الطعام والتغذية

البريد الإلكتروني طباعة
الطب محرابٌ للإيمان ص253 ـ ص270


وأما الجهاز الهضمي فهو ينقل إلى الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات ويلقي الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن ، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم .
وأما الغدد العرقية فهي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته .
وأما الجلد واللحف (1) والأظافر والاشعار فهي تمثل الانسان من الخارج ، فهي أشبه بوزارة الخارجية !!
وأما جهاز التنفس فهو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مثل الاكسجين ويطرح غاز الفحم وهكذا يتصفى الدم من الكدر ، ولذا فهو اشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر .
أما العضلات والمفاصل والعظام فهي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم الأمر .
وأما الكبد فهو مركز الجمارك العام لأن كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به ، ويدخل المرغوب فيه ، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود عن طريق الكلية ، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني ، لأن هاتين المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية .
وأما الطحال فهو المقبرة الموحشة للكريات الحمر لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها الأخير وطريقة الدفن في الطحال عجيبة فهي اشبه ما تكون بطريقة الدفن
____________
(1) يقصد باللحف الأغشية الخارجية التي تغطي الفوهات الخارجية مثل العين حيث تغطيها الملتحمة ، والفم من الداخل الغشاء المخاطي وهكذا .


( 254 )


عند المسلمين حيث يدفن الجثمان ويرجع بالتابون خلافاً لطريقة الآخرين الذين يدفنون الجثمان والتابوت جميعاً ، ومظهره هنا العودة بذرة الحديد مرة أخرى حتى يتستفيد منها الجسم في بناء كريات حمر جديدة !!
وأما النخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متنائرة في الجسم فهي أشبه ما تكون بوزارة الصناعة لأنها تصنع الكريات الحمر والبيض والصفيحات ، وعناصر أخرى كثيرة .
وأما الجهاز البولي فهو أشبه بوزارة الداخلية لأنها تطرح العناصر المشتبة خارج الحدود ، وتحافظ على نظام البدن الداخلي حتى يتزن ولا يتقلب ، كما تنظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث بالنظام الداخلي ولذا فهي مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي .
وأما الحواس فهي امتدادات وزارة الخارجية ، أي الجلد .
وأما اللسان وأعضاء التصويت فهي وزارة الإعلام التي تذيع الاخبار وتبث الأحاديث ، وتنقل الأفكار والمفاهيم ، والإذاعة هي مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها ، واللسان وعضلاته ، والجمجمة وحفرها ، والشفة ومقدم الفم .
وبقي أن نتساءل : أين تقع وزارة الأوقاف بين هذه الوزارات ؟ والجواب أنه لا حاجة لمكان تحدد فيه لأن الجسم وغدده وأخلاطه ودمه ولمفه وعروقه وأعصابه وشعره وجلده كله يمشي وفق الناموس الذي رسمه له الخالق العظيم ، فكل خلاياه وأنسجته وأعضاءه وأجهزته انما هي في حالة عبادة واستسلام وإسلام لله رب العالمين ، فليس هناك من مكان يخصص لعبادة الله والتفرغ له وأماكن أخرى تخصص لعبادات أخرى ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) الكل يعبد ويسبح الله والكل يصلي لله وفق اختصاصه ، فالدم يصلي في جريانه ، والرئة تصلي


( 255 )


