بعض الأفكار عن الذاكرة
كل شيء يتغير باستمرار في جسم الانسان : الأخلاط ، الخلايا ، السكريات ، الشحوم ، البروتينات ، الماء .. الخ ، ولكن شيئاً واحداً له صفة الديمومة والاستمرار وعدم التغير : إنها الخلايا العصبية . وهذا شيء مهم للغاية لأن مفتاح السر في موضوع الذاكرة يبدأ من هذه النقطة وهي : ان ثبات الخلايا العصبية يجعلها تزيد من أكداس الذاكرة لحظة بعد لحظة ، ولو تغيرت الخلايا العصبية كباقي خلايا الجسم ، فإن هذا يعني اننا سنبدأ بتعلم اللغة من جديد كل ستة أشهر !!
والآن ما هي النقاط التي يقف الانسان أمامها حائراً في قضية الذاكرة ؟ ما هي كمية المعلومات التي يمكن أن تختزنها ذاكرة الانسان العادي ؟ ثم ما هي أنواع الذاكرة ؟ ثم أين توجد هذه الأماكن السحرية التي تستوعب كل هذه الذكريات ؟ ثم كيف تشترك الذاكرة في تكوين شخصية الإنسان ؟ ثم كيف تستحضر المعلومات من بين الاكداس الهائلة من الذكريات ولو كانت شيئاً بسيطاً ؟ ثم هل يحتفظ الانسان بكل ذكرياته أم ينساها ويبقى محتفظاً بالمعلومات التي يكررها دوماً ؟ ثم كيف تحصل آلية الذاكرة بالذات ؟ ثم ما هي الذاكرة وهل يتفاوت الناس فيها ؟ ثم ما هي علاقة الذاكرة بملكات العقل السامية ؟ وأخيراً هل يمكن تنمية الذاكرة وتقويتها ؟ وما هي الشروط التي تتداخل في تقويتها ؟
ان الصورة التي تراها بعينيك أيها القارىء تنطبع في مؤخرة كرة العين على منطقة حساسة للنور تسمى ( الشبكية ) وهذه المنطقة فيها طائفتان من العناصر الحساسة للنور : الطائفة الأولى هي العصيات ، وهي حساسة للنور الضعيف العادي ، وتتوزع في محيط الشبكية . والطائفة الثانية هي المخاريط وهي في المركز والعصيات تشكل طبقة من عشرة طبقات من الشبكية ويقدر عدد العصيات في العين الواحدة بـ [ 140 ] مليون عصاة ، ويقدر عدد المخاريط في العين الواحدة بـ [ 6 ـ 7 ] مليون مخروط ، أي أن مجموع الأعضاء المستقبلة للنور في العينين يبلغ حوالي [ 300 ] مليون عنصر مستقبل للضوء !! ثم تنتقل الصورة بعد انطباعها على الشبكية بشكل مقلوب عبر العصب البصري وهكذا تنتقل الصور في العينين عبر مليون جهاز تلفزيوني ملون !! ولكن إلى أين ؟ تصل إلى نقطة أولى تقع فوق الغدة النخامية وهناك يتصالب العصبان البصريان بنصفيهما حيث يندمج كل جهة بحيث يشكل مزيجاً من النصف الأول وهو من الطرف والعين الموافقة والنصف الثاني من العين الأخرى وهذا مهم وأساسي لأن الصور ترى مجسمة بهذه الطريقة !! وإذا أردت أن تجرب حظك أيها القارىء في صحة هذا الكلام فحاول أن تغمض عيناً وتفتح عيناً ، وقرب سبابة اليد اليمنى إلى سبابة اليد اليسرى وأنت تنظر بعين واحدة ، وأسرع في تقاربهما فسوف ترى أن السبابتين لن تلتقيا ، بينما إذا نظرت بكلتا العينين وهما مفتحتان فسوف تستطيع أن تقارب السبابتين بكل راحة ، إن هذا هو السر في امتزاج ألياف العصبين البصريين حتى يمكن رؤية الأشياء بشكل مجسم .
والآن إلى أين ستصل الألياف العصبة البصرية ؟ إنها تندفع إلى السرير البصري ومنه بشكل أشعة إلى مركز الرؤية العام حيث تنطبع الصورة ، ثم تفهم ، ثم ترسل إلى مستودعات الذاكرة !!
