي تصب في المري الموصل إلى المعدة ، وفي الرغامى الموصلة إلى الرئتين ، ان شرطي المرور هذا يقف عند تقاطع طرق ولكنها من أخطر المناطق في الجسم لأن شرب نصف كأس من الماء إذا وصل إلى الرئتين كان معناه إما ما يشبه الاختناق والموت أو السعال لمدة لا يعلمها الا الله حتى تطرد جميع جزئيات الماء الداخلة ، فكيف بالمأكولات ؟ إن معناها الموت الزؤام لأنها سوف تسد الطرق الهوائية وتؤدي إلى الاختناق .
ولقد ذكرنا فيما سبق أن انقطاع الاكسجين لمدة خمس دقائق عن