في تنفسها ، والقلب يصلي في نبضاته ووالعصب يصلي في سريانه ( كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) سورة النور .
ونقف هنا لنلفت نظرالقارىء ولنحرك وجدان الطبيب والعالم ، إن الانسان سخر له الكون وهو يتصرف فيه كما يشاء ، وتتخصص طوائف البشر في الصناعات والحرف تعالج عللها وتكتشف أسرارها ، وتسخر سننها ، ولكن أخطر الاختصاصات هو الذي ينصب على نفس الانسان ، فالانسان يختص بدراسة كل الكون ، والطبيب يختص بمفتاح هذا كله وهو الانسان ، فماذا أثمرت هذه الدراسة ؟
إن كاتب هذه السطور درس الطب سبع سنوات طويلة مليئة من عمره فلم يسمع كلمة الله من أحد من الذين يختصون بالدراسات الطبية العميقة سواء على مستوى الطب الطبيعي أو على مستوى الطب المرضي (1) ، إلا ان تذكر الكلمة عرضاً وبسرعة ، أو أن يفتتح الكتاب بجملة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ثم تقرأ ، وتقرأ مئات الصفحات حتى تفرغ من الكتاب فلا تشعر بلمسة إيمان ، أو نبضة روح من المؤلف أو المترجم أو الناقل ، آيات تمر ، ومعجزات تسطر ومع هذا لا يتحرك وجدان ، ولا تستيقظ ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) وحقاً إن الآية بالذات لا فائدة منها إلا للمتفكر والمتأمل والمتدبر ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، وتقرأ كتاباً لمؤلف آخر فتراه يعرض الآية القرآنية مبتورة وبمنتهى السرعة ، ثم اننا لفظنا الآية القرآنية والاصح أن يقال آية قرآنية لأن كتابين كبيرين من كتب الطب ليس فيهما الا نصف آية من القرآن وبشكل مبتور ، فيا أيها
____________
(1) نستثني من هذا الكلام بعض الاساتذة ولكن كما هو معروف في اطلاق القواعد ان الحكم للاغلبية وليس للاقلية فضلاً عن أفراد معدودين على رؤوس الأصابع .


( 256 )


القارىء بالله عليك ما فائدة الآيات إذا لم توصل إلى الإيمان ، وهل يكفي أن نقول ان الماء فيه سر الحياة وفيه خواص عجيبة ومدهشة ثم نأتي لنستشهد بالقرآن فنقول : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وباقي الآية ؟! فلتبلغ !! ان تتمة الآية هو المقصود من سوق الآية فالماء وغيره آية تشده البصيرة وتقود إلى الايمان ، ولذلك كانت الآية القرآنية كما يلي : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي افلا يؤمنون ) سورة الأنبياء .
وطالما سار الأمر في هذا البحث ، فلنسمع شهادة التاريخ وشهادة العلماء لا لندعم به إيماننا ، ولكن لنحاكم أولئك الذين لا يصدقون إلا بما يقوله أصحاب الاسماء الرنانة ، والشهادات العريضة ، ونسوا ان الانسان مهما بلغ علمه ، وارتفعت خبرته فانه لا يحيط بالوجود ، ولا ينفذ إلى خزائن الأسرار ، لأنه مركب من نقص ، وضعف وقصور ، وهوى ، ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) سورة النساء .
لنذكر أولاً احصائية قام بها العالم دينرت (1) عن كبار العلماء والفالسفة في القرون الاربعة الاخيرة ، وكان عددهم (290) عالماً ، فوجد ما يلي : (28) منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما ، (242) أعلنوا إيمانهم على رؤوس الاشهاد و(20) لم يكونوا يبالون بالوجهة الدينية ، وهذا يعني أن 92% أظهروا إيمانهم أمام الناس ، وهذا ما يثبت الفكرة التي طرحناها لامتنا وهي ان العلم والطب هما من جملة محاريب الإيمان ، ولنسمع إلى اقوال بعض العلماء في هذا الصدد :
1 ـ الطبيب المشهور باستور : ( الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ،
____________
(1) نقلاً عن كتاب روح الدين الإسلامي ، عفيف عبد الفتاح طبارة ص 82 [ معظم الفقرات ] .


 

 


 

 


( 257 )