إن الكيفية التي أوردناها ـ بشكل مختصر جداً ـ هي عن اختزان صورة واحدة في مستودعات الذاكرة ، إن الإنسان العادي يختزن كل يوم من الصور المرئية فقط نصف مليون صورة في مستودعات الذاكراة العظيمة ، أي أن ما يقرب من عشرة مليارات صورة تختزن في مستودعات الذاكرة في متوسط حياة الإنسان العادي ، هذا فقط من ناحية اختزان المرئيات ، أضف إلى ذلك المسموعات ، والأشياء التي تشم ، وتذاق ، ولمس وتحس ، خاصة وأن الحواس ليست خامة فقط كما يتصور عامة الناس ، بل قد تصل إلى [20] عشرين حاسة على ما قرره صاحب كتاب العقل البشري جون فايفر ...
إن كمية المعلومات التي تختزن في الذاكرة شيء لا يكاد يصدق ، ولو أردت أن تسجل ذكرياتك فإن حياتك كلها لا تكفي ، بل لو اشتغل أبناؤك وأحفادك في هذا لما استطاعوا اليه سبيلاً ولاحتاجوا إلى الوقت ، والجهد ، والمال لشراء الأوراق ، حتى لقد قدر بعضهم أن مخزون الذاكرة يتسع إلى [90] مليون مجلد مليء بالمعلومات !!
إن الذاكرة معقدة بأنواعها ، ولا نتصور أنها فقط تلك الأشياء التي نقرؤها أو نسمعها ثم نسجلها في قائمة الذكريات ، إن أبسط أنواع الذاكرة تلك التي تحدث معنا بشكل عادي ثم نتذكرها فيما بعد ..
أولاً : الذكريات منها ما هو اختصاصي بالمرئيات فيتذكر الانسان
الصور ، ومنها المسموعات فيتذكر ما سمع ، وقد يكون خليطاً من اثنين أو أكثر . وهكذا تختلف نسبة الخلط في الذكريات . ثم إن نفس الذكريات قد تكون من النوع الخاطف فقد تكون راكباً سيارة وهي تمشي بسرعة ، فيقع نظرك بسرعة كبيرة على منظر تهشم سيارة ، أو على شاب منالهايبيز ، أو على اعلان لجريدة مثل ( فضيحة البرانس المفتوحة في بيرون !! ) ، إن هذه اللقطة السريعة تنطبق فوراً في الذاكرة وتضاف إلى الأكداس الهائلة ، ويمكن استرجاعها فيما بعد ، وان رقم الـ [10] مليارات الذي ذكرناه فيما سبق هو في صدد هذا النوع من الذاكرة . وهناك الذاكرة التي تتعلق باتقان الأعمال والمهارة فيها ، مثل المشي ، وركوب الدراجة ، والركض ، وقيادة الموتور ، أو السيارة ، أو تقليب صفحات كتاب ، أو الكتابة ، أو الطعام ، أو الشرب ، وحتى الأعمال الغريزية المختلفة ، فالدماغ يقوم أولاً بفهمها وتعلمها ثم إرسال الأوامر إلى العضلات المناسبة لتقوم بها ، وعندما يزداد التمرين والاتقان ، ترسل نسخة من هذه الذكريات إلى النويات القاعدية في الدماغ حتى يسيرهذا الأمر بشكل آلي ، فلو ركز السباح نظره على الأفعال التي يقوم بها فقد يغرق ، ولو ركز الانسان انتباهه على كيفية البلع لأصيب ( بالشردقة ) ولو ركز انتباهه على الكلام أثناء الخطبة أو النقاش لتلعثم وهكذا ، وأما ذكريات الطفولة أو الاحداث قريبة الاجل فالانسان العادي ينسى ما فعل منذ ساعات قليلة ولكن الذاكرة الجبارة في الطفولة تطبع حتى أبسط الحوادث العادية ويتذكرها الانسان فيما بعد بشكل واضح يدعو إلى الدهشة والاستغراب .