لأن كل ترق ، يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله ، ولو كنت علمت أكثر مما أعلم اليوم ، لكان ايماني بالله أشد وأعمق مما هو عليه الآن ) .
2 ـ الدكتور ( وتز ) عميد كلية الطب في باريس ، وعضو اكاديمية العلوم ، وكيميائي : ( اذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي الى أكاديمية العلوم لتثبيتها ) ..
3 ـ باسكال : ( صنفان فقط من الناس يجوز أن نسميهم عقلاء : الذين يعرفون الله ، والذين يجدّون في البحث عنه لأنهم لا يعرفونه ) .
4 ـ اينشتاين : ( إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ) ، ( ان الايمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وان العلم بلا إيمان ليتلمس تلمس الأعمى ) ..
5 ـ ادمون هربرت ، جيولوجي ذائع الصيت ، ومدرس بجامعة السوربون : ( العلم لا يمكن أن يؤدي الى الكفر ، ولا الى المادية ، ولا يفضي إلى التشكيك ) .
6 ـ فابر : العلامة المؤرخ الطبيعي : ( كل عهد له أهواء جنونية ، واني اعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية وهو مرض العهد الحالي وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي من أن ينزعوا مني العقيدة بالله ) .
7 ـ ألبرت ماكوب ونشستر : أستاذ الاحياء بجامعة بايلور وعميد أكاديمية العلوم بفلوريدا سابقاً : ( ان اشتغالي بالعلوم قد دعم إيماني بالله حتى صار أشد قوة وأمتن أساساً مما كان عليه من قبل ، ليس من


( 258 )


شك ان العلوم تزيد الانسان تبصراً بقدرة الله وجلاله ، وكلما اكتشف الانسان جديداً في دائرة بحثه ودراسته ازداد إيماناً بالله ) ..
8 ـ اسحق نيوتن : ( ان هذا التفرع في الكائنات وما فيها من ترتيب أجزائها ومقوماتها وتناسبها مع غيرها ومع الزمان والمكان لا يمكن أن تصدر إلا من حكيم عليم ) .

ــ * ــ



 


( 259 )

 

الطعام والتغذية

يقول الخالق الرازق : ( فلينظر الانسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم ) سورة عبس ...

ـ 1 ـ


كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه الأنواع ، من الأطعمة ، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات ، كيف تهضم امعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية ؟ كيف تهضم المشوي والمقلي والمسلوق ؟ كيف تهضم المطبوخ والنيء ؟ كيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو والمر ؟ ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن ، ومواد ترميم ، وخامات تصنيع جديدة ؟

ـ 2 ـ

ثم لننظر في الأسنان والشفاه والفم وكيف ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام ، فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع الطعام ، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية ، والأضراس في كل جانب

 


( 260 )


لطحن وجرش المأكولات ، بحيث ان اللقمة تنقلب إلىعجينة عندما تصل إلى المري والمعدة .
ثم لننظر في الغدد اللعابية وهي ثلاثة أزواج : تحت الفك ، وتحت اللسان ، والغدة النكفية في كل جانب ، وهذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات وتبلل الطعام وتبلل الحلق ويصل إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر ، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف ولولاها لتأخر امتصاص النشويات وكلنا يعرف عسر الهضم عند المسنين وذلك لنقص إفراز هذه الخميرة من غدد اللعاب ، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمها وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها ، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها ، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه ، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة وهكذا نشرب الشاي الساخن الذي لا يتحمله إلا الفم بهذه الدرجة وبفضل الغدد اللعابية ، كما تقوم الغدد اللعابية بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم ، وهكذا تفعل هذه الغدد كما تفعل أمانة العاصمة في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها ، كما تعتبر مشعراً في العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء ، ونرى الخطباء الذي يتكلمون الساعات الطويلة ، والمتحدث والمتكلم العادي فكيف يمكن لكل واحد فيهم من متابعة حديثه وتزييت لسانه ؟!! إنه اللعاب الذي يرطب جوف الفم ولولاه لما استطعنا متابعة الحديث ، وكلنا يشعر بذلك عندما يجف حلقه كيف يصعب عليه الكلام .
فكيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا اللعاب العجيب فهو المنظف والمطهر والمعدل والمرطب والمزلق والملين والحامي ، والمبلل ، والمذوق ، والمحلل ، والمشعر ، وجرس الانذار في الفم ، عشرات الوظائف في سائل


( 261 )


واحد في الفم ناهيك عن المواد المتعددة الداخلة في تركيبه من الماء والمعادن والأملاح والقلويات والخمائر ...

ـ 3 ـ


من الطارق ؟ تتساءل المعدة ، ويكون الجواب الطعام الشهي !! وينفتح الفؤاد على مصراعيه لدخول اللقمة الطعامية ، وتتسارع غدد المعدة لفرش المكان لاستقبال الضيف ، وينهمر المخاط المزلق ، والحمض والخمائر ، ومواد أخرى ليبدأ التفاعل التاريخي لهضم الطعام ، إن جدار المعدة مفروش بخمسة وثلاثين مليون غدة ، فيها أربعة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الخلايا مواد متباينة منها خميرة المعدة المسماة بالببسين ، وحمض كلور الماء (1) ، والمخاط ، وهكذا يتهيء ربط المعدة بالحمض وله قيمة مقدرة محددة هي أربعة بالألف ، كما يتسرع تفاعل هضم الطعام ، ويزداد تحلله ، وهكذا ينقلب إلى ما يسمى بالكيلوس بعد أن تعمل به خمائر الهضم الموجودة في المعدة ويتهيأ الطعام لدخول الأمعاء الدقيقة حتى يمتص ويرسل إلى مركز الجمارك العام وهو الكبد .
ونتساءل هنا كما ذكرنا في السابق : إن المعدة تهضم اللحم وهي لحم ، فلماذا لا تهضم نفسها ؟
إن السر في هذا يعود إلى المخاط الذي تفرزه ملايين الغدد المستقرة في جدار المعدة ، وقيل إن هذا المخاط إما أن يحوي مادة معدلة تحمي المعدة أو تحدث فراشاً داخلياً يغطي جدار المعدة كله من الداخل ، وعلى أية حال فهو أمر فذ .
____________
(1) يفرز حمض كلور الماء من المعدة الخلايا الهامشية وهي تستطيع تكثيف هذا الحمض مليون مرة .

 


( 262 )


وهناك عامل فذ آخر من آليات الجسم الرائعة ، وهي عملية تكوين الخميرة الهاضمة ، فهي ترسل من الغدد ، وكأنها المسدس الذي ضغط فيه زر الأمان ، ولذا فإنها تكون بحالة عطالة وهي ما تعرف بطليعة الخميرة فاذا وصلت إلى وسط المعدة الحامضي انقلبت إلى شكل فعال يفتك باللحم والشحم ويغير ويحول وكأنها المارد الذي انطلق من القمقم ، إن الحمض يلمس هذه الخميرة لمسة صغيرة فتقلب إلى خميرة فعالة مؤثرة ..

ـ 4 ـ


استطاع العلماء في عام (1930) أن يكتشفوا عاملاً مهماً يتكون في جدار المعدة الداخلي وسمي بالعامل الداخلي لكاسل ، فقد لوحظ أن المصابين بقرحة المعدة إذا استؤصل قسم كبير منها وخاصة القاع ارتاحوا من الأعراض الهضمية المزعجة السابقة ، ولكن لونهم يبدأ بالاصفرار ، وأجسامهم تصاب بالوهن ، ويعتريهم الكلال بشكل عام . فما هو السبب يا ترى ؟
لقد وجد أن مصنع الدم هو نخاع العظام حيث يكون الكريات الحمر وغيرها ، وهو يستورد المواد الخام من الجسم ، ومن جملة المواد الخام الحديد والفيتامين B12 ب12 فاذا اختل وصول المادة الخام بعارض ما وقف المصنع عن الإنتاج بقدر ما يلزمه ، وحدث ما يعرف بفقر أو فاقة الدم ، وهذه المادة الخام التي نحن بصددها الآن هي الفيتامين ( ب12 ) ( B12 ) ، فهذه المادة إذا جاءت إلى وزارة التموين قامت بإنضاجها وتهيئتها على الوجه الأكمل لكي ترسل إلى مصنع الكريات الحمر ، وعملية الإنضاج تتم بواسطة عامل كاسل الداخلي الذي تكلمنا عنه ، فإذا فقد هذا العنصر كما في قطع المعدة ، أو ضمورها وعدم قدرتها على الإفراز بسب ما ، اختل نضج الفيتامين ب12 ولم يتكون على الوجه السوي ،

 


( 263 )


وبالتالي فان مصنع الكريات الحمر (1) لا يصنعها بشكل سوي لائق ويصبح وضعه كوضع الفرّان الذي يشتد الطلب عليه ولا يستطيع تلبية ذكل فيخرج الخبز بسرعة بشكل غير ناضج ، وهكذا تخرج الكريات الحمر غير ناضجة وهو ما يعرف بفقر الدم كبير الكريات تماماً كالرغيف الكبير المعجّن الذي لا يستساغ !!