إن القضية التي تحير أكثر من غيرها هي : ما هي الاماكن التي تختزن كل هذه الذكريات وأين تقع ؟ لو تصورنا ان اختزان كل جزىء
يتم في خلية عصبية واحدة فإن جميع خلايا الدماغ لا تكفي الا لاختزان جزء يسير من الذكريات ، لأن مجموع الخلايا العصبية في المخ يبلغ تسعة مليارات خلية ، وفي الجهاز العصبي بكامله بالاضافة إلى المخ [14] مليار خلية ، فكيف تختزن إذن كل هذه الاكداس من الذكريات ؟!..
فكر العلماء في هذه المعضلة ولم يعثروا على تفسير واضح قطعي مؤكد في هذا الصدد فهل هناك يا ترى منطقة بعينها من الدماغ هي المسؤولة عن الذاكرة ، لم يعثر العلماء على منطقة بعينها من الوجهة التشريحية تختص بالذاكرة بحيث يؤدي تخريبها إلى فقدان الذاكرة الكامل والنهائي ، وهذا من الاسرار العظيمة في تركيب الجهاز العصبي عند الانسان إذ لو كان الامر كذلك لكان معنى هذا أن تخرب منطقة في الدماغ يعني خسارة أعظم وأثمن الاشياء عند الانسان الا وهي الذاكرة ، فالذاكرة هي أثمن من أن تؤتمن عليها مجموعة خاصة من الخلايا العصبية ، ولقد وجد أن تخريب 90% من منطقة تتعلق بالذاكرة البصرية عند بعض الحيوانات لم يؤد إلى فقدان الذاكرة ، كما أن استئصال نصف الدماغ تماماً عند بعض المرضى لم يجعلهم يفقدون ذاكرتهم ، فهل هذا لان هناك نسخة مضاعفة للذاكرة في كل من نصفي الكرة المخية ؟!!
من بين البحوث الشيقة التي اجريت على منطقة الفصوص الصدغية في الدماغ ما يلي : لقد وجد ان اصابة هذه المنطقة يؤدي إلى اضطراب الذاكرة ، وآخر التحريات في مضمار هذه المنطقة بالذات استطاع العلماء أن يلقوا نوراً خافتاً على موضوع الذاكرة ، فهذه المنطقة تتدخل على ما يبدو في صناعة الذكريات واستحضارها ، كما يبدو أنها تتدخل في تكوين الذكريات الوهمية ، فقد يشعر الانسان أحياناً عندما يسمع كلام شخص ما ، في موضع ما ، في زمن ما ، أنه قد رأى مثل هذا الشيء سابقاً وهو ما يعرف ( رؤية الشيء من قبل ) ...
ولكن هل الفص الصدغي هو المسؤول تشريحياً عن الذاكرة ؟ بالطبع لا .. إذن فأين توجد الذاكرة ؟ في الدماغ ، أو في غير الدماغ إذا صح طرح السؤال ؟... الذي يبدو هو أن نفس الخلايا العصبية بجموعها العام تشترك في تكوين الذاكرة بواسطة الجزئيات البروتينية الموجودة داخل الخلايا العصبية ، فوجود [30] ألف مورثة في الخلية الواحدة وإمكانية تشكل قرابة [30] ألف حمض أميني مختلف يجعلنا نفكر في هذه التعقيدات الذرية هل هي التي تشترك في موضوع الذاكرة خاصة وهذه التعقيدات تبلغ ألف مليار مليار جزىء في الدماغ ، هل تحمل هذه الجزئيات آثار الذاكرة كما يحدث في الصفيحة المعدنية التي تحمل آثار طرق الحداد بالمطرقة عليها ؟ أم هل تتوزع الصورة في هذه الجزئيات الذرية ثم يعاد تشكيلها مرة أخرى ؟ لا أحد حتى الآن يعرف أين يوجد السر في موضوع الذاكرة ؟!!
قدر بعض العلماء أن المرئيات أو المسموعات تنطبع في الدماغ كما تنطبع الصورة على جزئيات الفضة في لوحة الفوتوغراف الحساسة ، ومن خلال هذا التفرق للصورة والبعثرة للذكرى بحيث تزدحم الذكريات في حزئيات خلايا الدماغ كالفسيفساء ، وبقدرة قادر ، تجتمع هذه الجزئيات المتفرقة لتعيد تشكيل المنظر الذي رآه الانسان ، ولكن من خلال هذه الكومات والأكداس الهائلة من الذاكرة يبدأ العقل في امكانية إيجاد صورة جديدة فهو يتخيل الجن على صورة معينة ، أو يتخيل جنة عدن على صورة معينة ، وهكذا تبرز خاصية جديدة من خصائص الجهاز العقلي الجبار وهي خاصية التخيل ، ويتعقد الأمر أكثر عندما تستطيع اثارة التخيل عند من يسمع اليك بتحريك كومات الذاكرة عنده فإذا به يجمع الجزئيات ويكومها ويتخيل ما تتخيل أنت ، ثم يتعقد الأمر
إلى درجة تجعل الرأس يدور عندما يفكر على هذا النحو وهو اسختلاص العلاقات من بين الاشياء التي ترد إلى الذهن ، فما الذي يجمع مثلا بين العجلة وقطعة النقود والقمر والشجرة ؟ الاستدارة ، ولكن ماذا تقول عندما استطاع العلماء أن يكتشفوا سنن الكون ، فأرخميدس اكتشف قانون دفع السوائل ( دافعة أرخميدس ) ، وأينشتاين اكتشف النظرية النسبية ، ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية ، وابن الهيثم اكتشف أسراراً في عالم البصريات ، وهكذا ... وعلى قدر مزج هذه الذكريات والخروج بنتائج جديدة تسمو شخصية الانسان ، إن 27 حرفاً يستخرج منها آلاف الآلاف من الكلمات ، فما هي الأفكار والآراء التي يمكن استخراجها من مليارات المليارات من معلومات الذاكرة ؟ حقاً انه شيء مدهش ، فما أتعس الانسان الذي يبلد ذهنه ويعطي لعقله إجازة مفتوحة ، أو يطلق لشهواته العنان ( فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً ) سورة مريم ...
[ إن شخصية الإنسان هي مجموع لحظات الجهد الواعي ، وكما قال جون فايفر ( إننا نمثل في أية لحظة حاصل جميع ذكرياتنا وجميع الانطباعات التي تركت آثارها على أجهزتنا العصبية ) ] .
من ينظر إلى مكتبة عامة تضم آلاف الآلاف من الكتب على رفوف أنيقة ، وبين الحين والآخر تسحب بعض الكتب من بعض الرفوف لاستخراج كلمة أو جملة ثم يرجع الكتاب إلى مكانه ، وبين الحين والآخر ترد كتب جديدة ونشرات حديثة تضم إلى مجموعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة ، من ينظر إلى هذه المكتبة ، يجد خليطاً عجيباً من شتى
المعلومات والارقام والإحصائيات والأسماء والأشياء ، وإذا تمكنت ـ أيها القارىء ـ من التنقل بين ممرات هذه المكتبة الضخمة الأنيقة من غرفة إلى أخرى ومن رف لآخر : فإنك سوف تصل في نهاية المطاف إلى قاعات كبيرة جداً وقد تراكمت فيها أكداس مخيفة من الكتب فوق بعضها البعض وقد علاها الغبار ، ولا تمتد لها يد الاستعمال والمطالعة .
إن ذاكرة الانسان هي أشبه ما تكون بهذه المكتبة ، فهناك بعض المعلومات التي تستعمل باستمرار ، وهناك المعلومات التي تضاف باستمرار ، وهناك أكداس هائلة من المعلومات قد لفها النسيان [ آفة العلم النسيان ـ حديث ـ ] وقد يتساءل الانسان : هل كل ما فعله الانسان أو سمعه او رآه محفوظ في هذه السجلات أو هو في عالم الفناء ؟ هذا ايضاً سؤال بحث فيه العلماء وقد انتهوا إلى نتائج مذهلة في هذا الصدد ، فلا شيء يضيع ( وكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) سورة الرعد ، ونروي في هذا الصدد هذه الحادثة : جرّبت طريقة التنويم المغناطيسي على بنّاء ماهر يشتغل في بناء الابنية ذات الهدسة الفنية الرفيعة ، ثم طرح عليه سؤال عن طوبة موجودة في جدار ما ، من بناء ما ، كان قد بناها في زمن ما ، فكان جوابه أن هذه الطوبة كانت قد جرقت في الأتون أكثر من اللازم ، وأنها تحوي في الزاوية السفلى منها حصاة أرجوانية وأنها تحوي في الزاوية اليمنى العليا نتوءّ يشابه الانخفاض الموجودة في الجدار ، هذا مع العلم بأنه كان قد بنى [2000] ألفي طوبة في ذلك اليوم ، ومنذ عشر سنوات ، وعندما يصل الإنسان إلى هذا الحد من التفكير تعتريه قشعريرة ، ويشعر بالبرودة تتمشى في مفاصله ، ويشعر أن كل شيء يقوم به أو يراه أو يسمعه هو موجودة في سجل لا يضيع ( وإنّ عليكم لحافظين . كراماً
كاتبين . يعلمون ما تفعلون ) [ إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ ] ، [ وقالوا يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ] ...