رحلة سياحية إلى مركز الجمارك العام ( الكبد ) !!

ـ 1 ـ


بعد أن يصل الطعام إلى المعي الدقيق تتدفق عليه عصارات قادمة من الكبد والمعثكلة لهضم الطعام وتحليله الى عناصره الأولية ، وهكذا يتحلل السكر والبروتين والدسم وغيره ، ثم تنشأ عمليات معقدة تشترك فيها عشرات الخمائر من أجل ايجاد الصيغة المناسبة لوضع المواد حتى يمكن ادخالها من زغابات الامعاء ، وننظر فنرى بستاناً عجيباص من الزغابات وهي تتراقص على طول نفق الامعاء ، وكأنها السنبل الأخضر تداعبه النسمات الرخية ، ويبلغ هذا الحقل السحري من الزغابات رقماً عجيباً حيث يوجد في السنتمتر المربع الواحد ثلاثة آلاف زغابة فكم سيبلغ العدد يا ترى في كافة الأمعاء ، خاصة وان طول هذا النفق يبلغ ثمانية أمتار ، ويفرش سطحاً يبلغ (48) ثمانية وأربعين متراً مربعاً ، أي إن عدد الزغابات يصل في المعي الرقيق (1440) مليون زغابة معوية ، ويقع خلفها سطح دموي يبلغ (11) متراً مربعاً ومعه (5)
____________
(1) هذا مع العلم ان تسعة مليارات كرية حمراء تموت في الجسم كل ساعة ويتجدد مكانها ما يماثلها وزيادة .

 


( 264 )


أمتار مربعة من اللنف ، لأن العرق اللنفاوي هو الذي ينقل الدسم بشكل رئيسي ، وكل زغابة معوية عالم بذاته فهي مؤلفة من شريان ووريد دموي وعرق لنفاوي ، كما يوجد على سطحها الخارجي المطل على لمعة المعي طبق من العصيات الصغيرة المترابطة التي تقدر بـ (3000) في كل خلية أي يبلغ عددها في ( الملم 2 الواحد ) الملمتر المربع الواحد (200) مليون فكم ستبلغ في سطح الامعاء كلها ؟!
هنا من هذا المكان يتحول الطعام إلى سائل من نوع خاص حتى يمتص ، وهنا ترتب جوازات السفر حتى يمكن عبور الغشاء المخاطي ، والدخول إلى الزغابة المعوية وبالتالي إلى الدم الداخلي حتى يمكن الوصول إلى الكبد ، لأن الأوردة التي تنقل محتوى الأغذية المختصة من الأمعاء تنقل بواسطة الوريد الباب ، وهذا يصل أولاً إلى الكبد مركز الجمارك العام . ولنحاول تدبير جواز سفر وهو الاتفاق مع إحدى الخمائر التي تنقلنا إلى الداخل لنرى نهاية هذه الرحلة الاسطورية !!.. ثم لنمشي مع تيار الدم وبعد فترة قصيرة تلقي بنا عصى الترحال إلى الجزيرة السحرية وهي عالم الكبد حيث نرى غدة محمرة تزن كيلوغرام ونصف وتعمل خلاياها بنفس العمل ، إن هذه الغدة تقوم بما يصل إلى السبعين وظيفة من وظائف الجسم الهامة والتي بدونها لا يعيش الجسم أكثر من ساعات محدودة معدودة ، فما هي هذه الوظائف على وجه الإجمال ؟ ندخل إلى الكبد مع الوريد الباب ، فيتفرغ بنا إلى فروع أدق ، وهكذا نمشي في هذه المتاهة حتى نصل إلى التفرعات الأخيرة حيث تصل المواد إلى مراكز العمل الداخلية ، فما هو عملها ؟

ـ 2 ـ


في هذا المركز مستودعات التخزين العظيمة للسكر والبروتين والدسم والماء والدم والفيتامينات حيث يختزن الفيتامين ب 12 وفيتامين C ( ث )