تنمو الذاكرة مع نمو الانسان فهى تبقى لمدة لحظات عندما يكون الطفل ما بين الشهر الثالث والسنة الأولى من العمر ، وعندما يصل الطفل إلى نهاية السنة الاولى تبدأ الذاكرة في الاستقرار وتستمر لمدة اسبوعين ، وفي نهاية السنة الثانية تمتد لمدة بضعة أشهر ، وفي نهاية السنة الرابعة تمتد ما امتدت الحياة ، والذاكرة عنيدة على الزوال فهي لا تنتهي إلا بالموت وتكون تجربة الموت هي آخر التجارب التي يمر فيها الانسان [ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ] .
ونقف قليلاً لنطرح السؤال التالي وهو : ما هي علاقة الذاكرة بالذكاء وهي يتفاوت الناس في ذاكرتهم ؟ أما الذاكرة فهي القدرة على استيعاب المعلومات واسترجاعها . وأما الذكاء فهو القدرة الذهنية على الفهم والتحليل والربط والاستنباط والتخيل والابداع ، والحق يقال إن الذكاء شيء محير كما اننا عندما نطلق على فلان انه قوي الشخصية وآخر ضعيف الشخصية ، ان حكمنا هذا سريع ولكن تحليله يحتاج لمجلدات !!!
وأما تفاوت الناس في ذاكرتهم فهذا وارد ولكن أصدق ما يقال في هذا الباب إن جميع الناس على الاطلاق يمتلكون مقدرة متقاربة من الذكاء والذاكرة ، وقلة نادرة جداً من الناس هي التي تكون مزودة بملكات عقلية راقية ، وأقول حتى النقطة الاخيرة مشكوك فيها إلى
حد لان الرقي الذهني إنما يأتي من الجهد المبذول ، واستعمال هذا الجهاز الجبار الذي لا يعرف الكلل أو الملل ، إن الدماغ لا يعرف التعب جتى لو عمل ما يزيد على عشر ساعات متواصلة ، وإنما الذي يتعب هو البدن بالقعود بكيفية معينة !! ولذا فان العباقرة والفلاسفة وعظماء المفكرين إنما تكونت مواهبهم من استغلال هذه القدرات الدفينة ، وهذه الطاقات الكامنة .
ذكرنا فيما مضى ان كل خلية عصبية تتصل بما يقرب من خمسين خلية عصبية أخرى وأحياناً يصل هذا الأمر إلى ألف (1000) خلية عصبية ومن هنا ندرك قيمة الممرات حيث تتشكل شبكة كثيفة مخيفة من الاتصالات وقد تصاب بالدوار فيما إذا بدأت تتصور عدد المرات التي يمكن أن تتشكل بعد هذه الاتصالات الكثيرة ، ان تعلم الكلمات والافكار والمهارات إنما يعني تشكل ممرات جديدة ، وسرعة إعادة ما تعلم إنما يعني أن الطريق معبد لمرور النبضات الكهربية عبر هذه الممرات العديدة ، والدهاليز المخيفة ، والتعرجات العجيبة . ولذا فإننا نقرر حقيقة أساسية عرضها القرآن أيضاً بشكل منير وهي إن في مقدور الانسان أن يصل إلى درجة هائلة من الرقي ، ولكن هذا إنما يتم ببذل الجهد ـ وإيجاد ممرات عصبية جديدة ، ومن مزيج ذكريات الانسان تحصل تفاعلات معقدة جداً ومن العقل الواعي المتدبر تستنبط علاقات جديدة ، وافكار باهرة ـ ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمن المحسنين ) سورة العنكبوت .
إن ما مر معنا عن أبحاث الذاكرة ليس إلا معلومات سطحية لم توصلنا إلى أعماق القضية ، وينطبق هذا الشيء على فهم كيف يعمل
العقل ؟ وكيف يتم التفكير ؟ وما هي الإرادة ؟ وأين يكمن الوعي واللاوعي أو ما يسمى بالشعور واللاشعور ؟ وكيف يحصل فهم المسموعات والمبصرات ؟ وقلبها من صور إلى معاني ؟ وكيف تستنبط الأفكار المجردة من خلال المحسوسات ؟ وما هو الذكاء ؟ وكيف يتم التخيل والابتكار ؟ وكيف يحصل الاحساس الجمالي ؟ وكيف يتم الاحساس الخلقي ؟ وكيف تنمو الجرأة الأدبية ؟ وكيف تتم الأحلام ؟ وكيف تتحقق الأحلام التنبؤية للمستقبل ؟ وما هي علاقة الأعضاء بالنفس ، وكيف يؤثر كل واحد على الآخر ؟ إلى فيض لا ينتهي من الأسئلة التي لا تجد جواباً ، ولذا فإننا سوف نختم أبحاثنا عن الذاكرة بالمعلومات السطحية التي يلمسها الوعي مباشرة [ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ] سورة الروم .
ومن جملة هذه اللمسات السطحية السؤال التالي : هل بالإمكان تقوية الذاكرة وتنميتها ؟..
إن الشيء الذي يقرره الطب ، والذي تأكد منه علماء النفس هو أن هذا الشيء هو في مقدور الانسان ، ولكن ما هي الشروط التي تتدخل حتى تنمو الذاكرة ؟
بين يدي الآن وبشكل مختصر (12) اثنا عشر عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها . ومن هذا الرقم نعرف مدى تعقيد الجملة العصبية ، ودقة تركيب الانسان ، فما هي هذه العوامل ؟
1 ـ التقوى : أو ما نسميها بالنظافة النفسية الداخلية ، ولعل سائلاً يقول وما هو أثر التقوى في الحفظ أو الذاكرة ؟ والجواب أن التقوى تحدث حالة نفسية عجيبة هي مزيج من الهدوء ، والاهتمام ، والخشوع ، والتقدير ، والتأمل ، والتدبر ، ووزن الأمور ، وهذا المزيج ينتج حافظة هائلة وعندما نتذكر بعض الحوادث عن العلماء المسلمين الأقدمين فإننا
نعرف كيف يتدخل هذا العامل في الحافظة أو الذاكرة . ونقتطف من هذه الحوادث الحادثتين التاليتين :
أ ـ حادثة الإمام البخاري صاحب كتاب الصحيح المشهور عندما قدم بغداد : أراد بعض طلاب الحديث اختبار ذاكرته فأعدوا له (10) عشرة طلاب ، وكل منهم قد حفظ (10) عشرة أحاديث بشكل مغلوط ، وصورة الغلط هو خلطم متون الأحاديث بأسانيدها (1) ، ولما حضر الإمام البخاري وروى له الطالب الأول الأحاديث العشرة الأولى المغلوطة ، وكلما روى له حديثاً يقول الإمام البخاري لم أسمع بهذا ، فأما العلماء فقالوا للنظر في أمر هذا الرجل ، وأما الجاهلون فقالوا إن الرجل لا يعرف شيئاً !! وهكذا سرد عشرة طلاب مائة حديث مغلوط ولما انتهوا قال الإمام البخاري للطالب الأول ذكرت الحديث الفلاني وروى له الحديث بمتنه ، وذكرت أنه عن فلان وروى له السند الذي رواه الطالب ، والحديث ليس كذلك بل هو عن فلان عن فلان وصحح له الحديث ، وهكذا حتى صحح الأحاديث العشرة بحيث نقل المتون إلى أسانيدها التي تلائمها ، واستمر في تصحيحه لكل طالب حتى انتهى من المائة حديث والعجيب في هذه القصة هو أولاً حفظه المائة حديث المغلوط لمجرد سماعه لها للمرة الاولى ، ثم تصحيحه الفذ من ذاكرته الجبارة ، ويكفي أن نعلم عن هذا الإمام أنه اختار أحاديثه الصحيحة وهي في حدود (5000) خمسة آلاف حديث من (100) ألف حديث ، ولم يكن يكتب الحديث في صحيحه إلا بعد صلاة استخارة وكان يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من
____________
(1) معنى متن الحديث كلان الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وأما سلسلة الرجال الذين ينقلون الحديث فهو السند مثلاً [ انما الناس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ] هذا متن الحديث وعندما يقول الراوي حدثنا فلان عن فلان فهذا السند [ وعلى أساس من السند تقسم الأحاديث إلى أقسام عدة ] .