 


( 265 )


وفيتامين ( آ ) وغيره .. وهذا التخزين متحرك وليس بثابت فهو كالمحطة ركاب نازلون وركاب صاعدون والمواد في حركة دائمة وتبدل دائم ، وقصة تنظيم السكر التي تحدثنا عنها فيما سبق قصة عجيبة نضيف اليها أن الأنسولين هو الهورمون الأساسي الذي ينظم عمل السكر ، وقد استطاع العالم سانجر أن يكتشف تركيبه بعد جهود دامت عشر سنوات ، وعرف انه مركب من سلسلتين من الاحماض الأمينية في السلسلة الاولى ثلاثون حمضاً أمينياً ، وفي السلسلة المناظرة واحد وعشرون حمضاً أمينياً ، وبينهما جسور كبريتية مضاعفة وفيه (777) جوهراً .
وهكذا يعد الكبد من أعظم مستودعات التخزين في الجسم ، ولكن هذا المخزن لا تنقطع فيه الحركة ، كما أن فيه تحولات مدهشة ، فالسكر عندما يخزن يكثف إلى الغليكوجين ، كما ينحل إلى غلوكوز عندما يراد إطلاقه إلى الدوران ، وهذا الاختزان عجيب في تنوعه ، فالمستودعات العادية لا يمكنها أن تخزن الجوامد والسوائل وبقرب بعضها البعض ، بينما يقوم الكبد بتخزين السكر والبروتين والدسم والماء والدم والأملاح والفيتامينات وبشكل محوّر ، وقدرة الكبد في اختزان الدم تجعله احتياطياً محترماً في حالات احتياج البدن للدم ، كما تجعله يتدخل في تنظيم كتلة الدم الجوّالة في الدوران ، وبالتالي في ضغط الدم .
وأما عمليات التكوين فهي أغرب ، فمن الكبد يتم تصنيع بروتينات الدم ، وهي الألبومين والغلوبولين والفلوبولين والفيبرنوجين ، والبروترومبين ، والهيبارين ، والأجسام الضديه والعوامل المتدخلة في تخثر الدم كالعامل الخامس والسابع ، وهذه الاسماء التي أوردناها تحتاج كل كلمة إلى العديد من الصفحات لكي تشرح على الوجه الأكمل ، فمثلاً موضوع تخثر الدم ـ حيث تشترك العديد من العناصر في إيجاده ـ المهم فيه هنا هو الاتزان العجيب في ميوعة الدم وتخثره ، فتخثر الدم يحدثه البورترومبين بينما


( 266 )


يحدث ميوعته الهيبارين ، ومن اتزان هذين العنصرين ينساب الدم في العروق كأفضل ما يكون ، ينقل الغذاء والاكسجين ويعود حاملاً غاز الفحم وفضلات الاحتراق ، ولو زادت نسبة أحد هذين العنصرين بمقدار طفيف جداً لكان هذا معناه تخثر الدم أي تجلطه وانقلابه إلى أشبه ما يكون بالوحل ، كما أن العكس يجعل الدم في ميوعته كالماء (1) ، وبهذا الاتزان البديع ينساب الدم في مجاريه محتقظاً بلزوجته ، قائماً بوظائفه ..
ويعلم الكبد أن الحديد والنحاس والفيتامين ب12 تتدخل كلها في صناعة الدم ، لذلك فهو يحتفظ بها في مستودعات التخزين لكي ترسل حسب الحاجة ، فكيف تقوم بهذه الخلايا هذه الوظائف كلها ؟... ومن هذه التفاعلات المعقدة المضطرمة تنتشر الحرارة وبعم الدفء في الأحشاء فتطمئن إلى سير العمل وروعة البناء وإحكام التكوين ..

ـ 3 ـ


ونقف أخيراً أمام اصطياد الجراثيم والصباغات والمواد السامة ، وهي التي جعلتنا نسمي الكبد مركز الجمارك العالم لأنه يفتش الدم القادم فيبعد المشبوه ويمرر الطبيعي فإذا ما لوحظ أن هناك من يبعث بالنظام تصدى له بطرق يعجز عنها أعقل العقلاء !!!..
هذه العملية هي ما تسمى بتعديل السموم ، فالسموم الداخلة إلى البدن يقوم الكبد بإيقاف أذاها بعدة طرق ، أولها : الاعتقال والقاء القبض على المجرم الضار حيث توضع في يديه الأقفال ويرسل مخفوراً إلى المراكز التي تتولى طرحه خارج البدن ، وهي ما تعرف بالازدواج
____________
(1) تفوق لزوجة الدم الزوجة الماء بخمس مرات .

 


( 267 )


الكبريتي أو الغلوكوروني ، أو الازدواج مع الحمض الأميني . وهي طريقة كيميائية ـ حيث يرسل معه شرطي للرقابة يقوم بإيصاله إلى المركز الذي يتولى طرحه خارج البدن والشرطي هنا كما ترى هو الكبريتات أو الحمض الاميني أو الحمض الغلوكوروني . أو أن هناك طريقة آلية فيزيائية تستعمل مع الزئبق حيث يدفع إلى المنحدرات التي تتلقفه وترسله إلى المناطق التي تتولى طرحه خارج البدن وهي هنا الطرح عن طريق الاقنية الصفراوية إلى الامعاء الدقيقة فالامعاء الغليظة حيث ينطرح مع الغائط !!..
ولكن يحدث أن يوجد بعض المجرمين شديدي الخطر الذي يخشى من أن يتملصوا من يد الشرطي أو يفتكوا به ، أو الذي لا يجدي معهم الدفع والطرح ، فالطريقة المناسبة إذن هي السجن والاعتقال المديد !! وهكذا يحتجز المورفين والستركنين ، ومن المعلوم أن السجون الاصلاحية تقوم بارشاد المجرمين وتثقيفهم حتى إذا اطمأنت إلى عدم ضررهم في المجتمع أخرجتهم من السجون مرة أخرى ، وهكذا يفعل الكبد مع هذه المواد حيث يطرحها بشكل بطىء بحيث إنها لم تعد تحدث الضرر في البدن .
وبالإضافة الى هذا توجد الشبكات المنتشرة في الكبد التي تصطاد الجراثيم والاصبغة ، وهي أشبه بدوريات الشرطة اليت تقف عند المقارق ، والمراكز الحساسة ، وهي ما تعرف بالشبكة الغندوتليالية ، وهكذا يتخلص البدن من أذى السموم والجراثيم والأصبغة ... ولكن ما هي الحالة عندما يزداد ورود المواد السامة إلى الكبد فلا تستطيع التعديل ولا تكفيها المنفردات والزنزانات والسجون الجماعية !! هنا تحدث ثورة المساجين وهكذا يتدمر الكبد ويضطرب حبل النظام وتعم الفوضى ويتخرب الجسم ، هذا ما يحدث تماماً في الحالة المعروفة بتشحم الكبد


( 268)


أو تشمع الكبد حيث يؤدي تناول الخمر المستمر إلى تشمع الكبد (1) ومعنى تشمع الكبد الحكم بالاعدام البطيء على المصاب ومن هنا ندرك معنى تحريم الخمر في الإسلام ، ولماذا حرمت امريكا الخمر على شعبها .

ـ 4 ـ


ان امريكا أصرت على تحريم الخمر عام (1919) ميلادي وأصرت على التحريم أربعة عشر عاماً كاملة ، وحدث خلالها الشيء العجيب ، بليون نشرة تشرح أضرار الخمر ، (404) مليون دولار مصادرات ، (16) مليون دولار غرامات ، سجون (532335) شخص . إعدامات رمي بالرصاص (300) شخص . ومع كل هذا زاد عدد مصانع الخمر المحظورة تجارة مربحة ، سخرت الاساطيل والامكانيات والقوى لصد الشعب عن هذه العين الآسنة ولكنه لم يرتدع لأن التكاليف لا تبنى الا على اساس الايمان ، وهكذا فعل الاسلام بنى العقيدة ورسخها ثم جاء بالتكاليف فحرمت الخمرة ونجحت التجربة بآيات قليلة ، وبركة تحريم الخمر سارية في بلاد الشرق حتى اليوم من أثر تلك التربية حيث لا يشكل عدد مدمني الخمر بالنسبة الى العالم الغربي شيئاً يذكر ...