عشرين مرة ليسجل في كراسه كلمة أو جملة او اسم عالم أو بعض ألفاظ حديث أو أشياء أخرى ..
ب ـ حادثة شمي الأئمة السرخسي من فقهاء الحنفية : سأل تلاميذه مرة كم كان يحفظ الإمام الشافعي ؟ فأجابوه بأنه كان يحفظ (300) كراس عن ظهر قلب فأجابهم : إن الإمام الشافعي يحفظ زكاة ما أحفظ أنا اي (12000) كراس وكتابه المبسوط في الفقه الحنفي يتألف من 30 جزء ويقع في آلاف الصفحات وقد أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحاكم في ذلك الزمان !!
وليس معنى الحوادث التي ذكرناها انها تعتمد فقط على عامل التقوى ، بل تتدخل فيها عوامل أخرى بالطبع ، ولكننا أردنا أن نشير إلى دور هذا العامل الذي كان يحتل مركزاص مهماً في نفسية علمائنا الاقدمين ، وصدق الشاعر حين قال :
وأنـبـأني بـأن الـعـلم نـور * ونور الله لا يهدي لعاصي ( مذنب )
وتنسب هذه الابيات إلى الإمام الشافعي .
2 ـ ومن جملة العوامل التي تتدخل في تنمية الذاكرة التكرار ، فترداد قطعة من الشعر أو من النثر (20) مرة يثبتها في الذهن أكثر ما لو كررت (10) مرات ،هذا إذا تدخل عنصر الترداد فقط ..
3 ـ الاهتمام : كلما اهتم الانسان بالشيء ، وتعلق مصيره به حفظه أكثر والعكس بالعكس .
4 ـ الارتباط بالاحداث : إن ارتباط حادثة بخوف أو فرح أو حزن أو معركة ترسخ الذكريات أكثر . وهذه طريقة القرآن الكريم لانه كان
يتنزل مع الاحداث ( سورة الانفال : غزوة بدر ، قسم من سورة آل عمران : غزوة أًُحد ، سورة الحشر : غزوة بني النضير ، قسم من سورة النور : حادثة الافك وهكذا ) .
5 ـ فهم الكلام : كلما ازداد فهم القطعة كانت أسهل في الحفظ وكلما تعقدت تعسّر حفظها .
6 ـ الجرس الموسيقي : إن صيغة الكلام الجميلة تساعد في الحفظ ، ولذا كان العلماء ينظمون العلوم بقصائد شعرية ، وقبل هذا الجرس القرآني فهو جرس موسيقي يعين على الحفظ .
7 ـ مصدر الكلام : إن سماع الكلام من قائد غير سماع الكلام من رجل عادي ، ومعرفة ان الكلام وحي من الله يعطي سلطاناً على القلوب غير كلام البشر .
8 ـ الحب والكره ، والخوف والرجاء : يتدخل العامل النفسي فحب البحث العلمي جعل الكثيرين يحفظون المعلومات الكثيرة ، والخوف من الرسوب جعل الطلاب يحفظون برنامج دراستهم !!
9 ـ السلامة الجسمية : الجوع يحرم الإنسان من تركيز فكره ، وبالتالي جودة الحفظ ، والاضطراب العام يحرم الانسان من الانكباب على الحفظ ، وكذا المرض ، والضعف ، والوهن .
10 ـ سلامة الدماغ : ان الذاكرة تعتمد بشكل رئيسي على سلامة الخلايا العصبية ، وكلما تأثرت خلايا الجملة العصبية بشيء ما ، سبب هذا اختلال الذاكرة ، كالعته والجنون ، والتهاب الدماغ ، والضعف العقلي ، وتنكس الخلايا العصبية .
11 ـ السن : في الطفولة تنطبع أحداث كثيرة ، وتترقى الذاكرة
حق تصبح أشد ما يكون في السن ما بين 20 ـ 30 وتبقى كما هي حتى سن متأخرة ما لم يحدث الخرف العقلي ..
12 ـ الوقت : الصباح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب : أوقات اعتدال للحفظ والمذاكرة ، والربيع فصل طيب للمذاكرة ، وهدوء الليل وقت جميل للتأمل وهكذا ( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) سورة طه .
وهكذا نكون قد انتهينا من أبحاث الجملة العصبية المركزية بعد أن ألقينا قليلاً من الضوء على بعض أسرارها المحيرة ، والله المستعان في بحث الامور القادمة .
حول بعض الحواس يقول الخلاق العليم [ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ] سورة فصلت .
نصت الآيات السابقة على ثلاث حواس عظيمة ستقوم بدور الشاهد في المحكمة وذلك حين يعرض الإنسان للحساب بين يدي رب العالمين ، ونظراً لعظمة تركيب هذه الحواس ذكرها الله تعالى فلنحاول أن نتبين أسرار هذه الحواس :
حاسة السمع ـ
تعتبر حاسة السمع معقدة جداً ، والمعلومات الموجودة بين أيدينا الآن تتناول شروحاً خفيفة في كيفية انتقال الصوت لا أكثر ، وأما كيف يحصل فهم الكلمات التي تسمع ؟ وكيف يحصل تمييز الأصوات العديدة جداً عن
بعضها البعض ؟ وأين تقع خزائن الذاكرة الذاكرة للمسموعات ؟ إلى جانب أسئلة كثيرة لا تجد جواباً عليها . ولا أزال أذكر أحد اساتذة الطب وهو يشرح لنا كيف يتم انتقال الصوت وحصول السمع ، قال : إننا نعرف كيف يتم هذا الأمر ، أما كيف تدركه الخلايا العصبية وتفهمة فلا نتدخل نحن في هذا البحث ، وهكذا يخونهم ذهنهم العلمي عندما يريدون بحث الأمور المعقدة التي يجب أن تطرق ولا يتهرب منها !!.
الاذن الخارجية والوسطى
يقسم الأطباء الأذن إلى ثلاثة أقسام من باب التبسيط ، وهي : الاذن الخارجية ، والوسطى ، والداخلية أو الباطنة وهي أخطر الأقسام الثلاثة ، وأشدها حيوية وأهمية ، فأما الأذن الخارجية فهي صيوان الأذن الخارجي مع الممر الذي يوصل إلى غشاء الطبل . وأما الأذن الوسطى ففيها ثلاث عظيمات تشبه أدوات الحداد ( المطرقة والسندان ) وركابة السرج ( الركابة ) وعضلتان ( المطرقة والركابة ) ، ويوجد نفق يوصل ما بين الأذن الوسطى والبلعوم في الفم هو نفير ( اوستاش ) ، والأذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ( القوقعة ) ، وثلاثة إطارات غير كاملة ( الأقنية نصف الدائرية أو الأقنية الهلالية ) وهذه الأقسام متصلة ببعضها ومتداخلة بحيث يتوه الذي يبحث فيها ولذلك سميت بالتيه !! وفي داخل هذه الأقنية العظمية ، أقنية عشائية تشبه الكيس ( الكييس ) ، أو القربة التي تمتلىء بالماء ( القريبة ) ، وداخل الحلزون الذي يدور دورتين ونصف يوجد عضو كورتي ، وهذا النفق الدوار أشبه ما يكون بتلك الدهاليز التي يدور فيها المرء ويشعر أنه في متاهة فهي تقسم إلى ثلاثة أنفاق تمشي سوية في الحقيقة .