ـ 5 ـ

ومن رحلة التخزين والتحويل والقلب والتكثيف والحل وتعديل السموم ، وادخار المواد ، وإفراز المصنوعات ، وتكوين البروتينات ،
____________
(1) يعد الادمان على الخمر من أهم أسباب تشمع الكبد حتى ان الاشتباه بهذا المرض يجعل الطبيب يسأل مريضه بشكل روتيني هل تشرب حليب السباع !! ( سخرية منه أي الخمر ) .

 


( 269 )


وبعد كل هذا نقف قليلاً لنوجه سؤالاً إلى الاطباء والعلماء العقلاء الذين يمرون على هذه الآيات وهم عنها معرضون !!.. إجيبونا على هذه الدقة العظيمة من صممها ؟ وعلى هذه الروعة الكامنة من هندسها ؟ وهل تقود هذه إلى الخشوع والتبتل أم الى الشرود والجفاف ؟ وهل تعمق الايمان أم تزعزع اليقين ؟ وهل تفتح ينابيع الرحمة أم توصدها وتجعل القلب كقساوة الحجر ؟ أم تقود إلى الانكباب على المتاع الرخيص والانقياد الى الملذات والشهوات وحب الجاه ؟ أم أن هذه المعلومات تعمق الهوة ما بين العلم والدين والاطباء والخالق الذي فطرهم ؟ أم أن الطب صومععة كفر وزاوية إلحاد ؟ أم أن الطب يقود إلى الانفلات وجمع الفتات وتقليب الصفحات ؟؟. وتكديس أوراق البنكنوت !! اللهم لا ...
( أيحسب الانسان ان يترك سدى . ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى . فجعل منه الزوجين الذكر والانثى . أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) سورة القيامة .

سبحانك فبلى .
والحمد لله رب العالمين .

 

 


( 270 )

 

مراجع الكتاب باللغة العربية

    القرآن الكريم

1 ـ كتاب علم الغريزة جزء أول وثاني للدكتور محمد شفيق البابا .
2 ـ كتاب مصير البشرية للكاتب الفرنسي ليكونت دي نوي ترجمة أحمد عزت طه وعصام أحمد طه .
3 ـ كتاب هذا الانسان للدكتور حبيب صادر .
4 ـ كتاب الكيمياء العامة للاستاذ أدوار خوري .
5 ـ كتاب الكيمياء العامة واللاعضوية للدكتور موفق سخاشيرو .
6 ـ كتاب الخلية وعلم الجنين للاستاذ الدكتور هاني خليل بطيخ .
7 ـ كتاب النسيج العام جزء أول وثاني لمؤلفه الدكتور كنعان الجابي .
8 ـ كتاب الكيمياء الحيوية للمؤلفين الدكتورين هيثم خياط واسماعيل عزت .
9 ـ كتاب قصة الايمان نديم الجسر .
10 ـ كتبا التشريح الطبيعي جزء 1 ـ 4 دكتور فايز المط .
11 ـ كتاب جراحة الصدر والقلب للدكتور محسن أسود .
12 ـ كتاب الأمراض العصبية للدكتور فيصل الصباغ بالاضافة الى كتاب أمراض الجهاز الحركي .
13 ـ كتاب طب الاطفال للدكتور سهيل بدورة .
14 ـ كتاب التوليد الطبيعي والمرضي للدكتور برمدا والدكتور قنواتي .
15 ـ كتاب أمراض الغدد الصم والاستقلاب دكتور جوزيف صايغ .
16 ـ التخدير والانعاش للدكتور برهان العابد .
17 ـ كتاب الفيزياء ، الدكتور محمد الخطيب .
18 ـ كتاب الوجيز في أمراض العين جزء 1 ـ 2 تأليف الدكتور ممدوح الصباغ .
19 ـ كتاب الفيزيولوجيا الحيوانية ، وظائف الاتصال الدكتور زياد قطب .
20 ـ كتاب روح الدين الاسلامي عفيف عبد الفتاح طبارة .